من حركة مايو 68 إلى جيل Z: ما تحمله الاحتجاجات للديمقراطية
فئة : ترجمات
من حركة مايو 68 إلى جيل Z: ما تحمله الاحتجاجات للديمقراطية
المؤلف: مشيل فيفيوركا[1]
ترجمة وتقديم: عبد المنعم الكيواني
تقديم المترجم
ماذا وقع في مايو 68؟ وأيّ معنى يدل عليه كل ما حدث؟ إن أهم سمة ميزت ذلك المستجد الفرنسي العام سنة 1968 هو التركيب البالغ الذي وسم محطاته؛ إذ يصعب أن تعثر على موقف واحد مريح يمكن الاستقرار عليه في تفسير تاريخية الوقائع المعقدة وفلسفتها، وبلغة ألان باديو يظل مايو 68 لغزًا ليس في متناول الفهم بسهولة؛ وذلك من نواحٍ عدة[3]؛ ولهذا الدافع أطلق عليه الفيلسوف مفهوم الحدث[4] L’évènement بمعناه الفلسفي الخالص؛ أي حينما يحدث واقع محدد غير مسبوق، ومن المحال أن تُستشرفَ عواقبه ونتائجه، لقد كان مايو من عام 1968 حدثًا في إطار الفكر والممارسة السياسيتين، حدث سياسي طازج وجديد تماما.
عرف مايو 68 إضرابًا عامًّا ليس مثل باقي الإضرابات. إنه الإضراب الأضخم طوال تاريخ فرنسا الحديثة والمعاصرة معا، ومثَّل تمردًا غاضبًا على السلطة والتقاليد وضد الفكر الكلاسيكي نفسه، وهذا ما يفسر ميلاد جامعة فانسين Vincennes في العام التالي مباشرة بعد سنة الغضب. إنها انتفاضة شاملة من مختلف الطبقات الاجتماعية، حيث تقدمها التلاميذ والطلاب في تظاهرات حاشدة، رافقها إصرار كبير على التغيير ورغبة جامحة في الانعتاق، ليس في فرنسا فقط، وإنما قد تزامن هذا التمرد مع حركات عالمية أخرى في وقت متقارب ببلدان مختلفة؛ من الصين إلى ألمانيا مرورًا إلى أمريكا وإيطاليا ثم فلسطين، لكن الغضب الفرنسي حظي بأهمية وخصوصية منقطعة النظير؛ لأنه تضمن معاني ودلالات لا حصر لها، مشروع متشعب، وزوبعة خطيرة من التناقضات لا هامش فيه للوحدة، يترصد باديو ملامحها في الجمل التالية:
''مايو 68 بوصفه مهرجانا تمرديا للأخلاقيات الجديدة ضد العالم القديم، ومقدما للنزعة النسوية، وباعتباره توديعا للطبقة العاملة، وبوصفه آخر اليوتوبيات، أو تحررا جنسيا، وبوصفه تقديما أعمى لليسار في السلطة والانتخابات 1981، وباعتباره تمردا على السلطة... وكأنه ثورة ثقافية واحتلالا للجامعات، إنه ثورة بروليتارية دون بروليتاريين ولا ثورة، وبوصفه إدماجا للطبقة العاملة في مجتمع الاستهلاك. مايو 68 باعتباره سباقا متنافرًا أكثر منه فرقة متناغمة من العازفين''[5].
على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، بادرت مجموعات كبرى من العمال الشباب اليائسين إلى قيادة حركة الغضب، وبكيفية مستقلة على المنظمات النقابية المعروفة، التي اندمجت مع الوضع القائم ولم تعد لها كلمة خاصة، حيث مارس هؤلاء العمال إضرابات قوية، والتي انطلقت في واقع الأمر منذ 1967، فقد كان الاتفاق العام هو تحدي كل المؤسسات الكلاسيكية وتجاوزها بلا اعتدال أو مساومة. وبالإضافة إلى هذا وذاك، كانت هناك نزعات تحررية موازية تلح في طلب تغيير الأذواق والعادات الخُلقية والروابط العاطفية، كما تدعو لإقرار الحريات الفردية الفعلية، وهو تيار أيديولوجي حقا، إذ كان يحمل رؤية مغايرة في القيم والسياسة والمجتمع؛ وذلك بخلاف ما كان سائدا في فرنسا آنذاك.
من الناحية السياسية، برز نوع من العدمية، وكأن الحل المنشود للطبقات الاجتماعية لن يكون سياسيا، فقد كان هناك عداء فوارا ضد الديمقراطية التمثيلية، كان الشعار يصدح في كل أرجاء البلاد: ''الانتخابات، فخ الحمقى''[6]؛ إذ بدأ يُنظر إلى الأجهزة الانتخابية التي كرستها الديمقراطية الغربية بوصفها ليست أجهزة تمثيلية عن حق، وإنما مجرد آلة عملاقة وجدت من أجل قمع الحركات التحررية وكتم أصوات الرفض وكبت مطالب المضطهدين؛ وقد تأكدت هذه الرؤية بعد شهر فقط من خمود الاحتجاجات وانخفاض نبرة العداء؛ إذ تم تنظيم انتخابات، فنتجت عن إقرار أسوأ برلمان فرنسي وأشده رجعية وقمعا. لكن ماذا حدث فيما بعد؟ هل تحققت اليوتوبيات؟
في هذا المقال الذي نقله المترجم عن الفرنسية وعلق عليه وأضاف إليه شروحات، هناك ملاحظات بالغة الأهمية من سوسيولوجي فرنسي بارز هو ميشيل فيفيوركا، الذي ينتمي لزمرة من المفكرين النقديين الأكثر شبابا وعمقا، مثل، على وجه خاص، ألان تورين وإدغار موران. فقد حاول فيفيوركا مقاربة أحداث مايو 68 بما عرفته دول عديدة مؤخرا تحت مسمى حركات جيل ز Gen Z، محاولا إيجاد روابط وتمايزات في الحركات الاحتجاجية بين واقعها في فرنسا، وبين ما هي عليه خارج حدودها وخاصة في المغرب.
نص المقال[7]
توطئة
في سياق متخم بالأيديولوجية اليمينة التي تضَيِّق الخناق على كل أفق اجتماعي؛ إذ تبدو أحداث مايو [8]1968 كتذكير بأصل التراجع، حتى إن ميراث هذه الحركة التاريخية يذكر الفكر بأن التغيير العميق للمجتمع يمكنه أن ينبثق من الأسفل ضرورة وليس من الأعلى دائما. فعند القياس على ما هو عالمي، نجد أن جيل ز أو ما يعرف بـ Gen Z استطاع بلورة أشكال أخرى من التعبئة تتحدى النخب التي ظلت تحتكر هذه المهام، فقد أعاد الجيل الجديد ابتكار الرموز، والإلحاح في طلب المزيد من الديمقراطية. هل هو حقا وعد جديد بتحول سياسي عميق؟
إن التيارات اليمينية في سياق الحياة السياسية والثقافية الفرنسية تسجل حضورها في لحظات ضاعت فيها المعالم الموجِّهة. فمن بإمكانه أن يجرؤ على الحديث عن "أيام سعيدة" قادمة مثلما يفعل ذلك المجلس الوطني للمقاومة؟ أو عن "الغد الذي يغني" مثلما هو الحال عند الحزب الشيوعي الفرنسي في أيامه المجيدة؟
ومن جهة اليسار، فالخطاب لا يبشر بخير ولا يبعث على أيّ تفاؤل[9]، كل مضامينه عن الأزمات، ودون أي أفق يمكنه أن يتجاوز الانتخابات الرئاسية لعام 2027. هنالك غياب طافح في النظرية، تصاحبه الحرب الأكرانية، بالإضافة إلى متاهات الشرق الأوسط وأهواله الفظيعة أو التوجهات الجيوسياسية المجنونة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تغذي منطقا وتبريرات خاصة، حيث إن الفاعلين والرهانات الخاصة بالحياة الدولية تأخذ الصدارة، وتبدو في نفس الوقت منقطعة الصلة بالديناميات الاجتماعية والسياسية الداخلية للمجتمعات المعنية، وخارج سياق القومية.
إن السياسة اليمينية تقوّض النقاش الديمقراطي، كما ترفض المطالب الاجتماعية باسم تبعاتها على التأثير الاقتصادي، ولا سيما العمل على تنحية المطالب الثقافية من مقتضى النزاهة الوطنية والكونية المجردة التي تحملها فكرة الجمهورية. إن اليمين وكذا اليمين المتطرف يؤكد نفسه ضمن المتورطين-المذنبين في حركة 68 وممثليها، الذين ساهموا بفعالية في تقويض السلطة، ففتحوا الطريق على الحركة الويكية[10] Wokisme وغيرها من النزعات المدمرة.
1. التغيير من الأسفل
في الواقع كان لأحداث مايو 1968 آثارا دائمة على الحياة المشتركة، حيث سرَّعت وانحرفت أيضا بالمجتمع ليدخل العصر ما بعد الصناعي، وبتأثير مباشر من الأسفل، عبر أشكال الاحتجاجات المختلفة؛ إذ لم يحدث ذلك قطعا عن طريق ألعاب السياسيين والسياسيات العمومية الأكثر أو الأقل تكنوقراطية. وعلينا الانتباه إلى الدرس الهام المستفاد من هذه الملاحظة: إن مايو 1986، وفي إطار أفضل ما يمكن أن يحمله معه، ويدعونا إلى أن نعتبر، بثقة ولطف، أنه على الأقل في التحركات الأخيرة أو المعاصرة، حيث تُرى العلامة ليست دلالة على الأزمات، وإنما على صراعات خاصة جدا تخص العصر الجديد، أو تسمح بحدوث ذلك.
فبالأمس القريب، كانت أحداث جماعية مثيرة تسير في منحى معارض للسلطات الاستبدادية؛ الحركة الداعمة للديمقراطية، مثل المظلات في هون كونغ عام 2014، أو الربيع العربي الذي تم افتتاح نيرانه من تونس في دجنبر عام 2010، ثم انتفاضة ما بعد الانتخابات في إيران سنة 2009، إلى جانب الحركة الخضراء. وفيما بعد وخاصة ما بين 2022-2023 حركة "المرأة-الحياة-الحرية" وتحت يافطة مهسا أميني[11]، تلك الشابة الكردية في إيران التي قتلتها شرطة الأخلاق وغيرها كثير...
واليوم تتم تعبئة الجيل ز أو Gen Z، وهو الجيل الذي ولد تقريبا ما بين 1995 و2010[12]. فقد حدث ذلك في المغرب ومدغشقر وفي إندونيسيا ونيبال أيضا والبيرو وكينيا إلخ؛ إذ تقوم حركة جيل Z بإلقاء اللائمة على الطبقات الحاكمة ومعاتبتها، بسبب حياتها الباذخة ونفقاتها الضخمة، والتي لا لزوم لها ولا ضرورة، مثل الإقبال على الملاعب الرياضية التي تُنفق عليها الأموال الطائلة، وهي أقل استعجالية من حقوق أخرى مفقودة بالنسبة إلى المهمشين، مثل الوصول للماء الشروب والكهرباء والسكن اللائق.
ومع وجود اختلافات أساسية من بلد لآخر، فإن كل حركات جيل Z، يقينا، تدين الفساد والمحسوبية وغاضبة من تردي الخدمات العمومية، ناهيك بانعدام العدالة الاجتماعية وغياب الاستقرار الاجتماعي. إنها حركة متعطشة لأن يكون هناك من يستمع لها. تطالب بالحقوق، لكنها مع الأسف تواجه بقمعٍ عنيف، وعقوبات سجنية فظيعة وغير عادلة[13]. إنها ترفع شعارات ومطالب مختلفة، وبشروط معالجتها من الناحية السياسية، أي من أجل مطلب الديمقراطية وتوسيع آفاقها.
إن جيل Z هو ابن زمانه وعصره، حيث حلّ متناسبا مع الثقافة الرقمية، ذلك أنها حركة تستخدم الذكاء الصناعي بقوة، وبكيفية لا تخلو من الفكاهة، حيث تنتظم بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي في مثل هذه الخلافات. وتُلاحظُ حداثته الثقافية العالمية في إطار مرجعيته في البحث عن المستحيل وفي الترقب كشعار يخص الشخصية الرئيسة، مثل المقرصن لوفي le pirate Luffy الذي يحرر البشرية ويحارب ضد الحكومة الفاسدة. إن الحركة في حد ذاتها جيلية، ولكن الصراع في الواقع ليس بين جيل وآخر.
لا أحد بإمكانه القول إن حركة جيل Z ستبقى دائما أو سيستمر آثرها إلى الأبد، فمن المرجح أن القمع هو الذي يسود ويفوز دائما، إذ يمكن لهذه الحركة أن تلغي نفسها، عندما تضفي على أثرها الطابع المؤسساتي حينما تسمح بأن تتحول إلى حزب سياسي يعرف ميلادا جديدا[14]. أو أن يتدهور هذا الجيل بأن يتيح مجالا لدوامة العنف والإرهاب والحرب الأهلية؛ إذ يلاحظ بكيفية مسبقة كم هو ثقيل الغضب الغلاب، أشبه ما يكون بالسعار، الذي لا تحتويه أي سياسة، تجاوزات كبيرة، لاسيما الشغب الكثير وأعمال النهب. إلا أنها، ومثل أحداث مايو 68، فهذه الحركة الجديدة تستحق أن تحضر ضمن ما هو راقٍ، بفعل مشروعها ذي المستوى الهائل، وكفاءتها على التجديد الثقافي، وفي تعبئتها من أجل الحقوق الأساسية.
2. وماذا عن فرنسا؟
في سياق فرنسا يمكن اكتشاف، وبسهولة، عناصر أساسية مشتركة مع حركة جيل Z، إذا أخذنا في الاعتبار السنوات القليلة الماضية؛ مثل المقاومة الأيكولوجية، والحركات النسوية العديدة، ومناهضة العنصرية، ناهيك بأصحاب السترات الصفراء، وما عرف أيضا بـ ليلة في الخارج Nuit debout، إضافة إلى البيانات المناهضة لإصلاح نظام التقاعد. وبالفعل، هي مطالب اجتماعية، إذ تنطوي على مسألة الدخل، والعدالة والمساواة، ثم الوصول للتربية والتعليم، والصحة، السكن والشغل، ورفض الفساد المتفشي، وهي كلها مطالب عزيزة على حركة جيل Z.
على الصعيد الثقافي، يمكن للحركة أن تكون لها آثار على البيئة، كما ترتبط بهويات الأقليات. وفي الأمور الأخلاقية، يمكنها أن تؤدي إلى نمط آخر من العلاقات بين الرجال والنساء، في منحى يناقض العنصرية، ومعاداة السامية، ومن أجل أجوبة ملائمة للأسئلة المرتبطة بالحياة والموت، كلها ثيمات ليست ضرورية بالنسبة إلى حركة Z في الخارج، ولكنها لا تتعارض معها؛ ذلك أن الحركات المعاصرة، مثلها مثل حدث جيل Z، تتخذ من وسائل التواصل أداة لها، كما تنزع إلى أن تحظى بمنطق التسيير الذاتي الأفقي، هو ما يرتبط بالنفور من زعامة أي قائد. كما أنها تأخذ دائما شيئا رمزيًّا، لونا ما: القبعة الحمراء مثلا في بريطانيا عام 2023، أو السترات الصفراء في فرنسا ما بين عامي 2018 و2019. ومع وجود اختلاف معتبر هنا: إنه من الممكن ملاحظة مميزات جيلية بارزة في بلد مثل فرنسا؛ إذ لم نر حتى اليوم شيئا ما يؤكد نفسه كحدث جماعي عميق للشباب من نوع جيل Z.
في الديمقراطية، حينما ترتفع المطالب من المجتمع لا تجد حلها السياسي لانعدام الأحزاب أو الحالات والمؤسسات، تلك التي يمكن سماعها ومناقشتها، حيث تؤدي بالنسبة للبعض إلى العنف، أو الأحلام الثورية أو المتمردة، وبالنسبة إلى البعض الآخر قد تؤدي إلى اللا مبالاة والإحباط، وهناك صنف ثالث يميل للمدار المتزايد للأجوبة الاستبدادية.
منذ ذلك الحين، أمكن لـلقوى المتطرفة الخاصة بالطيف السياسي استرجاع بعض من المطالب ودمجها والانحراف بها. إن أصحاب السترات الصفراء على سبيل المثال قد وجهت إليها انتقادات، بفعل المكانة التي شغلتها الشعبوية-الوطنية في خطاب الجهات الفاعلة، ومن جانبه الرجل الأبيض المستقيم. لكن لا يوجد سبب للإلقاء بالرضيع مع ماء الاستحمام؛ ذلك أن الانجرافات عما هو جوهري، والتي تُقرأ فيما هو أرقى في دلالات الفعل وليس في زلاته وهفواته.
3. التغيير في المجتمع
هنالك إذن قواسم مشتركة بين العديد من التعبئات في فرنسا، وبين تلك الخاصة بحركة جيل Z، غير أن هناك، من جهة أخرى، تمايزًا أساسيًّا يفرق بين هذين الظاهرتين؛ وذلك حسب ما إذا كانا يلعبان دورًا في تغيير نمط المجتمع أم لا يحدث ذلك، وكذلك اعتمادا على نوعية الفاعلين الذين يحملون هذه الحركات.
ومع ذلك، إن هذا المعيار ليس مبررا كافيا للازدراء، إذا ما اعتمدنا هذا المفهوم المنحوت مؤخرا من قبل السوسيولوجي فرانسوا دوبي[15] François Dubet، بدل القول بصراع مثل ذلك الخاص بأصحاب السترات الصفراء أو كما وقع في أحداث التقاعد، اللذين يشكلان بالكاد جزءا من التعبئة المتميزة للمجتمع ما بعد الصناعي، هو ما يعني دعوة لنوع آخر من العلاقة مع الطبيعة ومع البيئة، وتصورات أخرى مختلفة للإنتاج والاستهلاك. إن رهاناتها، من الناحية الاجتماعية، تحظى باحترام عال، غير أن القليل هو من يرسم مشروعًا مناقضًا للمجتمع. فمستوى مشروعها لا يهدف إلى إمالة المجتمع إلى عصر جديد، حتى إذا ما كانت هذه الصراعات أكثر أو أقل نفاذًا إلى موضوعات ما بعد صناعية، مثلما عندما يبحثون عن التعبير عما هو اجتماعي وعن البيئة. (مثل ما جاء في ميثاق قوة الحياة Pacte du pouvoir de vivre المحمولة من طرف CFDT وستين منظمة).
وكما ذكرنا ذلك، فإن الدعوة لمشروع مضاد غير مرتبطة بقوة بظهور الشباب. كما أن الرغبة في ولوج نموذج جديد، حيث يخلط بينه وبين الدفاع عما صنع مفاتن العتيق، أو تصطدم به. فأصحاب السترات الصفراء مثلا تعاتب النخب عن خطابها عن نهاية العالم في الوقت الذي لا يتحدثون هم إلا عن نهاية الشهر.
إنها لا تنقصنا التحليلات، كما لا نفتقد للتحذيرات والاقتراحات اللازمة للخروج من الأزمة الخاصة بالديمقراطية، وكذلك التي تمس التمثيلية السياسية، والأحزاب، والنموذج الجمهوري...ولكن في الحديث الكثير عن الأزمة، فإننا لا نحيد عن ألعاب السياسيين المتوجهة إلى الوصول للسلطة والمهووسة بأفق الانتخابات الرئاسية القادمة.
نتخلى بسرعة عن منظور مختلف تماما: إن المجتمع الحيوي بحركاته، وبفعالياته الاحتجاجية، أين تشكل الديناميات المتصارعة مشروعًا مضادا، مثلما هو الحال في سوسيولوجيا ألان تورين[16] Alain Touraine أو في الفلسفة السياسية الخاصة بكلود لفور[17] Claude Lefort أو بـبول ريكور Paul Ricœur-شخصيات فكرية مذهلة في النصف الثاني من القرن الماضي ومنذ بدايته. تأتينا العبرة من وقت ليس ببعيد، من خلال هؤلاء المفكرين، ومن مايو 1968، أو من خلال فضاء جيل Z.
لا نتأمل التعبئة، والتقليل منها يضعفها، رغم أن بإمكانها أن تقودنا إلى الدخول بسرعة ونجاعة إلى العصر ما بعد الصناعي، أو في أسوأ الحالات تأهيلها، بالمساهمة في تصحيح الحياة المشتركة المعاصرة، أو تحضير الجو للتطرف، وللاستبداد المتربص.
خاتمة
بعد هذا العرض، يتضح أنه مثل ألان باديو، يربط مشيل فيفيوركا أحداث مايو 68 بالمسار السياسي العشوائي الذي ركبته فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية. إنه حدث سياسي متفرد بامتياز، ويفسر من خلال الفلسفة السياسية، لأن الأزمة هي أزمة ديمقراطية في نهاية المطاف، حيث يؤكد على مسؤولية اليمين الفرنسي واليمين المتطرف، الذي بالإضافة إلى نزعته ضيقة الأفق وما تميز به مؤخرا من غياب لمشروع خلاق، مثله في ذلك مثل اليسار الذي يعيش بأفق سياسي لا يتجاوز انتخابات عابرة، ينقد فيفيوركا اليمين في ميله إلى التضييق على ما هو اجتماعي، كما يدين توجهه في تكريس أعمال العنف والغضب التي تقوض السلطة وتفتح الباب على حركات ونزعات أكثر تدميرا على المسار الاجتماعي والديمقراطي للبلاد.
ومع ذلك يبدي فيفيوركا أملا عظيما في إمكانية تحفيز الفعل الديمقراطي، وكذا تحسين أداء المؤسسات عبر الضغط الحيوي الذي يكمن أن تقوم به الحركات الاحتجاجية، سواء في حالة حركة 68 أو مع جيل Z، الذي يمكن أن يعطي معنى آخرا للديمقراطية، ويبعث على التجديد الثقافي، ذلك أن هذا المفكر النقدي يؤكد على أهمية التغيير من الأسفل، الذي يأتي من القوى الحية في المجتمع، مع كل الانحرافات الممكنة التي قد تُعثِّر عمل الحركة، مثل حالات الشغب والعنف الذي يتم مواجهته في الغالب بعنف آخر، يكاد يصل إلى هدفه في كبت أي محاولة للضغط على النخبة الحاكمة من أجل التغيير.
[1]- مشيل فيفيوركا ولد عام 1946، هو سوسيولوجي فرنسي بارز في بحوث العنف السياسي والإرهاب والحركات الاجتماعية والأقليات، كان قد شغل منصب رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع بين عامين 2006 و2010، وعضو بارز في مركز التحليل والتدخل السوسيولوجي، من مؤلفاته: كتاب العنف في فرنسا (1999).
[2]- عبد المنعم الكيواني أستاذ للفلسفة في الثانوية التأهيلية الحكومية (المغرب)، وباحث في الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
[3]- ألان باديو، لغز 1968، لنا الحق في التمرد، ترجمة أحمد حسان، دار الصفصافة للنشر، الجيزة، مصر، طبعة 2021، ص. 23.
[4]- نفس المصدر، ص. 60
[5]- نفسه، ص ص. 11-12
[6]- نفسه، ص. 51
[7]- هذا النص هو ترجمة للمقال الذي نشره مشيل فيفيوركا في موقع The Conversation بالعنوان التالي:
Michel Wieviorka, De Mai 68 à la génération Z: ce que les révoltes apportent à la démocratie.
[8]- حركة 1968، هي حركة اجتماعية وثقافية خرج بمناسبتها العمال والطلبة في مايو من تلك السنة، وإلى جانبهم المثقفين وأساتذة الجامعات مثل سارتر ومشيل فوكو، حيث رفعت شعار الإصلاح الشامل في وقت انخفض الرضا على الوضع الفرنسي العام. هذه الحركة كان لها ما كان في إحداث تحولات كبيرة، وسالت في قضيتها أقلام لا تحصى.
[9]- عبر عن واقع اليسار الفرنسي سارتر قبل عقود بقوله: "اليسار هو جثة مدفونة بالمقلوب وتتعفن"، ورأى ألان باديو في اليسار الفرنسي ذلك الميت الحي من البداية. من كتاب: ألان باديو، لغز 1968، لنا الحق في التمرد، ص ص. 14-15
[10]- الأيديولوجيا الويكية أو الوعي الهوياتي المفرط، حيث اشتق من الأصل اللغوي الأمريكي الذي يدل على الانتباه اليقظ لمظاهر الظلم الاجتماعي مثل العنصرية والاستعمار وهيمنة البيض، تحول اتهام أيديولوجي في السياق الفرنسي يُستعمل على نطاق واسع كتغول للحساسية الأمريكية في النقاش الفرنسي وتهديد لقيم العلمانية الفرنسية.
[11]- مهسا أميني هي شابة تنتمي للأقلية الكردية المضطهدة في إيران، صادف أن زارت طهران في دجنبر 2022 برفقة شقيقتها، مما أدى إلى اعتقالها من قبل شرطة الآداب والأخلاق على نحو ما هو معمول به في إيران من رقابة على اللباس ومطلب الحشمة، ثم عرَّضتها للتعذيب، مما أدى إلى وفاتها في السادس عشر من نفس الشهر، وهي ما زلت في ريعان الشباب لم تتجاوز الثانية والعشرين من عمرها، مما أحدث الانتفاضة المشهورة التي حملت عنوان: المرأة-الحياة-الحرية، وما خلفه قمع الاحتجاجات من قتلى بالمئات والجرحى والعاهات بالآلاف، وصلت إلى حد إعدام عدد من المحتجين.
[12]- لُقبت الحركات الاحتجاجية بجيل ز بفعل ما درج على استخدامه منذ أواخر التسعينيات من قبل جهات إعلامية وأكاديمية عديدة، وقبل أن يتحول إلى تسمية معترف بها عالميا لأفراد الجيل الذين ولدوا منذ 1995 إلى حدود 2010.
[13]- من العواقب المريعة التي تؤول إليها الحركات الاحتجاجية خاصة في البلدان الأكثر ميلا للردع والعنف، مثل المغرب ودول إفريقيا؛ إذ تنتهي الحركات في جميع الأحوال بعقوبات سجنية قاسية، تعد بعشرات السنين لإنهاء كل تفكير في معاتبة السلطة أو مساومة اختياراتها...
[14] - هذا المصير هو أسوأ ما يمكن أن تلقاه الفعاليات الاجتماعية المطالبة بالتغيير؛ وذلك حينما تحتويها المنظومة السياسية العامة، بأن تضفي الطابع المؤسساتي على أي فاعلين جدد، وبهذه الطريقة يتم امتصاص القوى التمردية الدافعة للتغيير؛ إذ يحدث هذا كثيرا في المغرب وفي عديد الدول التي تسير بخطواته.
[15]- فرانسوا دوبي أستاذ للسوسيولوجيا بجامعة بوردو الثانية، ومدير الدراسات في EHESS من مؤلفاته:
François Dubet, La Préférence pour l’inégalité, Seuil, Paris, 2014.
[16]- ألان تورين (1925-2023) هو سوسيولوجي فرنسي من أبرز الوجوه الثقافية الأوروبية والعالمية، من مؤلفاته: كتاب نقد الحداثة.
[17]- https://url-shortener.me/913P






