صورٌ منِ اهتجاسِ الفكرِ العربيِّ المعاصر بمسألة الدّولَة


فئة :  أبحاث محكمة

صورٌ منِ اهتجاسِ الفكرِ العربيِّ المعاصر بمسألة الدّولَة

صورٌ منِ اهتجاسِ الفكرِ العربيِّ المعاصر بمسألة الدّولَة*

يتمايز تمثُّل الدّولَةِ، في الثّقافَة العربية والإسلاميَّة، عن تمثلها في الثّقافَة الغربية. شهدت أوروبا، قبل الحداثة السّياسِيّة، على نمطين من التنظيم السّياسِيّ بارزين: الإمبراطورية والدّولَة-المدينة (Cité)، أمّا فكرة الدّولَة فلم تنضج إلّا مع تطوُّر النزعة القوميّة، التي من رحمها خرجت الدّولَة-الأمة (État-nation) وأضحت مؤسّسةً مستقلةً عن الحاكمين والمحكومين مُتمتِّعةً بالسُّلطة والسِّيادة. بينما الدّولَة، في الوعي العربي الإسلامي -قديمِه و"حديثِه"- قديمةٌ حديثةٌ! تشملُ، في دلالاتها، دولة الخلفاء والإمبراطوريَّات، كما تشملُ الدول الوطنيَّة والدولة القطرية بعد الاستقلال، غير أن المقصود بالدولةِ، هنا (في هذا النص)، الدّولَة الحديثة.

وقد تعدّدت أنماط النّظر في مسألة الدّولَة واختلفت أطروحاته لدى المفكرين والمثقفين العرب، على اختلاف مشاربهم ومنطلقاتهم الفكرية والإيديولوجية، غير أنّ تصوّرهم للدولة وسمته، في الأعمّ الغالب منه، الأداتيّة والاستخداميّة. جسّدتِ الدّولَة، بالنسبة إلى الإسلاميِّ، طريقًا لتنزيل الشريعة وتخليق المُجتمع. لكنّهَا، عند الماركسيّ، وسيلةٌ تُسخرها طبقةٌ مالكةٌ لأدوات الإنتاج في استدامة استغلالها فئات المُجتمع وإعادة إنتاج هذا الاستغلال، فضلًا عن أنّ الدّولَة لحظة مؤقّتة في طريق العبور إلى الشيوعية، بينما الدّولَة، عند الليبراليّ، أداةٌ لتحصين الحرّيّات الفرديّة وإرساء بيئة آمنة لتنافسٍ طبيعيٍّ البقاءُ فيه للأقوى. أمَّا القوميّ، فقد رآها عقبةً في طريق دولَةٍ قوميّةٍ جامعةٍ. لم تُفلح جُلّ تلك التمثلات التّوَسُّليّة للدولة في إدراك حقيقتها المحايثة للمجتمع؛ أي بما هي مُجتمعٌ مُنتظم في مؤسّسات، يَحكُمه عقدٌ اجتماعيٌّ، وقواعد قانونيّة تسوسُ اجتماعه الإنسانيّ. ولنقُل، على نحو قول بولانتزاس، الدّولَة ليست كيانًا متعيّنًا، إنّما هي التجسيد الديناميّ للعلاقات وموازين القوى داخل مُجتمعٍ بعينِه[1].

يغترضُ هذا النصّ تعيين السِّماتِ العامّة والملامح البارزة للوعي العربي بفكرة الدولة، من النهضويِّ إلى الحداثيِّ المعاصر. حيِّز هذا المقالِ - بكلِّ تأكيدٍ- ضيّقٌ جدًا على رحابة سؤالٍ من هذا الحجم؛ سؤالُ الدّولَة في الفكر السّياسِيّ العربيّ في شموليَّته. إنما الغرض، هنا، تقديمُ صورةٍ، شديدِة الاختصار والتركيب، عن ملامح تطوُّر الوعي العربي بفكرة الدّولَة وأبرز الأطروحاتِ التي وسمت الوعي ذاك، في لحظته المعاصرة. تُبيحُ ضرورةُ الاختصار الانتقاءَ، من بين طيفٍ واسعٍ من الكتابات في موضوعنا -بدءًا من الوعي النهضويّ بالحداثة وصولًا إلى الاتجاهات المعاصرة الحداثية المنشغلة بسؤال الدّولَة-، ما يُجسِّدُ أمثلةً بارزةً للوعيِ بفكرة الدّولَة لدى الناظر إلى السياسة العربيّة. هو، إذن، تعريجٌ سريعٌ يأخذنا، أوّلًا، إلى بواكير تبلور إدراكٍ ابتدائيٍّ بالسياسة الحديثة ومستلزمات النهضة العربيّة مع الآباء النهضويّين؛ ويطرقُ، ثانيًا، ملمح إدراك مسألة الدّولَة في الفكر العربي المعاصر؛ ويخلصُ، أخيرًا، إلى مقارنةٍ بين نماذج خمسة مثلت الدّولَة، في فكرهم، مُدخلًا ابتدائيًّا لفكّ معضلات اجتماعنا العربي المعاصر.

اخترنا صورًا خمسًا من صور اهتجاس الفكر العربي المعاصر بالدولة؛ فكان إلى جانب الأستاذ بلقزيز، عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ورضوان السيد وبرهان غليون. وما كانت معايير اختيار هؤلاء اعتباطيةَ؛ إذ فضلًا عن الحيِّز المُعتبر الذي شغله سُؤل الدّولَة في الفكر السّياسِيّ لهؤلاء الخمسة، فإن من بواعث الانتقاء تنوُّعُ أطروحاتهم واختلافُ أجوبتِهم حول معضلاتِ الاجتماع السياسيّ العربيِّ. هكذا يُتيح طَرْقُ سُؤال الدّولَة العربيًّة، مع هذه النّخبة المفكّرة، النَّظَرَ في مَحَلّ التراثِ والحداثة في تكوينها، خاصّة مع تصوّري العرويِّ والجابريِّ. كما تفتحُ هذه العينة، أيضًا، أُفُقًا للتفكير في مسألة الدّولَة في سياق جدليّة الدينيِّ والسّياسِيّ ومقارنةِ المقاربة التأريخيّة الأركيولوجيّة، المُؤمِنَة بأنَّ فهم الحاضر يمرُّ، حُكمًا، بالوعي بالماضيِ -على نحو ما عكسته أعمال رضوان السيِّد- بمقاربة العلوم الإنسانيَّة حيث لا يستقيم الوعي بواقع دولتنا العربيّة خارج تاريخها، كما شدَّد بُرهان غليون. كما تفتح هذه العينة، أخيرًا، أفقًا لالتقاء هذه الأطروحات المتقابلة في رؤية مُوازِنَة، مع بلقزيز، تُشيِّدُ الدّولَة على الحداثة مع الوعيِ بتراثِها؛ وتعيها في حاضرها -كما شرَّحها مِبضعُ العلوم الاجتِماعِيّة- من دون إهدار قيمة الحفر التاريخي لإدراك رواسب الماضي على الحاضر. لكن قبل تكثيف النظر في المتون تلك، إطلالةٌ سريعةٌ على ما ميَّز الوعي العربي النهضوي الحديث بفكرة الدّولَة.

أولًا: في الوعي العربي الإسلاميّ بالدولة

تَرَاكَمَ على الوعي العربيّ الحديث والمعاصر أزماتٌ هزّت اجتماعه السّياسِيّ، وكشفت وُسع الفارق بينه وبين نظيرٍ منافس بل خصمٍ مُهَدِّدٍ و-في أحيان كثيرة- مُعادٍ، هو "الغرب". كانت بدايات المحنة العربية مع غزو نابوليون بونابرت للولايات العثمانيَّة في مصر والشام، نهاية القرن الثامن عشر مطالع القرن التاسع عشر، واستفحلت مع سقوط الدّولَة العثمانية. وقبلَ أن تَغُور جراحُ الوعي العربي في نكبة فلسطين ثمّ نكستها، كان التمزق والاستعمار قد بلغ ذُرَاه، في الأقطار العربيّة، بعد موت الرجل المريض (=الإمبراطورية العثمانية). وما أهوال ما تشهد عليه حالنا العربية، في سياق ما سُمي بالربيع العربي، إلا خلاصة مأساوية لتاريخ طويل من التدهور العربيّ على الصُّعد كافَّة. كانت هذه التجارب الأليمة كافيةً لإيقاظ وعيٍ شقيٍّ بالحاجةِ إلى سبيلٍ تُفضي إلى انتشال الاجتماع العربي من محنته. وما كانت السبيل تلك، عند كثيرٍ ممن انشغل بالسياسة وبفكرها، غير الدّولَة الحديثة.

ما من شكٍّ في أنّ بناء الدّولَة الوطنيّة الحديثة في حاجة إلى نخبٍ؛ وهذه مما لم تعدمها البلاد العربيّة، غير أن النخب هذه بَدَتَ عليها أعراض ما أصاب المُجتمع من أمراض التشظِّي والفرقة؛ فمَا جمعَ بينها مشروع وحدويٌّ تلتف فيه حول المشترك من القضايا والمُلِحِّ منها، وتنبذ التنازع في ما اختلفت فيه، إن على صعيدٍ قوميّ عربيٍّ أو في حيّزٍ وطنيٍّ قطريٍّ. لقد انقسمت هذه النخب بين فريقين يستورد واحدٍ منهما مرجعيّتَه من معينٍ نقيضٍ للآخر: الأصاليّون -في عمومهم- يجدون الملاذ من مآزق السياسة في تراثٍ مضى ويرون أن الحضارة كامنةٌ في ثقافةِ الأمس وموروثه. بينما يعتقدُ الحداثيون -عددٌ منهم- أنّ القطع مع الثّقافَة تلك والتراث ذاك بابٌ أوّلٌ من أبواب الحداثة. بهذا المعنى يصير الأصاليّون رجعيون ويُمسي الحداثيون تَبَعِيّونَ.

لا مجال، في هذا التقاطب الحديّ، للقاء بين التوجهين النقيضَيْن؛ فما يحسبه هؤلاء شرطًا لتقدّم هو، في وعي أولئك، سبب التخلف والنكوص؛ وما يكون عند هؤلاء عائقًا للحضارة هو عند الآخرين علّتها ومفتاح انبعاثها من جديد. عين الرّضا، عند المبشرين بالحداثة، عن كلّ حدودها ومثالبها كليلةٌ، وكذلك هي نظرة الأصاليين: انتقائيةٌ لا تنتبه إلّا إلى إشراقات تاريخٍ ولّى وثراتٍ تَراه مُجاوزًا لحدود الزمن. غير أَنّهُ من الإجحاف، في معرض هذا التمييز بين الفريقين، الظنّ أنّ أشرعة كلّ فريقٍ تسير، دائماً، في اتجاهٍ واحدٍ، معاكسٍ -حُكمًا- للفريق الآخر: الحداثيون مِللٌ ونِحلٌ، وكذلك هُمُ الأصاليون، بل قد نعثر ضمن المحسوبين على التقليد مَن هو أقرب إلى الحداثة، تمامًا كما يمكن أن نجد مِن بين مَن عُدّوا مِن زُمرة الحداثيين مَن هُو أشدّ رجعيّة ونكوصيّة عن وعودها. وعلى الرغم من هذا التعدّد، الذي وسم رؤى المثقّف العربيّ إلى فكرة الدّولَة، فإنه يمكن إدراج الرؤى تلك داخل اتجاهين متمايزين: تقليديِّين وحداثيين. نترك التناول الحداثي العربي لفكرة الدّولَة، مع النخبة المومئ إليها أعلاه، بعد هذا المفصل (=المحور)، لنمضي في بسط بدايات الوعي التقليديّ (الإسلامي) الحديث بالدولة.

برز داخل التصوُّر الإسلاميّ للدّولَة تيّارانِ: الأول إحيائيٌّ صحويٌّ والثاني إصلاحيٌّ نهضويٌّ. تعثر الإحيائيَّة على جذورها في النزعة الوهابيَّة التي مَثَّلت، في القرن الثامن عشر، ردَّ فعلٍ عربيٍّ على السُّلطَة العثمانيّة وعلى أنماط الاعتقاد، التي نفثتها في الأقطار العربيَّة، من تصوّفٍ شعبيٍّ وقبوريَّة وطقوسٍ، رأتْ فيها هذه الحركة النجدية* انحرافًا عن الإسلام السنيِّ وعن نهج السَّلف. هذه هي الديناميَّةُ الأولى التي من الماضيّ اتَّخذت مرجعًا لتحقيق نهضةٍ في الحاضر، وقد "عكست، في الواقع، ردَّ فعلِ الإسلام العربيِّ وأعلنت، من دون أن تُصرِّح بذلك، ما سوف يتحوَّلُ، في المستقبل القريبِ، إلى مطلبٍ جامح، أي الدعوة إلى إعادة الخلافة إلى العرب كشرطٍ لابُدّ منه لنجاح الإصلاح"[2].

إلى جانب دعوتها الإحيائيّة العقائديّة السنيّة التوحيديّة، كانت الوهابيّة جزءًا من الصراع على السُّلطَة والعمل السياسيِّ؛ فجسّدت، بذلك، أصلًا لما باتَ يُعرف بالإسلام السياسيّ الذي ما فتئت حركاته تذيع في ربوع العالم الإسلاميّ. حركاتٌ تعتبرُ بأنّ مُبتدأ الإصلاح السّياسِيّ يمرّ، حُكمًا، من إصلاح عقائد الناس ودينهم؛ إصلاحٌ، لا يقصدُ مراجعةَ العقائد تلك والدين ذاك، إنّما الرجوع إليها بحُسبانها أصولًا ثابتةً، غير أنّ تحوُّل هذه الحركة من دعوة سِياسِيّة-دينيَّة إلى دولة "لم يتحقّق -كما لاحظ برهان غليون[3]- إلّا بعد إجراء عمليّةٍ جراحيّة حقيقيّة أفضت إلى إعلاءِ قيم التحالف والتضامن القبَليِّ داخل الحركة على حساب القيم الدينيَّة المتشدِّدَة التي وَسَمَتِ الوهابيّة في حقبتها الأولى. ولم يتمّ للسلطة الجديدة الاستقرار إلا بعد اندراجها في إطار الاستراتيجيات الدوليّة التي أتاحت لها، من دون خوف، تحقيق التصفية الجسديّة لقوات الإخوان الذين حملوا مشروع الحركة على أكتافهم"*.

كانت هذه، إذن، الدينامية الأولى لتأسيس الدّولَة العربية وفق رؤية إحيائيّة[4] للدين ودعوة ماضوية تقليدية. وكان علينا انتظار حركةٍ ثقافِيّةٍ فكريّةٍ تكون بمثابة ردّ فعلٍ ثانٍ على حال الانحطاط السّياسِيّة التي عليه شهدت البلاد العربية في ذلك الإبّان. لقد أفضت صدمة اللقاء مع الحداثة إلى انبعاث حركةٍ ثقافِيّة وفكريّة أخذت، رويدًا رويدًا، ترى في التمدّن والتحديث حاجةً، بل ضرورةً، في سبيل انتشال الواقع السّياسِيّ من حضيض التخلف وقهر الاحتلال. هكذا أدرك النهضويون العرب، تحث وطأة صدمة الحداثة، أنْ لا مفرّ من الأخذ بأسباب التقدم والتَّأسِّي بالآخر "العدو" حتّى لا تظل الأمة خارج التاريخ. كان رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وعبد الرحمان الكواكبي وجمال الدين الأفغانيّ ومحمد عبده، إلى جانب غير المسلمين من فرح أنطون وجرجي زيدان وأحمد فارس الشدياق*... إلخ، في طليعة نخبةٍ عربيّةٍ نهضويّة، وإن اختلفت أجيالها، حملت مشروع الإصلاح على حوامل حديثة.

كانت دعوةُ النهضويِّين إلى التأسِّي بأسباب التقدُّمِ صريحةً -عند جُلّهم- غير مواربة -إلا عند بعضهم (الكواكبيِّ مثلًا)-؛ لأن "التمدّن الأوروباويّ -كما رآه خير الدين التونسي[5]- تدفَّق سيلُه في الأرض؛ فلا يُعارضه إلّا استأصلته قوة تياره المتتابع؛ فيُخشَى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار إلّا إذا حذوا حذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيويَّة، فيمكن نجاتهم من الغرق". ما اعتقد الخطاب النهضوي الحديث -في مجمله وعلى النقيض من الخطاب الإحيائيّ- أنّ الحداثة انسلاخٌ عن الهويّة الثقافيّة وتَلَبُّسٌ لثقافة الغزاة وموالاتهم، خاصةً في سياق الحملات الإمبرياليّة على البلاد العربيّة والإسلاميّة. فإذا مثلتِ الهجمة الكولونياليّة على المنطقة العربيّة خطرًا داهمًا على مصير شعوبها ومقدراتها، فإنّها جسّدت، أيضًا، فرصةً لاكتشاف الآخر وقياس مقدار التخلف التاريخيّ عنه.

لم تكن هذه الدعوة إلى توسل أسباب الحداثة، كما نشأت ونضجت في أوروبا، ببدعة في التاريخ، وإن كان مأتاه من غَازٍ؛ فإذا كان الإخضاع والاستغلال من النتائج المقصودة للغُزاة، فإن التثاقف من نتائجه غير المقصودة، ولا حرج في الأخذ بها. لا تُستثنى من هذا حتّى المراكز الحداثية الغربيّة الكبرى: "لا يجادل أحدٌ اليوم -يقول بلقزيز- في أنّ ألمانيا والسويد والنرويج وبلجيكا والنمسا وسويسرا.. من المراكز المتقدّمة للحداثة إجمالًا وللحداثة الثَّقافِيّة تخصيصًا. لكن، هل لنا أنْ نُجادل في أنّ حداثَتَها إنّما أتت محمولةً في ركاب الغزو الفرنسيّ والبريطانيّ والهولنديّ ولم تأتِ من الانهيار التلقائيّ للعالم القديم في تلك المجتمعات؟ ثمّ إنّ أحدًا لا يُجادل في أنّ الولايات المتّحدة وكندا وإيرلندا وأستراليا ونيوزيلاندا والمكسيك والبرازيل والأرجنتين. من مراكز الحداثة المتقدّمة اليوم. ولكن هل نشأت فيها هذه الحداثة إلّا من طريق الغزاة البريطانيّين والفرنسيّين والإسبّان والبرتغاليّين؟"[6].

من رحم هذا الوعي التاريخي الإصلاحي النهضوي خرجت مقالة معاصرة تتصور مخرج الاجتماع السّياسِيّ العربي من محنته في تشييد دولة حداثية حديثة يدخل من خلالها العرب إلى التاريخ، وينعتقون من براثين التخلف والاستعمار. من بين من سطروا عناوين تلك المقالة نُخبةٌ من الباحثين العرب سعت إلى دراسة مشكلة الدّولَة على نحوٍ عقلاني (=علميّ) يبحث في وجوه امتناع العرب على التقدم، ومُراوحتهم المنزلة بين منزلتيِ الحداثة والتقليد. من بين هؤلاء عبد الله العروي؛ محمد عابد الجابري؛ رضوان السيد؛ برهان غليون؛ وعبد الإله بلقزيز.

ثانيًا: العروي ودولة القطيعة مع التراث

مثّل عبد الله العروي لحظةً مفصليّةً في الوعي العربيِّ المعاصر بمشكلة الدّولَة في صلتها بأزمة الفكر[7] والثقافة[8] العربيَّين. جسَّدت الدّولَة الحديثة، في فكر العروي، أفقًا تاريخيًّا لامتطاء قطار حداثةٍ وِجهتها واحدةً ووحيدةً؛ هو قطار التاريخانيَّة.

تتّصلُ الدّولَة، في وعي عبد الله العروي، بالحُرّيَّة على النحو الذي اتصلت به الفكرتان في الوعي الهيغيلي. ما من سبيل إلى تصور الحُرّيَّة خارج الدّولَة ولا دولة من دون أفق للحرِّيَّة ترنو إليه. الدّولَة هي الوجه الموضوعي لفكرة الحُرّيَّة، تواجهنا، أوَّل ما تواجهنا، كمعطىً تاريخيٍّ كواقع متجسِّد يُفصح عن ذاته في التاريخ، ككيان يتعالى عن كلِّ تفكيرٍ فيه مفارق لزمنه ولواقعه. بذلك تكون "الدّولَة -"العَرْويّة"- دائمًا مزامنة للفرد وللمجتمع -الفرد، المُجتمع، الدّولَة -هذه مفاهيم متداخلة بالتعريف- أيُّ تساؤل عن الدّولَة تساؤل عن وظائفها ووسائلها"[9].

سيحمل هذا التصور للدولة العروي على تجاوز "النظرة التوسُّليَّة" إلى الدّولَة، بحُسبانها أداةً مؤقّتةً مهمَّتِها مساعدة الإنسان على الانتقال من حياته الأرضيَّة "الهابطة" إلى "السعادة الأبدية، في عالمٍ غيبيٍّ". ليس بالإمكان، في منطق العروي، تقييد شرعية الدّولَة بمثل هذه الغاية المفارقة تمامًا للواقع ولا نحت شرعيّاتٍ ماورائيَّة للدولة. وقد حشر العروي في زمرة هذا الوعي "الزائف" بالدولة زمرة من الأفكار، التي تبلورت عبر تاريخ طويل، من رواقيين ودعاة القانون الطبيعي، من أفكار أغسطين ومن تأثر بها إلى فقهاء الإسلام. شرعية الدّولَة مُستمدَّةٌ من ذاتها لا من خارجها. وهذا درسٌ هيغيلي أساس لوعيٍ حديثٍ بفكرة الدولة.

التفكير في الدّولَة، عند العروي، تفكيرٌ مركّب بالنظر إلى الأسئلة التي يطرحها. يشمل البحثَ في أسئلةِ الدّولَة النظر في الهدف والغاية -وهذا عمل الفيلسوف-؛ وتَعَقُّبَ تطوّرها في الزمن، -وهذا عمل المؤرخ-؛ وفحصَ وظائفها -وهذه مَهمَّةُ عالم الاجتماع السّياسِيّ[10]-. وإن كان العروي لم يُبد ترجيحًا لمنطلقٍ بحثيٍّ ولا منهجٍ بعينه، غير أنَّ عقيدته التاريخانيّة المشبعة بالواقعيّة، فضالًا عن نظرته الخطِّيَّة التطوريَّة للتاريخ، تجعله إلى المؤرخ أقرب منه إلى الفيلسوف، من دون أن تغيب روح الفلسفة عن وعيه التاريخانيّ.

احتلّ هيغل مكانةً مركزيَّة في بلورة وعيِ العروي بفكرة الدّولَة، ويمكن الزعم بأن العروي استمد تصوُّرَهُ الخطيَّ للتاريخ من هديِ فكرةِ التقدم الجدليِّ الهيغيليِّ، ونَهَلَ نقده لـ"دولة الفقيه" و"دولة الفيلسوف" من الوعي الهيغيليِّ الجدليِّ بفكرة الدّولَة. من يحسب أن حقيقة الدين، أو حقيقة الفلسفة، تسمو على حقيقة الدّولَة، خاطئٌ، "لأَنّهُ -في تصوّر هيغل كما قرأه العروي- يرى الأمور بمنظار الإعقال، وهو منظار تجزيئيٌّ تسطيحيٌّ. ولو كان تعمق في الأمور ورآها بمنظار العقل الشموليِّ لَأدرَك أن مفهوم الدين هو مفهوم الفلسفة، مصوّرًا مُمَثلًا، وأن مفهوم الفلسفة هو مضمون الدّولَة، ملخَّصًا مجرّدًا، وأخيرًا أن مضمون التاريخ مجسدًا في الدّولَة"[11].

من دون الوعي بضرورة وضع كلّ الأخلاق الدينيَّة والقيم الفلسفيَّة في إطار الدّولَة وتحت رعايتها، من غير الممكن تصوُّرُ تقدمها المستمر وتطورها. تلك فكرةٌ دشّنها مكيافيلّي ونضجت مع هيغل، وهي جواب العروي النهائيّ عن مشكلة الدّولَة العربية. والمشكلة هنا، بالتحديد، هي عجز العقل العربي (والإسلامي) عن النظر إلى الدّولَة كتجسيد للعقل (=الفلسفة) والأخلاق (=الدين) وتجاوز لهما. إن "الفكر الإسلاميّ، القديمَ، بما فيه ابن خلدون، يتضمن أخلاقيَّات واجتماعيَّات، لكنّهُ لا يتضمن نظريَّة الدّولَة"[12].

نسج العروي تعريفه للدولة، على أنّهَا "بيروقراطيّةٌ منفصلةٌ عن المُجتمع، مبنيَّةٌ على منطق العقل الموضوعي"[13]، من "مادة" هيغليّة وفيبيريّة. تنفصلُ في الدّولَة الحديثة المصلحة الخاصَّة (مصلحة المُجتمع المَدَنِيّ) عن المصلحة العامّة (مصلحة الدّولَة)، وفي الوقت عينه تتصل المصلحتان الخاصّة والعامّة حين يتَّصل المُجتمع بالدولة فتكون هي التجسيدَ الموضوعيّ له. الدّولَة، في وعي العروي، مبناها على العقل والعقلانيَّة. بهذا التعيين الحداثي، غير الموارب للدولة، يقطع العروي، تمامًا، مع كل تصوراتٍ طوباويَّة مفارقة للواقع منقطعة عن التاريخ، فلسفية كانت أو لاهوتية، من ذلك تخصيص العروي حيزًا معتبرًا لتفكيك الدّولَة التقليديَّة؛ الدّولَة السلطانية.

إذا كانت الواقعية طافحة في تمثل العروي للدولة، فإن واقعيته لم تَغفل فعل الإيديولوجيا (أو الأدلوجة كما يعربها العروي) في تكوين الدّولَة. ليست الدّولَة تُختزل في مجرد جهازٍ مادّيٍّ ومؤسَّساتٍ قائمةٍ. لا دولة من دون إيديولوجيا تضفي الشرعية عليها وتجيب عن مبررات وجودها. الإيديولوجيا طاقةٌ معنويَّةٌ لاحمةٌ لعناصر الدّولَة ومؤسساتها. إنها الوجه الأدبيّ للجهاز، وهي الجوهر الفعلي للدولة الحديثة؛ هذا درس أنطونيو غرامشي ولوي ألتوسير، وإن كان مكيافيلي وابن خلدون سابقين في الوعي به. أما عبد الرحمان الكواكبي، فله قول بليغ في قوة "الإيديولوجيا" في التمكين للسلطان. يقول الكواكبي: "المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحاكمهم بهواه لا بشرعيتهم. ويعلم من نفسه أَنّهُ الغاصب المعتدي"[14].

كان الغرضُ من عودة العروي إلى التراث العربي الإسلامي تقديمَ البرهانِ على تهافت طوبى الخلافة، وتقويض أسس الدّولَة السُّلطانيّة، وتقديم الحجة على حصريَّة نجاعة الدّولَة الحديثة في صيغتها الغربية الليبراليّة. أما محمد عابد الجابري، فسيعود، هو أيضًا، إلى التراث ليس لنقده وتفكيكه فحسب، إنَّما - أساسًا- لبيان ما له من عناصر يمكن البناء عليها لتطوير حداثةٍ مستقلّة بِنْتُ بيئتها العربية، من دون انفصال أو تعارضٍ مع نموذج الحداثة كما تبلور في الغرب. هكذا، وفي مقابل إيمان العروي بواحديّة الدّولَة الحديثة وسيرورتها التاريخية الخطيّة، صارت الحداثة، مع الجابري، حداثات متعدِّدَةٍ. وإزاء نظرة "عَرْوِيَّة" تقاطبيَّة قطائعيَّة بين التراث والحداثة، تبلور تصورٌّ "جَابِرِيٍّ"[15] يوازن بين نقد التراث ونقد الحداثة، والنهل منهما في الآن عينه.

ثالثا: الجابري الدّولَة بين التراث والحداثة

قدّم الجابري، في مقابل دولةِ القطيعة مع التراث التي اقترحها العروي، دعوةً إلى تشييد دولة حديثةٍ تقف على مسافة ذاتها بين الحداثة والتراث وتَمتَحُ منهما متحًا نقديًّا، في مساق تشييد حداثة عربية مستقلة. وهذه المهمة تستلزم نقدًا مزدوجًا لكلّ من "الأنا" العربيّة و"الآخر" الغربيّ، حتّى يتحقَّق التحرّر من سُلطَة الاثنين: سُلطة التراث العربي وسلطة النموذج الغربي للحداثة.

لقد دشّن الجابري- كما أكد بلقزيز غير ما مرّة[16] - منعطفًا فكريًّا ومفاهيميًّا ومنهجيًّا حاسمًا في مجال دراسة التراث العربي الإسلامي، حيثُ "لم يعد نقدُ التراث [معه] نقدًا لمعطياتِ هذا التراث، أو لمادّتِه الفكريّة، [...] وإنَّما بات ينصرف إلى فحص الأداة التي بها يحصُلُ إنتاج المَعرفة في الثقافة العربيَّة: العقل العربيّ. إنَّ الانتقال من نقد التراث (العربي) إلى نقد العقل (العربي) ليس فعلًا من أفعال التفريغ أو التخصيص، أو حتى التصويب المنهجيِّ في النظر إلى الموضوع، وإنَّما هي إعادة بناءٍ للموضوع (=التراث) ولمفهومه، إعادة بناءٍ للنَّقد: معنىً ومفهومًا وأدواتٍ".

لقد حمل بلقزيز النظرةَ إلى التراث عينها التي حَملها الجابري: فَحْصُ التراث ونَقْدُهُ جزءٌ لا ينفصلُ عن متطلَّباتِ الحداثة؛ لأن "الحداثة -عند بلقزيز- تُفكّر في نفسها من خلال تفكيرها في التراث"، بما أنها في حاجة إلى قياس مدى انفصالها عنه، ولأنّها في حوارٍ مستمرٍّ مع منظومة الأفكار التي انفصلت عنها، ولأن خطاب الحداثة يصطدم بسلطان التراث في المعيش اليوميِّ للمجتمع العربيِّ المعاصر[17]. وفي الاتجاه نفسه، يعتقد الجابريّ أن سؤالَ التراث سؤالُ الحداثة العربيَّة، وهو سؤالُ صِلتها بمرجعيّاتها. إنّه "سؤالٌ متعدّدُ الأبعاد، سؤالٌ موجَّهٌ إلى التراث بجميع مجالاته وسؤالٌ موجَّه إلى الحداثة نفسها بكلّ معطياتها وطموحاتها"[18].

أمّا نظرة المفكرَيْن إلى الحداثة، فهي غيرُ خطيَّةٍ، لا تقوم على نموذجٍ جاهزٍ قبْليّ، يحصر تاريخ الإنسانية في رقعة (=أوربا)، ويُعيّنُ نقطة بداية الحداثة في عصرٍ دون غيره (=عصر الأنوار)؛ فهما (بلقزيز والجابري) ما فتئا يُشدّدان على أن الحداثة حداثات[19]. ولا يعني هذا الكلام أنهما يُسقطان كونيّة الحداثة؛ لأنّ كونيّتها لا تُلغي تاريخيّتها؛ إذْ "صحيح إن الحداثة ظاهرة كونية شاملةٌ المجتمعات والثقافات كافّة -يقول بلقزيز- ولكن تمّة فارقًا بين الكونيّة والمركزيَّة الغربيَّة"[20]. وعلى الخطّ نفسه سار الجابري حين أكّد: "ليست هناك حداثة مطلقة، كلِّيَّة وعالميَّة، وإنَّما هناك حداثاتٌ تختلف من وقت إلى آخر ومن مكان إلى آخر"[21].

ينجمُ من هذه النظرة إلى جدليَّة التراث والحداثة النتيجة التالية: أن الدّولَة العربيَّة يُمكنها أن تصنع حداثتها، لأن استيرادها جاهزةً مُتعذّرٌ، بل مُستحيلٌ. تنشأ الحداثة، عند الجابري، من الداخل ونقطة البدء فيها نقد التراث بما يسمحُ بإعادة قراءتِه قراءةً تُحرّر الثقافة العربيّة من أغلاله. غير أن نقدَ التراث لا يستقيم من دون نقد الحداثة عند الجابري -وعند بلقزيز أيضًا- لأن "لهذا النقد المزدوج (للتراث والحداثة) وظيفةً معرفيّةً وفكريّةً في نظر الجابريّ هي: تحرير الفكر العربيِّ من السُلطة المعرفيَّة لهذين المرجعين، وتحقيقُ ما سمّاه الاستقلال التاريخي للذات العربية"[22].

يستلزم إدراك الاستقلال التاريخيّ، إذن، التحرّر من النموذجين: النموذج التراثي والنموذج الأوروبيّ. لكن، وباستثناء دراسات نقديّة قليلة للاستشراق والفكر الغربي -كما لاحظ بلقزيز- ما اعتنى الجابري سوى بنقد السُّلطة المرجعيّة للتراث؛ فرغم تشديده على أنَّ نقد "العقل العربيّ" يستوجب نقد "العقل الأوربِّي"، إلاّ أنّه انصرف -كما انتبه إلى ذلك بلقزيز[23]- إلى النقد الأوّل وأعرضَ، إلاّ لمامًا، عن النقد الثانيِّ[24].

مثلت العودة إلى تراث ابن خلدون ملاذًا فيه عثر الجابريّ على أدواتٍ أسعفته في تحليل واقع دولتنا العربيَّة الإسلاميَّة بالأمس واليوم. وأهمّ أداتين توسلهما الجابريّ، في مهمّة التحليل هذه، العصبيَّة والرّيع. "الاقتصاد الريعيِّ، السلوك العصبيّ العشائريّ، التطرف الدينيّ، ثلاثة (مفاتيح) أو محددات -يقول الجابري- لا يمكن حلُّ ألغازِ الحاضر العربيِّ بدونها، وهي نفسها المفاتيح التي وظفها ابن خلدون في قراءته للتجربة الحضاريَّة العربيَّة الإسلاميَّة إلى عهده"[25]. هذا المفاهيم، وعلى العكس سابقاتها الغربيَّة الحديثة، لم تخضع لكثيرِ تطويرٍ أو تحوير، حيث توقفت المرونة في الاستعمال، وتعطلت عمليّة التبييء.

ما من شكٍّ في أنَّ الجهد الذي صرفه الجابري في مسعاه إلى تفكيك العقل العربيّ، جبَّارٌ ومُبدع، غير أن النزعة التَّوفيقيَّة، بين التراث والحداثة، طَغت على تصوُّرِهِ للنهضة السّياسِيّة العربيَّة، وورَّطَتْهُ في مُشكلاتٍ منهجيَّة، لعلَّ أظهرها إسقاط البعد التاريخي لتكوين الأفكار وتجاهل السياق الفكريِّ لتبلورها. طفِق الجابريُّ يُفتش في تُراثـ "ـنا" البعيد، وفي مُدوَّناتـ "ـهم" المعاصرة عن أفكارَ تُفسر الحاضر العربي السّياسِيّ المعاصر، فتأرجحَ بين إسقاطٍ لأفكار الأمسِ على تاريخنا المُعاصر، ولَيٍّ لعُنُقِ مفاهيمِ اليوم حتّى تُفسِّر تاريخا وّلَّى، وفي الحالين مُجاوِزةٌ لحدودُ التاريخ وإهدارٌ للبيئة السوسيو-معرفيَّة التي في حِضْنها تبلورت الأفكار تلك.

عزّزَت عودةُ الجابريِّ إلى التراثِ حاكميَّته على الفاعل السّياسِيّ والاجتماعيّ؛ فالتراث أشد وطأةً وأَظْهَرُ أثرًا في انْبِنَاء الوعي العربي بفكرة الدّولَة. وقد مَثّلَ التراث موضوع نظرٍ لا مفر منه، حتّى عند أرباب فكرة القطيعة، وفي طليعتهم العروي. ورضوان السيد هو واحدٌ مِمَّنِ انشغلوا بمسألة الدّولَة العربيَّة، وبِرواسِبِ التراث في تاريخ تبلورها. غير أن مقاربته إليها كانت إلى العروي أقرب منها إلى الجابري. وإن كان لا يُخفي إعجابه بكليهما.

ثالثًا: رضوان السيد الماضي مدخل لاستيعاب الحاضر

لم يتوقف السيد، منذ أربعة عقود، عن التفكير في المسألة السّياسِيّة العربيّة والحفر في جذورها الضاربة في عمق التاريخ السّياسِيّ في التجربة الإسلاميّة. وقد جسَّدت الدّولَة وصلتها بالديني، عنده، ابتداءً، أساسًا لاستيعاب أزمة الحُكم في العالم العربي الإسلامي بين ماضيه وحاضره؛ و، ثانيًا، مفتاحًا لاجتراح حلولٍ تخرج بالاجتماع السّياسِيّ العربي من الأزمة تلك. منذ كتابه الأمّة والجماعة والسُّلطة (1984)، إلى أزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السّياسِيّ (2014) - وبينهما: مفاهيم الجماعات الإسلاميّة (1985)؛ الإسلام المعاصر: نظرات في الحاضر والمستقبل (1987)؛ الجماعة والمُجتمع والدولة: سُلطَة الإيديولوجيا في المجال السّياسِيّ العربيّ (1997)؛ الصراع على الإسلام: الأصولية والإصلاح والسياسيات الدوليّة (2004)، ناهيك بعددٍ مهم من المقالات والدراسات في هذا الباب- ورضوان السيد مهجوسٌ بالإصلاح السّياسِيّ للدّولَة العربية؛ إصلاحٌ لم يكتمل.

كمْ هي شائكةٌ القضايا التي إلى الإجابة عنها سعى رضوان السيد، والتي يمكن طَيُّها تحتَ عنوان المُعضلةِ المُزمنة: التوتُّر بين الدينيّ والسّياسِيّ في التجربة التاريخيّة العربيّة الإسلاميّة. يمرّ استيعابُ مشكلاتِ الحاضر العربيّ الإسلاميّ المأزومِ، عند السّيد، بقراءة سليمةٍ لجدليّة الديني والسّياسِيّ في ماضي "الدّولَة الإسلامية"، وهذا مُمكنٌ حين نتزوَّد بحسّ تاريخيّ يحمل في حُسبانه مجريات التاريخ وأحداثه.

تَمَثَّلَ منهجُ السيّد في الحفر التأريخيِّ في الثقافيِّ والسّياسِيِّ في التراث العربيِّ، وتفكيك المفاهيم المفاتيح -كما يُسَمِّيها[26]- من قبيل الوحدة والجماعة والسُّلطة والأمَّة والخلافة...، بحُسبانها منابعَ للأفكار السائدة والإيديولوجيَّات والتيارات السِياسِيّة والاجتماعيّة.

اجتهد السيد في تصحيح النظرة السائدة إلى الخلافة وصلتها بالدين؛ حيثُ دُرج على تمثُّل الخلافة، في الوعي الإسلاميّ، على أنّهَا سُلطَةٌ دينيّةٌ، غير أنّ رضوان السيد رأى أنّهَا ما كانت كذلك، حتّى في بواكيرها، ولا أَسْدَلَ المسلمون على السلطان ثوبَ القداسَةِ. بدا للسيد "أنّ تحديد الفقهاء للإمامة والخلافة بأنّها "حارسة الدين وسائسة الدنيا" فيه نوعٌ من التوهّم في هذا المجال؛ فلم تكن الخلافةُ هي التي حرست الدين، بل هو الذي حرسها بقدر ما رأى أنّ مصالحه مهدّدةٌ بتهديدها"[27]. مرجعُ هذا التوحيد بين الديني والسّياسِيّ، في الوعي الإسلامي، إلى التجربة المُبكِّرة للنبي (ص) والخلافة الرّاشدة. لكن بعد هذه الفترة، تدرّج الانفصال بين المُؤسسة السّياسِيّة والمؤسسة الدينيَّة، بين أرباب السَّيف (السَّلاطين) وأرباب القلم (الفقهاء)، بين السياسة والشريعة.

اختبر السيد مفهومَ الخِلافَةِ بِرائِزِ التَّجربة التاريخيَّة للدولة في الإسلام، فكانت النتيجَةُ: أنَّ الخلافةَ مؤسّسةٌ سِياسِيّةٌ مبناها على المَصلحَةِ؛ أي على الدُّنيويِّ والمَدنِيِّ. لقد كان ظاهرُ الخلافةِ إمارةُ للمؤمنين وسياسةٌ على نهج الشريعة، وباطنُها (جوهرها) مُلْكٌ دهريٌّ عماده العقلُ والمَنفعةُ. هذا ما رَشَحَ لدى السيد[28] من قراءته للماوردي وابن خلدون و، أيضا، لتاريخ التجربة السّياسِيّة في بلاد الإسلام. هكذا كانت الخلاصة: استقلال المؤسسة الدينية عن المؤسسة السّياسِيّة، بعد استحالة الخلافة إلى مُلكٍ، وتوارِي المؤسَّسة الدينيَّة خلف سُلطان المؤسَّسة السّياسِيّة، بل وتسخير هذه الأخيرة للأولى لإسباغ الشرعيَّة على السُلطانِ الحاكم.

كلّما اتَّسَعَت رُقعةُ الفُتوح وتكاثَفت أحداثُ السِّياسة وتحوُّلات السُّلطَة، تضاءل الأملُ في استرجاع الأنموذج المثال لفكرة الخِلافة، حَدَّ اليأسِ. ورويدًا رويدًا، اضطرّ الفُقهاء إلى التَّنازُل عن مطلبِ الشُّورى والبيعة، طالما حافظتِ الإمامة على الوظائف التي من أجلها قامت: الفيء؛ إقامة الدين؛ العدل؛ الجهاد.

يخلصُ القارئ لمتن رضوان السّيد أنّ انصرافه، في دراسة الدّولَة في الاجتماع العربيّ الإسلاميّ، اتَّجَهَ إلى الماضي؛ إلى التراث السّياسِيّ والبيئةِ التَّاريخيَّة التي من معينيها ارتوتِ الأفكار السّياسِيّة الإسلاميّة، غيرَ أنَّ انشغالَ السَّيد بالدولة في الماضي: الدّولَة الإسلامية كما كانتهُ، لم يُوازيه انشغالٌ - بالقدر عينه- بالدولة كما هي اليوم. ولم يُدشن رضوان السيد قوله في الدّولَة العربية الحديثة، في تَحَلُّلٍ نسبيٍّ من معرفتِه الرَّصينة بالتاريخ السّياسِيّ للإسلام، إلّا مطلَع العقد الأوّل من هذه الألفيّة، تحديدًا منذُ كتابه المشترك مع الأستاذ بلقزيز أزمة الفكر السّياسِيّ العربي[29]، قبل أن يتلوه كتاب: الصراع على الإسلام، ومقالة في الإصلاح السّياسِيّ العربي[30]، وأزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السّياسِيّ. أما برهان غليون، المُتوسِّل بعُدَّةِ العلوم الاجتِماعِيّة والمستمسك بمنهجها، فقد انتبه إلى الحاجة إلى فهم الدّولَة العربيَّة كما هي متجِّسدةً الآن في التاريخ، وكيف استقبلت هذه الدولةُ الحداثةَ.

رابعًا: برهان غليون الدّولَة ضد المجتمع

إذا كان السيد قد ركَّزَ، في تكوين تصوّره للدولة، على الموروث السّياسِيّ العربي الإسلاميِّ وأهميَّة التاريخ في تفكيك الحاضر واستشراف المستقبل، فإنّ برهان غليون انتبه إلى حاضر الدّولَة العربيَّة، الحديث والمعاصر، وانصرفَ إلى كشف كوابح الانتقال إلى دولَة عربية وطنيَّة حديثة. ليسَ يعني هذا أنّ الإنتاج الفكريّ لغليون كان خلوًا من النّظر في التراث وفحص صداه في حاضرنا السّياسِيّ العربي.

خلُصت عودة غليون "القصيرة" إلى لحظة الخلافة -مقارنة بطول وقفات السيد عندها- إلى أن الدين لا يقود إلى الدّولَة بل إلى التحرر مِنْها ومن السِّياسة. ما كانت الخلافةُ، عند برهان غليون، من مقتضيات الإسلام ولا مقاصدِه؛ ولا كانت خلافة الرسول (ص)، في جوهرها، مهمَّةً سياسِيّةً مدنيّة بقدر ما كانت خلافة له في مهامِّه الروحيَّة والدعويّة. وصل غليون إلى النتيجة عينها، التي إليها انتهى السيد: التمايز بين الدينيِّ والسّياسِيِّ، في التجربة التاريخيَّة الإسلاميَّة المُبكرة، مع تناقضٍ في إدراكهما لفكرة الخلافة. كنهُها، عند السيد، سِياسِيّ، بينما هو، عند غليون، ديني روحي. وإذْ يختلف غليون، في هذه المَسألة، مع السيد فإنَّه يلتقي فيها مع بلقزيز[31].

ما كانت مُشكلة الدّولَة العربيَّة، عند غليون، في التوتر بين الدينيِّ والسّياسِيِّ؛ أي، تحديدًا، في سطوة الدينيّ على السّياسِيّ، كما كانت حال أوروبا عشيَّة ثوراتها الحديثة. إنّما أصلُ المشكلة تلك في بينية الدّولَة العربية وآليَّات اشتغالها. ليس يختلف الأمر إذا كانت شرعيَّة السُّلطَة، في دولَتنا العربيّة، دينيَّةً أو مدنيَّةً طالما أنّ النتيجة هي ذاتها: نظامٌ أوتوقراطيٌّ مستبدٌّ.

ثمّة مستويات ثلاثة يعي من طريقها غليون[32] فكرة الدّولَة: المستوى الأول، الجانب المادِّيّ للدولة، يترجمه الجهاز الذي يديرها، بصرف النّظر عن مشروعيّةِ هذا الجهاز ومَأتاهُ، أَمِنْ طريقٍ ديمُقرَاطِيّةٍ أم مِن سَطْوٍ مُستبِدّ. المستوى الثاني، وهذا مستوى سِياسِيٌّ يُعيِّن قواعدَ "اللعب السّياسِيّ"، ومن يملك حقّ التحكّم في المستوى الأوّل (جهاز الدّولَة). أمّا ثالثُ المستويات، فهو الجانبُ الغائيّ أو المبدأ الأخلاقيّ الذي عليه قيامُ الدّولَة (منظومة قِيَمِها وقواعد اشتغالها الأخلاقيَّة). وهذا ما يمنح السِّياسة مشروعيَّتها ومسوّغ وجودها. بكلمة أخرى، يقول غليون: "إنّ وراء الموضوع الذي نسميه الدّولَة يَكمن واقع متشعّبٌ، يبدأ من الدّولَة كواقع تنظيميّ أو تقنيّ، أو الدّولَة كتقنيّة للحُكم، وينتهي بالدولة كأخلاقيّة مُلهمة، مرورًا بالدولة كقوّة سِياسِيّة منظّمة. وتختلف نماذج الدّول وأوضاعها باختلاف التَّمفصل الزمنيّ لهذه العناصر أو تأزم بعضها أو غيابها"[33].

لم تستطع الأقطار العربيَّة الوعي بهذه الأبعاد المتعدِّدة في تكوين الدّولَة، و- بالتالي- إنجازَ دولتها الحديثة. ما كانت دولتنا العربيَّة، إذن، دولةً حديثةً، غير أَنّها ما ظلَّت، كذلك، دولةً تقليديَّةً؛ ولا هي دولة قوميَّة كما لم تُدرِك بَعْدُ درجة الدّولَة الوطنيّة. إنّ العقيدة الحقيقيَّة للدّولَة العربيَّة، اليوم، تكمن في "إيمانها بنفسها ووجودها وأجهزتها؛ أي بفعاليّتها كأداةٍ تنظيم وضبطٍ وسيطرةٍ؛ فهي ليست دولةً وطنيّةً؛ أي دولة-أمّة بأيّ معنى من معاني هذه الكلمة. إِنّهَا دولةٌ وحسب. وفي هذه الحالة من الطبيعيِّ أنْ يتحوّل خطاب الهويَّة الوطنيَّة إلى أداةٍ من بين أدوات الدّولَة العديدة الأخرى وتقنيّة من تقنيَّات السُّلطَة"[34]. وإحدى مشكلات تكوين الأمة العربية الرئيسة "هي بالضبط أن الدّولَة لم تنشأ هنا في حجر الأمة وتعبيرًا عنها ولكن نشأت من أنقاضها وفي مواجهتها"[35].

راهن "المشروع" العربيُّ، بعد الحرب العالميَّة الثانيَة، على التصنيع للدفع بسيرورة التحديث إلى مداها، بحسبانها الرهان في عمليَّة تطوير المُجتمع وتحديثِه، والسبيل الأوحد إلى الخلاصِ الوطنيّ. وقد حامت حول مدار هذا المشروع كلّ التوجهات السّياسِيّة والاختيارات الفكريَّة، ومن جملتها، بحسب غليون[36]، "قبول الاستبداد، إلغاء الأحزاب وحريَّة التنظيم السّياسِيّ والحريات النقابيَّة الأخرى والسُّكوت عن انتهاك حُرّيّة التعبير والتمايز الفكريِّ وتعدُّد المذاهب والأفكار، وتحويل الحياة الفكريّة إلى ميدانٍ دعاية محضةٍ لفكرة واحدةٍ وتدمير الروح النقديَّة؛ أي القبول، باختصار، بالقمع الفكريّ".

وصف غليون دولةَ "المنزلةِ بين منزلتيِ" التقليدِ والحداثة بـالدولة التحديثيَّة. وهذه دولةٌ مستبدَّة سعت إلى إلباس الدّولَة لَبُوسَ القهر والاستبداد. هذا النمط من الدّولَة، عند العرب اليوم، لا هو بالكلاسيكيّ ولا السُّلطانيِّ، ولا هو بالنّمط الحديث. إِنّهُ صِيغةٌ من الهَجَانَةِ بين هذه الأنماط كافّة. تُجسِّد الدّولَة التحديثية سيرورة تدهورٍ من الدّولَة الإصلاحيّة النهضوية، إلى الدّولَة القطريّة: دولة التنمية الاقتصاديَّة، وصولًا إلى دولة الحدّ الأدنى: الدّولَة المستبدة المتداعية. تكمن المحنةُ العربيّة، في وعي غليون، في هذه الدّولَة التحديثيَّة. ومن خصائصها أنّهَا، أولًا، دولة المركزيّة والسلطة المُطلقة؛ وهي، ثانيًا، دولةٌ غيرُ تمثيليَّةٍ ولا ديمقراطيَّة؛ وثالثًا، هي دولة ذات نزعة قوميَّة متمحورةٍ حول الذات والدفاع عن السيادة؛ وهي رابعًا وأخيرًا، دولة استبدادية، من دون أن يعني هذا أنها دولةٌ لا قانونية؛ حيث "إِنّهَا الدّولَة الوحيدة التي تستطيع تأسيس الدكتاتورية على مبدأ الدفاع عن الحُرّيَّة المنتظرة أو المحتملة الكامنة في التقدم، وتُبرِّرُ تدهور المداخيل الفرديّة من مُنطلق العمل على تحقيق العدالة الفعلية أو الانصهار القومي"[37].

من المفترض، عند برهان غليون، أن تُمثِّل الدّولَة العربيّة الملاذ الآمن لأفرادها بعد تاريخٍ عريضٍ من الاستبداد والفوضى والاستعمار؛ هذه وظيفتها ومنبع شرعيتها، منذ هوبس إلى اليوم. وقد كان في مُكن الدّولَة العربيَّة أن تكون بالفعل وطنيَّةً وحديثةً تكفل استقلالها العامّ وسيادتها، وتُؤَمِّنُ للأفراد والجماعات حقوقهم الخاصَّة ومصالحهم. غير أنّهَا جارَت على الفرد والمُجتمع وأخضعتهما لقهرِ سُلطانها قبل أن تَبتَلِعَهُمَا في نهاية الأمر. على ذلك، وعلى النقيض من دورها التوحيدِيِّ، استحالتِ الدّولَة العربيَّة إلى جحيمٍ فَجَّرَ المُجتمع وشَظَّاهُ بعد أن قزّمَت مهمَّاتِها إلى احتكار العنف ومُمارسته على نحوٍ غير شرعي.

ورثتِ النّخب العربية - في غالبيَّتها- الوعي بالدولة ومشكلاتها، عن النخب الغربية. قلّلت النظريَّة الماركسيّة العربيَّة، في مُجمَلِها*، من استقلاليَّة الدّولَة عن الطبقات والفئات المكوِّنة لمجتمعها، وتمثّلتها أداةَ إعادةِ إنتاجِ السَّيطرةِ والهيمنة، بيد الفئة الغالبة. كذلك، قزَّمت الليبراليّة دورَ الدّولَة في حراسة الملكيَّة الخاصَّة وتأمين مُجتمع السُّوق، وأسقطت العوامل الاجتِماعِيّة الفاعلة، حقيقةً، في حيازة السُّلطَة واستدامتها. بذلك قادت محاولةُ تجريب الاشتراكيّة إلى إهدار الحدود بين السُّلطَة والدولة، إلى مزيد من تدمير الاستقلال النسبي للدّولَة عن فئاتها. كما أدَّى إغفالُ الاتجاهاتِ الليبراليَّة لدور العَوامِلِ الاجتِماعِيّة إلى مزيدٍ من الشُّروخِ الاجتِماعِيّة بين طَبقاتِها. وفي الحالين: الليبراليَّة والاشتراكيَّة، غلب الوعيُ الأداتيُّ بالدولة، واستحالت مؤسَّساتها معولَ فتكٍ بيد هذه الفئة أو تلك، في سياق الصِّراع على السُّلطَة والثروة.

وفي ظلِّ إخفاقِ السَّرديَّتين الاشتِرَاكِيّة والليبراليَّة، اقترح غليون مقاربةً تطلّعت إلى مُجاوزةِ هذين السرديتيَّن؛ لأن "وجود الدّولَة، أيُّ دولةٍ، لا يُفهم ولا يُفسَّر من دون تحليلِ بُناها الأساسية، كتنظيمٍ وغاياتٍ مرتبطةٍ بالسِّياقات التاريخيّة الحضاريَّة الطويلة، كما يستحيلُ فهمُ تناقضاتِها ومَشاريعها وبَرامجها ونَجَاحُها وإخفاقها، من دون معرفةِ القوى الاجتِماعِيّة التي تُحرِّكها في هذه الحقبة أو تلك، والأهداف التي تضعها نصب عينيها. فإذا كانت البنية الأساسية تُحدِّد أنماط الدّولَة التاريخيَّة، فإنَّ العلاقة بينهما وبين القوى الاجتِماعِيّة السّياسِيّة الفاعلة والمتعدَّدة في المُجتمع في كل حقبة -يُضيف غليون- هي التي تُحدّد نمط النظام"[38].

تُؤكد الفكرة أعلاه "بولانتزاسِيَّةَ"[39] غليون: سُلطةُ فئةٍ من المُجتمع "تعبيرٌ عن موقعٍ موضوعيٍّ داخل الرّوابط الاقتصاديّة والسياسيّة والإيديولوجيّة [...]. وموقعُ كلّ طبقةٍ، (أي موقع سُلطتِها)، محدّدان من خلال المواقع التي تشغلها الطبقات الأخرى"[40]. على هذا يتفق غليون وبولانتزاس في أن سُلطة الدّولَة من غير المُمكن أن تَتَعيَّن خارج العلاقات الاجتماعيَّة. لكن على الرغم من هذا الإدراك العلائقيِّ لسلطةِ الدّولَة؛ أي بما هي حصيلة تفاعل القوى الاجتِماعِيّة للدولة، فقد حمَّلَ غليون الدّولَةَ -لا المُجتمع- أوزار شُروخِ صلاتِها بالمجتمع وتشنجات الروابط بينهما. وفي هذا تناقضٌ بَيِّنٌ بَيْنَ الوعي بالدولة كمُحصِّلَةِ توازنٍ للقوى بين فئاتها الاجتِماعِيّة، والإصرار، في الوقت عينه، على اتهامها، دون تلك الفئات (=المُجتمع)، بأنَّها أصلُ المحنة العربيَّة.

وإذا كان عبد الإله بلقزيز بولانتزاسيًّا، على غرار غليون، الدّولَة عنده انعكاسٌ لموازين القوى الاجتِماعِيّة داخليّة، بل هي مُجتمعٌ وقد تجسَّد في مؤسَّسات، فإن التباين بينهما واضحٌ في إيمان بلقزيز بمبدأ أن تلك الدّولَة من ذلك المُجتمع؛ إذا صلُح صلحت، وإذا اعتلت فالعلّةُ منه ابتداءً.

خامسًا: بلقزيز الدّولَة أولًا وأخيرًا

انشدَّ انتباه السيد، في مساره لاستيعاب معضلة الدّولَة العربيَّة الحديثة، إلى التراثِ وجدليَّة الدينيّ والسّياسِيِّ، في الحين الذي انصرف فيه غليون إلى فحص آليات اشتغال الدّولَة كما هي في واقعنا السّياسِيّ العربي. أما خطاب بلقزيز، فقد جسَّد محاولة للموازنة بين فضائل الحفرِ التاريخيِّ والتفتيش عن رواسبه المُعاصرة، من جهة، وأهمّية الاتصال بمسألة الدّولَة كما هي قائمة الآن في التاريخ، من جهة ثانية.

ما من شكٍّ في أنَّ أسباب أزمة الدّولَة العربية مركَّبةٌ، منها الداخليّة والخارجيّة، الثقافيّة والماديّة، الماضيّة والحاضرة. منها ما يتّصل بالنخبةِ والشعوب، وما يعود إلى السُّلطَة والمعارضة...إلخ. ومعلومٌ أنّ الغالبية الغالبة من الباحثين في مُشكلة تخلف دولتنا العربية ينجذبُ إلى عاملٍ من تلك العوامل، ويشحذ تركيزه عليه، بحسبانه المفسر الأصل للمعضلة. هكذا يشيح البعض بنظرهِم إمّا إلى الخارج، فيُحمّلون الهيمنة الاقتصاديَّة أو السّياسِيّة أو الثقافيَّة للآخر الإمبرياليّ المستعمِر المُعَوْلِم، أوزارَ تخلُّفنا عن ركب الحداثة؛ إمَّا أَنّهُم يتَّجهون إلى فحص العوامل السّياسِيّة أو الاقتصاديَّة أو الأوضاع الاجتِماعِيّة الثقافية الداخليّة بحُسبانها علةَ أزمةِ الدّولَة. فيمسي الباحث أسيرَ تخصصٍ أو رؤيةٍ إلى مشكلةٍ (هي مشكلة الدّولَة) لا تُدركُ إلا في شموليتها.

إذا كانتِ الدّولَة تركيبًا يتمازج فيه السّياسِيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ، فالمطلوبُ، إلى جانب المقاربة التخصصيَّة التقنيَّة، نظرةً فوقيَّةً تركيبيَّةً، تُدرك الدّولَة في تعقيدها. ولعل عبد الإله بلقزيز واحدٌ ممن اجتهدوا في بناء تَبَصُّرٍ مُتكاملٍ إلى مسألة الدّولَة في سبيل الإجابة عن سؤال تقدمها وتخلفها. ترجم بلقزيز هذا الوعي المركب في عشرات الكتب وأضعافها من المقالات، وإن كان قدِ اختصَّ بعضُ إنتاجه بعامل بعينه (ثقافي، تاريخيّ، سِياسِيّ، اقتصاديّ، اجتماعيّ)، بينما يُفسح المجال للتوليف بين العوامل تلك، في إنتاجات أخرى.

هذا ولم يذهل نَظَرُ بلقزيز، كذلك، عن تضافر الداخليّ والخارجيِّ في صناعة راهننا السّياسِيّ العربيِّ. لذلك وجدناهُ يكتب في الأسباب الداخليّة للتخلف السّياسِيّ لدولتنا العربية، من دون إغفالِ دور العامل الخارجيّ. كما أنّ انشغاله بفحص أمراض الاجتِماعِ السّياسِيّ الراهنة لم يمنعه من الوقوف - مليًّا- عند الموروث القديم وأوزار التاريخ الثقيلة على حاضرنا الاجتِماعِيّ والسّياسِيّ وتَمْحِيضِها ما تطلبهُ من درسٍ وبحثٍ، غير أن عنايته بعوامل الذاتية الداخليَّة طغت في الأهمِّية على تركيزه على الخارج وتأثير القوى الأجنبية. للعوامل الخارجية دورٌ أكيدٌ في صوغ هذا المشهد السّياسِيّ العربيِّ وتحديد ملامحه؛ ما من شكٍّ في هذا، غير أنّ العواملَ تلك ما كانت فاعلةً في إضعاف الدّولَة العربيَّة وكبحها عن التقدم لو لم تعثر في التربة المحليّة المجال الأخصب لتنمية هذا المشهد التشظويّ القطريّ المنكفئ على ذاته الغارق في صراعاته الداخليّة والإقليميّة.

ما حَالَ هذا التَّبصُّر الواقعيُّ المُتعَدِّدةُ أبعادُه للدولَة العربيَّة دون استخلاص بلقزيز نتائج تعيِّنُ مَكْمَنِ الخلل الرئيس، ضمن هذا الشتات من تفسيرات راهنٍ سّياسِيّ مشتبكٍ مركبٍ ومشوبٍ بالكثير من الأعطاب المتواشجة. من يقرأ متن الأستاذ بلقزيز يُمكنه الظفر بالنتيجة التالية: داءُ دولتنا العربيَّة كامنٌ في ثقافتها السّياسِيّة الشاردة عن حاضرها المقاومة الحداثة. ليس معنى هذا أنّ بلقزيز يرى في الثّقافَة العربية الإسلامية بيئةً نقيضًا لقيمِ الدِّيمُقرَاطِيّة والحريّات وحقوق الإنسان والدولة الحديثة[41]، وأن سبيل رفع هذا التنابذ المزعوم هو القطع مع التراث الذي منه نهلت الثَّقافِيّة تلك، على نحو ما اقترح العروي وغيره. من يقرأ كتاب نقد التراث[42]، مثلًا، لن يقف إلّا على نقيض هذا الادعاء، وسيخلصُ إلى أن الحداثة التي ما انفك بلقزيز يدعونا إليها، ليست أنموذجًا جاهزًا ملائمًا لكلّ مجتمعٍ خارجَ كلّ سياقٍ تاريخيٍّ وحضاريٍّ. ما كانت الحداثة، قطعًا، كذلك حتّى في بيئتها حيث نشأت (= في الغرب). لم يمنع الإسلام في ذاته العربَ من تشييد الدّولَة الحديثة، كما لم يكن حائلًا أمام الرأسمالية[43].

تطلّب تَبشيرُ الأستاذ بلقزيز بـالدّولة الوطنيّة الحديثةِ البَحثَ في سُبل فكّ الاِشتبَاكِ بين الدّينيّ والسّياسيّ[44]، لوعيه بتجذّر الدّيني في ثقافةِ المُجتمعاتِ العربيّةِ؛ واستوجبَ منه، أيضًا، نقدُ النظم السياسيَّة العربيَّة[45]، باعتبارها القابضة على السلطة وأجهزةِ الحُكم؛ واستلزم، كذلك، نقد المعارضة السياسيّة، بحُسبانها بديلَ السُّلطة المرتجى[46]؛ كما احتاجت الدعوة إلى الدولة الوطنية الحديثة، إلى نقدِ المجتمع العربيّ وتفكيكِ بُناهُ الأهليَّةِ والتقليديَّة الحائلةِ دونه ومجتمع مدنيٍّ حديثٍ، بما هو جوهرُ الدولة وماهيَّتها[47]؛ واستوجبت التفكير في صلتنا بالديمقراطية وما يعتورها من أعطاب تنأى بها عن غاياتها ووظائفها[48]؛ ولا ينفصل مشروع الدولة الوطنية الحديثة، في وعي بلقزيز، عن مشروعه الفكري العرب والحداثة؛ لأن تأسيس الدولة الحديثة يقوم -أيضًا- على نقد تراثـها الذي تسعى إلى الانفصال عنه أو أخذ مسافة منه[49]؛ كما يقوم على نقد الثقافة الغربية التي تسعى الدولة إلى النسج على منوالها[50]. باختصار. من يطَّلِعُ على المتن الثرّ للأستاذ بلقزيز، كمًّا وكيفًا، يخرج بخلاصة مفادها أن الدّولَة، في وعي بلقزيز، هي، أوّلًا، مدخلٌ رئيسٌ لتفكيك المعضلات الفعليَّة اجتماعنا العربي واستيعاب أزمته، وهي، ثانيًا، مفتاحٌ أوَّلٌ وأخيرٌ لنهضةٍ عربيَّة شاملةٍ، إذا ما شُيِّدَت على وعيٍ تاريخيٍّ ورؤيةٍ حديثةٍ وروحٍ وطنيةٍ.

بَلورَ بلقزيز وعيًا مُتَوسّطًا بين تصوُّر العروي للدولة وتصوُّر الجابريِّ لها. يمتح الوعي هذا من العرويِّ مركزيَّة فكرةِ الدّولَة (الحديثة) بِحُسبانها الجسر الذي عبره -فقط- يمكن العبور إلى ضفاف الحداثة، مع اعتراضه عليه (العروي) في تمثُّله الواحديِّ للحداثةِ وأنموذجِيَّة نظرتِه لتاريخ التطور، وقطائعيَّته مع التراث. كما يشارك بلقزيز الجابريَّ تصوُّرَهُ المتعدِّد إلى الحداثةِ ويُشاطِره حاجتها إلى الوعي بِتُراثِها، غير أَنّهُ يحمل عليهِ إسقاطيَّاتِه المُزدوجَة للأفكار التُّراثِيَّة على الأزمنة الحديثة وللمفاهيم الحَديثَة على التُّراث.

وبينَ انشغال رضوان السَّيّد بالتأريخ على أنَّه المنهجُ الأرحبُ للعثور على مفتاح مُسْتَغْلَقَاتِ حاضِرِنا الاجتِماعِيِّ والسّياسِيِّ، من ناحيَةٍ، وانهجاسِ بُرهَان غَليون، مُتَوسِّلًا عُدَّةَ العلوم الاجتِماعِيّة، باستيعابِ هذا الحاضر العربيِّ كما هو قائمٌ اليومَ، من الناحية ثانية، أنتج بلقزيز، في المقابل، تراكمًا معرفيًّا يجمع بين فضيلة الوعي بالتراث ورواسبه في الوعيِ السّياسِيّ العربيّ الجَمْعِيِّ، وقيمة النَّظر إلى الدّولَة العربيَّة كما هي الآن لا كما كانت في زمنٍ ولَّى.

على هذا النحو، يمكن أن نعثر في وعي بلقزيز بمسألة الدّولَة، على هيغيليَّة العروي وفيبيريَّته في إيمانه بتعالي الدّولَة وانفراد سُلطانها بالسموّ والموضوعيّة والشرعيّة؛ ونجد شيئًا من خلدونيّة الجابريّ في الانتباه (بلقزيز) إلى فعل العصبيَّة وثقل الموروث. كما شارك بلقزيز رضوان السيد النظرَ إلى تجربة الدّولَة في تاريخيّتها؛ وشَاطَرَ برهان غليون بولانتزاسيَّته في إدراك البُعد العلائقيّ لفكرة الدّولَة المجاوز للتصوُّر الأداتيَّ لها، في تكوين صورة لواقع دولتنا العربية.

* هذا النص مستلٌّ من كتاب يصدر لاحقًا، حول الدّولَة في وعي عبد الإله بلقزيز

[1] Cf: Nicos Poulantzas, L’Etat le pouvoir et le socialisme (Paris: Les prairies ordinaires, 2013).

* نسبة إلى نجد في قلب شبه الجزيرة العربية.

[2] برهان غليون، المحنة العربية: الدّولَة ضد الأمة، الطبعة الثالثة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2003)، ص. 46

[3] المصدر نفسه، ص. 48

* ما أشبه اليوم بالأمس! حين ننظر إلى تاريخ حركة طالبان الأفغانيّة، يمكن أن نعثُرَ على الكثير من عناصر التشابه بين تجربتها السّياسِيّة وتجربة الحركة الوهابيّة. كلتاهما انطلقت حركةً دينيّةً إحيائيّةً سلفيّةً أصوليّةً، وخاضت حروبًا توحيديّةً وتحريريّةً؛ وكلتاهما اضطرّت -في نهاية الأمر- إلى تكييف ضرورات السياسة مع محظورات الشرع بالتنازل عن جزءٍ من مبادئها، غير المتوافقة مع النظام الدولي، لكي تُدرك هدفها السّياسِيّ (حيازة دولَة). حسبنا، هنا، = =الإشارة إلى أنّ حركة طالبان انعطفت 180 درجة من جهادية تماهت مع فكر تنظيم القاعدة وأطروحته (=محاربة الغرب)، إلى قتال تنظيم الدّولَة (سليل القاعدة) والتعهد بعدم مهاجمة المصالح الغربية، في مقابل اعترافٍ بشرعية دولتها!.

[4] كان للأستاذ عبد الإله بلقزيز وقفة فاحصة مع الفكر الصحويِّ الإحيائيِّ في: عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، ط. 2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004).

* كان الشدياق مارونيا، لكنّهُ استقر، في النهاية، على الإسلام بعدما تقلب في أكثر من طائفة مسيحية.

[5] خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، ط. 2 (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1985)، ص ص. 38-39

[6] يَصْدُق هذا على الحداثة كما يَصْدُق على الدين؛ فحتى "النهضة الثَّقافِيّة الإسلاميّة -كما يُذكرنا بلقزيز- ما أمكن أمرها إلّا في سياق انفتاح المسلمين على الثقافات الخارجيّة: الفارسيّة واليونانيّة وهلنستيَّة. هل نشأت علوم اللغة والبلاغة والنحو إلّا من العلاقة مع التراث الفارسيّ؟ وهل قامت الفلسفة والمنطق وعلوم الحساب والهندسة والكيمياء والبصريّات إلّا من تأثيرات الثّقافَة الإغريقيّة والثقافات الغنوصيّة؟"؛ عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة (1): من الإصلاح إلى النهضة، الطبعة. 2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014)، ص. 32

[7] عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة (الدار البيضاء/ بيروت: المركز العربي للكتاب، 1995).

[8] عبد الله العروي، أزمة المثقفين العرب (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1978)؛ وعبد الله العروي، العرب في الفكر التاريخي، ط. 5 (الدار البيضاء/ بيروت: المركز العربي للكتاب، 2006).

[9] عبد الله العروي، مفهوم الدّولَة، الطبعة 9 (الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي، 2011)، ص. 8

[10] المصدر نفسه. 7-10

[11] المصدر نفسه، ص. 27

[12] المصدر نفسه، ص. 169. (التشديد في النص)

[13] المصدر نفسه، ص. 79-116

[14] عبد الرحمان الكواكبي، الأعمال الكاملة (1970)، ص. 340؛ في المصدر نفسه. 174

[15] يُنظر: محمد عابد الجابري، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفيّ، ط. 6 (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي، 1993)؛ ومحمد عابد الجابري، التراث والحداثة: دراسات ومناقشات (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991).

[16] عبد الإله بلقزيز، نقد التراث (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014)، ص. 333؛ التشديد من عندي.

[17] المصدر نفسه. 10-11

[18] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة: دراسات ... ومناقشات (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991)، ص. 11

[19] كان آخرها محاضرته بأكاديمية المملكة المغربية في فاتح يونيو 2016، يُنظر: عبد الإله بلقزيز، "في الحداثة وما بعد الحداثة: تأملات نقديّة"، أكاديميَّة المملكة المغربية، 2016. متوفر [على الأنترنت] على الرابط: <https: //www.youtube.com/watch?v=JSWBCrwI6d4>، تمت زيارته في: 10 شتنبر 2017

[20] عبد الإله بلقزيز، نقد التراث، سبق ذكره، ص. 10. التشديد من عندي.

[21] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، سبق ذكره، ص. 16

[22] المصدر نفسه، ص. 304

[23] لذلك مثَّل مشروع بلقزيز نقد الحداثة -في جانب منه- استكمالًا لـ"مشروع التحرّر التاريخيّ"، في شقه المتصل بنقد العقل الأوروبي، خاصّة في جُزئه الرابع والأخير: نقد الثقافة الغربية، نقدًا للنموذج الغربيِّ أو نقد "الآخر" في صلته بنا وبتراثنا، بعد أن استوفى -بلقزيز- في الجزء الثالث: نقد التراث، نقدَ النموذج الشرقيّ التراثيّ أو نقدَ "الأنا"، في صلتها بماضيها وتراتها. يُنظر في نقد "الأنا التراثيَّة": عبد الإله بلقزيز، نقد التراث (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة)، 2014؛ وفي نقد الآخر الحداثي: عبد الإله بلقزيز، نقد الثقافة الغربية: في الاستشراق والمركزية الأوربية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2017).

[24] المصدر نفسه، ص. 318

[25] محمد عابد الجابري، العقل السّياسِيّ العربي: محدّداته وتجليَّاته، ط. 4 (بيروت: دراسات الوحدة العربية، 2000)، ص. 47

[26] رضوان السيد، الجماعة والمُجتمع والدولة: سُلطَة الإيديولوجيا في المجال السّياسِيّ العربي الإسلامي، ط. 2 (بيروت: دار الكتاب العربي، 1997)، ص. 12

[27] المصدر نفسه، ص ص. 57-58

[28] رضوان السيد، "المدينة والدولة في الإسلام: دراسة في رؤيتي الماوردي وابن خلدون" في: رضوان السيد، الجماعة والمُجتمع والدولة، سبق ذكره، ص. 335-356

[29] رضوان السيد وعبد الإله بلقزيز، أزمة الفكر السّياسِيّ العربي (بيروت: دار الفكر، 2000).

[30] رضوان السيد، مقالة في الإصلاح العربي (بيروت: دار النهار، 2005).

[31] يُنظر رأي الأستاذ بلقزيز في المسألة هذه في كتابه: الإسلام والسياسة: دور الحركات الإسلامية في صوغ المجال السّياسِيّ (الدار البيضاء/بيروت: المركز الثقافي العربي، 2001).

[32] غليون، المحنة العربية، سبق ذكره، ص. 33

[33] المصدر نفسه، ص. 33

[34] المصدر نفسه، ص. 96

[35] المصدر نفسه، ص ص. 100-101

[36] برهان غليون، الوعي الذاتي (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2006)، ص. 11

[37] برهان غليون، المحنة العربية، سبق ذكره، ص. 19

* باستثناء قلّة من الباحثين، على رأسهم نكول بولانتزاس.

[38] برهان غليون، المحنة العربية، سبق ذكره، ص. 10

[39] Cf: Nicos Poulantzas, L’Etat le pouvoir et le socialisme, Paris: Les prairies ordinaires, 2013 ; et Nicos Poulantzas Pouvoir politique et classes sociales, Vol 2, Paris: Maspero, 1968

[40] Ibid, p. 214

[41] من تحصيل الحاصل القول إن تشديد بلقزيز على الثقافي، كمدخل لاستيعاب مكمن التأزم في الاجتماعيات العربيّة، ليس يعني اتهامًا ثقافويًّا منه للإسلام باستعصائه على الحداثة السّياسِيّة، على نحو ما شهدناه مع رينان أو لاري دايموند، أو صامويل هنغتينتون أو برنارد لويس ومن على مذهبهم ممن طالتهم سهام نقد لاذعٍ بلقزيز. من يرجع فقط إلى الجزأين الأخيرين من كتابات العرب والحداثة، نقد التراث ونقد الثَّقافِة الغربية، سيقف عند وعيٍ تعدُّديٍّ بفكرة الحداثة، حيث الموقف من - والصلة مع- التراث يرسمها تاريخ المُجتمع ولا تخضع لمنطق الخطيّة على طريقة العروي. كما سيعثر على ما يكفي من النقد للنزعة الثقافويّة في اختزاليتها وعنصريّتها.

[42] عبد الإله بلقزيز، نقد التراث، سبق ذكره.

[43] يُنظر: مكسيم رودنسون، الإسلام والرأسماليَّة، ترجمة نزيه الحكيم، ط. 4 (بيروت: دار الطليعة، 1982).

[44] عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، سبق ذكره.

[45] عبد الإله بلقزيز، الدولة والسلطة والشرعية (بيروت: منتدى المعارف، 2013).

[46] عبد الإله بلقزيز، المعارضة والسلطة في الوطن العربي: أزمة المعارضة السياسية العربية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001).

[47] عبد الإله بلقزيز، الدولة والمجتمع: جدليّات التوحيد والانقسام (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008).

[48] عبد الإله بلقزيز، في الديمقراطية والمجتمع المدنيّ: مراثي الواقع مدائح الأسطورة (الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 2001).

[49] عبد الإله بلقزيز، نقد التراث سبق ذكره.

[50] عبد الإله بلقزيز، نقد الثقافة الغربية، سبق ذكره.