اللقاء الحواري: الإسلام الحركي والدولة: أيّ ممكنات وآفاق في ضوء الحالة السورية؟
فئة : حوارات
اللقاء الحواري:
الإسلام الحركي والدولة:
أيّ ممكنات وآفاق في ضوء الحالة السورية؟
"الإسلام الحركي، كما أرى، هو مصطلح أقل خلافًا من غيره؛ لأنّ المصطلحات الأخرى مثل "الإسلام السياسي"، "الإسلام الجهادي"، "الإسلام المتطرف" وما شابهها، هي مصطلحات أكثر إثارة للجدل"
إشراف وتنسيق: د. ميادة كيالي
حوار: د. حسام الدين درويش
د. حسام الدين درويش:
مساء الخير للجميع؛
كما تعلمون، كان الشهر الأول مليئًا بالنشاطات المتنوعة، سواء من خلال الندوات عبر الإنترنت أو الندوات التي أقمناها في بيروت، كما كانت هناك زيارات إلى سوريا ولبنان. هذا الشهر لدينا الندوة الوحيدة قبل الدخول في فترة هدوء نعتبرها "قبل العاصفة"، حيث ستكون هذه الندوة هي الأخيرة ضمن هذه السلسلة قبل شهر رمضان. وبعد رمضان، إن شاء الله، سيكون هناك برنامجٌ حافلُ.
كما تعودنا، سنواصل متابعة القضايا المتعلقة بالموضوع الذي كنا نناقشه قبل بدء البث، والذي يرتبط أولاً بمسألة كانت دائمًا حاضرة، بطريقة أو بأخرى، في العقود الأخيرة في العالم العربي والإسلامي. وعلى الرغم من ذلك، فقد ظلت هذه المسألة تظل تتمتع بسياقات متميزة تجعلها أكثر حضورًا أو راهنية في سياق معين.
هذه المسألة التي نحن بصدد مناقشتها هي ما نسميه "الإسلام الحركي". الإسلام الحركي، كما أرى، هو مصطلح أقل خلافًا من غيره؛ لأن المصطلحات الأخرى مثل "الإسلام السياسي"، "الإسلام الجهادي"، "الإسلام المتطرف" وما شابهها، هي مصطلحات أكثر إثارة للجدل. لذا، يعدّ مصطلح "الإسلام الحركي" مقبولًا من الجميع على الأقل من الناحية الوصفية، حيث يشير إلى الحركة التي تقوم بها الحركات الإسلامية. ويمكن أن يكون هذا "الإسلام الحركي" مظلة تضم العديد من الاختلافات، مثل ما يسمى ﺑ "الإسلام السياسي، والذي يقصد به التوجه الإيديولوجي أو الرؤية الدينية التي تحاول تنظيم شيء ما في المجال السياسي، سواء كان ذلك متعلقًا بالإسلام الجهادي، بجميع معانيه، أو كان سلفيًّا، أو إخوانيًّا، أو غيره. هذه التنويعات كلها كانت محور اهتمامنا، حيث كنا حريصين على أن تكون حاضرة، على الأقل في العنوان، وفي الورقة التأطيرية للندوة، حيث نركز على علاقتها بالدولة.
وتعدّ مسألة العلاقة بين الإسلام السياسي والدولة من المسائل المهمة؛ لأن السؤال الأساسي هنا هو: ما علاقة الإسلام السياسي بالدولة؟ كيف يرى هذا التيار الدولة؟ وكيف يتعامل معها؟ وكيف يمكن تصور الدولة في ظل هذه الحركة؟
في الوضع الراهن، هناك نوع من الإسلام الحركي في السلطة في سوريا، مما يطرح السؤال: كيف سيتعامل مع الدولة؟ خاصة وأن هذا النوع، إذا اعتبرناه سلفيًّا، قد يُنظر إليه بوصفه ضد الدولة، أو قد يرفض المشاركة في العملية السياسية. ومع ذلك، يبدو أن هناك نوعًا من القبول بالدولة في بعض الأحيان.
إذا أخذنا الحالة السورية، قيل إن الإسلام الحركي في سوريا قد انفصل عن داعش؛ لأنه ليس جهادًا عالميًّا، بل هو محلّي، وهذا يتناقض مع ما نراه في الإسلام الجهادي عادة. وبالتالي، كان لدينا حرص على إبراز هذا التنوع في العنوان، وأيضًا على وجود وجهات نظر مختلفة لتناول هذه الأسئلة.
لقد سمح لنا هذا التنوع بأن يكون عدد المشاركين، في الندوة، أكبر مما هو معتاد. وكل واحد منهم قادر على تقديم ما لديه. لذلك كان الحرص على التنوع في الآراء هو الذي دفعنا إلى دعوة خمسة باحثين للمشاركة في هذه الندوة. وهذا الاختلاف في الآراء ليس عبئًا، بل هو إضافة غنية نثري بها النقاش، ونأمل أن يسهم في تحقيق حوار مثمر.
السؤال الرئيس الذي نودّ مناقشته اليوم هو: ما هو الإسلام الحركي بأنواعه المختلفة؟ وكيف تكون علاقته بالدولة، خاصة في الحالة السورية؟ هذا هو السؤال الذي نحاول الإجابة عنه من خلال مشاركة خمسة باحثين في هذا الموضوع. وسأبدأ الآن بترتيب الندوة، حيث سنبدأ بمقدمة صغيرة من الدكتورة ميادة كيالي، لتوضيح علاقة مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" بهذا الموضوع، ثم ننتقل إلى مداخلات كلٍّ من الدكتور ساري حنفي، والدكتور محمد محفوظ، والدكتور هاني نسيره، والأستاذ محمد أمير ناشر النعم، وأخيرًا الأستاذ أحمد زغلول شلّاطة. ونتوقع أن تكون هناك آراء غنية ومتنوعة، مع اختلافات تسمح بحوار ونقاش مثمرين.
أبدأ مع د. ميادة كيالي، وهي باحثة وكاتبة سورية، تحمل شهادة الدكتوراه في الحضارات القديمة. وهي مديرة مؤسسة سراج للأبحاث والدراسات في هيئة أبو ظبي للإعلام، والمديرة العامة لمؤسسة مؤمنون بلا حدود في بيروت والشارقة. ساهمت الدكتورة ميادة في إنتاج ونشر أكثر من 400 إصدار، شملت كتبًا وأبحاثًا متميزة في مجالات الفلسفة والفكر والدراسات الدينية. صدر لها مؤلفات إبداعية، منها: "أحلام مسروقة" (2010)، و"رسائل وحنين" (2013)، وأخرى أكاديمية، منها: "المرأة والألوهة المؤنثة" (2015). و"هندسة الهيمنة على النساء، الزواج في حضارات العراق ومصر القديمة" (2018). تفضلي د. ميادة.
د. ميادة كيالي:
أسعد الله مساءكم جميعًا، وأرحّب بكم في هذه الندوة الحوارية التي تأتي ضمن جهود "مؤمنون بلا حدود" في تجسير الهوة بين الفكر والبحث العلمي من جهة، والمتلقي العادي من جهة أخرى، سعيًا لتفعيل المعرفة، حيث تخدم الواقع وتساعد على فهم التحولات الكبرى، ولا سيما في المرحلة الراهنة التي تمرّ بها سوريا.
على مدار سنوات، عملت "مؤمنون بلا حدود" على تقديم دراسة موسّعة ومعمقة لكل أشكال ومضامين الإسلام الحركي، بصيغه الجهادية والسياسية، المتطرفة وغير المتطرفة، وأصدرت مئات النصوص البحثية، مقالات وأبحاث وكتب، تناولت هذه الظواهر بعمق. كما نظّمت ندوات واستكتبت دراسات سعت إلى تقديم رؤية نقدية لهذه التيارات، وتحليل مدى قابليتها للتكيف مع الدولة الحديثة. تأتي ندوتنا اليوم في وقت بالغ الأهمية، حيث اتفق الجميع على إطلاق مؤتمر الحوار الوطني في سوريا، وبدأت سلسلة من النقاشات في وسائط التواصل الاجتماعي حول طبيعة هذا الحوار، وشروطه، ومآلاته. وفي ظل هذا التطورات، يصبح الحديث عن العلاقة بين الإسلام الحركي والدولة مسألة محورية، خاصة وأننا أمام واقع يتراوح بين تفاؤل يبحث عن بقعة ضوء في مرحلة بناء صعبة، وتشاؤم مستند إلى تاريخ طويل من المواجهة مع الجهادية والعقلية الجهادية العاجزة عن بناء دولة مدنية مستقرة، أو غير الراغبة في ذلك، غالبًا على الأقل. لكننا في "مؤمنون بلا حدود"، وفي كل مرة فتحنا فيها النقاش حول قضايا راهنة تتعلق بحقل اشتغالنا، لم ننحَز إلى طرح مسبق أو رؤية مغلقة، بل سعينا إلى تقديم الأفكار بحرّية، إيمانًا منّا بأن الحوار هو السبيل الوحيد لفهم الواقع وإمكانيات تغييره. نحن مؤسسة علمية أكاديمية تؤكد أهمية حرية النقاش في المواضيع الراهنة، حيث يتسع الفضاء لكل التنوع المعرفي الرصين، ولكل النقد المنهجي المفيد، ولكل محاولة جادة لفهم المسارات الممكنة. فما نسعى إليه هو الاجتهاد في البحث، والجرأة في الطرح، ودفع أيّ فكرة قابلة للنقاش نحو آفاق أوسع؛ لأن أيّ تغيير حقيقي يبدأ بالحوار، وبالتحليل النقدي، وبالقدرة على التفكير في البدائل والاحتمالات، مهما بدت معقدة.
السؤال الذي نطرحه اليوم إذن، لا يتعلق بإصدار أحكام مسبقة، بل بفتح نقاش جاد حول إمكانيات تحول الإسلام الحركي إلى نموذج للدولة، وما إذا كان هذا السيناريو ممكنًا، ولو كان احتمالًا واحدًا ضمن احتمالات عديدة. ونطلق اليوم هذا الحوار في محاولة لفهم ديناميات التحول، وما إذا كانت هناك فرص فعلية لهذا التيار، ليعيد تعريف نفسه في سياق الدولة الحديثة، أم إن البنية الفكرية والتاريخية له تحول دون ذلك. وأترك المجال للنقاش، آملةً أن تكون هذه الندوة إضافة نوعية في هذا السياق الحيوي، وشكرًا لكلّ من لبّى الدعوة.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً دكتورة ميادة، سأبدأ فورًا بالقول إن الهدف من هذه المسألة هو تقديم وجهات نظر مختلفة، ولكن ليس بالمعنى الأيديولوجي. الهدف ليس أن يكون هناك شخص مع أو ضد، أو شخص متشائم أو شخص متفائل. الهدف هو تقديم المنظورات المعرفية المختلفة التي تأخذ في الحسبان الواقع، ولكن في الوقت ذاته تقدم معرفة رصينة. وبصراحة، كان هذا هو السبب الذي جعلنا نفكر في الأشخاص الذين سينضمون إلينا اليوم. ربما المثال البارز أو الواضح في هذا السياق، هو الدكتور ساري حنفي، الذي سيتحدث اليوم.
الدكتور ساري حنفي هو أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت ومدير مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية ورئيس برنامج الدراسات الإسلامية فيها. وقد شغل منصب رئيس تحرير المجلة العربية لعلم الاجتماع "إضافات" من 2017 الى 2022. وكان رئيسا للجمعية الدولية لعلم الاجتماع (2018-2023). وقبلها كان نائب رئيس وعضو مجلس أمناء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية (2012 - 2016). وهو أيضا مؤسس ومدير البوابة الإلكترونية حول الأثر الاجتماعي للبحث العلمي حول/من العالم العربي (أثر). أهم كتبه: البحث العربي ومجتمع المعرفة: نظرة نقدية جديدة (مع ر. أرفانيتس) و"علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، نحو تجاوز القطيعة: أليس الصبح بقريب". ويصدر له كتاب قريبا عن المركز العربي بعنوان "ضد الليبرالية الرمزية: نداء لسوسيولوجيا حوارية" وقد تم انتخابه زميلًا في الأكاديمية البريطانية تقديراً لمساهمته في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وسأترك المجال الآن للدكتور ساري ليبدأ، وأتوجه له بالشكر الجزيل على قبول الدعوة.
د. ساري حنفي:
شكرًا جزيلًا على الدعوة، ومسرورٌ جدًّا أن أكون مع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ومعكما د. حسام، ود. ميادة، ومع الضيوف الكرام. في الحقيقة، أريد أن أتكلم بشكل سريع عن ثلاث نقاط؛ التسمية، وما سميته تلونات الإسلام الحركي مع تلون السياقات، وسأتطرق بشكل أساسي إلى النموذج السوري، بما أن فيه طلباً، وحسب رأيي حتى نكون عمليين. أول شيء، أحييك د. حسام على استخدام الإسلام الحركي، أنا كنت أستخدم ثلاث كلمات، وكنت أشعر أنها كثيرة؛ يعني إسلام الحركات الإسلامية أو الحركات الاجتماعية. في الحقيقة، الإسلام الحركي كاف؛ لأنه في رأيي، وأنا كتبت كثيرًا عن هذا الموضوع، ضد استخدام مصطلح الإسلام السياسي. أنا لا أعرف إيديولوجيا في الكون غير سياسية؛ الكل مسموح له استخدام السياسي، ولمّا مجموعة ما تقول أنا أريد أن أستقي من الدين منظومة أخلاقية ودليلًا سياسيًّا، نقول لا. إذن المشكلة ليست هنا، المشكلة هي في داخل الممارسة السياسية والفكرية في كل حركة ذات إيديولوجيا سياسية. وعندها نقيمها ونقول هذا شيء سيء، وهذا شيء حسن. ولكن ليس لأنهم مارسوا السياسة ببساطة.
النقطة الثانية، كثيرة هي الدراسات التي أنجزتها، وأنت أخي حسام قمت بذلك، وآخرون مثل أوليفي روا، فرانسوا برغا وآصف بيات ورشيد الحاج صالح، قد انتقدت التوجه الثقافوي في فهم الإسلام وحركاته؛ أي البدء بعزل حركة سياسية ما وفهمها فقط بطريقة الثقافوية؛ يعني كون أن حركة تفسر القرآن على الطريقة الفلانية، أصبحت عنيفة، وأن تفسر القرآن على طريقة أخرى لتصبح متصوفة وهادئة. في الحقيقة تتلون الحركات الإسلامية حسب السياق: حين يكون هذا السياق ليبرياليًّا، يصبحون ليبراليين، وحين تكون عسكرة وقمع، يتحولون إلى جهاديين وقمعيين وهكذا. لما نشأت السلفية في سوريا في البداية، لم تنشأ إلا علمية بشكل أساسي، على يد الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله؛ لأنه لم تكن هناك مجالات أخرى، وبعدها حين بدأ النظام السوري في قمعهم، تحولت الأطراف الشابة إلى سلفية جهادية. لهذا، أودّ أن أؤكد أننا نحن ضد أيّ تحليل ثقافوي، ولا بد من ربط الثقافي بالمعنى الديني، بالاقتصادي، بالاجتماعي، بالسياسي.
دعوني أقدم دراسة النموذج السوري؛ أول شيء كيف يمكن لنا الحكم على حركة إسلامية في سوريا اليوم، وهي تقود مرحلة الانتقال؛ الانتقال إلى أين؟ الله أعلم. لكن على الأقل انتهاء المرحلة الدموية العنيفة جدًّا للنظام السوري إلى مرحلة غالبا ما ستكون أقلّ عنفاً. ثمة مؤشران ممكن يجعلان سوريا تنتقل إلى شيء أحبّ أن أسميه ديمقراطي. أنا على كلّ حال، لا أرى حالياً أحسن من الأنظمة الديمقراطية، رغم أزمة الديمقراطية الليبرالية التي يعيشها العالم اليوم. هناك نقطتان؛ الأولى هي موضوع الحريات، ليس فقط حريات أساسية؛ حرية التنظيم، حرية التعبير، حرية ممارسة العبادة، حرية الاعتقاد بما فيها حرية الضمير، ليس فقط هذا، ولكن حرية الوجود في الفضاء العام ممارسات معينة؛ بمعنى عدم اهتمام الدولة بالأخلاق العمومية. يجب أن أذكّر أن دور المجتمع والدولة هو أن يتفق المجتمع على مفهوم العدل؛ لأن مفهوم العدل له علاقة بكيفية توزيع الثروة، وله علاقة بالمساواة، عدم التمييز بين الآخرين، ولكن ترك مفهوم الخير للأفراد وللجماعات. فإذا الفرد يريد أن يلبس حجابًا، نقابًا، يلبس تنورة قصيرة، كل هذا جزء من مفهوم الخير. فمن حق الناس اختيار مفاهيم الخير لحياتهم إن كانوا يريدون أن يصوموا ويصلّوا، أو الذهاب إلى الحانة. إذن يجب على الدولة عدم فرض الأخلاق العمومية إلا في الحد الأدنى أو ما نسميه بمفهوم الآداب العامة، وباللغة الليبرالية نستخدم مفهوم الخير العمومي المتفق عليه (public good). إذن هذا رهان يجب أن ننتظره، كما ننتظر النموذج السوري.
الرهان الثاني هو موضوع المواطنة، وهو موضوع المساواة؛ أي إن كل الناس متساوون بين بعضهم، وفعلاً دعني أقول إنه حتى الآن موقف القيادة الجديدة من الحريات والمساواة معقول بالخطوط العريضة. والموضوع المهم في نظري جدًّا، كيف لمجموعة هي التي تبنت ذات يوم اتجاه تزمّتٍ سلفيٍّ، تتفاعل مع مجتمعٍ سوري؛ أي التلون مع سياقه، وكلّ يوم سنرى أشياء جديدة هي قريبة للإسلام السوري بالمعنى العام. فالإسلام السوري متنوعٌ، والتنوع ليس فقط مسيحي وعلوي وسنّي، التنوع حتى في قلب السنّي. لهذا السبب لدينا مؤشرات، كيف هذا التدين السوري؟ وهل التفاعل بين الإسلام الحركي للرئيس أحمد الشرع والناس، سيعطي طاقة إيجابية كثيرة. على سبيل المثال، بعد ما تم أخذ الأثاث من المؤسسات العامة من مدينة دمشق، نادى خطباء الجوامع أو على الأقل لدينا إثبات في خمسة جوامع رئيسة بأن ذلك حرام، ويجب إرجاع ما أخذوه. ورأينا أمام جامع زيد بن ثابت، وهو جنب بيت جدّي، أخذوا الصور والناس يرجعون البراد وطقم الجلوس وما إلى ذلك. إذن، هناك مرونة في الإسلام الحركي، ليتناسب مع سياق ما ويرفعه؛ بمعنى التناسب يرفع، وليس التنازل. إذا تحقق ذلك، فسنكون متفائلين. ومن المهم القول إن المؤشرات الكبرى اليوم التي نتابعها في سوريا، هي فعلاً مؤشرات مهمة. وتحت هذه الإرادة، وسأضرب مثالاً آخر على التلونات؛ اليوم أكبر حركتين سياسيتين قادتا غرفة العمليات هما هيئة تحرير الشام، وأحرار الشام، والاثنتان سلفيتان، ولكن هيئة تحرير الشام اليوم، أصدقائي الذين يعرفون التفاصيل من الداخل، بدأت تتقبل هذه المرونة الشرعية التي يعبر عنها في تصريحاته وزير الخارجية السوري أحمد الشيباني، وهو شخص مهم في السلطة الجديدة. وهنا نرى الفرق بين حركة يدها في السلطة مباشرة (هيئة أحرار الشام)، مقارنة مع أخرى (أحرار الشام) التي ترمي عليهم بعض الحجارة. ما معناه أنّ الإسلام الحركي حين يصبح في السلطة، يصبح يفهم معنى السياق وأهميته أكثر من واحد جالس وينظر عليه.
الكلمة الأخيرة التي أودّ قولها، لماذا لديّ حساسيات من استخدام الإسلام السياسي؛ لأنني أرى أنه يتم التعامل معه على أنه لا يتغير. ولا يمكن لنا أن نراه بشكل ثابت، وأنا في رأيي اليوم مقارنته إذا ما أخذنا من بداية الربيع العربي 2011، إذا قارنّا أداؤهم مقارنة مع أداء القومية الحركية اليسارية الحركية والاستبداد الحركي، هؤلاء الزعماء المستبدون الذين يضعون حواليهم أحزاب دنكوشوتية، أنا في رأيي ربما يكون الإسلام الحركي في أماكن معينة أحسن بكثير من غيره؛ مثلا أفكر في تونس مقارنة مع أحزاب رأيناها يسارية براميلية دافعت عن البراميل التي نزلت ضد الشعب السوري. دعونا نستخدم دائماً المنهاج نفسه لكل الاتجاهات، ولا نعمل استثناء لدراستنا للحركات الإسلامية، شكرًا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا د. ساري، لقد أثرت أكثر من نقطة سنعود إلى تناولها لاحقًا.
ننتقل الآن فورًا إلى د. محمد محفوظ، الذي سيتناول موضوع المرونة نفسه، والذي نتساءل من خلاله، إلى أيّ حدٍّ يرتبط ذلك بالمبدئية وضرورة بناء مفهوم السياسة. ناقشنا مع د. محمد منذ فترة، كتابه "ما بعد الإسلام السياسي"، وله رؤية أعتقد أنها، في العمق، تتقاطع مع رؤيتك د. ساري، كان عنوان مداخلتك "تلوّنات الإسلام الحركي مع تلوّنات الدولة"، ود. محمد محفوظ، سيتناول في مداخلته موضوع "الإسلام الحركي وضرورة بناء مفهوم السياسة".
د. محمد محفوظ هو كاتب أسبوعي في جريدة "الرياض" السعودية، ومدير تحرير مجلة "الكلمة"، وهي مجلة تعنى بشؤون الفكر الإسلامي وقضايا العصر والتجديد الحضاري، وهو مدير مركز "آفاق" للدراسات والبحوث. ولديه قائمة طويلة من الكتب المنشورة، ما شاء الله، والمهم في هذه القائمة أنها كلها تتناول السؤال نفسه والمحور نفسه الذي نتحدث عنه اليوم تتناوله بطرائق مختلفة. كيف يمكن لشخص واحد، أن يقدم منظورات متعددة أو إجابات بطرائق مختلفة؟ تفضل، د. محمد.
د. محمد محفوظ:
قراءة في التحولات الراهنة:
عند التأمل في طبيعة التحولات الراهنة، يمكن أن نكتشف بعض مآزقها من طبيعتها وبنيتها الداخلية. فثمة مشكلات حقيقية رافقت هذه التحولات، نابعة من كونها ثورات لم تكتمل. وبالتالي، فإن التحول يشكل لحظة تسوية بين قوى الدولة العميقة والقوى الصاعدة في الحراك. وجميع التسويات تقف في منتصف الطريق؛ إذ إنها قد تنجح في إنهاء الدكتاتورية، لكنها تبقى على مظاهرها. لقد قطعت التحولات العربية الراهنة، وهمين أساسيين في المنطقة:
الوهم الأول: أن الحكومات العربية تقوم بالإصلاح من تلقاء نفسها، فجاءت هذه التحولات لتؤكد أن النخب السياسية السائدة لا تبادر إلى الإصلاح من تلقاء نفسها.
الوهم الثاني: أن العنف في المنطقة العربية، يمكن أن يكون وسيلة من وسائل التغيير.
لذلك، نعتقد أن من أوائل ضحايا هذه التحولات العربية، كانت المشروعات العنفية والتكفيرية في المنطقة، لكن طبيعة التعبئة الطائفية ونزعات العسكرة في الملف السوري شكلت طوق نجاة لهذه المشروعات. وقد كانت هناك فرصة تاريخية أمام الجماعات والحركات الإسلامية، لتكون قوة رافعة وحقيقية في دعم التحولات الديمقراطية في المنطقة، لكن هذا يتطلب منها الالتزام بمسألتين أساسيتين، هما:
1. الالتزام بالديمقراطية وآلياتها ومتطلباتها وطرائق عملها، بعيدًا عن نزعات الاستحواذ.
2. تجنب إغراق المنطقة في أتون الانقسامات الطائفية والمذهبية.
وفي تقديرنا، فإن أغلب جماعات الإسلام السياسي فشلت في ذلك، باستثناء حركة النهضة في تونس، التي لا تزال تمثل النموذج الناجح في زمن التحولات الراهنة. وإن التحولات العربية الراهنة، تثبت أن زمن الانتصارات الكاسحة من قبل طرف سياسي واحد قد ولّى، وإننا في مرحلة التحولات الديمقراطية، وهذا يتطلب العمل على مستويين أساسيين:
1. خلق التوافقات والتسويات السياسية بين مختلف الأطياف، لإخراج البلد من احتمالات العنف والانقسامات العميقة.
2. العمل على بناء أنظمة سياسية تعددية وتشاركية، بعيدًا عن النزاعات الأيديولوجية، وتجنب صياغة الأنظمة وفق التنظير الأيديولوجي القديم.
ثمة جدلٌ سياسيٌّ في المنطقة العربية حول ما إذا كانت التحولات العربية صناعة أجنبية أم حاجة داخلية. وفي تقديرنا، فإن موجبات التحول داخلية، لكن الإرادات الإقليمية والدولية سعت إلى الاستفادة من هذه التحولات وتوجيهها بما يتناسب مع مصالحها، والعمل على التحكم في مصائرها. وقد تمكنت بعض هذه الإرادات من أن تصبح لاعباً أساسيًّا في مشهد التحولات.
لا شك أن ظاهرة العنف، بكل مستوياتها، هي نتاج عوامل وأسباب عديدة. ولا يمكن إدانة العنف لإنهائه، بل يتطلب الأمر تقديم تفسير علمي واجتماعي دقيق وواقعي، للعوامل والأسباب التي تسهم بشكل مباشر في نشوء ظاهرة العنف بكل مستوياتها. وحين نتأمل في طبيعة الثقافة السياسية السائدة في المنطقة العربية وخياراتها، ندرك أن هذه الثقافة بنظرتها إلى السلطة السياسية ودور قوى المجتمع وتعبيراته المتنوعة، تعدّ أحد العوامل الأساسية في إنتاج ظاهرة العنف؛ بمعنى أن السياسة، كممارسة وخيارات، تمتلك القدرة المبدئية على تفكيك أسباب العنف، ومعالجة الملفات الشائكة في أيّ بيئة اجتماعية، بعيدًا عن تبنّي خيارات العنف ومتوالياته الاستئصالية المباشرة. ويبدو أنه بدون تغيير أو تجديد نمط الثقافة السياسية في المنطقة العربية، لن يتمكن العرب الانعتاق من ظاهرة العنف، وهناك أسباب عديدة لهذه المسألة، من أهمها النقاط التالية:
1. السياسة ممارسة وحشية أم مدنية:
لو تأملنا في طبيعة ومعنى السياسة في المنطقة العربية، لوجدنا أن هذا المعنى، ولوازمه العملية، هو الذي يساهم في إنتاج ظاهرة العنف، وأن هذا المعنى غير قادر على معالجة هذه الظاهرة، وأن الممارسات السياسية المتبعة تسهم في تأجيج كل العوامل المؤدية إلى العنف، سواء كان رمزيًّا أو ماديًّا. فالسياسة في أغلب دول المنطقة العربية، لا تمارس بوصفها حقلاً مدنيًّا وبعيدًا عن أحن التاريخ والنزعات الأيديولوجية الصارخة. وإنما تمارس وكأنها حقلٌ وحشيٌّ. لذلك، فإنها تتوسل بوسائل غير مدنية لإدارة مصالحها أو منع تجاوزها. ومن ثم، تغيب من أغلب المجتمعات العربية فكرة التنافس السياسي السلمي والبعيد عن نزعات الخصومة والعداء.
وفقاً لهذه الممارسة، يمكننا القول إن الممارسة السياسية، في أغلب دول العالم العربي، تساهم في إنتاج ظاهرة العنف على المستويين الرمزي والمادّي. وما دام التعامل مع السياسة بعيدًا عن مقتضيات المدنية والسلمية، فإنها لا تنتج إلا العنف. ولن نتمكن من إنهاء هذه الظاهرة الخطيرة على الممارسة السياسية، وعلى المجتمع بكل دوائره ومستوياته، إلا بتأسيس الممارسة السياسية والتنافس السياسي بين التعبيرات والمكونات السياسية على قاعدة أن هذه الممارسة تجري في سياق النشاط المدني، الذي يدير جميع الممارسات السياسية بعيدًا عن نزعات الإلغاء والإقصاء والتوحش.
ولو تأملنا في البواكير الأولى لنشوء ظاهرة العنف في المنطقة العربية، لوجدنا أن الحاضنة الأساسية والفعلية لهذه البواكير، هي نزعات التوحش في الممارسة السياسية، التي حولت البعض من موقع من يطمح إلى خدمة مجتمعه وأمته، وانطلاقًا من النشاط السياسي - المدني، إلى اللجوء إلى العنف كردّة فعل على ما تعرّضوا له من عنف نفسي وجسدي، مما أنهى من تفكيرهم إمكانية العمل السياسي دون دفع الفاتورة العالية لهذه الممارسة.
وستظل السياسة وممارساتها من أهم الحواضن المساهمة والمنتجة لظاهرة العنف المادّي والرمزي. فقد تحولت السياسة إلى فضاء لممارسة كل أشكال الخصومة والتوحش، قصد الظفر بما تسعى إليه، سواء كنت فردًا أو مؤسسة أو دولة. ويبدو أنه من دون تحويل السياسة من حقل لممارسة كل أشكال التوحش، إلى حقل مدني تُمارس فيه السياسة بوسائل تنافسية سلمية، وتتوسل في جميع أهدافها وغاياتها بوسائل سلمية، وبعيدة كل البعد عن العنف الرمزي أو المادي، لن تتمكن المجتمعات العربية من معالجة ظاهرة العنف السياسي.
فالسياسة ليست حقلاً للقتل والاغتيال أو ممارسة العنف المادي للوصول إلى الأهداف السياسية. فالسياسة كممارسة تدبيرية في المجتمعات هي بمثابة فنّ صناعة الخير العام. ولا يمكن أن يصنع الخير العام في أيّ بيئة اجتماعية بوسائل عنفية وقسرية، وإنما يتحقق مفهوم صناعة الخير العام، كلّما التزمت السياسة فكرًا وممارسة بالثقافة المدنية ومقتضياتها القانونية والدستورية والثقافية. ونحسب أن من مآزق العالم العربي الراهنة، هو التعامل مع السياسة، ليس بوصفها ميدانًا للتنافس المدني الذي لا يتعدى حدود المدنية والإنسانية، وإنما بوصفها حقلاً للتوحش وممارسة القوة بعيدًا عن العقل والضوابط القانونية والأخلاقية. لهذا، تغيب في العديد من المجتمعات العربية القدرة على التسوية أو الحلول الوسطى، التي تراعي جميع الأطراف، وتعمل على ضمان حقوق الجميع. والممارسة السياسية لا يمكنها أن تحقق انتصارات كاسحة على الطرف أو الأطراف السياسية الأخرى. ومن يمارسها بعقلية الانتصارات الكاسحة، سيلجأ إلى ممارسة العنف، والذي سيستدعي بدوره، عنفًا مقابلًا. وبهذا، تتحول الطموحات السياسية إلى عنوان لممارسة العنف في الفضاء الاجتماعي.
1. السياسة كممارسة هي فضاء للتعاون والتحالف والتضامن مع الآخرين، وليست فضاءً للتناكر والتباعد وغرس الأحقاد بين الناس؛ فكل الممارسات السياسية التي تمارس بعقلية التناكر وغرس الأحقاد، ستساهم في إنتاج ظاهرة العنف.
الممارسات السياسية التي تمارس بعقلية التعاون والتضامن والتحالف تعزز الثقافة المدنية والتعامل المدني مع السياسة فكرًا وممارسة. وعليه، فإن الثقافة السياسية التي تروج لقيم التباعد والتناكر بين الناس أو أبناء الوطن والمجتمع الواحد، تتحمل مسؤولية مباشرة في إنتاج ظاهرة العنف السياسي. أما الثقافة السياسية التي تغلب قيم التواصل والتعاون وتنمية المشتركات وتعزز النسيج الاجتماعي، وتعمل على زيادة وتيرة التلاقي والتفاهم بين الناس، فهي ثقافة سياسية تساهم بشكل مباشر في إنتاج الثقافة المدنية وتعزيز الخيار المدني في المجتمع.
وتأسيساً على هذه الرؤية، يمكن القول إن المنطقة العربية تعاني من أزمات ومشاكل عديدة، وإنه لا يمكن معالجة هذه الأزمات والمشاكل، إلا بتغيير الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات العربية. وبوابة هذا التغيير والتجديد، هي تغيير معنى السياسة والممارسة السياسية. فالسياسة ليست ممارسة للقهر وزيادة التوترات والمشاكل بين الناس، بل هي ممارسة تهدف إلى زيادة التفاهم والتلاقي بينهم، وتنمية الخير بكل مستوياته في المجتمع. ويجب أن تستند كل هذه الممارسات إلى قناعة عميقة وثابتة في الثقافة السياسية، مفادها الجوهري أنه كلما ابتعدت هذه الثقافة عن المعنى المتوحش في ممارسة السياسة، كلما اقترب المجتمع من الصلاح في كل شيء. أما إذا مورست السياسة بذهنية التوحش، فإنها ستكون مصدرًا للعديد من الشرور في المجتمع.
خلاصة الأمر، إن إنهاء ظاهرة العنف السياسي من فضائنا العربي، يتطلب العمل على تبديل أسس ومرتكزات الثقافة السياسية، حيث لا تكون مصدرًا لإنتاج العنف بكل مستوياته في المجتمع.
تعدد الانتماءات والوحدة السياسية:
دائمًا ما تولي المجتمعات المتعددة والمتنوعة، سواء على المستوى الأفقي أو العمودي، لموضوع وحدتها الاجتماعية والوطنية أولوية خاصة؛ وذلك لأن طبيعة الاختلاف في الانتماءات والميولات والخصوصيات الثقافية، تفرض على مؤسسة الدولة أهمية الحفاظ على وحدة هذا المجتمع والوطن، حيث لا تتحول الانتماءات المتعددة في الإطار الوطني والاجتماعي الواحد، إلى مبرر لتضعيف البناء الوحدوي للمجتمع والوطن. ولو تأملنا في الخريطة الأيدلوجية والمذهبية والقومية للمجتمعات الإنسانية اليوم، لرأينا أن كلّ المجتمعات الإنسانية تعيش حقيقة أو أكثر من حقائق التنوع والتعدد. ولا يوجد على وجه البسيطة، مجتمع متجانس في كل دوائر الانتماء التي تعيشها المجتمعات الإنسانية المعاصرة. فإذا كان المجتمع موحدًا في دينه، فهو يعيش حالة التعدد والتنوع على مستوى المذهب والمدارس الفقهية الإسلامية. وإذا كان موحدًا في الدين والمذهب، نجد أن تعدده وتنوعه يأتي من البعد القومي أو العرقي للمواطنين. وعليه، فإن المجتمعات الإنسانية قاطبة تعيش حالة التعدد والتنوع.
إن وحدة هذه المجتمعات لم تنجز على أنقاض حقائق تنوعها وتعددها، بل أنجزت من خلال احترام هذه الحقائق وإفساح المجال لها لإثراء الواقع الاجتماعي والثقافي من خلال خصوصياتها وعناصر القوة الذاتية. ومن ثم، نرى أن الوحدات الوطنية في المجتمعات المتنوعة، لا يمكن أن تبنى وتصان من خلال تجاهل حقائق التنوع والتعدد فيها؛ لأن عملية التجاهل المنهجية تحرض أهل كل هذه الحقائق على التمسك الصلب بحقائقها وثقافتها؛ لأنها بدأت تشعر أنها مستهدفة في بعض خصوصياتها أو ثقافتها. وبالتالي، فإن المطلوب في المجتمعات المتنوعة هو كيفية الحفاظ وحماية وحدتنا الاجتماعية والوطنية في ظل واقع اجتماعي متعدد ومتنوع.
عند الاقتراب الموضوعي من هاتين الحقيقتين؛ حقيقة الوحدة الوطنية التي هي من ضرورات الوجود والمنعة، وحقيقة التنوع الذي يعيشه المجتمع على أكثر من مستوى، نجد أن المطلوب أمام هذه الحقائق الالتزام بالنقاط التالية:
1. الالتزام بسياسات الاحترام والاعتراف بالحقائق الموجودة في المجتمع؛ لأن تجاهل هذه الحقائق سيؤدي إلى تمسك أصحابها بشكل صلب، مما يقلل من إمكانية بناء الوحدة الوطنية على أسس صلبة وصريحة.
العمل على إلغاء أو معاداة هذه الحقائق يؤدي إلى تحول المجتمع على المستوى العملي إلى مجتمعات متعددة تعيش تحت سقف وطني واحد. ومع انفجار الهويات الفرعية لأغلب الانتماءات الموجودة في مجتمعاتنا، فإن وجود مجتمعات متخاصمة أو متباعدة في إطار وطني واحد، سيؤدي باستمرار إلى دخول الوطن في تحدّيات ومشاكل لا يمكن معالجتها؛ لأن هذه التحديات تتغذى باستمرار من حالة الشعور العميق لجميع هذه الانتماءات بالتعبير عن ذاتها بشكل صريح وواضح. وهذا بطبيعة الحال، في ظلّ غياب العلاقة السوية والإيجابية بين مختلف المكونات، سيؤدي إلى توتر العلاقات، ويفاقم من حالات غياب الثقة بين جميع الأطياف والتعبيرات. لذلك، فإننا نعتقد أن أسلم الخيارات وأصوبها هو التعاطي الإيجابي مع حقائق التنوع والتعدد وضبطها جميعاً بقيم الوحدة الوطنية ولوازمها الأخلاقية والقانونية.
وإذا نظرنا إلى المجتمعات الإنسانية المتقدمة والمتطورة، والتي تعيش حقائق التنوع على أكثر من صعيد ومستوى، لوجدنا أن هذه المجتمعات، لم تتجاهل حقائق التنوع في مجتمعها، كما أنها لم تتعامل معها بقسوة، بل احترمت هذه الحقائق، ووفرت لها قانونيًّا واجتماعيًّا التعبير السلمي والموضوعي عن ذاتها، وضبطت كل هذه الخصوصيات والتعبيرات بمنظومة أخلاقية وقانونية، حيث يحترم الجميع مقتضيات الوحدة الوطنية ومتطلباتها الوطنية والاجتماعية. وعليه، نرى أن أسلم الخيارات المتاحة للتعامل مع المجتمع المتعدد والمتنوع هو الاعتراف بهذه الحقائق والتعامل معها، بوصفها من عوامل تعزيز الوحدة الوطنية وليس من مخاطرها أو نقاط ضعفها.
1. في الوقت الذي ندعو فيه الجميع إلى الالتزام بسياسات الاعتراف والاحترام لحقائق التنوع الموجودة في المجتمع والوطن، ندعو في الوقت نفسه إلى بناء مجتمع سياسي موحد، بعيد عن كل نزعات التمترس الطائفي أو القومي أو العرقي.
نحن مع احترام التنوع في الدائرة الاجتماعية، ولكننا ضد نقل هذا التعدد إلى مؤسسة الدولة أو ما يمكن أن نطلق عليه المجتمع السياسي. ونعترف بالتعددية في الدائرة الاجتماعية، ولكن في المجتمع السياسي ينبغي أن نحافظ على الوحدة بكل مستوياتها وتجلياتها، حيث تكون المواطنة بكل حمولتها الحقوقية والدستورية، هي معيار من يحق له الانضمام إلى المجتمع السياسي. وبهذه الطريقة، نحافظ على وحدة المجتمع والوطن من خلال بناء الوحدة الوطنية والاجتماعية على قاعدة القبول التام بكل حقائق التعدد والتنوع. وفي هذا السياق، من الضروري أن نوضح إننا ضد أي نوع من المخاصمة الطائفية أو العرقية أو القومية في المجتمع السياسي ومؤسسات الدولة. فالكفاءة الوطنية وحدها هي المقياس لمن يحق له المشاركة في عضوية المجتمع السياسي. وإن اعترافنا بحقائق التنوع والتعدد، ينبغي أن يقتصر على الميدان الاجتماعي والثقافي بجميع مستوياته.
فالدولة الحديثة دولة لمواطنيها بمعزل عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والعرقية. وبالنظر إلى ذلك، لا يمكن للدولة أن تنحاز إلى فريق آخر أو فرقاء معينين، خاصة وأن معظم مجتمعات تتمتع بتكوين ديني ومذهبي متعدد. أما القول إن الدولة تتبنى دين أغلبية مواطنيها، فإنه يتناقض مع مفهوم المواطنة من جهة، ومن جهة أخرى يخلط بين معنى الأغلبية والأقلية، وهو مفهوم سياسي بامتياز، ومعنى الجماعات، وهو معنى ثقافي وأنثروبولوجي وديني، لا يمكن أن يتأسس سياسيًّا في الدولة. وإن معيار الشراكة في الدولة بكافة مؤسساتها هو الكفاءة الوطنية. أما المجتمع، فهو يعيش حالة من التنوع على جميع المستويات، ويتنافس الجميع في الدائرة الاجتماعية دون أيّ ضغط سلبي على أيّ مستوى من مستويات الانتماء الموجودة في المجتمع.
1. في الوقت الذي ندعو فيه إلى احترام كافة حقائق التنوع الموجودة في المجتمع، ندعو في الوقت ذاته إلى وطن واحد موحد يحتضن الجميع، ويعمل على توفير كل مستلزمات الحياة الكريمة للجميع دون تحيز لأحد أو افتئات على أحد. فوحدة الوطن ليست من القضايا القابلة للمقايضة، بل هي من الثوابت التي تصل إلى حد ما يطلق عليه "المقدس السياسي"، الذي ينبغي على جميع أبناء الوطن الحفاظ عليه وحمايته من كل المخاطر والتحديات.
بهذه الآليات، نصل إلى معادلة قائمة على العناصر التالية: احترام كامل للخصوصيات الثقافية والاجتماعية، ومجتمع سياسي موحد يكون معيار الالتحاق به هو الكفاءة الوطنية، بغض النظر عن انتماءات هذه الكفاءات، ووحدة وطنية لا مساومة عليها، تُصان وتحمى من الجميع، ويتم الدفاع عنها بالغالي والنفيس. ووفقاً لهذه المعادلة، تتمكن المجتمعات المتنوعة والمتعددة من بناء وحدة وطنية صلبة، لا يخشى عليها، مهما كانت التحديات أو المكائد التي يحيكها أعداء الوطن. فالانتماءات بكل مستوياتها، هي حقائق اجتماعية وثقافية عنيدة، وقادرة على الدفاع عن نفسها مهما كانت القوة التي تسعى إلى اجتثاثها أو استئصالها. وهذه الحقائق بحاجة إلى احترام قانوني ومؤسسي لوجودها وخصوصياتها، وهذا الاحترام سيحولها إلى طاقة خلاقة لإثراء حقائق الوحدة الوطنية، وستدافع عن وطنها ووحدته بكل ما تملك.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا، وسنعود إلى هذه النقاط لاحقاً. ولن أستبق الأمور لطرح الأسئلة أو الأفكار التي سنناقشها فيما بعد، رغم أن هناك العديد من الأفكار التي تستحق النقاش.
أنتقل مباشرة إلى د. هاني نسيرة، ولديّ انطباعٌ أنه كان متحفزًا للتعليق حتى قبل أن يقدم مداخلته حول الأفكار التي طرحت مسبقاً، وهي أفكار مستفزة بالمعنى الإيجابي؛ إذ تحفز الفكر وتثير النقاش. وعنوان مداخلة د. هاني صيغت على شكل تساؤلات: "تطورات أم تحولات؟ أم أقنعة سوريا الجديدة وحالة الإسلام الحركي؟".
د. هاني نسيرة، كاتب وخبير سياسي مصري، يعمل حاليا خبيرا بجريدة عرب نيوز، وعمل سابقا مدير معهد العربية للدراسات، قناة العربية دبي- الإمارات العربية المتحدة، ورئيس البحوث بمركز المسبار للبحوث سابقا، وغيرها. هو مؤلف لعدد من الكتب(24 كتابا) وعشرات الكتب بالاشتراك. من مؤلفاته الخاصة: "الإسلام المتخيل الوطن والأمة والدولة في الفكر العربي المعاصر"، "متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية"، "المتحولون دينياً ومذهبياً: دراسة في ظاهرة تغيير الديانة والمذهب"، "الأيديولوجيا والقضبان: نحو أنسنة للفكر القومي العربي"، "الليبراليون الجدد في مصر إشكالات الخطاب والممارسة"، "أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار"، "الحنين إلى السماء والمتحولون دينيًّا ومذهبيًّا"، "القاعدة والسلفية الجهادية" "السلفية في مصر: تحولات ما بعد الثورة"، "محمود عزمي رائد حقوق الإنسان في مصر" "الليبراليون الجدد في مصر إشكالات الخطاب والممارسة".
د. هاني نسيرة:
سوريا...الماضي والحاضر:
في رأيي لا يمكن قراءة المشهد السوري الراهن بعيدًا عن سابقه من حكم البعث الشمولي وآل الأسد لما يزيد عن نصف قرن، ومسار الحراك السوري سنة 2011، وما قدمه من ضحايا وكلفة إنسانية عنيفة؛ مئات الآلاف من القتلى وملايين من المهجّرين، لتكون الثورة الأكثر كلفة في تاريخ الثورات العربية، وربما العالم، أمام نظام استعلائي يرفض الحوار ويرفض الإصلاح، ويستخدم أكثر الأسلحة عدوانية ضد شعبه، ويستعين بحلفائه إقليميًّا ودوليًّا ضد مواطنيه، مما صنع حالة انسداد يستحيل معها إلا أن يكون البديل له فصيلاً مسلّحاً متماسكاً كهيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع، أو أبي محمد الجولاني سابقًا. فالواقع السوري الآن بوجوهه وهواجسه، هو نتيجة طبيعية للنظام السابق ووحشيته وعسكرته وانسداده.
وهكذا، تعيش المنطقة العربية هذه الثنائية الحتمية القدرية في التبادل والصراع بين أنظمة شمولية معسكرة، وبديلها الإسلاموي، إما أن يسقط أحدهما الآخر، أو يهزمه أو يستبدل به، خاصة مع هشاشة التيارات وتهميش وتهشيش كليهما. وهذا الانسداد السياسي يؤدي إلى سقوط قسري تنهار به السلطة والمؤسسات وتحتاج إلى بناء وإعمار جديدين.
ولكن، يملأ الكثيرين هاجس الخوف من المسار، خاصة مع ماضي سلطة الأمر الواقع في سوريا الآن، التي تنحدر من خلفية سلفية جهادية مسلحة، ارتبطت بالقاعدة منذ وقت مبكر، كما ارتبطت بداعش ثم انفصلت عنهما معا سنة 2017، وأعلنت نفسها جماعة قطرية وطنية باسم "هيئة تحرير الشام" بالتحالف مع مجموعات أخرى.
تحولات أم تطورت أم أقنعة:
تابعت مواقع ومناصرة هيئة تحرير الشام منذ أن كانت النصرة، ومنذ وقت مبكر، وقد لاحظت قبل سنوات من نجاحها وسقوط بشار الأسد في الثامن من ديسمبر سنة 2023، وجود تطورات وتحولات مهمة في خطابها، تغادر أفق السلفية الجهادية التي ترى في كلً ما هو غربي كفرًا وخروجًا، وترى في الوطنية صنمًا- بتعبيرات الظواهري- والديمقراطية دينًا كفريًّا، بتعبيرات أبي محمد المقدسي. ولكن، قبل سنوات، رغم عدم رصد الناس لذلك، بدأت تتفاعل مع فعاليات ومؤتمرات الأمم المتحدة، وتتحول عن خطابها ومنطلقاتها السابقة، لتبدو أكثر اعتدالًا. كما قدمت الحركة في إدلب تجربة في الإدارة كانت مثار تقدير من قبل الكثيرين.
إن ما يطرحه الشرع بعد تولّيه السلطة، من دعوة للحوار وتجنب للغة الإقصاء، ومحاولة تجسير الفجوة بين مختلف مكونات المجتمع السوري، كلّها أمور تطرح السؤال، هل هي تحولات وتطورات أم أقنعة مؤقتة؟ ونرجح وفق ما سبق أنها تحولات وتطورات خاصة مع إدراكه لحجم وعمق المأساة السورية، على مختلف تشكلاتها، وضرورة الخروج بها نحو الاستقرار والدولة...ولكن يبدو الهاجس من أن تكون أقنعة قائمة. ومع ذلك، لا شك أن التجربة تستحق الفرصة والرهان، خاصة مع خصوصيتها وأزمة الدولة العربية المعاصرة وصراعات الهوية وتوظيفاتها، وتمكن حضور السلطة على حساب الدولة في كثير منها..
الأولوية الوطنية وتطمين الخارج والمحيط:
حاول نشطاء الإخوان وبعض أنصارهم توظيف الوضع السوري والتلويح بإمكانية عودة ثورات ما عرف بالربيع العربي، لتضاف إلى زلازل المنطقة الحاضرة والمنتظرة، وكانت مصر هدفاً نصب أعينهم، وخدعتهم أمانيهم بأنها قد تشهد ما شهدته سوريا، رغم اختلاف الحالين؛ فالدولة المصرية غير الدولة السورية، والمجتمع غير المجتمع، وهم في ذلك يصطادون في الماء العكر دون مبالاة بسوريا ولا مصر.
تبرّأ الشرع من مسؤوليته عن بعض زاروه للتهنئة، من عناصر جماعة الإخوان المسلمين الفارين لمصر، مؤكدًا أنه كان يستقبل الجميع، دون تمييز، بلا تحالف ولا دعم، ولكن استغل هؤلاء هذه الصورة فأرسلوا رسائلهم التحريضية للداخل المصري أو لبعض دول الخليج، فأثاروا المخاوف ووضعوا الإدارة الجديدة موضع الحرج، مثل الناشط عبد الرحمن يوسف وغيره، الذي قيل إن الإدارة السورية الجديدة نفرت من تصريحاته المحرضة ضد مصر والسعودية والإمارات، وأبلغت عنه الأمن اللبناني ليتم ضبطه بالمطار قبل مغادرته لمقره في تركيا! كما كان قرار الإدارة الجديدة للشرع- الذي لم يعلن تسمية رسمية له بعد- بترقية بعض المطلوبين المصريين أمنيًّا في قوات الجيش السوري، أمرًا مثيرًا ومحفزًا للمزيد من المخاوف كذلك.
على الرغم من ازدياد حذرها، شاركت مصر أخواتها في المنطقة، وأرسلت بعض المساعدات الإغاثية لسوريا، وهاتف وزير الخارجية السفير بدر عبد العاطي نظيره السوري في الإدارة الجديدة، ولكن اتخذت بعض الإجراءات الاحترازية بخصوص دخول السوريين، خاصة مع تجنيس المطلوبين، وبعض الإجراءات الأخرى.
جوهر الموضوع، أن السيد أحمد الشرع نجح في تبديد هذه المخاوف الإقليمية بعامة، والمصرية بشكل خاص، من أن تكون سوريا ملاذًا آمناً وبؤرة توحش لتصدير الإرهاب، وليس فقط الثورة، هل يستطيع أن يحظر خطاب التحريض والإشعال الموجه من الداخل السوري للداخل المصري؟ هل يسرع الخطى لتأسيس سوريا جديدة وقيادة مستقلة ليست ظلًّا ملتحقاً بتركيا وإدارتها وأجندتها، كما كان بشار ظلًّا وملتحقًا بإيران، وأن يؤكد أن سوريا أولاً وللسوريين أولاً..
أعلم أن المعضلات كثيرة والحمولة ثقيلة، من إرث تاريخي لا يطمئن الداخل ولا الخارج، ومن خطاب ووجوه لا تعبر عن الحرية التي أعلنت الإدارة الجديدة أنها تريدها، وحررت السوريين من سجونها، ولكن الحزم والعزم في سبيل رعاية مختلف مكونات المجتمع السوري، وصوغ هوية وخطاب دولة ومرحلة انتقالية توافقية ترفض التحريض ضد الآخر أو الداخل. ولا شك أن أمام الشرع الفرصة، ومن المؤكد أننا نؤمن بحقها له...ولكن نؤمن أن العزم والحزم مطلوبان بشدة في الأوقات الحرجة، وكيلا يقع الحابل بالنابل، مع غواة التغيير وصياديه وفوضوييه.
الأدبيات غائبة وتفسير محتمل للتطور:
لاحظنا غياب أيّ أدبيات رئيسة لحركة وهيئة تحرير الشام، وقد توقعنا لهذه الحركة التي كانت ترسل التطمينات قبل سنوات، أنها اختلفت وتطورات، ولا زالت ترسلها بعد أن امتلكت سلطة الأمر الواقع، حيث رفضت توظيفها لتصدير الثورة لغيرها، وطرحت شرعيتها في وقف المشروع الإيراني، وحددت هدفها في إقامة الدولة السورية، التي تجمع مختلف التنوعات والمكونات السورية، ودعت إلى حوار وطني كان محلّ تقدير الكثيرين، ورفضت مبدأ تصدير الثورة على الطريقة الخمينية، كما سعت إلى تجسير العلاقة مع عدد من دول الخليج والمنطقة، فبادر مسؤولوها ومنهم الشرع في زيارة كلٍّ من السعودية وقطر والإمارات والأردن، ثم مصر على هامش القمة العربية بخصوص غزة المزمعة في 4 مارس الجاري.
لذا، نظن أن غياب أدبيات للحركة ينفي سؤال الخوف من التناقض بين الخطاب والأدبيات؛ فالشرع ومجموعته شأنهم شأن كثير من الشباب العربي الذين استنفرهم التدخل الأمريكي في العراق، واحتضنتهم مجموعات القاعدة، ولكنه وظفها ولم توظفه، فأخذ تمويل داعش للنصرة، ثم انقلب على الأولى مع أول محطة، بعد الثورة السورية، ثم خرج من عباءة التنظيم الأم عائدًا لوطنه وهدف تحرير الشام كما سمى منظمته فيما بعد، ويبدو تعاطيه مع الطوائف والأقليات والاختلاف المذهبي في الوطن أو المنطقة عاقلًا ومتحاورًا مختلفاً كثيرًا مع كلّ من نهج الجماعات الجهادية، وكذلك مع نهج النظام السوري السابق لبشار الأسد.
وقد ألححنا في مداخلتنا على أهمية إدراك المتلقي لخطاب الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، فهو لا يخاطب فقط المجتمع السوري وإشكالاته، بل يخاطب أيضا القاعدة والمجموعات ذات الوجدان الديني الجهادي التي كانت معه، كما يواجه منافسيه من الدواعش والقاعدة وغيرهم. لذا يبدو حريصاً، فلم يكرر كلمة "الديمقراطية" إلا نادرًا، وتبدو كلماته وخطواته وسلوكه محافظاً معتدلاً، يحاول استيعاب المتناقضات التي تنتظر خطابه وتنتقده على أساسها.
فهو يتحرك في إطار ضيق وصعب، على المستوى الأيديولوجي، وكذلك على مستوى بناء الدولة، مع التنوع الطائفي والمذهبي الكبير في الحالة السورية، فضلًا عن الأزمة الاقتصادية العنيفة التي يعانيها، واستمرار العقوبات على الاقتصاد السوري، وتأخر الرواتب، وضعف الدعم الخارجي، حيث لم تترجم كثير من وعوده إلى أفعال في كثير من الأحيان، فضلًا عن التوجس الدولي والإقليمي من خطواته، بالإضافة إلى الحرج والدعاية المضادة بسبب عجزه وصمته عن مواجهة الانتهازية الإسرائيلية في احتلال جزء من الأراضي السورية، واستمرار تهديداتها لاستقرار البلاد.
يبدو المسار ضيّقًا، والنفق مظلماً، ولكن يبدو الهدوء والتروي، ومحاولة اقتناص الفرص، وتطبيع العلاقات مع الدول المركزية في الإقليم، والحصول على دعمها، فضلا عن التكاثف المجتمعي السوري، فرصاً لتوسعة الطريق والخروج من هذا النفق ونسال الله التوفيق.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا، أشكرك دكتور هاني، وأشكر الأستاذ محمد أمير ناشر النعم على قبوله الدعوة والمشاركة معنا. طبعاً، كل المداخلات تتضمن حديثاً عن آفاق وممكنات متنوعة، وليست هناك رؤية دوغمائية تجزم مستقبل بما سيحدث مستقبلًا. فالحديث إذن عن آفاق وليس عن أفق، وعن إمكانيات وليس عن إمكانية.
أ. محمد أمير ناشر النعم كاتب سوري مقيم في ألمانيا. تتركز دراساته وبحوثه حول الإسلام في نصوصه وتاريخه وممثليه، وواقعه المعيش، وآفاقه المستقبلية. له العديد من الكتب تحريرًا وتأليفًا، طبع منها: الموسوعة الإسلامية الميسرة (صدرت في 10 مجلدات)، مشارك في تحريرها وفي كتابة العديد من موادها 1997، (الإسلام والدور المنتظر) بالاشتراك 1999، (من ينابيع التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر) 2005، (الدهر والعطار: احتضارات الثقافة الإسلامية المعاصرة) 2012، (جَدَدُ القول: هموم وأوهام في الفكر الإسلامي) 2022. إضافة إلى العديد من البحوث والمقالات المنشورة في مختلف المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية.
أ. محمد أمير ناشر النعم:
السلفية الشامية: آفاق وإمكانات؟
تخوّف بعض السوريين من الاتجاه السلفي، ولا سيما الجهادي، الذي سيطر على كثير من المتدينين في سوريا، خصوصًا في المناطق المحررة قبل سقوط الأسد. وقد كان لهذا الاتجاه جاذبيته؛ إذ أسهم في صياغة هوية صلبة تتيح للمنتمين إليه مقاومة السلطة الأسدية مادّيًا من جهة، ومقاومة التغلغل الشمولي للدولة الحديثة من جهة أخرى، حيث باتت الدولة لدى بعضهم مرادفة للسلطة الأسدية، في حين رأى آخرون فيها التزامًا بها. وقد تجلّت هذه المقاومة الثقافية في اللافتات الطرقية التي انتشرت في مناطق سيطرة الجماعات المسلحة ذات الطابع السلفي، والتي نصّت على أن الديمقراطية تارةً تُعدّ شركًا، وتارةً أخرى تُوصَف بأنها طريق إلى التخلف، وفي أحيان أخرى تُسمّى صنم العصر. ويتخوّفون اليوم أكثر بعد سقوط السلطة الأسدية، وتدفّق الجماعات الإسلامية الجهادية من إدلب إلى جميع أرجاء سوريا.
بالنسبة إليّ، فإنني لا أتخوّف من هذه الاندفاعة للأسباب التالية:
أولاً: فيما يخص السلفية الجهادية، فنحن أمام حالة رفض مجتمعي لها؛ إذ يُنظر إليها على أنها حلٌّ بائس ويائس لتجاوز الواقع. وقد أطلقت الدولة الإسلامية في العراق والشام رصاصة الرحمة على هذا النموذج القتالي، مما أدى إلى انغلاق مساره بوصفه نموذجاً جاذباً للسلفية الجهادية.
ثانياً: إن المعقل الأساسي للسلفية في السعودية يشهد تحوّلات هائلة ندرك جميعاً أبعادها ومضامينها. ومن أهم هذه التحولات انكفاء السعودية عن دعم هذا الاتجاه وتمويله في البلدان الأخرى، مما سينعكس على جميع التيارات السلفية ويدفعها إلى إعادة النظر في كثير من أفكارها وممارساتها. بالطبع، هذا لا يمنع استمرار وجود بعض جيوب الدعم من مؤسسات خاصة، وقد رأينا آثارها في افتتاح بعض المكتبات في الشمال السوري التي توزّع المطبوعات والكتيّبات السلفية مجانًا.
ثالثاً: إن الأداء الذي توصف به هيئة تحرير الشام بالبراغماتية لا يمكن تفسيره بالبراغماتية وحدها؛ فمن جانب آخر، لا يمكن إنكار أن كثيرًا من الأفكار والتصورات تتشذّب وتتهذّب حين تمرّ عبر مبرد الممارسة العملية، وتعبر الجسر من النظرية إلى التطبيق. ونحن هنا، وإن كنّا ندرك مشكلة التفاوت في تقبّل هذا التحوّل لدى أتباع هيئة تحرير الشام، بسبب اختلاف رؤاهم الدينية وفهومهم لطبيعة الدولة المأمولة، فإننا نعي في الوقت ذاته أنها لا تضمّ أجنحةً متنافسة. إننا أمام تحوّلات فكرية شاملة داخل الجماعة، ويبدو أن قائد الهيئة يُحكم قبضته على خيوط اللعبة داخل تنظيمه بقوة واستمرار، مما يجعل الانقلاب عليه في المدى المنظور غير وارد.
وبناءً على ذلك، فإن على هيئة تحرير الشام خصوصًا، وعلى السوريين عموماً، إعادة اكتشاف السلفية الشامية، والتي يمكن تسميتها بـ"السلفية الشامية الإصلاحية"؛ إذ كانت أساس نهضة بلاد الشام على مختلف الأصعدة؛ وذلك في مقابل السلفيات المعاصرة التي يُتداول الحديث عنها اليوم. لقد تميّزت السلفية الشامية بمبادرتها إلى الانفتاح على العلوم غير الدينية، وعلى الصحافة والإعلام، وكان روّادها أول من مدّ الجسور إلى الشخصيات السورية التي لا تنتمي إلى طبقة العلماء، كما كانوا السبّاقين إلى تفكيك الطابع النخبوي الصارم لهذه الطبقة.
إن إعادة هذا اكتشاف يسهم في تسهيل مهمة القائمين على إدارة دفة الدولة في سوريا اليوم، ويحدّ من غلواء الاتجاه اليميني في صفوفهم. ويأتي على رأس هؤلاء العلماء الشوام الشيخ عبد الرزاق البيطار (1837–1916)، والشيخ محمد الشطي (1832–1890)، وأحمد الجزائري (1833–1902)، وهو أخو الأمير عبد القادر الجزائري، والشيخ بكري العطار (1834–1903)، والشيخ طاهر الجزائري (1852–1920)، والشيخ عبد الفتاح الإمام الدمشقي (1870–1963 أو 1964)، والعلامة جمال الدين القاسمي (1866–1914)، وسليم البخاري (1884–1928)، ومحمد بهجة البيطار (1894–1976)، وأحمد مظهر العظمة (1909–1982)، وعلي الطنطاوي (1909–1999)، ومحمود مهدي الإستانبولي (1909–1998)، ومحمد ناصر الدين الألباني (1914–1999)، ومحمد زهري النجار (1920–؟)، وجودت سعيد (1931–2022)، وخير الدين وانلي (1933–2004)، والشيخ محمد بهجت البيطار.
وقد امتازت سلفية الشيخ القاسمي على سبيل المثال، بما أجمله الأستاذ حسان القالش في كتابه (سياسة علماء دمشق) في النقاط الأربع التالية:
1 ــ الرفض القاطع للتكفير. 2ــ محاولة بناء الجسور بين السنة والشيعة والتخفيف من الخلاف بينهما. 3 ــ رفض تكفير ابن تيمية لابن عربي، وتصنيفه ضمن الفلاسفة كالفارابي وابن رشد. 4 - مخالفة القاسمي ابن تيمية في الهجوم على المنطق والفلسفة([1]).
وأضيف إلى ذلك:
5 ــ عدم معاندة العلم واكتشافاته وعدم استخدام النصوص الدينية لتأييد هذه المعاندة. 6 ــ الانفتاح الحقيقي على المخترعات العصرية وعدم رفضها رفضاً مبدئيًّا أو التوجس منها، أو محاولة تجاهلها وكأنها غير موجودة. 7 ــ إقامة شراكات مع أبناء الطوائف الأخرى على مبدأ المواطنة.
وإذا تابعنا أداء السلفيين الإصلاحيين بعد القاسمي، أمثال الشيخ محمد بهجت البيطار، وأحمد مظهر العظمة، ومحب الدين الخطيب، ومحمود مهدي الإستانبولي وغيرهم، فسنجد أن ممارساتهم تميّزت بما يلي:
1 - الاعتراف بالدولة الوطنية الحديثة والمشاركة في مؤسساتها.
2 - المشاركة السياسية بالانخراط بالأحزاب والانتخابات البرلمانية.
3 ــ دعم المرأة وإيصال صوتها أدبياً على أقل تقدير.
4 ـ السمة النقدية لواقع الإسلام والمسلمين والدعوة المتكررة إلى الإصلاح.
5 ــ رفض الطائفية رفضًا قاطعًا. (رفض قانون الطوائف الفرنسي).
فروقات بين السلفية الشامية والسلفية النجدية:
لعلّ أهم فرق بينهما هو أن السلفية الشامية كانت تتقبّل التعددية بجميع تجلياتها، وتتحلّى بقدر من التسامح، خلافاً للسلفية النجدية. ومن هذا الفرق تحديدًا، يمكن أن تتفرّع جميع الفروق الأخرى. فنجد في السلفية النجدية كتاب "كتب حذّر العلماء منها"، تصنيف أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، وتقديم الشيخ بكر عبد الله أبو زيد، الذي يُعدّ من أبرز علماء الاتجاه السلفي النجدي المعاصرين. ويعبّر هذا الكتاب عن منهج السلفية النجدية في التعامل مع الكتب التي تراها مخالفة لفهمها أو رؤيتها، بل حتى لمزاجها. ففي جزئه الأول فقط، يتناول المؤلف أكثر من 400 كتاب، يراها مناوئة أو مقلقة، فيحذّر منها مبيّنًا فسادها وانحرافها. وتشمل هذه الكتب رسائل إخوان الصفا، وبعض رسائل الجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، وكتبًا لداود بن خلف الأصبهاني، وأبي القاسم البلخي، والبيروني، والمجريطي، والسيوطي، وغيرهم. ([2])
إننا هنا أمام بوليس المعنى الواحد المرضي عنه، الذي يتتبع كل معنى مغاير فيزجّ به في قفص الاتهام! فهل يمكن مقارنة هذا التوجه بصنيع محب الدين الخطيب الذي أسس، مع صاحبه عبد الفتاح قتلان([3])، المطبعة السلفية في القاهرة، فغدت من أهم منابر الاتجاه السلفي؟ ولكن عندما نتتبع عناوين إصداراتها، ندرك بحق ما نعنيه بالسلفية الشامية، وما تتميّز به من مرونة واستيعاب للآخر المختلف، وانفتاح عليه وتفاعل معه. ولذلك، لن نتفاجأ حين نرى هذه المطبعة تطبع ترجمات لغوستاف لوبون، وغليوم الثاني، ورينيه ديكارت، وإيمانويل كانط، وبول بورجيه، أو تطبع كتب الفلسفة مثل كتاب مبادئ الفلسفة القديمة الذي جمع بين دفتيه كتابين لأبي نصر الفارابي، الأول: ما ينبغي أن يُقدّم قبل تعلّم فلسفة أرسطو. والثاني: عيون المسائل في المنطق ومبادئ الفلسفة. كما تطبع مسند الإمام الربيع بن حبيب الأزدي، وهو من مصادر المذهب الإباضي المعتمدة، أو تطبع الرسائل المتبادلة بين أبي العلاء المعري وداعي الدعاة الفاطمي أبي نصر بن أبي عمران. كما تطبع رسالة الملائكة للمعري، وكذلك أبو العلاء المعري وما إليه لعبد العزيز الميمني الراجكوتي. وتطبع أيضاً للأدباء العرب على اختلاف صنوفهم، مثل مصطفى صادق الرافعي، أو أحمد زكي أبو شادي، أحد مؤسسي مدرسة أبولو الشعرية.
ويمكن أن نتلمس هذه السلفية الشامية كذلك، في تجربة الأستاذ أحمد مظهر العظمة ورفقائه الذين حملوا معه عبء إنشاء جمعية التمدن الإسلامي سنة 1932 (محمد حمدي السفرجلاني، عبد الفتاح الإمام، عبد الرحمن الخاني، عبد الحكيم المنير، وأحمد حلمي العلاف). كان لهذه الجمعية نشاط ثقافي واجتماعي خدمي، فأصدرت مجلة التمدن الإسلامي سنة 1935، وأسست مدرسة سنة 1945، ومستوصفًا خيريًّا سنة 1959. كما كانت الجمعية منفتحة على جميع الأديان والمذاهب، فاستعانت في المدرسة بأساتذة مسيحيين، وفي المستوصف بطبيب مسيحي، وافتتحت فرعاً لها في قرية بيت الشيخ يونس في مصياف سعيًا للتواصل مع العلويين.
وتعكس مجلة التمدن الإسلامي روح هؤلاء السلفيين بشكل أوضح وأجلى؛ فمؤسسوها سلفيون تقليديون دينيًّا وعقديًّا، وإصلاحيون ديمقراطيون فكريًّا وسياسيًّا، يؤمنون بالتعددية الفكرية والسياسية، ونرى ذلك واضحاً في كتاباتهم، وفي استعراض أسماء الكتّاب الذين نشروا لهم في المجلة، حيث نجد فيها سلفيين كمحمد ناصر الدين الألباني الذي نشر في المجلة 155 مقالاً، ومحمود مهدي الإستانبولي الذي نشر 406 مقالاً، ومحب الدين الخطيب وعلي الطنطاوي، ومحمد نسيب الرفاعي، وعبد الفتاح الإمام، وعبد العزيز بن باز، وعبد الرحمن الدوسري، وسواهم، ونجد فيها صوفيين وأشاعرة كعبد الله الصديق الغماري، ومحمد سعيد رمضان البوطي، وعبد الفتاح أبو غدة، وأحمد عز الدين البيانوني، ومحمد أبو اليسر عابدين، وصالح الفرفور، وعبد الغني الدقر، وكذلك قادة الإخوان المسلمين كحسن البنا، وسيد قطب، ومحمد قطب، ومصطفى السباعي، ومحمد الحسناوي، وعصام العطار، وأنور الجندي، ومحمد المبارك. هذا بالإضافة إلى شخصيات مسيحية كإميل الغوري، وإميل جبر ضومط، وجورج شدياق، وحليم دموس، ونظمي لوقا وشبلي ملاط، وخليل جرجس خليل، ونيكولا حنا، وميخائيل عواد، وشخصيات نسائية كألفة الإدلبي وألفة الصواف، ومي نخلة، ونزهة العظمة، ونديدة العقاد عابدين، وشخصيات شيعية كمحمد الخالصي، ومحمد جواد مغنية، ومحمد رضا الشبيبي، وأحمد الصافي النجفي، ومحسن الأمين، وتعرّفه المجلة بقولها: سماحة العلامة الأستاذ الشيخ السيد محسن الأمين.
في السلفية الشامية، نرى كيف يتحول الفكر السلفي إلى واقع اجتماعي، فإذا هو فكر يتجاوز الأطر الضيقة التي رسمتها السلفية النجدية لنفسها. فها هو أحمد مظهر العظمة يرشّح نفسه لانتخابات عام 1947 البرلمانية ضمن قائمة الأمة، التي ضمّت شخصيات مسيحية ويهودية، وحازت تلك القائمة يومها على تأييد علماء الدين في مدينة دمشق.
ويمكننا هنا أن نشير أيضاً، إلى تجارب سلفية انطلقت في اجتهادها إلى آفاق بعيدة، مثل تجربة الشيخ جودت سعيد، الذي بدأ مسيرته الفكرية متأثرًا بالسلفية. غير أن تلك الروح السلفية التي امتاز بها لم تلبث أن تتكشف عن تطوّر يميّزه عن رموز هذا التيار، دون قطيعة أو موقف متشنّج. وقد أثبتت مسيرته الفكرية لاحقاً أنه تحلّى بالجانب الإيجابي من السلفية بوصفها دعوة للاجتهاد، وتخلّى عن الجانب السلبي منها في كونه يرى في الماضي مثالاً ينبغي تقليده بلا نقد أو تمحيص. ولهذا، سنراه فيما بعد لا يقتصر على إعمال العقل والفكر في أقوال السلف والخلف فحسب، بل يمتد ذلك إلى مواقفهم أيضًا.
لقد كانت سلفيته مشرَّبة بالمرونة والانفتاح الذهني والوداعة التي لا تعرف تسرّع الحنق الفقهي ولا احتدام الغيظ العقدي. ولعل صحبته للشيخ محمد زهري النجار أكسبته تلك المرونة والانفتاح، فعلى الرغم من نزعة الشيخ زهري السلفية، فإنه لم يفقد جسور التواصل مع أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى، حتى تلك التي تُوصف عادةً بالانحراف. ويحدثنا السيد مرتضى الرضوي عن لقائه بالشيخ محمد زهري في القاهرة سنة 1950، ومناقشته إياه في مفهوم التقيّة ومواردها، ويصفه قائلاً: "وجدته يتحلّى بالمرونة والسماحة واتباع الحق، وله جهود وجهاد في سبيل تدعيم وحدة صفوف المسلمين في مواجهة أعدائهم"([4]).
خلاصة:
إنّ ما عرضناه في هذا النص هو تكثيف شديد لبحر متلاطم من شخصيات عديدة تتوافق في كثير من النقاط التي أشرنا إليها بوصفها تجسيداً للسلفية الشامية، وتختلف في نقاط أخرى. وقد يندّ بعضها في موقف أو أكثر عن السياق العام الذي نحاول أن نثبته ونؤكده، كما تندّ موجة من موجات البحر، ولكن ذلك لا يؤثر على هذا السياق بالنقض. سياق قبول التعدد بوصفه أحد مكونات الوجود: قبول التعدد الحضاري، وقبول تعددية المواقف والتقييمات، وقبول تعددية الخطاب وتعددية المعنى بجوانبها الحسنة والسيئة التي تُراقب وتُروّض، ولكن لا تُنفى ولا تُقتلع. فهذا ما لا ينبغي، بل ما لا يمكن.
د. حسام الدين درويش:
جزيل الشكر أستاذ محمد. طبعاً شهادتي مجروحة، لكن أقول إنك الوحيد الذي التزم بالوقت، وفي هذا رسالة لمن بعدك. سيكون الختام مسكاً مع الأستاذ أحمد زغلول شلاطة، والسؤال يشمل انعكاسات التجربة السورية على الإخوان المسلمين في مصر. الأستاذ أحمد هو باحث متخصص في شئون الحركات الإٍسلامية، تتركز اهتماماته البحثية على مجالات الاجتماع الديني، العلاقات الدولية، الدراسات الأمنية. إضافة إلى العديد من الدراسات العلمية المحكمة صدر له عدة كتب حول الظاهرة الإسلامية الحركية وآخرها؛ ولاية سيناء: تحولات العنف الجهادي في مصر، الصراع على الدين: أزمة المجال الديني في مصر.
أ. أحمد زغلول شلاطة:
ماهي انعكاسات التّجربة السورية على الإخوان المسلمين في مصر؟
منحت التّحولات السّياسية في سوريا زخماً للإسلام السياسي بعد تصدّر "جبهة تَحرير الشّام" لمقاليد السلطة في أعقاب سقوط بشار الأسد في ديسمبر 2024. ومع احتفاء الإخوان المسلمين بالمشهد السوري، تعالت أصوات تُطالب بمراجعة موقفها من السلمية، الذي تبنّته الجماعة بعد عزلها عن الحكم، وضرورة الاقتداء بالمَسار السّوري وتكراره، خاصة مع القبول الدولي والإقليمي لـ "أبو محمد الجولاني" ورفع اسمه من قوائم الإرهاب.
عند قراءة التجربتين السورية والمصرية، يظهر التباين في التوجهات والممارسات، رغم الاختلافات الأيديولوجية عبر عُقود بين كلٍّ من الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية، فقد شهدت جماعة الإخوان تحولات أدت إلى انغلاقها وممارستها العنف بعد عُقود من العمل العام، في حين من بدأ سلفيًّا جهاديًّا وقياديًّا في تنظيم القَاعدة، ابتعد عنها ليصبح سلوكه السّياسي أقرب إلى الاعتدال النّسبي.
بناءً على رصد أوّلي للتجربتين، نجد أن ذلك يعود لتباين المواقف من الدولة وتباين سبل التعامل معها. نظريًّا تراوحت مَواقف التّنظيمات الإسلامية بين قبول الدّولة الوطنية كما هو الحال مع الإخوان المسلمين، وبين معارض لها كتيار السلفية الجهادية، غير أن هذه المواقف خضعت لتحولات برغماتية بنيت على أطرٍ فقهية تتناسب مع واقع كل تنظيم وقدراته، وأولوياته في التغير ومراحله المتوقعة في بناء نموذجه في الحكم.
بدا سلوك الإخوان مُتسقًا مع مسارهم نحو العمل السياسي ضمن المنظومات السياسية القائمة من أجل بناء مشروع أممي لاحقًا؛ فبتعدد النماذج/ الوحدات من أسفل يمكن البناء عليها نموذجاً مُعولمًا من أعلى، سواء بصورة اتحاد أو خلافة أو أيّ مسمى آخر. في المقابل، استندت السّلفية الجهادية إلى فكرة الأمة الإسلامية التي لا تعترف بالحدود، وتسعى للتمدد والسيطرة عبر ما يتاح جغرافيًّا لها، مع رفضها للدولة الوطنية بوصفها صناعة استعمارية.
مثل حضور الجولاني في البداية امتداداً للتصور الأممي للسلفية الجهادية، حيث اعتُبرت سوريا أرضاً إسلامية يجب تحريرها، خاصة مع طبيعة الدولة القائمة، والتي تُمثل نموذجاً للدولة الهشة في ظلّ اختلال علاقة الدولة بمجتمعها، والاقتتال الداخلي وتعمّق التدخلات الدولية في شؤونها. وفي ضوء سلسلة من التحولات الشخصية والسياسية المحلية بجانب التأثيرات الإقليمية، تغيرت النظرة إلى الدولة في ممارسات الجولاني تدريجيًّا بمنطق براغماتي، حيث تحول من زعيم في جماعة أممية تسعى لتحقيق خلافة إٍسلامية إلى فاعل سياسي محلي يقود جبهة مُتمردة، ترسّخ حضورها عمليًّا بعد سيطرتها على بعض الأراضي، ما دفعها إلى مَسار الحُكم عمليًّا دون منافسة. لذلك، ومع انهيار دولة "بشار" كانت دولة "الجولاني" قائمة فعليًّا وتحظى بدعم مجتمعي مختلف، مع استمرار الهوية السنيّة كإحدى ركائز المشهد السياسي الجديد.
في المقابل، عندما تقدم الإخوان المسلمون سياسيًّا في مصر عقب ثورة سلمية متنوعة سياسيًّا، ومستقرة مُؤسساتيًّا بعد تغيير رأس النظام. تنامى المنظور الأممي في بعض سلوكيات الجماعة بصورة تُهدّد السلم المجتمعي، وهو ما دفع إلى إقصائها عن الحكم في ظلّ مواقفها تجاه كلٍّ من؛ "الأممية الإسلامية" و"الهوية"، و"التغيير بالعنف"، خاصة مع السكوت الرئاسي عن دعوات بعض أنصاره لفتح باب الجهاد في سوريا، وهو سلوك وإن تم تأطيره دينيًّا، إلا أنه كان مدفوعا بموقف براغماتي هدفه ترهيب القوى الداخلية المناهضة لهم.
لذلك، فالتساؤل حول إمكانية تكرار تجربة "الهيئة" عبر نماذج حركية أخرى يظل قائماً نظريًّا، لكن عمليًّا يجب مراعاة أن لكل تجربة مقوماتها الذاتية؛ فالمشهد السوري الراهن نتيجة انهيار سياسي وأزمة هوية سنية وبرجماتية سياسية أبداها الجولاني، وسياق زمني ومجتمعي ساهم في صعود جبهة تحرير الشام وتطورها، بما يعكس وجود نوع من التَوافق المُسبق للقوى الدّولية الفاعلة، والتي رأت أن نموذج "الجولاني" كشخص وفكر ومشروع تبلور عبر عقد من الزمان هو البديل الواقعي الذي يجب تأهيله سياسيًّا بما يفي بمتطلبات مرحلة ما بعد بشار. وهو ما يفتقده الإخوان المسلمون في الوقت الراهن، حيث اتسم أداؤهم بالجمود على مدار عقد ونصف، فلم تدفعهم أزماتهم السياسية إلى تطوير سلوكهم السياسي، وطرح مشروع يتجاوزون به أزمتهم، ليصبحوا جَماعة بلا قِيادة ولا مَشروعاً ولا انضباطًا تنظيميًّا، وهو ما يجعل بالتبعية فُرص حُضورها السياسي ضعيفة جدًّا، فلم يبدُ منها ما يجعلها مثار رهان سياسي سواء محليًّا أو دوليًّا.
وإجمالاً
تبقى أبرز التحديات التي تواجه التجارب الإسلامية المختلفة متعلقة بأمرين. أولها هو مدى قدرتها على التّعامل بفاعلية مع مَنظومة الدولة الحديثة على مستوى التنظير والإدارة، فمنطق الأمة ومتطلباتها التنظيرية والإدارية يختلف عن الدولة الوطنية. وثانيها مدى قدرة المُجتمعات على القبول بإدماج جماعة مسلحة متعدة الجنسيات في مشهد سياسي محلي بعد نزع سلاحها، واستراتيجيات التفاعل معها حال نكوصها بعد ذلك عن مسارها السياسي.
د. حسام الدين درويش:
جزيل الشكر لكم جميعًا، ولكن لأوضح للآخرين، كان لديّ العديد من الأسئلة التي ربما نناقشها لاحقًا، لكن سأكتفي بسؤال واحد لكل شخص من المتداخلين، يتعلق بنقطة أراها أساسية في مداخلاتهم، ثم سنفتح المجال للجميع لطرح أسئلتهم. ونعدكم بأننا سنبقى حتى نهاية الوقت، لنتناول كل الأسئلة التي ترغبون في طرحها.
سأبدأ الآن بسرعة مع الدكتور ساري. دعني أبدأ بمسألة التسميات، وأنا أعرف تحفظاتك في هذا الخصوص، حيث ناقشتها سابقًا في تقديمك الكريم لكتابي "في المفاهيم المعيارية الكثيفة: علمانية، الإسلام (السياسي)، تجديد الخطاب الدين". أنا شخصيًّا لا أرى كلمة "الإسلام السياسي" مذمومة أو ممدوحة. أرى أنها تربط بين كلمتين هما الإسلام والسياسة. أفهم التحفظات حولها، بالرغم من أنني لا أمارسها، إذا كنا نعتبر أهمية الكلمات والتسميات ودلالاتها ومعانيها، فإلى أيّ مدى يمكننا الحديث عن مرحلة انتقالية؟
إذا كان الانتقال يعني الانتقال من مرحلة إلى مرحلة مختلفة أو نقيضة. مثلاً في المجال السياسي، يفترض أن تكون المرحلة الانتقالية مرحلة انتقال من نظام استبدادي إلى ديمقراطي. إلى أي حدّ يمكن الحديث عن هذا الانتقال، إذا كانت حتى الكلمة نفسها غير مقبولة؟ على سبيل المثال، كلمة "الديمقراطية"، رغم وجود خلافات عالمية حول الليبرالية أو الاشتراكية، فإن الديمقراطية تعدّ من أكثر المصطلحات التي تحظى بقبولٍ عالميٍّ. حتى بوتين لا ينقدها، بل ينتقد الليبرالية.
من ناحية أخرى، يوجد تمييز جميل ومهم بين مسألة العدل والخير. فإلى أيّ حد ترى أن هناك فرضًا لمفهوم الخير في المجال العام؟ هناك رؤية تقول إن الإسلام، مقارنة بالأديان الأخرى، هو أكثر الأديان محاولة لفرض حضوره في المجال العام؛ إذ يهم المسلمين أن يكون لهم حضور في المجال العام. ذكرت أن العدل يُفرض من قبل الدولة، بينما الخير متروك للأفراد. إلى أيّ حد ترى أنه يمكن للإسلام السياسي، انطلاقًا مما سبق، أن يترك مسألة الخير للأفراد؟ هل هناك اختلاف في هذه المسألة بين الإسلام الحركي والمسلمين بشكل عام؟
د. ساري حنفي:
شكرًا على السؤال دكتور حسام، في الحقيقة، أنا لا أرى من حيث المبدأ أي استثناء إسلامي؛ يعني كل الأديان في لحظة من اللحظات كانت جزءًا من مرحلة معينة، وكان وجودها مرئيًّا في الفضاء العام. هذا كان أمراً مهمًّا جدًّا، ليس فقط دعويًّا ولكن جزءًا لا يتجزأ من طقوسيتها. نرى هذا بوضوح في الهند مثلاً، في ما يتعلق بالهندوس والسيخ، في ارتداء اللباس عند الرجال، وهكذا. فبالتالي أريد أن أبدأ بعدم استثنائية الإسلام.
النقطة الثانية، هي أن المشكلة تكمن في مفهوم الخير؛ يعني أن مفاهيم الخير غالباً ما تدخل في منافسة وأحياناً في صراع. يعني، حسام، أنت تحبّ تدخين "الشيشة"، هل هذا يضر بالآخرين؟ مفهومك للخير قد يعني أنه من حقك تدخين "الشيشة"، لكن هل من المفترض أن تمنع الدولة التدخين في الفضاء العام؟ الموضوع في تنافس على مفهوم الخير، وهناك حد أدنى من إدارة يتم القيام بها من قبل الدولة، لكن يبقى المبدأ الرئيس، أنه إذا كان مفهوم الخير لا يضر الآخرين، فهذا ليس من شأننا، ولا يمكن للدولة أن تتدخل فيه. أذكر ذلك؛ لأن هناك رهانات كبيرة على الأخلاق العامة، وألا يحدث تنميطٌ، إلا إذا كان هناك ضرر حقيقي ومباشر لمجموعة ما. وهذا لا يشمل مثلاً فكرة أن المرأة غير المحجبة تشكل فتنة، فهذا ليس بالأمر المهم. الأهم هو أن السياق في المجتمعات، أو في مفهوم الليبرالية، هو الأهم من النتيجة. هل كان هناك حوار بين الناس لتخفيف التوترات حول مفهوم الخير؟ هل كان هناك نقاش بين الناس لتحديد أين يعتبر التمييز وهل هناك عدل؟ هل الدولة السورية اليوم، القيادة الجديدة في سوريا، تسير في هذا الاتجاه؟ في الحقيقة، حتى الآن نعرف أن الحريات الشخصية مثل اللباس والشرب وغيرها ما زالت مصونة في سوريا.
الأستاذ محمد محفوظ قال إن هناك فرقًا بين المرحلة الدعوية ومرحلة الدولة. هل لا يزالون في المرحلة الدعوية؟ الرئيس أحمد شرع ذكر أكثر من مرة أنهم سيسيرون في الاتجاه القانوني، وكانت القضية تقنية، لكن هناك قضية دستورية ومبدئية؛ بمعنى أن الأهمية تكمن في الحريات بغض النظر عن التقنيات.
أنا لا أهدف إلى القول إنهم قد بلغوا مرحلة ديمقراطية، لكن ما ألاحظه هو وجود حساسيات في استخدام مصطلح "الديمقراطية". وقد كتبت عن هذا الموضوع، خصوصاً في مقابلة "أحمد الشرع" مع الـ BBC، حيث سُئل عن رؤيته لسوريا كدولة ديمقراطية، فأجاب بأنها ينبغي أن تكون دولة دستورية يحكمها القانون وتجرى فيها انتخابات. لكن هل هذا يعادل الديمقراطية؟ في الحقيقة، الديمقراطية أوسع وأشمل من مجرد وجود دستور وانتخابات.
الرئيس السوري، حتى الآن، يصر على استخدام مفردات معجمية تنتمي للحقل التداولي العربي الإسلامي، ويبدو أن لديه حساسية من استخدام بعض التعبيرات بما في ذلك "مفهوم المواطنة". على سبيل المثال، في مقابلة قبل أسبوع في التلفزيون السوري، استخدم مصطلح "المواطن"، رغم أنه في الواقع يتحدث بلغة تتعلق بالمكونات. هل هو واعٍ بهذا الفرق؟ في رأيي، هو ليبرالي أكثر من الأوروبيين الذين يتحدثون عن حماية الأقليات، وهو يتحدث عن حماية المكونات.
إذا نظرنا إلى مفهوم المواطنة، فإنه يبدو أنه يتم تدريجيًّا تبني بعض المفاهيم التي نستخدمها في العلوم الاجتماعية واللغة الليبرالية، ولكن ليس بالمعنى النظري العميق والمفصّل، بل بمعنى التوازن بين الحريات والمساواة وأهمية الفرد. إذا أخذنا هذا التعريف لليبرالية، فيمكننا القول إنه يتحرك شيئًا فشيئًا في هذا الاتجاه.
نعم، أتفق معك، دكتور حسام، فهو لا يستخدم مصطلح الديمقراطية بشكل مباشر، ولذلك هناك حالة من الترقب والانتظار. وربما سأختم هنا بالإشارة إلى التساؤلات التي طرحها الدكتور هاني نسيرة حول ما إذا كان سيتم السير في هذا الاتجاه أم لا. لكن في الواقع، لا أحد يمكنه الجزم، سواء كان ذلك في سوريا أو تونس أو مصر أو ليبيا أو المغرب أو حتى في الأنظمة الخليجية. لا نعرف ماذا سيحدث خلال عام أو عامين؛ فالأمر لا يقتصر فقط على الأنظمة الإسلامية أو غيرها، بل يتعلق بالنخب السياسية الحاكمة بشكل عام، حيث لا تحكم وفقًا لنظم ديمقراطية واضحة.
لهذا، أصبحت لديّ حساسية تجاه فكرة أننا نركز فقط على هذه الأنظمة بعينها، بينما في الحقيقة، لا نعرف كيف ستتطور الأوضاع في أيٍّ من هذه الدول. الديمقراطية ليست مجرد شعار، وإنما عملية تحتاج إلى توجيه ومتابعة، وليس فقط التصفيق لحالة غامضة وملتبسة، بل يجب أن نكون قادرين على تقييم المسار بشكل نقدي، والقول إن ما يحدث غير كافٍ، وإن هناك حاجة لمزيد من التوضيح والتطوير، وشكرًا لكم.
د. حسام الدين درويش:
سأنتقل الآن إلى الدكتور محمد. طبعًا، يمكن لكلّ شخص أن يعلق على ما قاله الزملاء والأصدقاء، لكن هناك سؤال محدد أودّ طرحه. يبدو أن مداخلتك تتضمن توجهين أساسيين، وهما موجودان لدى الكثيرين، لكن من الصعب ضبط العلاقة بينهما. من ناحية أولى، قلت إن السلفيين لا يستطيعون إدارة دولة، وهذه عبارة حاسمة وقاطعة، تحمل دلالة قوية جدًّا. لكن من ناحية أخرى، في معظم النقاط التي طرحتها لاحقاً، يبدو أن هناك احتمالات متعددة، وأفقًا مفتوحًا، وإمكانيات متنوعة. ما أريد قوله هنا إن ذلك ليس مجرد زلّة لسان أو فكرة عابرة، بل هناك تناقضٌ واضحٌ، في هذا السياق. عندما نستمع إلى التنظير السلفي، قد لا يعجبنا أو لا نقبل به تمامًا، لكن عندما نرى بعض تطبيقاته على أرض الواقع، قد نجدها مختلفة. فإذا انطلقنا من الأسس الفكرية لماهية الجهادية أو السلفية، فقد نصل إلى الاستنتاج الذي ذكرته، وهو أن السلفيين لا يستطيعون إدارة الدولة؛ لأنهم في الأصل لا يؤمنون بها كنظام سياسي حديث.
فكيف يمكننا التوفيق بين هذين التوجهين المتناقضين أحيانًا، حيث توجد نظرة مسبقة للجهادية تراها غير قابلة للتكيف مع الدولة، بينما الواقع يُظهر أن هناك احتمالات حقيقية لتكيفها وتلونها وفقًا للسياق والظروف، كما أشار الدكتور ساري؟ كيف يمكننا فهم هذه الجدلية في إطار أوسع يأخذ بعين الاعتبار تحولات السلفية ضمن متغيرات الواقع والدولة؟
د. محمد محفوظ:
شكرًا لك. بالطبع، الحكم الذي ذكرته استعرته من كلام الدكتور سلمان العودة، وهو عالم سلفي سعودي معروف. لقد طرح هذا الحكم في برنامج "الشريعة والحياة" على قناة الجزيرة. ولذلك، أعتقد أن "السلفية المدرسية"، إذا أردنا مناقشتها وفقًا لما قرره علماء السلفية، لا تتحدث عن الدولة كمؤسسة ثابتة. لهذا، أقول إن السلفية المدرسية لا ترقى إلى بناء دولة، ولا تمتلك المؤهلات العلمية والتدبيرية لإدارة دولة.
هل يستطيع السلفيون الاستفادة من تجارب الآخرين، سواء الفكرية أو الدستورية أو السياسية، وتبني أفكار جديدة في بناء الدولة؟ نعم، يستطيعون ذلك. ولكن هناك فكرة أساسية أودّ أن أؤكدها، وهي أنني لا أعتقد أن غير الفاعل المدني يستطيع بناء دولة. فإذا كنا نتحدث عن "الإسلام الحركي" بوصفه فاعلًا مدنيًّا، فهو الذي يمتلك القدرة على بناء الدولة. أما "الإسلام الحركي" الذي لا يتمتع بهذا التأهيل المدني، فأنا أرى أنه غير قادر على بناء الدولة. هذا الحكم قاسٍ بعض الشيء، لكنه دقيق إذا تحدثنا عن الفاعلية السياسية والمدنية.
إذا نظرنا إلى الإسلام الحركي بوصفه فاعلًا مدنيًّا، فإن هذا هو الشرط الأساسي لبناء الدولة، أو على الأقل لتبني نموذج بناء الدولة. وعلم السياسة هو علم تجريبي، يقوم على التعلم من الأخطاء. غير أن الواقع السياسي الحالي لا يسمح بالأخطاء، حيث أصبحت هذه الأخطاء مكلفة على مستوى الاستقرار السياسي والاجتماعي للدول. ولهذا، أقول إن السلفية المدرسية ليست مؤهلة لبناء دولة؛ لأنها ليست فاعلًا مدنيًّا في الاجتماع السياسي. وبالتالي، فإن غير الفاعل المدني لا يستطيع بناء دولة.
أنتقل إلى الأستاذ محمد أمير. سؤالي له مرتبط بما ذكره حول الشيخ جمال الدين القاسمي وغيره من علماء السلفية. هل السلفية القديمة هي ذاتها السلفية المعاصرة؟ أعتقد أن السلفي المعاصر يختلف عن النموذج الذي طرحه جمال الدين القاسمي أو غيره من العلماء التقليديين السلفيين، لا سيما في سياق السلفية الشامية.
في الواقع، بعض النزعات التكفيرية التي سادت في السلفية المعاصرة تنتمي إلى السلفية الشامية؛ إذ إن ابن تيمية نفسه كان سلفيًّا شاميًّا. لذا، عندما أطرح هذا السؤال، أريد معرفة ما إذا كانت السلفية المعاصرة تلتزم بما قاله علماء مثل القاسمي، الذين توفوا في أعوام 1919، 1914، 1969، وغيرهم؟
د. حسام الدين درويش:
السؤال واضح، والاختلاف مؤكدٌ، لكن نحتاج إلى تحديد أوجه هذا الاختلاف.
إذا كان السؤال واضحًا، سنعود إليه لاحقًا، ولكن من المؤكد أنه مختلف، وسنوضح هنا ما هو هذا الاختلاف. الآن، سأنتقل إلى الدكتور هاني، وأعتقد أن الأستاذ محمد أمير سيتحدث بعدك، ولكن مع ذلك، سأبدأ أولًا مع الدكتور هاني.
أودّ أن أشير إلى نقطتين استخدمتهما في حديثك، وأرى أنهما تحملان دلالات مهمة، إذا أخذناهما بجدية. المسألة التي طرحتها حول الإسلام الحركي الحالي الذي يتولى السلطة في سوريا، ويتبنى خطابًا تصالحيًا أو تسامحيًّا وحواريًّا، تثير تساؤلًا مهمًّا. في رأيي، التصالح ليس هو القضية الأساسية، فأنا أفهم المعنى العام الإيجابي لما ذكرته، لكنني سأذهب إلى الحد الأقصى في تحليل هذه المسألة. أنت تعلم أن التسامح في المجال السياسي لم يعد يُنظر إليه كفضيلة، بل أصبح يُعدّ ضعفًا أو حتى رذيلة في بعض الأحيان. فإذا كنا نمنح الآخر حقوقه من منطلق "السماح له" بأن يكون مختلفًا دينيًّا، أو أن يصلي أو لا يصلي، فهذا ليس تسامحاً حقيقيًّا، بل هو تعامل فوقيٌّ من موقع السلطة. التسامح بهذا الشكل قد يكون شكلًا من أشكال الإقصاء غير المباشر.
ما هو مطلوب فعلًا ليس مجرد التسامح، بل الاعتراف المتبادل والندية. من هنا، أرى أن هناك فرقاً جوهريًّا بين الموقف الحواري والموقف التسامحي؛ فالموقف التسامحي قد ينكر أصلًا حق الآخر. أما الموقف الحواري، فينطلق من الاعتراف به كندٍّ، ومن ثم، يقرّ بحقه في الاختلاف.
سؤالي لك، وأنت الخبير في الإسلام الحركي: إلى أي مدى يمكن لهذا التيار أن يعترف بالآخرين ويقرّ باختلافهم، ليس من باب التسامح معهم، كطوائف أو مكونات اجتماعية، بل من باب الاعتراف الفعلي بحقهم في هذا الاختلاف، ليس فقط كجماعات، بل كأفراد لهم حقوقهم الكاملة في أن يكونوا مختلفين.
هذا يقودنا إلى مسألة أعمق تتعلق بالتنظير من جهة، والممارسات التاريخية من جهة أخرى. استنادًا إلى خبرتك في الإسلام الحركي الحاكم حالياً، كيف ترى تعامله مع هذه المسألة على المستوى العملي؟
د. هاني نسيرة:
أنا سأتحدث بسرعة، أرجو منك أن تعذرني، وسأبدأ بالإجابة عن سؤال أستاذنا الدكتور ساري حنفي. لماذا؟ ربما يكون الأمر مجرد قناع، ونحن ننتظر ما سيحدث. أنا أتفق معك تماماً، فنحن نراهن على مستقبل العالم العربي عموماً، لكنه يظل مستقبلًا غامضاً، تائهاً في مقدماته الحاضرة، وتائهًا في استراتيجياته ورؤاه. ليس لدينا يقين بشأن المستقبل البعيد، ربما في مجالات غير الدولة مثل التنمية أو الاقتصاد أو الحروب، ولكن فيما يتعلق بمن سيتمكن من إحداث تحول ديمقراطي أم لا، لا يمكننا أن نتيقن من ذلك أبدًا. فالوضع في سوريا يشبه الوضع في غيرها من البلدان، ولذلك أتفق معك.
أما بالنسبة إلى سؤالك، دكتور حسام، فهو سؤال مهمٌّ. عندما أتحدث عن التسامح السياسي، فأنا أعني به المفهوم العام، ولكن في الحقيقة، حتى يكون التسامح فعّالًا، لا بد أن يكون نابعاً من إيمانٍ بحقّ الاختلاف وواجب الاعتراف به. لا أقول إن هذه المرحلة قد تحقق فيها ذلك، ولكن خلال الأيام القادمة سينطلق الحوار الوطني في سوريا، وهو خطوة نحو التصالح وإبداء النية الصادقة للتسامح. هذه الفكرة قد تثير الشكوك حول مدى صلابة وقوة جهاد، وتطوراته المحتملة خلال السنوات الخمس أو الست الماضية قبل دخوله دمشق، ولكنه لم يأتِ بخطابٍ إقصائي أو انتقامي، رغم أن بعض مؤيدي الحراك السوري الجديد أو بعض الجهات الأخرى قد دعوا للانتقام من الأقليات، أو من أنصار النظام السابق، أو من بعض المناطق أو الطوائف المختلفة، لكننا لم نسمع منه خطابًا يدعو إلى ذلك، بل حتى خلال زيارته الأخيرة إلى اللاذقية، كانت تعكس استعداده للانفتاح على الآخرين والتواصل معهم.
أما فيما يتعلق بالأفراد، فلم يتم التعرض إليهم بشكل واضح. وقد التقط الناس فقط ذلك الموقف الذي حدث عندما رفضت إحدى الفتيات التصوير معه، فقال لها: "غطي شعرك". كما أشار الدكتور ساري، كان من الواضح أنه لم يرغب في أن يُمسك عليه هذا الموقف، وبعدها التقط الصور مع عشرات الفتيات. نحن تمنينا أن نكون برفقته وقتها.
أريد أن أقول شيئًا مهمًّا، هذا الرجل يُقرأ من زاويتين؛ الأولى، من منظور المدنيين الذين ينتظرون دولة مدنية، والثانية، من منظور أنصاره الذين يقفون خلفه، بالإضافة إلى التنظيمات الأخرى المنافسة له في الساحة الدينية. ذات يوم، أخبرني الأستاذ طارق البشري، رحمه الله، عن حديثٍ دار بينه وبين أحمد حسين، زعيم حزب "مصر الفتاة"، حيث كان الأخير معروفاً بتحولاته وتقلباته الأيديولوجية، متنقلًا من حزب "مصر الفتاة" إلى "حزب العمل الاشتراكي" ثم "حزب العمل الإسلامي". وفي أحد الأيام، كان يجلس مع الشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وتحدث معه عن التجديد والتطور، فقال له البنا بذكاء: "أنا خلفي تنظيم ثقيل، إذا قفزت به، سيسقط". هذا الوعي بوجود جماهير ذات طابع ديني، وبوجود منافسين في ساحة الجماعات الدينية، لا يزال حاضرًا. فالمسألة تتطلب استيعابًا لهذه الجماهير، ودعوتهم لنزع السلاح، وفهم السياق الذي يتحرك فيه كل فاعل، وكذلك إدراك طبيعة المخاطبين، والتباين القائم بينهم، وهذا أمر لا بد من أخذه بعين الاعتبار في أي قراءة للوضع الحالي.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً، وأنتقل فورًا إلى الأستاذ محمد أمير. طبعًا، لقد انتبهتَ إلى أن هناك سؤالًا موجّهًا إليك مسبقًا، ولكن الأسئلة التي تبدأ بـ "هل" تكون إجابتها سهلة، إما بنعم أو لا، وانتهى الأمر. أما سؤالي، فلن يكون كذلك.
سؤالي هو: برأيي، من الضروري تقييم الوضع أو وصفه في سوريا اليوم من خلال مقارنته بما كان عليه سابقًا. فلا يمكن فهم الوضع الحالي إلا إذا فهمنا ما كان عليه في الماضي؛ أي في عهد الأسد، لنتمكن بعدها من مقارنته بما هو مأمول أو متوقع.
قلتُ إن سوريا شهدت تغييرات هائلة، حتى وإن لم يحدث انتقال كامل. على الأقل، في قطاعات ومجالات واسعة، طرأ تغيير كبير، لا سيما في مسألة الحريات السياسية. لقد انتقلنا من ثقافة الخوف إلى وضع مليء بالمخاوف، لكنه ليس خوفًا بحد ذاته. المخاوف تعني أن هناك احتمالات مختلفة قد تحدث، لكن لم يعد هناك ذلك الرعب الشامل. الناس اليوم تعبر عن آرائها بحرية في كل المجالات، والفضاء العام مفتوح للنقاش. السوريون الآن أكثر انخراطًا في الشأن السياسي ربما أكثر من أي شعب آخر في العالم؛ إذ يناقشون ويتداولون الأفكار باستمرار.
عندما ذكرتَ أنك لا تخاف، خطرت لي فكرة، وهي أن الوضع الآن متغير وغير مستقر، كما قال الدكتور هاني وآخرون. يمكن أن يسير في اتجاهات مختلفة، وليس لدينا حتى الآن بنية قوية ومتينة تحسم المسار. ولكن رغم ذلك، قدمتَ لنا الكثير من المؤشرات التي تدفعنا لرؤية احتمالات إيجابية حقيقية. ومع ذلك، ألا ترى أن هناك مشروعية للمخاوف أيضًا؟ ليس الأمر لمناقضة ما تقول، بل لاستكمال الصورة، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أننا انتقلنا من الخوف إلى المخاوف.
أ. محمد أمير ناشر النعم:
في أصل النص، هناك تفصيل لحالة معينة، وهو تفصيل يتضمن رغباتنا وأمانينا. فنحن لا نتحدث فقط عن الواقع، بل عن الأمور التي نرغب بها ونتطلع إليها. نحاول استلهام شيءٍ كان موجودًا في التاريخ الحديث وربما المعاصر، ونسعى لإثبات نقاط محددة من أجل تجاوز المخاوف المشروعة والواقعية التي نواجهها.
لكن في تصوري، فإن هذه الرغبات التي نحملها ليست مجرد أوهام، بل هي مدعومة بتجارب معاصرة سأشير إليها الآن في إجابتي على الأستاذ محمد محفوظ.
عندما نتحدث عن ابن تيمية، نجد أنه لم يكن حالة استثنائية في التراث الإسلامي فيما يخص التكفير. فجميع المذاهب الفقهية - الحنفية، الشافعية، الحنبلية، المالكية، الإمامية، والزيدية – تحمل في تراثها فتاوى تكفيرية بنسب متقاربة. لكن ابن تيمية أصبح أكثر بروزًا في هذا المجال، ليس فقط لأنه كان عالماً مميزًا، بل لأن فكره كان مدعوماً من الدولة، ولأن له تجليات جهادية وقتالية أكثر من غيره. ولهذا السبب، فإن تسليط الضوء عليه يصبح مفهومًا ضمن هذا السياق.
لكن لو نظرنا إلى الفكر السلفي في الشام المعاصر، لوجدنا تجربة تستحق الاهتمام ولم يُسلَّط عليها الضوء بعد، وهي تجربة جمعية التمدن الإسلامي التي أسسها الأستاذ أحمد مظهر العظمة بالتعاون مع الشيخ بهجت البيطار والدكتور الخاني، إضافةً إلى شخصيات بارزة أخرى مثل علي الطنطاوي وسعيد الأفغاني وغيرهم. فهذه الجمعية، التي تأسست عام 1932 وما زالت قائمة حتى اليوم برئاسة المهندس معاذ الخطيب، قامت بنشر فكر سلفي إصلاحي متنوع. فقد أسست مجلة التمدن الإسلامي التي استمرت لمدة خمسين عاماً، وشارك في كتابتها أكثر من 1200 كاتب من مختلف التوجهات. من أبرز كتابها الشيخ ناصر الدين الألباني، الذي نشر أكثر من 155 مقالًا، إضافةً إلى محمد مهدي الإستانبولي وغيرهم من الشخصيات السلفية المؤثرة. والمثير للاهتمام هو أن المجلة لم تكن حكرًا على التيار السلفي، بل نشرت أيضًا لعلماء من الصوفية مثل عبد الله الصديق الغماري، ومحمد سعيد رمضان البوطي، وعبد الفتاح أبو غدة، وأحمد عز الدين البيانوني. كما نشرت لعلماء شيعة مثل محمد جواد مغنية، ومحمد رضا الشبيبي، ومحسن الأمين، الذي تم التعريف به في المجلة بعبارات احترام وتقدير، مما يشير إلى انفتاحها على التنوع المذهبي. علاوة على ذلك، نشرت المجلة مقالات لمفكرين مسيحيين مثل إيميل الغوري، وجورج شدياق، ونظمي لوقا، وشبلي ملاط، كما تضمنت كتابات لنساء مثل ألفة الأدلبي، وألفة الصواف، ونديدة العقاد، وغيرهن. هذا يدل على أن التجربة السلفية الشامية التي مثلتها الجمعية لم تكن تكفيرية أو إقصائية، بل كانت قائمة على مبدأ الشراكة والتعددية.
أما على مستوى العمل الميداني، فقد وظفت الجمعية معلمين مسيحيين في مدارسها، وأسست مستوصفاً خيرياً عام 1959 كان يديره أحد الأطباء المسيحيين. حتى في الانتخابات، انضم أحمد مظهر العظمة إلى قائمة انتخابية ضمت مرشحين مسيحيين ويهودًا، وبارك علماء الدين هذه الخطوة. إضافةً إلى ذلك، قامت الجمعية بفتح فرع لها في قرية بيت الشيخ يوسف في مصياف، في خطوة تهدف إلى مدّ الجسور مع الطائفة العلوية.
إذن، نحن أمام نموذج لسلفية شامية تؤمن بالشراكة والتعددية والانتخاب، ولا تقوم على التكفير أو الإقصاء، بل يمكن القول إنها تقترب من المبدأ القرآني: "نتقبل أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم". على سبيل المثال، في الأربعينيات، كان عبد الرحمن بدوي من رواد الفكر الوجودي، ومع ذلك نشرت له المجلة مقالًا عن النبي محمد (ﷺ)، وعرّفته بعبارات الاحترام والتقدير. هذا القبول للآخر، وهذا التنوع، هو ما يجعل من تجربة جمعية التمدن الإسلامي نموذجًا يمكن تقديمه اليوم لمن يرون أنفسهم سلفيين، وللذين يبحثون عن تجربة إسلامية أكثر انفتاحًا وتعددية.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا، سنحاول الإسراع، فقد تأخرنا بما يكفي. أحاول ألا أقاطع أحدًا، لكن علينا المضي قدمًا. سننتقل الآن إلى السؤال الأخير، الموجه للأستاذ أحمد، وبعده مباشرة سنفتح المجال لمن لديه مداخلة أو سؤال، فجهزوا أنفسكم.
أستاذ أحمد، دعني أطرح السؤال الإشكالي: إحدى المسائل المعرفية التي سعت هذه الندوة إلى تسليط الضوء عليها هي أن القضايا أكثر تعقيدًا مما يُعتقد، فلا توجد رؤية واحدة أو موحَّدة لما يُعرف بالإسلام الحركي، فهو متنوع ويشمل أطرافاً مختلفة. حتى عند الحديث عن "الإسلام الجهادي"، نجد داخله تيارات متعددة مثل السلفيات الجهادية وغيرها، مما يجعل التوصيف والتقييم أمرًا معقدًا.
ما أثار اهتمامي في حديثك هو أنك حاولت الربط بين تيارين، رغم أن هذا الربط يبدو ضعيفاً في الحالة السورية، وهما: التيار السلفي والتيار الإخواني. كما تعلم، الإخوان المسلمون والتيارات السلفية يختلفان فكريًّا ومنهجيًّا، ولا يبدو أن هناك رابطًا قويًا بينهما حاليًا، سواء سياسيًّا أو فكريًّا.
بناءً على ذلك، ألا تعتقد أن هذا الربط قد يكون غير مبرر؟ وهل ترى أنه لا يزال هناك تأثيرٌ متبادلٌ بين الحالة السورية والإخوان المسلمين في مصر، على الرغم من ضعف الروابط الأيديولوجية أو السياسية بينهما داخل سوريا نفسها؟ وكيف يمكن أن يُبنى هذا التأثير أو يُرفض تمامًا؟
أ. أحمد زغلول شلاطة:
أنا متفق على وجود اختلاف بين الرؤية السلفية الجهادية والفكر الإخواني في سوريا، كما أن الروابط بينهما ضعيفة، سواء داخل سوريا أو فيما يخص الإخوان المسلمين بشكل عام. لكنني تحديدًا لاحظت مشهدًا معيناً يعكس حالة من الاحتفاء داخل أوساط الإخوان في مصر، حيث طالب بعضهم بالتراجع عن فكرة "السلمية"، وهو الشعار الذي رُفع بعد عزل الجماعة من الحكم عام 2013. بدا وكأن هناك رغبة في تكرار سيناريو مختلف، رغم أن الإخوان المسلمين في مصر مروا بتحولات كبيرة، ووُجهت إليهم اتهامات تتعلق بممارسة العنف المحظور قانونيًا، فضلًا عن صدور أحكام بالسجن لسنوات طويلة، بل وأحكام بالإعدام والمؤبد بحق العديد من أعضائهم. في المقابل، نجد أن المشهد مع أبي محمد الجولاني مختلف تمامًا؛ فقد كان مصنفاً على قوائم الإرهاب، وأعلنت الولايات المتحدة مكافأة مالية ضخمة لمن يدلي بمعلومات عنه. لكن فجأة، انهارت هذه المطالبات وتم تجاهلها، بل وأصبح هناك نوع من الاحتفاء به. بناءً على ذلك، يبدو أن الإخوان المسلمين حاولوا، أو يحاولون، إيصال رسالة ضمنية مفادها: "بغض النظر عن كوننا جماعة محظورة، يمكننا تغيير الأوضاع عبر استخدام القوة، كما فعل الجولاني، الذي نجح بالسلاح ونال القبول، فلماذا لا نحظى بالقبول ذاته؟"
هذه هي الفكرة أو "اللقطة" التي حاولت البحث فيها؛ أي تأثير تحولات الجولاني في سوريا على الأزمة السياسية وموقف الإخوان المسلمين، رغم إقراري بأن هناك تباينات كبيرة بين الطرفين. الإخوان المسلمون لديهم منظومة فكرية واضحة ومتجذرة منذ أكثر من مئة عام، بينما السلفية الجهادية تمتلك رؤية مختلفة تمامًا، وقد شهدت العلاقة بينهما تلاسنًا وخلافات طويلة على مدار العقود. لكن في لحظة معينة، حصلت تحولات جوهرية، وهو ما أحاول التركيز عليه من خلال منهج الحركات الاجتماعية في سياق سياسي، حيث تتحكم الفرص السياسية في مسارات التنظيمات. وهذا ما حدث في مصر، حيث تم تبني العنف في لحظة معينة بعد فترة طويلة من الالتزام بالسلمية، وفي سوريا أيضًا، شهدنا تحوّلًا من فاعل مسلح معزول إلى فاعل سياسي محلي، تبنى الثورة السورية بدلًا من فكرة الخلافة أو الارتباط بتنظيمي القاعدة وداعش. هذه هي الفكرة التي حاولت استعراضها وتحليلها.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا؛ إذا أخذنا الأطروحة الأولى التي طرحها الدكتور أنس، والتي تؤكد على ضرورة تبنّي رؤية واقعية؛ أي أن ننظر إلى ما هو ممكن وما هو متاح في الواقع ونعمل ضمن هذا الإطار حتى لا نقع في الوهم أو في مساعٍ غير واقعية- فإن هذه تمثل رؤية منهجية أساسية؛ بمعنى أنه عندما نتناول هذا الموضوع، علينا أن نبحث فيما هو ممكن وواقعي، وليس فقط فيما نرغب في تحقيقه.
من ناحية أخرى، طرح الدكتور سهيل الحبيب مسألتين جوهريتين: الأولى هي بناء الدولة، والثانية هي تأسيس نظام ديمقراطي ليبرالي. إذا انطلقنا من هاتين المسألتين، وبالنظر إلى الحالة السورية تحديدًا، فالسؤال المطروح هو: هل يسمح الواقع الحالي، في ظل التزامنا بالرؤية المنهجية التي تتحدث عن الممكن والواقعي، بالسعي نحو بناء الدولة، بينما نحن ندرك أن الدولة السورية حاليا منهارة بكل المعاني، سواء من حيث الأرض، أو المؤسسات، أو الهوية الوطنية، أو حتى الشعب نفسه؟
وهنا، إذا أضفنا إلى هذا النقاش ما أشار إليه الدكتور عبد السلام شرماط حول ضرورة بناء دولة وطنية موحدة وديمقراطية وليبرالية، فهل يمكن تحقيق ذلك في المرحلة الحالية؟ أم إننا، لكي نكون واقعيين، بحاجة إلى تراكم تاريخي طويل يسبق بناء الدولة، حيث تتشكل الدولة أولًا، ثم تتوحد مؤسساتها، وتنشأ الأحزاب، وتتبلور الحياة السياسية بشكل تدريجي؟
إلى أيّ حدّ، من منظور معرفي، يمكن القول إن بناء الدولة والنظام الديمقراطي الليبرالي أمر ممكن حاليًا؟ الأستاذ أمير أشار إلى وجود رؤى رغبوية؛ أي إننا غالبًا ما نتحدث عمّا نرغب في تحقيقه، لكن إذا اقتصرنا فقط على رؤية معرفية رصينة تحاول التركيز على ما هو ممكن فعليًا، فما هو الحد الذي يمكننا بلوغه في بناء الدولة والنظام في سوريا اليوم؟
د. ساري حنفي:
أشكر جميع المتداخلين على أسئلتهم، وأحيي الصديق سهيل. للتوضيح، أنا لا أعرفه شخصيًّا، لكنني أعلم أنه باحث مهم في علم الاجتماع الديني على المستويين التونسي والعربي، فأهلاً وسهلاً به.
في الحقيقة، أودّ أن أقول إنه من الضروري أن نبتعد عن التحليلات التاريخانية التي تركز فقط على الحركات السلفية والجهادية مثل داعش وغيرها. نحن أمام نُخَب تتمتع بمرونة واضحة داخل سوريا، وهذه المرونة تتفاعل مع المعطيات الموجودة على الأرض.
د. حسام أنت أشرت إلى نقطة مهمة جدًّا، وهي أن الدولة السورية تسعى اليوم للبقاء والاستمرار كمجتمع. لقد زرت سوريا مرتين، وسأعود إليها يوم الأحد القادم. ما لاحظته هو أن الناس هناك يطرحون أسئلة كبرى حول مستقبلهم، وليس مجرد تساؤلات سطحية مثل ما إذا كان وزير الخارجية قد صافح شخصية معينة أم لا. السوريون اليوم يسألون عن سبل البقاء، لكن في الوقت نفسه، هم يدركون أنهم دفعوا ثمنًا باهظًا من أجل الحرية، وليسوا مستعدّين لاستبدال استبداد النظام السابق باستبداد آخر تحت غطاء الشرعية الدينية.
هناك ديناميات داخلية مهمة يجب ملاحظتها. الأستاذ محمد ذكر موضوع الجيوسياسة، وبالفعل، لعبت العوامل الجيوسياسية دورًا كبيرًا. لكن ما يميز القيادة الجديدة في سوريا هو قدرتها على الموازنة في علاقاتها الدولية. على سبيل المثال، في البنك المركزي السوري، هناك طابق يعمل فيه خبراء أتراك، وآخر يضم خبراء سعوديين، وهاتان الدولتان كانتا أول من أدرك أهمية إصلاح النظام المالي السوري.
من الضروري ألا نختزل القيادة الجديدة في التيارات السلفية. هناك مستشارون للقيادة الجديدة ينتمون إلى مشارب إخوانية، بل إنهم بدأوا الآن بالاستفادة من خبرات شخصيات مخضرمة كانت جزءًا من الائتلاف السوري المعارض، بمن فيهم شخصيات يسارية. كما تم تعيين 12 سفيرًا جديدًا، دون أن يكون أيٌّ منهم مرتبطًا بهيئة تحرير الشام.
إذا نظرنا إلى الوضع من منظور نظري، فإن أفضل نموذج للحكم هو النظام الديمقراطي الليبرالي. لا نقول إن أيّ دولة تطبّقه بشكل كامل، حتى الولايات المتحدة لديها استثناءات، لكن يمكننا أن نقيس مدى اقتراب القيادة السورية الحالية من هذا النموذج، أو على العكس، مدى انجرافها نحو نموذج استبدادي. الخوف هو أن تكون هناك تعددية شكلية فقط، حيث تضم الحكومة الجديدة وزراء من مختلف الخلفيات، نساءً ومسيحيين وأعضاء سابقين في الائتلاف، لكن في النهاية، تظل السلطة الفعلية محصورة في يد الرئيس، كما كان الحال في عهد الأسد.
حتى الآن، تشير المؤشرات الإيجابية إلى أن سوريا تتجه بشكل أكبر نحو نموذج ديمقراطي ليبرالي، أكثر من كونها تتجه نحو نموذج استبدادي. وهذا ليس مجرد تحليل، بل بناء على المعطيات الحالية، مثل تركيبة اللجان التحضيرية، والأشخاص المشاركين فيها، والنقاشات التي تدور في الداخل السوري. كل ذلك يعكس حراكًا جديدًا وتفاعلًا مهمًّا قد يؤدي إلى تحول إيجابي في المستقبل.
د. حسام الدين درويش:
كنت قد رشحتُ أستاذنا أمير أو الدكتور محمد محفوظ للتعليق على السؤال، ولكن إذا كان هناك تعليق بسيط، فليكن بسرعة. إن الواقع الحالي لسوريا يشمل الدولة كمؤسسة، والأرض، والشعب، بكل أبعاده المادية والمعنوية. هل، إذا كنا واقعيين، يمكننا أن نطمح في المستقبل القريب إلى تأسيس دولة وطنية وإقامة نظام ديمقراطي ليبرالي؟ هل يُعدّ هذا الأفق ممكنًا من الناحية المعرفية؟
د. محمد محفوظ:
دكتور، أعتقد أن جوهر الإشكالية الحقيقية التي تعاني منها سوريا حاليا ومستقبليًّا، يكمن في الانتقال من دولة صلبة إلى دولة رخوة. ففي ظل النظام السابق، كانت الدولة صلبة، أما الآن، وبسبب التغيرات والتدمير الذي حدث، إضافة إلى التدخلات الأجنبية، فقد تحولت الدولة إلى دولة رخوة. وفي الدول الرخوة، لا يمكن بناء ديمقراطية؛ لذا، فإن الحديث عن الديمقراطية في الوقت الحالي هو مجرد طموح مشروع، لكنه يظل فكرة رغبوية. الأهم من ذلك هو التركيز على ضرورة بناء "دولة الإنسان"، حيث يُحترم الإنسان السوري في وجوده وحقوقه. وقبل الوصول إلى الدولة الديمقراطية ودولة المواطنة الناجزة، ينبغي أن نعمل على تأسيس دولة الإنسان؛ لأن هذه الدولة تمثل المرحلة الانتقالية بين الدولة الصلبة والدولة الديمقراطية والوطنية.
د. حسام الدين دوريش:
شكرًا لك، أستاذ أمير، هل ترغب في التعليق هنا؟ هل بإمكانك تحديد إلى أيّ مدى يمكننا أن نكون واقعيين؟ بالطبع، يمكننا أيضًا تخفيف الصدمة التي قد نواجهها؛ بمعنى آخر، عندما نكون واقعيين، هل يمكننا تحديد الأفق الذي قد يكون ممكنًا في المنظور القريب؟
أ. محمد أمير ناشر النعم:
نعم، الآن، يمكنني التعليق على سؤال الأستاذ عبد السلام عندما ذكر أنه لم يسمع كلمة "وطن" أو "الوطنيّة" في المداخلات جميعها. نعم، أنا ذكرت أن السلفية الشامية الإصلاحية، من سماتها الاعتراف بالدولة الوطنية الحديثة والمشاركة في مؤسساتها. وقد ذكر الأستاذ عبد السلام، هل يمكننا أن نسمي السلفية الشامية بالسلفية الوطنية؟ نعم، في الحقيقة، سيكون من الجميل أن نسمي السلفية الشامية بالسلفية الوطنية الإصلاحية، وهذا أمر مرغوب.
أما بالنسبة إلى حدود الوطن في رؤية السلفية الشامية، بلا شك، فإنهم كانوا يعترفون بالوطن بمعناه القطري، ولكن من خلال مراجعتي لمجمل أعداد مجلة "التمدن الإسلامي"، يمكن القول إن أكثر موضوع يتكرر في هذه المجلة هو القضية الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، القضية الفلسطينية كانت تعتبر بالنسبة إلى السلفية الشامية أمرًا مركزيًّا، وهذا يبرز على الرغم من وجود الاتجاهات القومية الخالصة. وفي هذا المعنى، يمكن القول إن السلفية تحتوي على الجانب الوطني الصميم، وفي الوقت ذاته، تحمل البعد الأوسع للوطن بمعناه القطري. شكرًا جزيلًا.
د. حسام الدين درويش:
دعونا نقول، إن المسألة الفلسطينية أو القضية الفلسطينية أو التوجه العروبي الفلسطيني لدى السوريين كان قويًّا دائمًا. حتى كان حضور القضية الفلسطينية أقوى من مسألة مثل لواء إسكندرون أو غيرها. كان هذا التوجه أكبر بكثير. وهذا يعني أنه في بعض الأحيان كان السوريون يشعرون أنهم فلسطينيون أكثر من كونهم سوريين في توجهاتهم في هذا المعنى. يوجد تعقيب من طرف د. هاني.
د. هاني نسيرة:
أنا فقط أردت أن أقول إن الأصدقاء أجابوا عن أغلب الأسئلة. لديّ سؤال طرحه أخونا الدكتور عبد السلام حول كيفية تصور الإسلام الحركي في سوريا. بالنسبة لي، أعتقد أن مفهوم الوطن، أو مفهوم الدولة الوطنية، قد حصل على شرعيته بشكل كبير، حتى بين الإسلاميين. لا يزالون يفكرون بشكل قطري، حتى في خصوماتهم واستهدافهم لأنظمة ودول معينة؛ فكرة الأمة والخلافة والعالمية قد تراجعت كثيرًا.
في الخطاب السوري الحالي، نرى أن هناك حديثًا عن "سوريا أولًا"، كما نسمع في مصر مثلاً "مصر أولًا" أو "مصر للمصريين". هذا الفكر غالبًا لا يعلق على الأحداث الإقليمية أحيانًا أو لا يتناول العدوان الإسرائيلي، وقد أشار إليه في تصريحات قليلة جدًّا.
أعتقد أن فكرة الوطن قد تم إقصاؤها كثيرًا من خطاب الإسلام السياسي والإيديولوجيا الحركية الإسلامية، وأصبحت مرفوضة كلّياً في خطاب الجهادوى. ومع ذلك، في الخطاب الموجود حالياً لدى الإدارة السورية، ولدى كثيرين، بدأت تعود شرعيتها. وكل الأفكار الأخرى تُعدّ تهويمات وأوهام إيديولوجية مرفوضة. الوطن أصبح هو المحور، رغم أن الأمة كانت هي الأصل في الخطاب الديني. لكن الآن، عاد الوطن كفكرة شرعية. أنا أحببت أن أشارك بهذه الأفكار.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا، دعوني أعلق على التعقيب. كما تعلمون، فإن مصطلح "الوطن" هو مصطلح حديث، لم يكن موجودًا في الأدبيات القديمة، وهو أثر من التوجهات الغربية. لكن، بمعنى آخر، يمكن أن يعود إلى الطهطاوي، غي مصر وهو ليس مفهوماً إسلاميًا بحتًا، وكذلك يعود إلى بطرس البستاني في الشام.
بالنسبة إلى السؤال الذي طرحه الدكتور عبد السلام، فهو يتعلق بصلب المسألة حول العلاقة بالدولة. إلى أيّ حد يمكن اعتبار هذه الدولة "وطنًا" أم إنها مجرد تدمير؟ ولكن على الأقل، يمكن القول إن الاتجاه العروبي في سوريا كان أكثر تطرفاً من الاتجاه الإسلامي في هذا السياق، حيث كان يرفض أن تكون سوريا وطنًا أو دولة. لذلك، هذه ليست مسألة إسلامية فقط، بل هي مسألة تتعلق باتجاهات تتجاوز مفهوم الدولة في هذا السؤال.
دعوني أعلق على النقاط الأساسية التي يمكن تناولها الآن. سأعطي فرصة لكل شخص للختم بما يريد والإجابة عن الأسئلة، ولكن سأحدد الأسئلة الرئيسة:
السؤال الأول: يمكننا مناقشة تجربة إدلب. إلى أي حد يمكن اعتبار تجربة إدلب قاعدة للحكم على الوضع الحالي في سوريا عمومًا؟ هناك من يخاف من تجربة إدلب وتطبيقها على سوريا، بينما يرى آخرون أن ما حدث في إدلب قد يكون نموذجًا يُحتذى أو يُبنى عليه. فالسؤال هنا هو: هل يمكن اعتبار تجربة إدلب معيارًا للتقييم والتوقع؟ خاصة وأن هذه التجربة استمرت لمدة 12 عامًا؟
السؤال الثاني: إذا نظرنا من المنظور السياسي الواقعي، هل من المعقول أن نطلب من جهة تمتلك السلطة، وهي التي وصلت إليها بالقوة، أن تسلم السلطة للآخرين دون أي مقابل؟ أم إن هناك ثمنًا يجب دفعه؟ هؤلاء الذين وصلوا إلى السلطة، كيف سيؤثر ذلك على مسار السلطة أو العملية السياسية؟ وما هو الثمن الذي يمكن دفعه، وهل يمكن أن يتجاوز هذا الثمن إمكانيات بناء دولة ديمقراطية ليبرالية؟
السؤال الثالث: يتعلق بوجود الأقليات أو الاختلافات الدينية والعرقية. إلى أي حدّ يمكن أن يلعب ذلك دورًا إيجابيًّا أو سلبيًّا في سوريا، حيث لا تصبح سوريا لونًا واحدًا؟ كما قال الدكتور أنس، نحن مضطرون للاعتراف بواقع الاختلافات الحقيقية، وهذا ليس مجرد رغبة، بل هو واقع. فهل يمكن لهذا الواقع أن يلعب دورًا إيجابيًّا، رغم وجود مخاوف من الطرفين من بعضهما البعض؟ خاصة وأن الواقع على الأرض قد يكون أقل سوءًا بكثير مما يُنشر في وسائل الإعلام.
المسألة الأخيرة: فيما يتعلق بما ذكره الدكتور ساري، وهو أن البعض يرى أن الإسلام الذي يتسم بالتطرف هو نتاج نصوص دينية ثابتة، وهذا هو جوهره، وأنه لا يمكن إصلاحه. هل هذه الرؤية الفقهية التاريخية قد تشكل عائقاً أمام التغيير؟ إلى أيّ حد يمكن أن تكون هذه الرؤية النصية الثقافية عائقاً في مواجهة الممارسات الحديثة؟ هل يمكن أن تتناقض هذه الرؤى مع الواقع؟ وهل من الممكن أن يؤدي ذلك إلى محاكمات نقدية سواء من الخارج أو داخل الحركة نفسها؟ الأسئلة كبيرة ومعقدة، ولكني حاولت تلخيصها قدر الإمكان. السؤال هو: إلى أيّ حد يمكن اعتبار هذه التجربة معيارًا للحكم عليهم؟
أ. أحمد زغلول شلاطة:
نعم، قد يكون مؤشرًا على المسار، ولكن من المهم الإشارة إلى أن التعامل مع مساحة جغرافية محدودة أو مجموعة ضيقة باحتياجاتها قد يكون إلى حد كبير محدودًا، ولا يمكن تعميمه على نطاق أوسع. أحيانًا، قد تنجح في إدارة مؤسسة صغيرة، ولكن عندما تنتقل إلى مؤسسة أكبر، قد يكون الفشل هو النتيجة؛ لأن المتغيرات مختلفة، التحديات مختلفة، الاستراتيجيات المطلوبة مختلفة، والضغوط الدولية تختلف أيضًا. لذا، من الممكن أن تكون هناك نقاط إيجابية في تجربة إدلب، لكن من غير المؤكد أنه يمكن تكرارها على مستوى الدولة، وربما لا يتم تكرارها.
أنا شخصيًّا أتمنى استقرار سوريا وتجاوز عقود من التمييز والاضطهاد وسوء الإدارة، وكل هذه السلبيات التي كانت في فترات سابقة. وأتمنى التوفيق والنجاح للإدارة السورية، ولكن منطق إدارة الدولة يختلف تمامًا عن منطق إدارة الجماعات. وإذا تكلمنا في ضوء التجربة المصرية، كان هناك تنظيم محكم، وحياة الأفراد كانت تتم بوتيرة دقيقة جدًّا، واحتياجاتهم كانت مجابهة. ولكن عندما تم السيطرة على الحكم بأسلوب ديمقراطي، حاول الإخوان المسلمون تطبيق النموذج نفسه، ولكن لجأوا إلى التنظيم وأدواته في دوائر مختلفة لتلبية الاحتياجات وتجاوز التحديات، ومع ذلك كان الفشل هو النتيجة في النهاية.
د. حسام الدين درويش:
دكتور هاني، بالطبع يمكنك التعليق على أيّ سؤال أو الإجابة عن أيّ سؤال تود مناقشته. لكن، أود العودة إلى السؤال نفسه؛ لأنك الخبير في هذه المسألة، ولديك متابعة دقيقة للتفاصيل واللقاءات والخبرة، ما شاء الله. إلى أي حد يمكن الحديث عن أن تجربة إدلب قد أثبتت نجاحها كما قال الأستاذ عمار؟ وإلى أي حد يمكن اتخاذها معيارًا لتقييم التجارب الأخرى؟ حيث إنك كنت دائمًا متحفزًا بشأن المستقبل المفتوح على الإمكانيات. فهل يمكن الحديث عن هذه التجربة كنموذج يحتذى في هذا الاتجاه؟ أم إن هناك عوامل تجعلها غير قابلة للتطبيق بشكل واسع؟ بعد إجابتك عن هذا السؤال، يمكنك بالطبع التعليق على أيّ نقطة أخرى تجدها مهمة.
د. هاني نسيرة:
أشكرك دكتور حسام. رأيي أن تجربة إدلب، رغم النقد الكثير الذي تعرضت له، كانت تركز على فكرة الخدمات والإدارة، مثل الكهرباء والإدارة العامة، ولكنها في الواقع ليست النموذج الذي يعد لسوريا في المستقبل. حتى إنهم لم يتحدثوا عن إدلب بوصفها النموذج الذي يريدون تطبيقه الآن، بل يتحدثون عن مرحلة سابقة نجحوا فيها ويبحثون عن نجاح أكبر في الإدارة.
أعجبني وصف أحد الكتاب السعوديين عندما قال إنهم يتصفون بالتكنوقراطية، فهو رجل بيروقراطي وديمقراطي في الوقت ذاته، وهو يسعى لإدارة الأمور بشكل فعال. ربما البعض يتحدث عن أدبيات هيئة تحرير الشام، لكنني أعتقد أن الجماعة ليست لديها هشاشة نظرية، بل لديها خبرة عملية وتاريخية كبيرة؛ فقد عاشوا في بيئات معقدة مثل "القاعدة" و"النصرة"، لكنهم في النهاية وصلوا إلى ما وصلوا إليه.
أما بالنسبة إلى السؤال حول التناقض بين النظرية والتطبيق، نعم هناك فجوة كبيرة في الالتزام بالإيديولوجيات العربية والقومية. كما تذكر يا دكتور حسام، فقد وعدونا بالحريات والوحدة والاشتراكية والعدالة الاجتماعية، لكننا نجد أن بعض الليبراليين يتحولون إلى براغماتيين سلطويين، يبررون الاستبداد ويخدمون مصالحهم الشخصية. كثير من الثورات سُرقت، والكثير من الوعود ضاعت. الكلام العفوي الذي يتم تداوله قد يكون مضلّلاً أحيانًا، ولكن في النهاية، المشكلة ليست فقط في الإسلاميين، بل هي أزمة عربية عامة، كما كان يقول الدكتور ساري، لكن التجربة هي التي تحكم. وأنا، كنت أسأل صديقي قريبا، لماذا أفضّل الاستبداد الذي لديه رسالة وقيم حاكمة على الاستبداد الفارغ الذي يسعى فقط للسلطة؟ كما تعرف، فكرة التسلط من أجل التسلط، من أجل أن أكون ملكاً للسلطة والثروة، وملكاً لكل شيء. وفكرة أن الشخص جاء من مخاض تحولات ومرارة وتضحيات.
المسألة كما في الاشتراك المصري، وصديقي العزيز يتحدث عن الفكرة نفسها، أنه مهما وعدوا، في النهاية يتحولون. مثلما قال سيد قطب، لا أعرف، كل شيء يتطور. اليسار المصري اليوم مختلف عن اليسار في الستينيات والسبعينيات. هناك تنوعات داخل كل ظاهرة، في اليسار القريب من الأنظمة، واليسار الذي يقال عنه "إخوان مسلمون متسترون". هذه التنوعات موجودة في الظاهرة الحركية الإسلامية والظاهرة الدينية بشكل عام.
د. حسام الدين درويش:
وجود هذه التنوعات أو معرفتها وإدراكها والاعتراف بها بدلاً من رؤيتها من منظور واحد أحادي وجوهري هو مسألة في غاية الأهمية. وهذه تعدّ إحدى الأهداف المعرفية للندوة، وهي فهم أو إدراك هذه التنوعات بشكل عميق. شكرًا لك.
دكتور محمد، السؤال نفسه، لديك نقطتان ممكن الإجابة عنهما كما تحب:
المسألة الأولى هي التناقض بين النظرية والممارسة. هذا الاتجاه له تاريخ طويل وعريق خلفه، إلى أيّ حد هو عبء أم يتضمن إمكانية التحول. هل تم التحرر من هذا العبء أم لا؟ وكيف تؤثر علاقات القوة في هذه المعادلة؟ أحيانًا نسمع الشعار "من يحرر يقرر"؛ بمعنى أن من لديه القدرة على التحرير يجب أن يكون له دور في اتخاذ القرارات. إلى أي حد يؤثر هذا المفهوم في علاقات القوة؟ هل يجب أن يكون لهذه القوى دور في اتخاذ القرارات بناء على قوتهم، أم بناء على معايير أخرى؟
د. محمد محفوظ:
أعلق تعليقًا بسيطًا على السؤال الذي تفضلت به. بالنسبة إلى السلفية الوطنية التي تحدث عنها الأستاذ محمد أمير قبل قليل، السلفية الوطنية مصطلح نحته المغاربة، وتحدثوا عن تجربة علال الفاسي في المغرب، حيث طرحت السلفية الوطنية ضمن شروط سياسية معينة. أتمنى أن يفكر الأستاذ محمد أمير في نحت هذا المصطلح في سوريا ضمن الشروط التي نحت فيها المغاربة مصطلح السلفية الوطنية.
تتعلق الملاحظة الثانية بالتجربة في إدلب، إذا صح التعبير. سمعت كلامًا عن أن المذهب الرسمي في إدلب، تحت هيئة تحرير الشام، هو المذهب الشافعي. هل هذا صحيح أم غير صحيح؟ لأن المذهب الشافعي هو أكثر المذاهب الإسلامية تحوّلًا. الإمام الشافعي في القاهرة بمصر اختلف فقهه عن فقهه في بغداد. لذلك، حينما نتحدث عن التجربة في إدلب، هل تبنّوا بشكل رسمي المذهب الشافعي في هذا الإطار؟
أما بالنسبة إلى سؤال "هل يوجد تيار في مجتمعاتنا العربية يعاني من فاصل فكري ونوعي بين الفكر والواقع؟" يمكن القول إن كل التيارات تعاني من الإشكالية نفسها، فكل التيارات الفكرية والإيديولوجية والسياسية في العالم العربي تعاني من التناقض نفسه بين القول والعمل. هذا ليس تبريرًا للمسألة، لكن يجب علينا جميعاً أن نسعى لتوحيد القول مع العمل. أما اتهام الإسلاميين بكلّ تلاوينهم بأنهم يعبرون عن آراء يناقضونها بعد يوم أو يومين، فهذا كلام إيديولوجي. إذا أردنا أن نتحدث بشكل علمي، يجب أن نقول إن هذه ظاهرة عربية تمس كل التيارات الفكرية والإيديولوجية والسياسية في العالم العربي.
د. حسام الدين درويش:
الأستاذ أمير، إذا كنت ترغب في التعليق على أي نقطة، كما كنت قد خصصت لك وقتًا للرد على الأسئلة، وإذا كنت ترغب في إضافة شيء آخر، فلك الحرية الكاملة في ذلك.
أ. محمد أمير ناشر النعم:
لا أريد أن أطيل عليكم أكثر مما أطلت سابقًا، ولا أثقل على الإخوة الكرام. بالنسبة إلى دعوة الأستاذ محمد محفوظ، أضعها في الاعتبار وأشكره على لفت النظر. أودّ أن أعلق على كلام الأستاذ غسان نبهان حول التناقض المنهجي والإيديولوجي لدى الجماعات الإسلامية. أنا أقرّ بوجود تناقض منهجي وضعف منهجي أيضًا، لكن المثال الذي ذكره عن الإجماع حول قتل المرتد، أعتقد أنه ليس دقيقًا. نحن نعرف أن الإسلام، كما قال محمد إقبال، هو في حركة مستمرة للتجديد والاجتهاد. نحن لا نقول بغلق باب الاجتهاد، وأظن أن الأستاذ غسان أيضًا لا يقول بذلك. ما دام باب الاجتهاد مفتوحًا، فيمكننا مناقشة حكم المرتد، وهذا ما قام به الفقهاء المعاصرون.
قد تكون فكرة "اللامفكر فيه" هي ما كان متعارفاً عليه في زمان معين ومكان محدد، ولكن إذا اختلف المكان والزمن، يصبح من الممكن أن يكون هذا الحكم من "المفكر فيه" أو القابل للمراجعة. حكم قتل المرتد كان من الأحكام التي لم يتم التفكير فيها كثيرًا في الزمن المعاصر، وبالتالي أصبح من الأحكام التي يمكن التفكير فيها بشكل جديد وفقاً للزمن والمكان المتغيرين.
الحركة الإسلامية، مثلًا، حسن الترابي من رموز الحركة الإسلامية، قدم اجتهادًا فقهيًّا أثبت فيه عدم وجوب قتل المرتد. الأمر نفسه بالنسبة إلى الدكتور المرحوم يوسف القرضاوي وآخرين أيضًا تناولوا هذا الحكم من خلال الأدلة والمعالجة القرآنية والحديثية، وتوصلوا بالنظر الاستدلالي المعتبر إلى عدم وجوب قتل المرتد. إذن، لا يمكننا أن نقول إن الإسلاميين إذا توقفوا عن قتل المرتد، فإنهم يقومون بتناقض منهجي. لكن، هناك جوانب أخرى يمكن مناقشتها في هذا المجال، مثل الحديث عن الضعف المنهجي في بعض الممارسات.
على سبيل المثال، هنالك ضعف منهجي في تأصيل التعايش. الحركات الإسلامية أو الجماعات الإسلامية تمارس التعايش مع الفئات الأخرى المختلفة دينيًّا وطائفيًّا، ولكن التأصيل ما زال بحاجة إلى تمتين أكثر. على سبيل المثال، كان هناك شيخ في سوريا من أشهر مشايخ سوريا على الإطلاق، كان يؤصل للتعايش بين الدين الإسلامي والمسيحي، وكان يقول إن الاختلاف ليس إلا وجهة نظر بين شخص يقول: "برغل وعدس وزيت"، وآخر يقول: "مجدرة"؛ يعني النتيجة واحدة، نحن نقول "الله"، وهم يقولون "الأب والابن وروح القدس". إذا كانت هذه الأطروحة تمثل أرضية من أجل بناء التعايش، فهذه مشكلة كبيرة.
د. حسام الدين درويش:
بالنسبة إلى سؤال عبير الشيخ حيدر حول مدى تأثير التنوع الإثني والديني والطائفي في سوريا، يمكن القول إن هذا التنوع لعب دورًا مهمًّا في كلا الجانبين، سواء بشكل إيجابي أو سلبي.
أ. محمد أمير ناشر النعم:
سؤال عبير كان إلى أي حد جعل السلطة الحالية مرنة؟ حقيقة سوريا ليست استثناء في هذا المجال، جميع البلدان فيها هذا التنوع، وهذا أمر مفروض على هذه الإدارة وعلى أي إدارة أخرى في أي بلد كانت، يعني لو أن هذه الإدارة كانت في لبنان يعني الوضع نفسه في مصر.
د. حسام الدين درويش:
حين تحدث الجابري عن العلمانية، قال إن المغرب ليس في حاجة لها؛ لأن المجتمع متجانس من حيث الدين والمذهب والطائفة، وبالتالي العلمانية ليست مطلبًا ضروريًّا. لكن، في حالة سوريا، الوضع يختلف تماماً عن المغرب، حيث إن التنوع فيها كبير جدًّا من حيث الدين والمذهب والطائفة. وفي هذا السياق، يمكن القول إن هذا التنوع قد يفرض تحديات على المجتمع السوري.
أ. محمد أمير ناشر النعم:
أنا لا أستطيع أن أجزم، وأقول إن هذا يجعلهم أكثر مرونة، وعدم التنوع يجعلهم أكثر صلابة. فأنا ليس عندي جواب حقيقة حتى لا أتكلم في ما لست متأكدًا منه.
د. حسام الدين درويش:
كان الحديث يشير إلى أن الإجابة قد تكون مرتبطة بما يحدث في النفوس، حيث إن التنظير الذي يعتمد عليه البعض، والبراغماتية التي يسعون أو يضطرون للتحلي بها، يمكن أن تكون جزءًا من الموضوع.
أ. محمد أمير ناشر النعم:
قلت في بداية مداخلتي، الواقع كالمبرد، وإن كان في التنظير توجد بعض التحديات أو المشكلات التي تظهر عند التطبيق. المرور فوق أو تحت الجسر، كما يُقال، له تأثير في التعديل والتغيير.
د. حسام الدين درويش:
نشكر الله على نعمة الأقليات.
أ. محمد أمير ناشر النعم:
طبعاً، نشكره بلا شك.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا، د. ساري هل سجلت الأسئلة؟
د. ساري حنفي:
في الحقيقة، أودّ أن أبدأ بشكر الأستاذ محمد أمير على إجابته لغسان النبهان. وأود التنويه بما ذكره، خاصة فيما يتعلق برأي الشيخ أحمد الريسوني، الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. فهو يحمل أطروحة وفتوى شهيرة تؤكد مبدأ "لا إكراه في الدين"، معتبرًا أن هذا المبدأ يسمو فوق جميع الاعتبارات المحلية التي أصدرت أحكاماً بشأن الردة. عند الاجتهاد، يعتمد الفقهاء اليوم على الفكر المقاصدي، وهو نهج رائع، وألاحظ انتشاره بشكل أكبر في المغرب مقارنة بالمشرق. ولا أرى أي خوف من اتباع مقاصد الشريعة، حيث يمكن من خلالها مراعاة روح الإسلام، وإنسانيته، وإيمانه بالرحمة.
أما بخصوص سؤال عبير، فهو بالفعل سؤال رائع. في الحقيقة، التنوع لعب دورًا مهمًّا في ترسيخ فكر التعددية، وهذا مفهوم ضروري للغاية. ولكن يجب أيضًا أن نضع في الاعتبار طبيعة المجتمعات المختلفة؛ على سبيل المثال، في أفغانستان، رغم أن سكانها جميعاً مسلمون، إلا أن طبيعتهم القبلية تؤثر على طريقة تفاعلهم مع التعددية. بينما في سوريا، فإن الطبيعة الحضرية والمدنية ساهمت في ترسيخ التنوع الثقافي والتعددية. لذا، من الضروري أن نفهم هذه الفروقات ونأخذها بعين الاعتبار.
وسأختم بمثال واحد: إذا كنت تذكر، حسام، عندما زرت بيروت ثم عدت، أخبرتني بأن هناك إعلانًا عن دورة شرعية للمنضمين إلى الجيش. وقد تحققت من الأمر بالفعل، وكان كلامك صحيحاً، حيث تم الإعلان عن ذلك مرة واحدة فقط، ثم تغيرت التسمية لاحقًا إلى "دورة أخلاقية".
في رأيي، ما حدث هنا هو أنهم بدأوا يتدرّبون على استخدام العقل العمومي؛ أي النقاش الذي يمكن للجميع فهمه، سواء كان مسيحيًّا، إسماعيليًّا، متدينًا أو حتى ملحدًا. فعندما تقول إن الجيش يجب أن يكون أخلاقيًّا، وتدرب أفراده على مبادئ أخلاقية، فلن يثير ذلك أي اعتراض. ولكن لا يمكنك أن تطلق على الجيش اسم "وطني"، ثم تفرض فيه دورة شرعية؛ لأن ذلك يتعارض مع طبيعة التنوع. وفي الحقيقة، وجود هذا التنوع في سوريا هو ما نبههم إلى ضرورة تجنب مثل هذه الطروحات.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا لك، شكرًا جزيلًا للجميع، فقد تحققت النتائج المرجوة تمامًا كما يقال، وأوفت بالتوقعات. دكتورة ميادة، تفضلي.
د. ميادة كيالي:
شكرًا جزيلًا لجميع المشاركين في هذه الندوة، من الأساتذة والأصدقاء الذين أثروا الحوار بأفكارهم العميقة، ولكل من ساهم بأسئلته في تسليط الضوء على هذه النقاط المهمة. إن قيمة هذه الحوارات لا تكمن فقط في تقديم الإجابات، بل في قدرتها على تفكيك الأسئلة الكبرى، وإعادة النظر في المسلمات، وفتح المجال أمام رؤى متعددة تسهم في فهم أكثر دقة وتعقيدًا للواقع.
دعوني أقول لكم أمرًا: في كل مرة نفتح فيها نقاشًا جادًّا أو نعلن عن حوار جديد، نجد من يستبق النقاش بأحكام جاهزة، وكأن الفكرة في جوهرها يجب أن تُدان قبل أن تُناقش. لكن الجدل الحقيقي لا يُبنى على الشعارات، بل على التفكير النقدي، ولا يستقيم إلا في فضاء يتسع للرأي والرأي الآخر. نحن هنا لا نناقش لإثبات وجهة نظر مسبقة، بل لنفهم أكثر، لنفكك الظواهر، ولنبحث عن طريق يقودنا إلى معرفة أعمق.
نحن في "مؤمنون بلا حدود" لا نقدم إجابات نهائية، ولا نزعم امتلاك الحقيقة، بل نؤمن بأن الحوار هو السبيل الوحيد لمقاربتها. أما من يختار إصدار الأحكام المسبقة على الأفكار قبل سماعها، فإنه يعطّل أهم ما نحتاجه اليوم: الجرأة في التفكير، وحرية النقاش، والمسؤولية الفكرية في مواجهة الأسئلة المصيرية.
شكرًا لكل من ساهم اليوم في هذا الحوار، فالمعرفة لا تتقدم إلا عندما نجرؤ على التفكير في الاحتمالات بدلًا من الاكتفاء بالمسلمات. شكرًا لكم جميعًا.
د. حسام الدين درويش:
كما ذكرنا، سنأخذ استراحة خلال شهر رمضان المبارك، وإن شاء الله رمضان كريم على الجميع، وكل عام وأنتم بخير. بعد العيد، ستكون لنا لقاءات جديدة، سواء في الواقع أو عبر الفضاء الافتراضي.
أطيب التحيات، وألف سلامة للجميع.
[1] حسان القالش، سياسة علماء دمشق: أسئلة الإصلاح والهوية والعروبة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2024، ط 1، ص 234
[2] انظر: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، كتب حذّر العلماء منها، تقديم بكر عبد الله أبو زيد، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1995
[3] عبد الفتاح قتلان شخصية دمشقية مغمورة تستحق أن تُدرس. ويُقال: قتلان نسبة إلى مقاطعة كاتالونيا في الأندلس، وأن أجداد الأسرة هاجروا منها بعد سقوطها إلى دمشق. هاجر عبد الفتاح إلى مصر، وشارك محب الدين الخطيب الذي تربطه به صلة قرابة افتتاح المطبعة السلفية. وألّف بعض الكتب كفهرست المؤلفين بالظاهرية وشواهد لسان العرب مرتبة على حروف المعجم. نشاهد اسمه على مطبوعات المكتبة السلفية جنباً إلى جنب مع محب الدين الخطيب، ولكن بعد وفاته مباشرة تصبح مطبوعات الدار باسم محب الدين الخطيب فقط. استقلّ عبد الفتاح بتأسيس مطبعة سلفية أخرى في السعودية سنة 1928 أو 1929 مع الصحفي والسياسي السعودي محمد صالح نصيف وشركاء آخرين غير مذكورين، توفي سنة 1933، وربما لو عاش كما عاش محب الدين حتى سنة 1969 لكان ذكره وحضوره مختلفين.
[4] انظر: سيد مرتضى الرضوي، مع رجال الفكر في القاهرة، ط 1، (بيروت ــ لندن، الإرشاد للطباعة والنشر، 1998)، ص 330