ضد "العيش المشترك" (2)


فئة :  مقالات

ضد "العيش المشترك" (2)

تناولنا في القسم الأول من هذه المقاربة[1] الدلالات اللغوية لمفهوم المشاركة والفروق المعرفية – الأخلاقية التي تميزه من مفهوم الاشتراك، بغية إبراز المدخل العملي إلى المواطنة المتساوية، وتفنيد مقولة "العيش المشترك"، التي تخفي أو تموه واقع التحاجز والتباغض، وتحمل جرثومة النزاعات والحروب الأهلية، كما في لبنان والعراق، قبل الثورة الشعبية المجيدة الجارية في كل منهما. فإن المرء ليشعر بالتقزز إلى حد الغثيان، حين يسمع زعماء الطوائف وقادة الميليشيات، ولا سيما قادة حزب الله والحشد الشعبي يتشدقون بالعيش المشترك، وهم يوجهون أسلحتهم إلى المجتمع ويغتالون ناشطيه.

وقد أشرنا إلى الحد المعرفي بين المشاركة الحرة والمشاركة الطوعية، الذي يعين الفرق بين المواطنة النشطة والمبدعة وبين المواطنة الهامدة، التي تسم ما يعرف بـ "الكتلة الصامتة"، والتي يختلف صمتها من مكان إلى آخر، باختلاف أسبابه، وألمحنا إلى البطانة الأخلاقية للمشاركة، وسميناها "أخلاقيات اللعب". وخلصنا إلى أن المشاركة، كالمواطنة، لا يمكن أن تتحقق، وأن تغدو ممارسة مجتمعية إلا في ظل حكم القانون واستقلال القضاء. يتناول هذا القسم الثاني الأسس والمبادئ المعرفية – الأخلاقية للمشاركة.

لا تكون المشاركة بغير وجود الآخر الحي والعيني والمعترف بوجوده في كل مكان، والأخرى بالطبع

المشاركة في مغزاها الأعمق هي، في المقام الأول، مشاركة الفردي في النوعي؛ أي مشاركة الأفراد إناثاً وذكوراً في الحياة العامة. والحياة العامة، بالتعريف، هي الحياة النوعية، وتعني خروج الأفراد من قواقعهم أو شرانقهم الأنانية، ومتحداتهم الطبيعية (الأسرة والعائلة) وشبه الطبيعية (العشيرة والمحلة) إلى فضاء عام مشترك بين جميع الذين يتنفسون، واللاتي يتنفسن، هواءَه، فيتشاركون في جعله وطناً ممكناً على الدوام، أي إنهم يتشاركون في ابتكار الوطن كل يوم. فما يسم الحياة العامة، أو الحياة النوعية هو مضمون العلاقات التي تربط بين الأفراد والجماعات، والتي تتمحور على الحق والخير والجمال، (علاوة على المساواة والحرية والعدالة)؛ أي على الحق العام والخير العام والذوق العام أو "الآداب العامة" والقيم العامة.

قيم الخير والحق والجمال، التي هي مضمون الحياة النوعية، صارت قيماً مدنية خالصة، تسمو على دلالاتها التقليدية، ما قبل المدنية، وتسمو على القيم الحضارية المشتركة مع القيم البدوية، كالشرف والشجاعة والكرم والتضحية... سمو المدنية على الحضارة، ناهيك عن القيم البدوية (البدائية أو البدئية)؛ تمييز المدنية من الحضارة باب لم يُفتح بعد.

مشاركة الفردي في النوعي هي التي ينتج منها "الوعي الاجتماعي"؛ أي جميع المُدركات والأفكار والتصورات والقيم والعقائد والعادات والتقاليد والأعراف وأنماط السلوك التي يتشاركها الأفراد، وتنتج منها "المنفعة العامة" أو المصلحة العامة، والثقافة العامة، أو الثقافة الوطنية، وهي التي تشكِّل الهيكل الأساسي للمجتمع، (المنظمات والمؤسسات)، وتنتج مجالاً سياسياً أو حقلاً سياسياً عاماً هو الدولة، بمفهومها الحديث ومبادئها الحديثة. وليس من نافل القول أن الحياة النوعية تتأسس أو ترتكز على وحدة الفرد والنوع (سقراط إنسان)، وعلى حقيقة أن النوع يتعين في جميع أفراده، بلا استثناء. لذلك، رأينا أن الإنسانية والمواطنة صفتان لا تقبلان التفاوت والتفاضل.

والمشاركة، في المقام الثاني، هي مشاركة الجزء في الكل، الذي هو أكبر من جميع أجزائه، والذي لا يكون كلاًّ إذا نقص منه أو خرج عنه أو خرج عليه جزء من أجزائه مهما كان ضئيلاً، مثالنا على ذلك الوطن والمجتمع والشعب والدولة ... أجزاء الكل، التي تستمد جميع مقوماتها وجميع خصائصها من الكل، لا يفضُل أحدُها غيرَه ولا يسمو عليه؛ لنفكر في الفئات الاجتماعية أو الطبقات، وفي المجتمعات الصغيرة ضمن المجتمع الكبير، وفي العقائد والأديان والثقافات واللغات وفي القرى والمدن والبلدات، التي كل منها جزء من كل هو أكبر منها جميعاً. وما ينطبق على علاقة الجزء بالكل ينطبق على علاقة الخاص بالعام.

لنتوقف قليلاً عند "المنفعة"، بصفتها ترجمة عملية أو واقعية لآلية الانتقال من الفردي إلى النوعي، ومن الجزئي إلى الكلي ومن الخاص إلى العام، والتي يعدها بعضهم أساس القيم المدنية: من البديهي أن المنفعة الشخصية لا تتحقق، على أي صعيد، إلا مع أخريات وآخرين، وبموافقتهم/ ن الصريحة أو الضمنية (عدم الاعتراض)، ومعاونتهم/ ن؛ أي إن منفعتك مشروطة بمنافع الأخريات والآخرين وموافقتهم أو قبولهم/ ن أو اعترافهم/ ن. ومن ثم، يمكن تعريف المنفعة العامة بأنها جملة المنافع الفردية المتشارطة لزوماً، لا مجموع المنافع الفردية، لأن المجتمع ليس مجموع أفراده. ومن تحصيل الحاصل أن المنافع المتشارطة هي منافع مُتبادَلة.

هنا، يكون التبادل، وهو شكل خاص من التشارك، هو التحقق العملي للتشارط النظري. وتكون المنفعة الفردية هي الصورة الفردية للمنفعة العامة، والمنفعة العامة هي الصورة العامة للمنفعة الفردية. هذا يعني بلغة الفلسفة أن المنفعة الفردية والمنفعة العامة متضايفتان؛ كل ما يصيب إحداهما يصيب الأخرى، وكل ما يؤثر في إحداهما يؤثر في الأخرى، بالضرورة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

التبادل هو الصيغة العملية لمبدأ المنفعة النظري، أو الفلسفي، الصيغة العملية لتشارط المنافع الفردية، الذي يجعل منها منفعة عامة مشتركة. هذه الصيغة العملية لا تُستنفَد في تبادل الخيرات المادية، في السوق، بل تتعداها إلى تبادل الخيرات الاجتماعية، في جميع مجالات الحياة؛ فبفضل التبادل فقط، في سياق التواصل الخلاق وبوساطته، تظهر القيم الاجتماعية والإنسانية، بصفتها مبادئ حاكمة للسلوك، ومحددة لمحتوى العلاقات الاجتماعية، علاوة على شكلها. التبادل هو الكيمياء الاجتماعية، التي تحول المنفعة الفردية إلى منفعة عامة أو العكس، والتي تبلور القيم الاجتماعية والإنسانية، وتحولها إلى سلوك اجتماعي أو ممارسة اجتماعية - سياسية وثقافية وأخلاقية. فعملية / علميات التبادل هي التي تُظهر ما هو عام ومشترك بين المنافع الفردية، التي يعينها الاحتياج المتبادل، وبين الأفكار والتصورات والقيم أيضاً.

ما هو مشترك بين الأفراد والجماعات هو معنى العمومية، التي هي صفة القانون وقوام المجتمع المدني الدولة الوطنية، والشرط الضروري اللازم للديمقراطية. لقد فرق جون استيورات ميل بين العمل النافع والعمل الصالح، بحسب عامل السعادة، فرأى أن العمل النافع هو ما يمكن أن يسهم في السعادة العامة (أو يؤدي إليها). أما العمل الصالح، فهو الذي يحقق غاية قريبة، (غاية فردية)، لا ترقى إلى قيمة أخلاقية[2]. وهذا تفريق مهم، ويشكل علامة على الفرق الذي أشرنا إليه بين المدنية والحضارة. المنفعة، بالمعنى الذي بينه ميل، هي منبع الأخلاق المدنية.

عرف لالاند المشاركة PARTICIPATION بأنها: أ - عملية الاشتراك أو الإسهام في شيء ما. ب - ترجمة مخصصة للكلمة اليونانية، التي تدل، في الاصطلاح الأفلاطوني على علاقة الكائنات الحسية بالأفكار، وعلى العلاقة بين الأفكار التي لا تتنافى. ج - ترابط الفردي والكلي في المعرفة، ترابط الكائن المطلق والأنا في الفعل الحر...

وأضاف إلى ذلك معنى المشاركة، الذي قصده الفيلسوف الفرنسي لوي لافيل (1883 - 1951)، في قوله: "جوهر المشاركة هو أن تكشف لي عملاً يتراءى لي، في لحظة قيامي به، كأنه عملي، وليس عملي في آن. كأنه كلي وشخصي في آن. بدلاً من القول شيمةَ العامة إننا جزء من العالم، سنقول إننا نشارك في العملية التي لا ينقطع العالم عن القيام بها. "لا توجد مشاركة في كون متحقق، متكون، يمكنها أن تجيز لنا إطلاقَ مثل هذا القول بامتلاكنا جزءاً منه .. فالمرء لا يشارك إلا في عمل هو في طريقه إلى التحقق، لكنه يتحقق أيضاً فينا وبنا، بفضل عملية أصلية". و"على الدوام، تحتفظ المشاركة في ذاتها بطابع شخصي، ليس فقط لأنها تفترض فعل الشخص، بل أيضاً لأنها بدلاً من وصلنا بمبدأ كلي ومجرد، تصلنا بكائن آخر حي وعيني، نعترف بحضوره في كل مكان، ونكوِّن معه جماعة، ونعقد أواصر صداقة"[3].

تتبدى لنا، في هذا التعريف الفلسفي والنصوص التي تؤيده، القيمةُ المعرفيةُ والأخلاقيةُ للمشاركة، التي نعتقد أنها الدلالة الأعمق والأهم لمفهوم المواطنة، بصفتها ممارسة خلاقة في أطر اجتماعية وسياسية، كالتنظيمات المدنية والأحزاب السياسية، إذ يقوم الشخص (الرجل والمرأة) بعمل يتراءى له بأنه عمله الشخصي الخاص، وليس عمله الشخصي الخاص في الوقت ذاته؛ أي إن العمل المدني أو "النشاط السياسي"، هو عمل كلي وشخصي في الوقت ذاته. والمشاركة هي الرابطة التي لا تنفصم بين الفردي والكلي. ونذهب في هذا السياق، إلى اعتبار القابلية للمشاركة واحدةً من الخصائص الوجودية للإنسان. وفي هذا يرى لا فيل أن الكائن أو الكون أو الكينونة يتجلى في صورة التشارك التلقائي، إذ ينعقد في صميم كينونة الكائن فعل التشارك الأسمى بين الكائنات، فالكينونة في صميم جوهرها، هي تشارك وتشاطر وتفاعل، تنبع كلها من التشاركية الكيانية في الوجود.

التبادل هو الصيغة العملية لمبدأ المنفعة النظري، أو الفلسفي، الصيغة العملية لتشارط المنافع الفردية، الذي يجعل منها منفعة عامة مشتركة

الكينونة مرتبطة بذات الكائن المطلق وبذات الإنسان (الفرد)، فهي من جراء هذا الارتباط فعل لا جوهر ثابت ومستقر. بفعل هذه الحيوية الأنطولوجية التي تستوطن الكينونة يأتي ارتباط الإنسان بها على قدر كبير من الحراك والابتدار والابتكار، حتى إن مبدأ التشارك الكينوني، الذي يقول به لا فيل، يخول الفرد الإسهام في الكلية الكينونية المقبلة؛ ذلك أن هذه الكلية الكينونية ليست جوهراً ثابتاً منغلقاً صمداً، بل هي حرية فاعلة في تضاعيف الوجود. وما أفعال الإنسان في الإرادة والفكر والحب سوى التعبير التاريخي عن أثر هذه الحرية في الكينونة الإنسانية.

لا تكون المشاركة بغير وجود الآخر الحي والعيني والمعترف بوجوده في كل مكان، (والأخرى بالطبع). المشاركة هي التي تكوِّن جماعة، وتعقد أواصر الصداقة بين أفرادها. فإن "بين المعرفة والعمل أو السلوك روابط وثيقة، بها يخضع العمل أو السلوك للمعرفة؛ فلا يكون العمل إنسانياً خالصاً، إن لم يأت نتيجة معرفة واسعة، تستوعب الأسباب الدقيقة، ونتيجة حرية اختيار، فيرتفع على أسس هذه المعرفة". وبذلك تضحي المعرفة والحرية شرطيْ العمل الإنساني القويم[4]. فقد أكدنا دوماً أن المعرفة عمل بالقوة وسلوك بالقوة ونشاط بالقوة وفاعلية بالقوة، وأن العمل والسلوك والنشاط والفاعلية معرفة بالفعل، وهذا ما يكشف عن الطابع الديناميكي للمعرفة، التي تنمو وتتطور وتتجدد وفق مبدأ الممارسة أو البراكسيس.


[1]- راجع/ي، القسم الأول، على موقع مؤمنون بلاحدود، على الرابط:

www.mominoun.com/articles/%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%AA%D8%B1%D

[2]- جون استيوارت ميل، المنفعة، ترجمة شاهرلي حرار، المؤسسة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2012، ص 9

[3]- أندريه لالاند، الموسوعة الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت – باريس، الطبعة الثانية، 2001، ص 944 - 945

[4]- راجع/ي، مجموعة من المؤلفين، الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان، تحرير مشير باسيل عون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2017، ص 286