ضربة "جزاء"


فئة :  مقالات

ضربة "جزاء"

"لكنّ النقود هي الذهن الحقيقي لكلّ الأشياء، فكيف إذاً يكون مالكها غبيّاً؟ إنّه يستطيع أن يشتري لنفسه الموهوبين، أو ليس هذا الذي يسيطر على الموهوبين أكثر منهم موهبة؟ ألست أنا الذي أملك بفضل ما أتوفر عليه من نقود كلّ ما يصبو إليه القلب، ألست أمتلك القدرات الإنسانية جميعها؟ ألا تحوّل نقودي كلّ أوجه عجزي إلى نقيضها؟"

ك. ماركس ـ مخطوطات 1844

 

قبل افتتاح المؤتمر الذي انعقد لتقرير مصير منظمة الفيفا، وتحديد من سيخلف رئيسها المستقيل، وفي اللحظة التي كان بلاتر يزمع فيها افتتاح ندوته الصحافية، قاطعه الكوميدي سيمون برودكان ليتناول الكلمة أمام كاميرات الصحافيين ويقدّم للرئيس المستقيل ورقة نقدية قبل أن يمطره بوابل من الأوراق المزيّفة، الأمر الذي دفع الرئيس المستقيل إلى أن يرجئ الندوة لبضع دقائق ويصيح في وجه المنظّمين مستاء: "ينبغي تطهير المكان، وإلا فلن أستطيع التحدّث. هذا أمر غير مقبول، وليس له علاقة بكرة القدم، ونحن هنا بالضبط للحديث عن الكرة؛ لذا فأنا مضطر لتأجيل الندوة".

لست أدري لماذا انصرف ذهني توّاً، عند سماع هذا الخبر، إلى واقعة الحذاء الذي تلقاه الرئيس الأمريكي السّابق خلال ندوة ببغداد. غير أنّ ما لم أستطع أن أجد له تفسيراً مقنعاً هو إحساسي بأنّ المهانة التي تعرّض لها رئيس الفيفا بدت لي أكثر هوْلاً، وأشد قسوة، وأغزر دلالة من تلك التي تعرّض لها بوش.

لو كان الأمر يعود إلى مكانة الهدف الذي صُوّب نحوه القذف فحسب، لكان رمي رئيس أكبر دولة في العالم أشدّ قسوة من قذف رئيس الاتحاد العالمي لكرة القدم. وفي هذه الحال فإنّ من الطبيعي أن يكون وقع الرّمية الأولى أشدّ وطأة من لاحقتها، فلماذا إذاً كان إحساسي عكس ذلك؟

قد يؤازرني البعض قائلاً إنّ أمبراطورية الفيفا لا تقلّ اليوم شأناً عن أكبر الدول العظمى. ففضلاً عن كونها تتربّع على اقتصاديات العالم وتدبّر أكبر صفقاته، فإنها تتحكّم في سياساته، وتلعب الأدوار في نزاعاته، بل إنها تحدّد للدول مكانتها، بل "وجودها" على الخريطة العالمية، وهي تتيح لبعضها فرصة النمو، وتقف حاجزاً أمام تطوّر أخرى.

ورغم أنّ هذا الرأي لا يخلو من صواب، إلا أنّه لا يكفي ربما لتنزيل الرّمية الأولى دون منزلة الثانية، فأقصى ما يمكن أن يثبته هو أنّ المَرْمَيَان على الدّرجة نفسها من الأهمية. فلماذا لا نُرجع التفاوت إذاً إلى الوسيلة المستخدمة في القذف، فنقول إنّ الفرق في درجة المهانة يعود أساساً لكون الرّمية الأولى لم تكن إلا بواسطة حذاء، أما الثانية فهي بوابل من الأوراق، والأوراق المزيّفة.

لكنّ الرّمي بـ"الجزمة"، على حدّ تعبير إخواننا المصريين، ربما لا "يعلو" عليه رمْي في هذا المضمار. وربما تكاد كلّ الثقافات تجمع على ذلك وتقرّ بـ"دنس" الحذاء. ومع هذا فإنّ رمزية الحذاء، من شدّة قدمها وبفعل الإجماع عليها، ربما فقدت شيئاً من وقعها، خصوصاً وأنّ التصاق رمزية ما بموضوع بعينه ربما ينقلها من الرمز إلى "الواقع" الفعلي، ويفقدها شيئاً من مفعولها، أو لنقلْ، بتعبير السيميائيين: إنّ التصاقها الدائم بالموضوع قد يجعلها أقرب إلى المعنى الأولي dénotation، ويفقدها بالتالي كلّ المعاني الثانوية connotations.

لعل هذا بالضبط هو ما ميّز الرّمي بالأوراق النقدية، فجعل الرئيس المستقيل يصيح بأعلى صوته: "ينبغي تطهير المكان". فلعلّ رمية الأوراق النقدية قد بدت أشدّ وطأة لأنها لم تكن فحسب رمياً بما تعوّدنا أن نعتبره دنساً، رمياً "بوسخ الدنيا"، وإنّما بما تحوّل، فتحوّل معه عالم اليوم إلى دنس، حتى غدا عالماً يحكمه التشيّؤ، وتطبعه "فيتيشية السلعة". لقد رُمي بلاتير، ليس بمجرد حذاء تعلق به أوساخ، وإنّما بما أفقد العالم المعاصر روحه، وأفقد كرة القدم وجهها الفني وروحها الرياضية ليحوّلها إلى تجارة يباع فيها كلّ شيء: الفرجة والمونديالات والمباريات واللاعبون، تجارة بواسطتها تغتني الأندية ليعبث بها المسيّرون، فـ"يعيثون في الأرض فساداً".