الأسطورة في التراث الشعبي قراءة سوسيو-أنثروبولوجية لعيّنة من المعتقدات الشعبية في المغرب


فئة :  مقالات

 الأسطورة في التراث الشعبي قراءة سوسيو-أنثروبولوجية لعيّنة من المعتقدات الشعبية في المغرب

الأسطورة في التراث الشعبي

قراءة سوسيو-أنثروبولوجية لعيّنة من المعتقدات الشعبية في المغرب

د. فوزي بوخريص[1]

سارة اسخيفة[2]

ملخص:

نسعى في هذا المقال إلى الكشف عن طبيعة العلاقة بين الرمزي والاجتماعي، من خلال تحليل عينة من المعتقدات السائدة بالمتخيل الشعبي المغربي في بعدها الطقوسي الأسطوري؛ وذلك عبر إبراز الدلالات والمعاني التي يمنحها الأفراد لهذه المعتقدات؛ إذ تلخص المعتقدات الشعبية إلى حد ما مختلف الصور والتمثلات الاجتماعية التي عمل المتخيل الشعبي على التعبير عنها وعن شتى المواضيع الحياتية والقضايا المجتمعية ليبلور بذلك ذاكرة تاريخية تتوارث عبر الأجيال، سواء من خلال الأساطير التي فسر بها في مراحله الأولى الظواهر المحيطة به تفسيرا يحمل نسقا اعتقاديا يتفاعل فيها الواقع والخيال من خلال طقوس احتفالية يمارسها أفراد المجتمع؛ إذ تشكلت ضمن سياق تاريخي معين تجسدت في قوالب صورية أكثر محاكاة للواقع الاجتماعي، حيث تم إنتاجها في ظروف وسياقات ثقافية معينة، ليتم تحيينها كلما دعت المناسبات الاجتماعية والسياق الاجتماعي لذلك.

1- على سبيل التمهيد:

شكلت الأسطورة عبر التاريخ إحدى أهم الأطر المرجعية المشكلة للمتخيل الشعبي؛ فمن خلالها كانت تفسر الظواهر «الميتافيزيقية» (الميتافيزيقا: «تعني ما يوجد وراء المحسوس (الطبيعة)»[3] في العالم الطبيعي المحسوس لما يكتنف هذا الأخير من غموض والتباسات، ومن هنا جاءت الضرورة لاعتماد التفسير الأسطوري كعرف يحكم المجتمعات البدائية، حيث يشكل هذا العرف قانونا يحكمها وينظم علاقاتها داخل الجماعة، وبهذا التعبير، فإن المجتمعات البدائية ليست لديها قوانين، وتعيش تحت «سلطان العرف التلقائي».[4] وعلى هذا الأساس، فإنتاج الأسطورة ونسجها لم يأت نتيجة رغبة وضرورة ترفيهية وثانوية، ولكن قام وتأتى بناء على ذلك التفاعل بين الفرد وواقعه والظواهر المحيطة به، لاسيما أن «التفكير والشعور البدائيين يتصفان بالتجسيدية المطلقة؛ فهما مرتبطان بالإحساس دائما؛ إذ إن فكر الإنسان البدائي لا يوجد مستقلا منفصلا، بل هو لصيق بالظواهر المادية. وأقصى ما يستطيعه هو أن يرفع تفكيره إلى مستوى التشبيه...»[5] وتجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أن الإنسان البدائي يتحول إلى مستقبل خاضع ومتبنٍّ لهذه الأساطير كمسلمات بديهية لا تقبل النقاش أو التساؤل، كونها في أصل نشأتها هي تفسيرات لتساؤلات وجودية من خلال العالم غير المدرك والغيبي، فهي وفقا لذلك نتاج جماعي لا يقتصر على إنتاج المخيلة الفردية فقط، بل هي تعبير عن الحس المشترك للجماعة، حيث يطغى عليها طابع القداسة لما تحتويه من دلالات وحمولات رمزية، وإن هو فكر في التشكيك في معتقداتها أو الاستهتار بها، فقد تحل عليه لعنة هذه الأساطير، حيث «لا يعبر الإنسان البدائي عن مشاعره وعواطفه برموز مجردة فقط، بل بطريقة مباشرة تجسيدية، ويحق لنا هنا أن نتكلم عن التوتر بين الثبات والتطور .. ففي الأسطورة والدين البدائي يبلغ الميل للثبات من القوة ما يجعله يتفوق على الميل المضاد، والفكر الأسطوري هو، في أصله ومبدئه، فكر تقليدي...ويعدّ أي تغيير في نظام الأشياء القائم، مهما كان طفيفا، أمرا مدمرا من وجهة نظر الفكر البدائي... ولذلك لا يستطيع الدين البدائي أن يترك أي مجال لأي حرية في الفكر الفردي»[6]، ويشير بول باسكون في هذا السياق أنه «لم تنتظر قوى الطبيعة وقوى المجتمع البشري، الديانات المنزلة لكي تخلف آثارها في تمثلات عامة تتخذ قانونا للسلوك وتغذي تكوين الأفكار الأخلاقية والسلوكات الفعالة. وحين كان الإنسان في منتهى الضعف، أمام الطبيعة وأمام نظرائه من الناس، ولم يكن قد عثر بعد على منفذ نحو إيديولوجية للخلاص، كان عليه أن يدخل القوى الطبيعية نفسها ضمن خيمياء أساطيره»[7]. ومن هذا المنطلق، يصبو هذا المقال إلى التعرف على عينة من المعتقدات الشعبية المغربية في ارتباطها بالأسطورة. وعلى هذا الأساس، حاولنا في هذا المقال، الانطلاق من إشكالية أساسية نتطرق فيها إلى التعرف على السياق الاجتماعي والثقافي الذي نشأت فيه الأسطورة المغربية وتأثيرها على المعتقدات الشعبية السائدة بالمغرب، وإلى أي حد تعد الأسطورة مدخلا لفهم الواقع الاجتماعي ومصدرا من مصادر المعرفة بالتاريخ الاجتماعي للشعوب؟ ثم رصد إلى أي حد تؤثر الأساطير والمعتقدات في تشكيل الذهنيات والتصورات بالمتخيل الشعبي؟ وعلى أي أساس تفسر الأساطير العالم الاجتماعي المحسوس، انطلاقا من تفسيراتها الغيبية التي نشأت منها؟ وأخيرا ماهي بعض المعتقدات الشعبية البارزة التي حفل بها التراث الشعبي المغربي؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار هذه المعتقدات امتدادات لحضور واستمرار الأسطورة بالمتخيل الشعبي المغربي في ظل مختلف التحولات التي طالته؟

1.1 - في أهمية الأساطير كموضوع للدراسة:

شكل البحث عن الأساطير حقلا غنيا للتناول البحثي الواسع، سواء من قبل الأنثروبولوجيا أو السوسيولوجيا، بالإضافة إلى المهتمين بالدراسة السيميولوجية للأدب الشعبي والتراث... «فموضوع الأساطير يحتل موقعا متميزا في الدراسات النقدية والسيميائية والتاريخية المعاصرة؛ فالأسطورة هي النص الرمزي الذي تتكاثف فيه الدلالات الحضارية والثقافية والنفسية الخالقة لأنساق تصورية متداخلة هي أصل الوجود الإنساني على مستوى التفكير والإنجازات الفكرية التي تنسب إلى الضمير الجمعي للشعوب».[8]

وتجدر الإشارة إلى أن تناول مواضيع الأساطير والمعتقدات الشعبية بالدراسة والتحليل، لا يخلو من الإكراهات والصعوبات، سواء المنهجية أو النظرية أو من ناحية التمييز بين الأسطورة والخرافة والخيال والسرد التاريخي، ومن بين «المشكلات التي تواجه الباحث الأنثروبولوجي في دراسته للأدب الشعبي بمعناه الواسع الذي يشمل الأساطير والحكايات الشعبية والخرافات والسير والملاحم وما إليها مشكلة الحدود الفاصلة بين الأحداث الواقعية وإبداعات الخيال ... فالمشكلة ...في هذا المجال بالذات هي تحديد ذلك القدر من الواقع التاريخي ومن الخيال القصصي على السواء في كل من السرد التاريخي والسرد القصصي ومعرفة أين ينتهي التاريخ ويبدأ القص الخيالي».[9]

2.1- دلالات في معنى الأسطورة:

إن الوقوف عند أي تعريف لمفهوم الأسطورة يقتضي في المقام الأول الأخذ بعين الاعتبار تحديد بعض المفاهيم الفرعية، والتي تتداخل في بناء دلالة ومعنى مفهوم الأسطورة، ونخص هنا بالذكر على سبيل المثال لا الحصر مفهومي الرمز والطقس، بوصفهما من أهم الركائز في سيرورة إنتاج الأساطير وتكوينها فما يمنح للأسطورة طابع القداسة، هو كونها ارتبطت بالرموز والطقوس الاحتفالية لهذه الرموز؛ وذلك «لأن الأسطورة تكرس مفهوم القوانين والطقوس والتقاليد الاجتماعية»[10] وفي هذا الصدد يعرف فراس السواح الأسطورة على أنها: «حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان».[11]

وعلى نفس المنوال يعرف حسن نعمة الأسطورة على أنها: «حكاية مقدسة بمعنى أنها تنتقل من جيل إلى جيل بالرواية الشفهية، مما يجعلها ذاكرة الجماعة التي تحفظ قيمها وعاداتها وطقوسها وحكمتها وتنقلها للأجيال المتعاقبة وتكسبها القوة والسيطرة على النفوس، وتجيء الكتابة لتلعب دور الحافظ للأسطورة من التحريف بالتناقل»[12]

والأسطورة كما عرفها كريغ كالهون «تدل عموما على حكايات وقصص تساهم في إنشاء نظام كوسمولوجي {كونيات} وفي هوية اجتماعية متماسكة، مثلا الروايات حول الأصول، والتفسيرات بشأن القيم والمحرمات، والشرعنات السردية للسلطة. الأسطورة تعارض التاريخ على نحو متكرر؛ أي تعارض الحوادث التي يمكن تأريخها أو وضعها في علاقة متسلسلة زمنية تتصل بالحاضر ... في كتابه (1957) Mythologies (الأساطير) انعطف رولان بارت بالمصطلح على نحو بالغ التأثير، حيث اعتبر أن الأساطير هي شيفرات تكمن في مخيلة قدر كبير من الثقافة المعاصرة وممارساتها. وإن وظيفتها الرئيسة هي أن تغير مظهر الكلية الشاملة إلى معتقدات ثقافية عرضية في الأحوال الأخرى. بهذا المعنى، تشغل الأسطورة في أعمال بارت المكانة نفسها التي تشغلها الإيديولوجيا في أعمال أنطونيو غرامشي ولوي ألتوسير: تطبِّع الحالة الراهنة وتضمن الموافقة عليها».[13]

أما في تعريف الميثولوجيا، فيقول علي الشوك في هذا الصدد: «الميثولوجيا، كما يقول لوكيه Luquet، هي الإيمان بقوى فوق طبيعية أو بكائنات تختلف عن البشر وتفوقهم في ما يمارسونه من أعمال تصدر عنهم مباشرة أو من خلال ظواهر طبيعية. أو هي، كما يقول غريفز وباتاي، قصص درامية مسكوبة في إطار ديني، وجدت إما لتكريس المؤسسات والتقاليد والطقوس والمعتقدات القديمة، في الأماكن التي ظهرت فيها، أو لتأكيد مفهوم التغير»[14]

و بناء على ذلك، جاء الاهتمام بدراسة الاساطير في ارتباطها بالتراث، حيث تعد من الركائز المشكلة له «والأساطير هي في الفهم الكلاسيكي مجموعة خرافات وأقاصيص، وهي اشتقاق من «سطر الأحاديث» وموضوعها – إضافة إلى الآلهة- يتناول الأبطال الغابرين وفق لغة وتصورات وتخيلات وتأملات وأحكام تناسب العصر والمكان اللذين صيغت فيهما»[15]، وفي كتابه الرمز والسلطة، قدم بيير بورديو تعريفا للأسطورة من خلال حديثه عن «الإنتاجات الرمزية كأدوات للهيمنة، حيث يرى أن: الأسطورة هي منتوج جماعي في حوزة الجماعة بكاملها، تخدم الإيديولوجيات المصالح الخاصة، وتسعى إلى تقديمها كما لو كانت مصالح جماعية تشترك فيها الجماعة بكاملها».[16]

3.1- في الفرق بين الأسطورة والخرافة:

عادة ما يصعب التمييز بين الأسطورة والأجناس الأدبية الأخرى الشبيهة، ولعل من بين هذه الأجناس نجد الخرافة هي أكثر الحكايا التقليدية شبها بالأسطورة وعموما «ويمكننا أن نميز بين الخرافات والأساطير عن طريق أمرين اثنين:

الأول: التفكير الأسطوري هو تفكير العصور التي لم يكن قد ظهر فيها بعد. أما الخرافة، فتكون في زمن للعلم فيه قوة مؤثرة في الحياة، وفي طريقة معرفة الإنسان والعالم.

الثاني: أن الفكر الأسطوري يقدم – في إطار بدائي – تفسيرا كاملا للعالم أو لمجموعة من ظواهره، في حين أن الخرافة «جزئية تتعلق بظاهرة أو حادثة واحدة، ففي العصور البدائية والقديمة: كانت الأسطورة تمثل نظاما متكاملا في النظر إلى العالم والإنسان، وكان هذا النظام يتسم في كثير من الأحيان بالاتساق والتماسك الداخلي. أما الخرافات، فتتعلق بالتفاصيل وقد تكون متعارضة أو متناقضة فيما بينها».[17]

وعلى العموم، تعرف الخرافة على أنها «قصة أبطالها شخصيات غير عاقلة من الحيوان والجماد، ولكنها تفكر وتتكلم وتتصف بالعقل والمنطق، ولها عواطف ومشاعر كالبشر وتقوم بدور إنساني واقعي».[18]

2. التراث:

يشكل التراث مخزونا غنيا من التقاليد والقيم والعادات، كما يشمل الطقوس والرموز وفنون للعيش والاحتفال. إنه يمثل الذاكرة الجماعية للشعوب ويعبر عن هويتها الثقافية التي تميزه عن غيره من الثقافات الأخرى. ويعرف جمال عليان التراث بكونه «يمثل الذاكرة الحية للفرد والمجتمع، ويمثل بالتالي هوية يتعرف بها الناس على شعب من الشعوب»[19] ويدرج في تعريفه للتراث جانبي من جوانب التراث يتجلى الأول في: «الملموس المادي مما أنتجه السابقون من مبان وأدوات ومدن وملابس وغير ذلك، وغير الملموس من معتقدات وعادات ولغات وتقاليد وغير ذلك، فإن هذين العنصرين يكونان عصب الحضارة؛ فالحفاظ عليهما يعني الحفاظ على المنتجات التي نستطيع من خلالها أن نقيس مستوى الحضارة لتلك الشعوب أو المجتمعات»[20] ويعرفه أحمد زياد محبك على أنه «الصورة الحقيقية للشعب وهو بالنسبة إلى الشعب العربي، تراث شعبي واحد مشترك يؤكد وحدة الشعب العربي ويدعمها».[21]

إنه بهذا المعنى نتاج عفوي في طابعه الشعبي، يعكس تجارب الشعوب وملامحها ويحفظ هويتها الثقافية وعراقتها، التراث ذلك الوعاء الذي يحتوي على الشعور والوعي المشترك ومن مميزات هذا التراث كونه يتوارث جيلا عن جيل لاتصاله الوثيق بالحياة المجتمعية والسلوك الإنساني. إنه بذلك مخزون ووعاء يمنح للأفراد والجماعات شعور الانتماء ويرسم معالم الهوية الثقافية الجماعية لكل أمة.

1.2 - مفهوم الرمز:

تمثل سيرورة تشكيل الرموز والمعاني إحدى أهم الخصوصيات الوجودية التي تلازم الإنسان طيلة حياته وتميز وجوده، فهو يبني الرموز ويمنحها المعاني والدلالات لتفسر الظواهر المحيطة به. إنها بذلك تمنح المعنى لمحيطه وتنظم علاقاته الاجتماعية ووفقا لهذه الرموز تتشكل التصورات وتبنى عبر متخيل جمعي تحكمه زمرة من المعتقدات والرموز والمعاني التي تعتبر الركيزة الأساس في تشكله، وفي هذا الصدد وكما قال بيار أنصار: «فإن المجتمعات سواء الحديثة منها أو التقليدية، أو تلك المسماة بلا كتابة، تنتج دوما متخيلات «des imaginaires» لتعيش بها وتبني من خلالها رموزها وصورها عن نفسها وعن الأشياء والعالم، وبواسطتها تحدد أنظمة عيشها الجماعي ومعاييرها الخاصة».[22]

إن التناول الأنثروبولوجي للرمز بالدراسة والتحليل يعود «إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما وفرت الرمزية الكثيفة لكل من الطقس والأسطورة قاعدة لعدد من التحليلات المهمة لما سماه لوسيان ليفي برول ب الذهنية البدائية. ولعل أبرز دراسة في هذا الصدد كانت كتاب Primitive culture (1871) (الثقافة البدائية) لإدوارد بيرنيت تايلور، لكن أنثروبولوجيا القرن العشرين تطورت إلى حد كبير بالتعارض مع التمركز الإثني والافتراضات التطورية لكثير من تلك المنظورات المبكرة. وكان صعود الوظيفية في العشرينيات وتشديدها على البنية السياسية والقرابة، قد اتجه أيضا إلى استبعاد الرمزية من برامج العمل الإثنوغرافية».[23]

2.2- المعتقدات:

إن المعتقد هو كل ما يعتقد به الفرد ويصدق حقيقته إلى حد الإيمان والقطع مع الشك الذي يكتنفه إلى التحلي باليقين بكل رموزه وتفسيراته، وفي تعريف فراس السواح للمعتقدات يرى أنها: «أول أشكال التعبيرات الجمعية عن الخبرة الدينية الفردية التي خرجت من حيز الانفعال العاطفي إلى حيز التأمل الذهني. ويبدو أن توصل الخبرة الدينية إلى تكوين معتقد، هو حاجة سيكولوجية ماسة؛ لأن المعتقد هو الذي يعطي للخبرة الدينية شكلها المعقول، الذي يعمل على ضبط وتقنين أحوالها... والمعتقد الديني هو شأن جمعي بالضرورة... إن عقول الجماعة تعمل على صياغته، كما تعمل الأجيال المتلاحقة على صقله وتطويره».[24]

«والمعتقد شأن جمعي لأكثر من سبب، فأولا، من غير الممكن أن يقوم كل فرد من أفراد الجماعة بصياغة معتقد خاص به، مما يستدعي ذلك من سلوك وأفعال سوف تتضارب حتما مع ما يبادر به الآخرون. وثانيا أن دوام أو استمرار أي معتقد يتطلب إيمان عدد كبير من الأفراد به وإلا اندثر وفقد تأثيره حتى في نفس صاحبه... يتألف المعتقد عادة من عدد من الأفكار الواضحة والمباشرة، تعمل على رسم صورة ذهنية لعالم المقدسات، وتوضح الصلة بينه وبين عالم الإنسان»[25]. إن حديثنا عن المعتقدات يحمل في طياته وجوهره دلالة للثقافة الشعبية السائدة بالمجتمع، فهو ما يعتقده الأفراد كمسلمات بديهية غير قابلة للنقاش أو التشكيك في صحتها، بل هي تفسيرات لظواهر غيبية أو طبيعية تلزم الفرد الامتثال لطقوسها والتصديق بها بطقوس ممارستها.

3.2- الطقس:

إن ما يميز هذه الممارسات الطقوسية في بعدها الرمزي هو كونها تخضع لقبول جمعي من طرف الأفراد. إنها بهذا المعنى، نظام رمزي ارتضته الجماعة لتفسر المحيط الاجتماعي الخاص بها وتمنحه دلالات ومعاني انطلاقا من ممارساتهم الطقوسية، بل وفي كثير من الأحيان تتحول هذه الممارسات لتغدو بمثابة عرف اجتماعي يحكم الجماعة ويضبط الأفراد اجتماعيا ويحدد هويتهم وانتماءاتهم المشكلة لموروثهم الثقافي. ويعرف «كريغ كالهون» الطقس في معجمه للعلوم الاجتماعية بأنه: «نمط سلوكي متكرر يحمل معاني مركبة خصوصا، عندما يشارك ضمن جماعة ويتعلق بموضوعات أساسية في الثقافة الجماعية. تقع دراسة الطقس في قلب كثير من البحوث السوسيولوجية. وكغيره من المصطلحات المفتاحية يقاوم الطقس التعريف الدقيق له. اتجه الأنثروبولوجيون إلى المطابقة بين الطقس والسلوك ذي الطابع الشكلي، أكان ذلك بالمعنى الواسع الذي يتضمن شكلا أساسا للتعبير البشري أم بمعنى أضيق يتعارض مع مجرد الاحتفال أو الأنشطة المرتبطة ب المدنس (الدنيوي) أو الأسطورة أو السلوك الغائي، دشن إيميل دوركايم أحد أكثر المحاور ديمومة في البحث؛ وذلك في حجته الوظيفية القوية، ومفادها أن الطقس يشكل الآلية الأساسية للتضامن الاجتماعي ...تشدد مقاربات أخرى للطقس على الطابع المركب والمعقد لخصائص الفعل الطقسي ورموزه، في هذا المجال كان كتاب فيكتور تيرنز The Forest of Symbols (1967) (غابة الرموز) شديد التأثير. تميل مثل هذه المقاربات إلى التركيز على الطرائق التي يعمل بها الطقس على المستوى النفسي، سواء بوصفه حيلة ضد المرض أو الخطر أم بوصفه وسيلة لحياكة عناصر متنوعة اجتماعية وطبيعية في نظرة إلى العالم متماسكة»[26].

وفي هذا السياق، يركز بيير بورديو في تحليله للشروط الاجتماعية لفعالية الخطاب الطقوسي؛ إذ يسلط الضوء على تحليل الخطاب الذي لا يستقيم تحليله إلا عبر اتصاله بالشروط التي أدت إلى إنتاجه، وهو يعني في هذا الصدد بـ: «الشروط الطقوسية أي مجموع القواعد التي تتحكم في شكل المظهر العمومي للسلطة ومراسيم الاحتفالات والقواعد التي تضبط الأعمال والتنظيم الرسمي للطقوس».[27]

إن ممارسة الطقوس لا تنحصر فقط في المناسبات الخاصة بها، بل إنها أيضا تسم الحياة اليومية للأفراد وتطبعها وتمنحها معنى، « ولقد أولى «إيرفينغ قوفمان» لطقوس التفاعل في الحياة اليومية rites d’interaction اهتماما أساسيا في مقارباته السوسيولوجية للممارسات «البسيطة» في حياة الناس اليومية، مبينا ما يقع فيها من انتظام، وما تختفي من ورائها من نظم رمزية تسير عمليات التواصل الأكثر شيوعا بين الأفراد في الحياة اليومية...كما بين «قوفمان» أن الناس كائنات طقوسية بكل امتياز ولا يمكنهم العيش معا إلا بواسطة طقوس تنظم مبادلاتهم الرمزية المختلفة. فالمجتمع مسرح يومي تؤدى فيه الأدوار منتظمة وفق طقوس تفاعلية لا تستوي الحياة الجماعية بدونها»[28]

وعليه، يمكن النظر إلى هذه الممارسات الطقوسية على أنها قواعد مشتركة يعترف بها من طرف الجماعة يطبعها التعقيد لما تحمله من رموز مشفرة للحياة اليومية وتمنحها طابعها، مما يجعلها مقبولة من طرف الجماعة، وقابلة للتحيين وفقا للمناسبات التي تتكرر فيها وفقا لتوقيت زمني محدد ومضبوط.

3- عينة من بعض المعتقدات بالمتخيل الشعبي المغربي:

لطالما مثلت المعتقدات الشعبية ضربا من ضروب التفكير بالمتخيل الشعبي، هذا النسق الاعتقادي عبر عنه في مجموعة من الأفكار والتصورات المشتركة التي ارتضتها الجماعة ووارثتها جيلا عن جيل. وقد أشار بول باسكون في هذا الصدد، إلى أن المتخيل الشعبي المغربي لا يخلو كغيره من الشعوب من الإيمان والتصديق بهذه المعتقدات الشعبية، حيث يعيش المغاربة «في ظل العديد من أنساق الاعتقاد: فهناك مجموعة متنافرة من الممارسات الطقوسية السابقة عن التوحيد، ودين منزل- هو الإسلام هنا- واحترام للعلم الحديث. إن هذا التنافر البين لهذه المجموعات العرفانية (gnosiques) لا يطرح بالنسبة إلى كل ملاحظ خارجي، أو بالنسبة إلى كل أولئك الذين قد ينزوون داخل واحد من هذه الأنساق الجزئية الثلاثة، أي مشكلة على مستعمليه... من الممكن أن يوجد تنافر، بل تناقض أو منافاة، بين هذه العوالم المفهومية أو الإيديولوجية المختلفة».[29]

وقد حاولنا في هذا المقال، إدراج عينة من بعض المعتقدات السائدة بالمغرب، و«قد تكون مرتبطة بقصة أو حادثة مشهورة أو بعض التصورات المروية عن الإنسان والحيوان والجماد. قد تكون مرتبطة بالتراث الشعبي أو بفكرة قديمة ذكرت في التراث العربي وجددت على شكل رواية جديدة، ولكن تشترك في أغلبها أنها نتاج لتخيلات فكرية بعضها يخص أحداثا واقعية وبعضها مبالغ فيه تصور بعض المخاوف الداخلية التي تعتري النفي البشرية تجاه شيء ما وخاصة الأشياء المجهولة غير المرئية مثل الجن والوحوش»[30] وفي هذا الصدد، سنورد عينة من نسق المعتقدات السائدة في المغرب ورصد تنوعها ودلالاتها ومساهمتها في تشكيل الذاكرة الجماعية التي انطلقت منها الثقافة المحلية المغربية.

معتقدات خاصة عن ظهور الجن بالخلاء والأماكن الرطبة: نموذج «عيشة قنديشة» أو «عيشة البحرية»

من بين أهم المعتقدات الراسخة في المتخيل الشعبي هو وجود بعض المخلوقات الغريبة بالمستنقعات والأماكن الرطبة أو على الطرقات وظهورها ليلا، حيث «تعتبر العلاقة بين الإنسان والجن علاقة ملتبسة في الاعتقاد الشعبي؛ فالجن يمتلك قوة خارقة وقادرة على التشكل في صور مختلفة، منها الصور الإنسانية، كما أنه يمكن أن يتلبس بالإنسان، ويسكنه...وكلما ذكر الجن إلا وصاحب ذكره حالة من التوجس والخوف لدى المذكور بينهم، وقد يشاع تردد أقوال عند ذكرهم من قبيل: «بسم الله الرحمن الرحيم»، وذكرنا الملح والشعير»، و«التسليم للمسلمين» ويكنى عن الجن بـ «أصحاب المكان»، و«لجْواد»، وغيرها من الأسماء التي يلفها الغموض»[31]، وحسب الاعتقاد الشائع تتجسد بعض الجنيات ليلا في صفة امرأة شديدة الجمال نصفها بشري وأرجلها عبارة عن حوافر البقر أو الجمال، وهو وصف عام بين مختلف الشهادات الحية التي أدلى بها ضحايا عيشة قنديشة أو «الخراجة»[32]، حيث تشكل الأماكن الرطبة مسكنا لقبائل الجن، وفي هذا الصدد يقول بول باسكون: «في الأماكن الرطبة تسكن كبيرة الجنيات «عيشة قنديشة»، وهي واحدة من الجن النادرين بالمغرب الذين أضفي عليهم اسم علم وشخصية محددة، حتى وإن كانت مزدوجة. إنها بالنسبة إلى بعض الناس، شابة حامية تغوي عشاقها وتسحرهم ثم تلتهمهم مثلما تصنع فويفر (vouivre) الشامبانية، أو مرغانا البروتونية، كما أنها بالنسبة إلى البعض الآخر، ساحرة شمطاء حسودة تلتذ بالفصل بين الأزواج».[33]

1.3 معتقدات خاصة عن استخراج الكنوز:

  • تفسر خطوط الكف المتصلة باليد على أن الشخص «زوهري»؛ أي روحاني حيث يتم تقديم دمه قربانا لحراس الكنوز تحت الأرضية التي تتم حمايتها من قبل الجن؛ فبمجرد الحصول على دم الشخص «الزوهري» تفك شفرات الكنز وقيوده، يقول بول باسكون في هذا الصدد: «عن هذه السلوكيات، يملك المغاربة شروحا عقلانية. والمسألة، دائما، هي كنوز مدفونة في باطن الأرض، إما من قبل شعوب قديمة (الرومان، البرتغاليين، الإسبان، والمسيحيين بصفة عامة)، وإما من قبل أشخاص كانوا نافذين في الماضي، واضطروا إلى مغادرة البلد على عجل دون أن يستطيعوا حمل ثرواتهم معهم. والحكاية الأكثر ذيوعا هي تلك (التي تتكلم عن) حاج ذهب إلى مكة لأداء الفريضة، بعد أن ترك بعض الزاد لعائلته وأخفى ثروته في مكان لا يعرفها سواه، حتى يسترجعها بعد عودته. ولكي لا ينسى الحاج مخبأ كنزه، دوّن مكانه على قطعة من «الرق»[34]، إلا أن الموت، وغيره من صروف (الزمن)، قد يوقع هذه الوثيقة في أيدي شبكة محكمة التنظيم تمتد خيوطها إلى شبه الجزيرة العربية، حيث تستولي على بقايا الحجاج المغاربة. حاصل القول إن الباحثين عن الكنوز ليسوا سوى دواليب لمنظمة خفية هائلة تتاخم السحر ومقربة من الجن، مادام كل ما تقوم به يتم ليلا ويهم عمق الأرض»[35]. ومن المثير للاهتمام هو تلك الرمزية التي يحتلها زمن الليل في المتخيل الشعبي مغربيا وعربيا وما له من تأثير في عملية التخيل وإنتاج التصورات التي يتم ربطها، سواء بالعالم المحسوس المدرك أو ما وراء الطبيعي، حيث «تتحكم في إنتاج التصورات البشرية عدة ثنائيات. وتعتمد هذه الثنائيات على بعض الظواهر الطبيعية، ومن ذلك ثنائية الليل والنهار... يرمز الليل للخفي، للسلطة الغاشمة، للمحرم الجميل. إنه يحيل على كل ما كان خارج المسطر. أما النهار والنور، فيرمزان للعلني الحاكم، للسلطة الشرعية، للحرية، للهدى».[36]

2.3.معتقدات خاصة عن الثقاف أو الزواج:

من الاعتقاد الشعبي الشائع، في الحرص على البكارة والحفاظ عليها، يتم عقد البنت بطرائق مختلفة لكن أشهرها الثقاف بواسطة «المنسج» أو النيرة، والثقاف بواسطة الرحى أو فأس قديم يتم توارثه ويطلق عليه فأس الورثة، «وبالنسبة إلى عقد البكر، يلجأ الفقيه الساحر أيضا إلى القفل أو الغربال وصنع الطلاسم المحروسة بالجان، لقطع أي إمكانية في إقامة المرأة لعلاقة جنسية قبل الزواج ومن الوصفات المنتشرة في مجتمعات النسوة المنغلقة على أسرارها نذكر طريقة «المنسج» وتتضمن عملية ثقاف الفتاة البكر مرورها بين خيوط الصوف المتشابكة ثم يغلق «المنسج» بعدها»[37]، حيث يعتقد أنه إذا تخطت الفتاة العازبة المنسج، فهي تعرض نفسها للعقد أو « الثقاف» بالمفهوم الشعبي، وبالتالي تشل حركتها ونشاطها الجنسي إلى حين موعد زواجها، ليتم فك وإبطال هذا الثقاف بطرائق تتنوع هي الأخرى، وفي تعريفه لمفهوم الثقاف، يقترح مصطفى واعراب: «في اللغة المتداولة يعني «الربط» أو «العقد» في معتقد المغاربة التدخل في القدرة على الاتصال الجنسي لدى الشخص، من خلال عمل سحري يستهدف توجيه تلك القدرة في اتجاه وحيد «حالة المرأة التي ترغب في شل قدرة زوجها على معاشرة غيرها جنسيا»، أو شلها بالمرة. وتسمى هذه العملية «الثقاف» ويعكس ما هو شائع، فإن الثقاف لا يستهدف الرجل فقط، بل المرأة أيضا وتشمل مجالات اللجوء إليه أغراضا أخرى».[38]

تتعدد طرائق فك الثقاف وتختلف بحسب نوع الثقاف المستعمل، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنه يعتقد في بعض الأحيان أن شرب بول الأم هو كفيل بفك السحر والثقاف، ويقال في التعبير الشعبي الشائع: «اللي عندو مو ما كيتسحر» من أمه على قيد الحياة لا يصيبه السحر، كون الأم في المعتقد الشعبي تحمل رمزية وقوة خارقة في إبطال كل قوى الشر عن أبنائها من خلال بعض الطقوس المستعملة في ذلك، والطريقة الثانية تتجلى في حرق خيط «النيرة»[39] كبخور يتبخر به الرجل أو الفتاة، أيضا نجد نوعا آخر من فك الثقاف من خلال الوضوء بخليط من الأعشاب فوق المنسج، أيضا يتم فك الثقاف بالرحى (وهي أداة يدوية تستعمل في طحن الحبوب) من خلال فتح الرحى لشقين، حيث يشترط أن يكون المصاب «بالثقاف» على وضوء ويستحب لو يلبس جلبابا أو شيئا من لباس الأم، سواء بالنسبة إلى الرجل أو البنت ثم يتم سكب باقي الماء الساخن على سائر أعضاء الجسد، وتتنوع طرائق فك الثقاف، سواء فيما يخص العقد بالنسبة إلى الفتاة أو الربط بالنسبة إلى الرجل؛ وذلك وفقا للطرائق المستعملة في الثقاف. وبالنسبة إلى فك الربط عند الرجل لاسيما «إذا استعملت المقص أو الباب لثقافه، فيجب عليها أن تفتح ما أغلقته ليزول الربط، وإذا لم يزل المفعول السحري، فيجب عليها التبخر بالدخان المتصاعد من حرباء، بعد رميها حية في النار، أو الاستحمام بماء مقروء عليه آيات من القرآن، أو التبول على سمكة حية بعد صيدها، ثم إرجاعها إلى البحر أو النهر... وفي بعض الحالات المستعصية يتطلب العلاج تدخل عدة أطراف كأن يكتب الفقيه الساحر طلسما على حديدة فأس، ويذهب بها المعني بالثقاف إلى حداد ليضعها في النار، وحين تحمى يرمي بها في الماء و«المربوط» متجرد من ملابسه السفلى بشكل يسمح للبخار المتصاعد من أن يلمس جهازه التناسلي»[40] وعلى العموم، فإن البعض يلجأ إلى هذا المعتقد تحت مبررات ودوافع أبرزها الحفاظ على البكارة والخوف على فقدانها بالنسبة إلى البكر قبل الزواج. أما بالنسبة إلى ربط الرجل، فيكون سببه ومبرره كما في المعتقدات السائدة خوف المرأة على مشاركة نساء أخريات لها في زوجها أو تعرضها للخيانة الزوجية، فكان الثقاف من الحلول الشعبية أو كما أطلق عليه مصطفى واعراب «السحر الشعبي أو سحر العامة».[41]

3.3- التمائم «الكموسة» وكتابة الحروز لتحصين الأطفال من العين والأرواح الشريرة:

في طقوس الاحتفال باستقبال المولود الجديد تتسلل بعض المعتقدات في سياق الاستعداد لهذا الطقس الاحتفالي، حيث تبدأ مباشرة في اليوم الثاني من عمر المولود؛ إذ يتم وضع «تميمة أو حرز» أو كما يقال بالتعبير الشعبي «كموسة خضراء» مملوءة بالشبة (الشب) والحرمل والملح»، حماية للمولود من العين وطرد للأرواح الشريرة، اعتقادا منهم أن هذه الكموسة أو «التميمة» هي حصن يحصن المولود من السحر ويحميه من شر الأنفس، كما يوضع تحت وسادته سكين لتجنب الكوابيس ليلا وحمايته من الشياطين ومن أذى الجن والإنس، يفسر بول باسكون في هذا السياق عن سبب هذا الاعتقاد في نجاعة وفعالية «تعليق التمائم أو الحروز»، حيث يقول: «فحيثما توجهت وسط الشعب ترى صغار الأطفال والنساء الحوامل والمرضى والأشخاص المشوهين والمعوقين يعلقون بأعناقهم جرابات ضئيلة الحجم تتضمن بعض الطلاسم الواقية ... أمام هذه التمائم، لا يبقى لقوى الشر أي مفعول، فهي تمتلئ رعبا وتتراجع عاجزة: إن (هذه التمائم شبيهة) بصاد للشيطان (Retro Satanas) الموجود في العالم المسيحي...وإن «الطلبة» أو «الفقهاء»، بصفة عامة، هم الذين يحررون التمائم أو يرسمونها بالأحرى. وصفة العارف هذه، للغة وللدين، تضعهم مباشرة في مأمن من كل شبهة وثنية»[42].

4.3- معتقدات عن المحذور والمكروه:

  • يرمز الحذاء المقلوب في المعتقد الشعبي إلى دلالات متعددة تتنوع وفقا لاختلاف المناطق، حيث يحمل معنيين أو أكثر؛ الأول: هو بمثابة إشارة إلى زيارة الضيوف قريبا وهذا ما يجعل الشخص يحاول تعديل الحذاء لكي يتجنب حضورهم، لاسيما إن كان يعاني من ضيق مالي أو غير مستعد لاستقبالهم لظرف من الظروف. أما الدلالة الثانية للحذاء المقلوب، فتشير إلى العضو التناسلي للمرأة «المؤخرة» «على قفاها»، فيطلب من الحاضرين أن يعدل الحذاء المقلوب بسرعة، حيث يثير خجلا كبيرا بين النساء لاسيما في وجود الرجال؛ إذ يشير إلى العلاقة الجنسية المحرمة بين الأزواج (الجماع من الدبر أو الخلف)، ويحكى قديما أن خجل النساء من البوح بسبب الطلاق في هذه الحالة يجعل إجابتهن أمام القاضي بقلب الحذاء، فيفهم القاضي أن سبب الطلاق جاء بناء على رفض الزوجة للعلاقة الجنسية من الخلف، و«يكره ترك الحذاء مقلوبا؛ لأنه يواجه السماء وفيها رب العزة، ولأن ذلك قد يقلب الرزق والخير عن أصحاب البيت في الدنيا».[43]
  • يتم التحذير في المعتقدات الشعبية بالمغرب من سكب الماء الساخن في دورات المياه ليلا أو في الخلاء اعتقادا أنه يتم حرق الجن، ما يعرض صاحبه للمس أو المرض «تشيار».[44]
  • يحذر من حكي الحكايات الشعبية نهارا خوفا من أن يصاب الحاكي بالصلع، وأن يورثه لأطفاله أو لأحفاده.
  • من المكروه أن يتم تخطي الشخص، سواء كان نائما أو مستلقيا؛ لأن ذلك يتسبب في له في الحد من طوله.
  • يتم التشاؤم من مشاهدة العرس صباحا كونه دلالة على أن اليوم سيكون سيئا على صاحبه
  • رؤية القطط السوداء أو الغراب صباحا إشارة إلى النحس، أو أن اليوم سيكون سيئا، فيقال: «إيلا شفتي مش حكل نهارك يخرج حكل زحل».
  • لا يحبذ الضحك كثيرا كونه دلالة على حدوث كارثة ربما تتسبب في البكاء الشديد بعده، فيقال: «الله يخرج هاد الضحك على خير».
  • يتم التحذير والنهي عن إعطاء الزيت أو الملح أو كل مواد المؤونة ليلا خوفا من فقدان البركة من البيت أو إلحاق الضرر بأصحابه.
  • يعتقد أن سبب رفرفة العين اليمنى هو راجع لرؤية شخص عزيز أو سماع خبر مفرح، في مقابل ارتعاش العين اليسرى هو دلالة على سماع خبر سيء.
  • يعتقد أيضا أن أكل الفتاة أو الرجل مباشرة من القدر يكون من أسباب هطول المطر يوم زفافهم.
  • يحذر من النوم على عتبة الباب، حتى لا يصاب الشخص بالمس من قبل الشيطان أو الجن وفي اعتقادات أخرى يقال إن نوم البنت على العتبة سيكون سببا في دمار حياتها الزوجية مستقبلا وجلبا للحظ السيء.

على سبيل الختام:

صفوة القول جاءت كل من الأساطير والمعتقدات الشعبية كتفسيرات تمنح لهذه الظواهر دلالات ورموز ومعان ترتضيها الجماعة كتقليد شعبي، وتفسيرات لما يكتنف هذا الوجود الإنساني من غموض والتباسات، لتتحول عبر الزمن ومن خلال التداول والاعتقاد بها وتوارثها إلى أساطير تميز الشعوب وتحدد هويتها، بل وتغني من مخزون موروثها الثقافي بشقيه المادي واللامادي، وفقا لسياقاتها الاجتماعية والثقافية المنتجة لها؛ فالأساطير على الرغم من تشابهها أحيانا، سواء المغربية أو العربية، إلا أن الملاحظ فيها هو روح التجربة الجماعية التي كانت سببا في تشكلها، والتي انطلقت مما هو محلي من تقاليد أعراف ولهجات محلية، ليتم انتشارها عل نطاق واسع عبر العالم، فتتلاقح الثقافات وتشترك وتتقاطع لكن تبقى لكل أسطورة جذورها الخاصة التي تستقي منها الحمولات والدلالات الرمزية، انطلاقا من الخصوصية الثقافية المميزة للبلد سواء من خلال التسميات المحلية لها، أو من خلال الأماكن والشخصيات التي ذكرت عبر متن هذه الأساطير وكذا غاياتها وأهدافها لتتشكل من خلالها طقوس ومعتقدات شعبية ذات طابع قدسي تولدت من رحم الأسطورة، ليتم الاعتقاد بها والتصديق من قبل أفراد الجماعة، فتحفل بها الذاكرة الشعبية، بل وتشكل هويتها الثقافية المميزة لها عن باقي الشعوب، فتغذو الأسطورة حاملة لثقافة المجتمع في معناها المادي واللامادي الإنساني بكل حمولاتها وخصوصياتها اللغوية والثقافية، كما أنها تحمل المكان المحلي الذي أنتجت فيه ونسجت، لتعرف به على نطاق واسع من هذا العالم.

 

الهوامش:

-النيرة أو النيارة من أهم أدوات النساج في عملية النسيج لاسيما نسج الزرابي، وهي عبارة عن قصبة يتم ثقبها وإدخال خيوط بداخلها تسمى خيوط النيرة (وهي الخيوط التي يتم استعمالها كبخور لفك الثقاف) مباشرة بعد أن تستعمل هذه الخيوط كأداة لقياس طول الفتاة أو الرجل من الرأس إلى القدم على طول الجسم ثم تستعمل هذه الخيوط وتحرق كبخور بعد الوضوء أو الغسل على هذا المنسج.

- الرق، هو قطعة من الجلد الحيواني الرقيق تستعمل للكتابة عليها قديما بدل الورق.

- الخراجة: الخراجة هو ما يخرج ليلا قد يكون من الحيوان أو الجان أو جان على هيئة بشر) يتم مشاهدتها ليلا في الخلاء أو في الطرقات المظلمة وأحيانا في المستنقعات والأماكن الرطبة.

- «التشيار» أو «مشير» أو «مسكون» سكنه الجن، وتعني أنه تعرض لهجوم من طرف الجن بسبب تهجمه عليهم فقاموا بالانتقام منه وإلحاق الضرر بصحته البدنية والعقلية.

المراجع المعتمدة:

1-      أحمد أبو زيد، الواقع والأسطورة في القص الشعبي، الملاحم والسير الشعبية، عالم الفكر، المجلد السابع عشر، العدد الأول، 1968

2-      أحمد زياد محبك، من التراث الشعبي دراسة تحليلية للحكاية الشعبية، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت لبنان، 2005

3-      أشلي مونتاغيو، البدائية، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الطبعة الأولى، العدد 53، الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1983

4-      بول باسكون، الأساطير والمعتقدات بالمغرب، مجلة بيت الحكمة، العدد الثالث، السنة الأولى، أكتوبر 1986

5-      بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة: عبد السلام بن عبد العالي، الدار البيضاء المغرب، دار توبقال للنشر، الطبعة الثالثة، 2007

6-      ربوح البشير، مقاربة تاريخية بأفق مفاهيمي لمسألة الميتافيزيقا، مجلة أبعاد، العدد الرابع، يناير، 2014

7-      سيد القمني، الأسطورة والتراث، الصادر عن مؤسسة هنداوي، 1999

8-      عبد المجيد جحفة، سطوة النهار وسحر الليل الفحولة وما يوازيها في التصور العربي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، المغرب، 1999

9-      علي الشوك، الأساطير بين المعتقدات القديمة والتوراة، صدر عن دار اللام، لندن، 1987

10-  فراس السواح، الأسطورة والمعنى، دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، الطبعة الثانية، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق 2001

11-  كريغ كالهون، معجم العلوم الاجتماعية، ترجمة معين رومية، مراجعة علمية: باسم سرحان- أيهب سعد، المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت، مايو، 2021.

12-  محمد أديوان، حكاية عائشة قنديشة بين الأسطورة والواقع مقاربة أنثروبولوجية ثقافية، مجلة المناهل، السنة 25، العدد 64-65، ماي، 2001

13-  مصطفى واعراب، المعتقدات والطقوس السحرية في المغرب، دار الحرف للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، المغرب، يناير، 2007

14-  منصف المحواشي، «الطقوس وجبروت الرموز: قراءة في الوظائف والدلالات ضمن مجتمع متحول»، insaniyat / إنسانيات، 49/2010

[1] أستاذ التعليم العالي، تخصص سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية- جامعة بن طفيل القنيطرة. المغرب.

[2]- باحثة بسلك الدكتوراه، مختبر الإنسان والمجتمعات والقيم، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية- جامعة ابن طفيل القنيطرة. المغرب.

[3] ربوح البشير، مقاربة تاريخية بأفق مفاهيمي لمسألة الميتافيزيقا، مجلة أبعاد، العدد الرابع، يناير، 2014، ص 38

[4] أشلي مونتاغيو، البدائية، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الطبعة الأولى، العدد 53، الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1983، ص 91

[5] أشلي مونتاغيو، البدائية، نفس المرجع، ص 91

[6] أشلي مونتاغيو، نفس المرجع، 93

[7] بول باسكون، الأساطير والمعتقدات بالمغرب، مجلة بيت الحكمة، العدد الثالث، السنة الأولى، أكتوبر 1986، ص 85

[8] محمد أديوان، حكاية عائشة قنديشة بين الأسطورة والواقع مقاربة أنثروبولوجية ثقافية، مجلة المناهل، السنة 25، العدد 64-65، مايو، 2001، ص385

[9] أحمد أبو زيد، الواقع والأسطورة في القص الشعبي، الملاحم والسير الشعبية، عالم الفكر، المجلد السابع عشر، العدد الأول، 1968، ص3

[10] علي الشوك، الأساطير بين المعتقدات القديمة والتوراة، صدر عن دار اللام، لندن، 1987، ص 7

[11] فراس السواح، الأسطورة والمعنى، دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، الطبعة الثانية، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق 2001، ص14

[12] حسن نعمة، نفس المرجع، ص 25

[13] كريغ كالهون، معجم العلوم الاجتماعية، ترجمة معين رومية، مراجعة علمية: باسم سرحان- أيهب سعد، المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت، مايو، 2021، ص 94

[14] علي الشوك، نفس المرجع، ص 6

[15] سيد القمني، الأسطورة والتراث، الصادر عن مؤسسة هنداوي، 1999، ص 25

[16] بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة: عبد السلام بن عبد العالي، الدار البيضاء المغرب، دار توبقال للنشر، الطبعة الثالثة، 2007، ص 48

[17] هاني الكايد، نفس المرجع، ص 13، ص 14

[18] هاني الكايد، نفس المرجع، 13

[19] جمال عليان، الحفاظ على التراث الثقافي، نحو مدرسة عربية للحفاظ على التراث الثقافي وإدارته، عالم المعرفة، العدد 322، ديسمبر، الكويت، 2005، ص 74

[20] جمال عليان، نفس المرجع، ص 72

[21] أحمد زياد محبك، من التراث الشعبي دراسة تحليلية للحكاية الشعبية، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت لبنان، 2005، ص 18

[22] منصف المحواشي، «الطقوس وجبروت الرموز: قراءة في الوظائف والدلالات ضمن مجتمع متحول»، insaniyat / إنسانيات، 49/2010، 43.15

[23] كريغ كالهون، نفس المرجع، ص 134

[24] فراس السواح، دين الإنسان بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، منشورات علاء الدين، الطبعة الرابعة، سورية –دمشق، 2006، ص ص47-48

[25] فراس السواح، نفس المرجع، ص ص 48- 49

[26] كريغ كالهون، نفس المرجع، ص 421                                                                             

[27] بيير بورديو، الرمز والسلطة، نفس المرجع، ص 61

[28] منصف المحواشي، «الطقوس وجبروت الرموز: قراءة في الوظائف والدلالات ضمن مجتمع متحول»، insaniyat / إنسانيات، 49/2010، 43.15

[29] بول باسكون، الأساطير والمعتقدات بالمغرب، مجلة بيت الحكمة، العدد الثالث، السنة الأولى، أكتوبر 1986، ص 83

[30] حسن علي آل غردقة، الخيال والمعتقدات الشعبية في الذاكرة الشعبية، مجلة تراث، المعتقدات الشعبية، الثقافة الأزلية بين القديم والحديث، العدد 274، أغسطس، ص 34

[31] ميلود عرنيبة، توظيف المعتقد الشعبي في السرد الروائي المغربي رواية «الدار الحمراء» لإدريس الملياني تمثيلا، مجلة علامات، العدد 51، 2019، ص ص 114- 115

[32] الخراجة: الخراجة هو ما يخرج ليلا قد يكون من الحيوان أو الجان أو جان على هيئة بشر) يتم مشاهدتها ليلا في الخلاء أو في الطرقات المظلمة وأحيانا في المستنقعات والأماكن الرطبة.

[33] بول باسكون، نفس المرجع، ص 88

[34] الرق، هو قطعة من الجلد الحيواني الرقيق تستعمل للكتابة عليها قديما بدل الورق.

[35] بول باسكون، نفس المرجع، ص ص، 89- 90

[36] عبد المجيد جحفة، سطوة النهار وسحر الليل الفحولة وما يوازيها في التصور العربي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، المغرب، 1999، ص 83

[37] مصطفى واعراب، نفس المرجع، ص 166

[38] مصطفى واعراب، المعتقدات والطقوس السحرية في المغرب، دار الحرف للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، المغرب، يناير، 2007، ص 163

[39] النيرة أو النيارة من أهم أدوات النساج في عملية النسيج لاسيما نسج الزرابي، وهي عبارة عن قصبة يتم ثقبها وإدخال خيوط بداخلها تسمى خيوط النيرة (وهي الخيوط التي يتم استعمالها كبخور لفك الثقاف) مباشرة بعد أن تستعمل هذه الخيوط كأداة لقياس طول الفتاة أو الرجل من الرأس إلى القدم على طول الجسم ثم تستعمل هذه الخيوط وتحرق كبخور بعد الوضوء أو الغسل على هذا المنسج.

[40] مصطفى واعراب، نفس المرجع، ص 168

[41] مصطفى واعراب، نفس المرجع، ص، 164

[42] بول باسكون، نفس المرجع، ص 90

[43] حسن علي آل غردقة، نفس المرجع، ص 34

[44] «التشيار» أو « مشير» أو «مسكون» سكنه الجن، وتعني أنه تعرض لهجوم من طرف الجن بسبب تهجمه عليهم فقاموا بالانتقام منه وإلحاق الضرر بصحته البدنية والعقلية.