ضعف التأثير الثقافي الفاطمي في عقائد التونسيين


فئة :  مقالات

ضعف التأثير الثقافي الفاطمي في عقائد التونسيين

ضعف التأثير الثقافي الفاطمي في عقائد التونسيين

إنّ الحديث عن مشروع عقدي يفترض ضرورة وجود مشروع ثقافي يروّج له ويسنده. وإذا رمنا الحديث عن المشروع الثقافي الشيعي الذي واكب ظهور الدولة الفاطميّة في تونس نقول إنّ بدايته، غير المبرمجة من قبل أبي عبد الله الداعية، كانت مع رسوليْ جعفر الصادق أبي سفيان والحلواني؛ فقد أرسى الرجلان قواعد المشروع السياسي البديل وجدانيّاً لدى التونسيين. ونجد صدى الدّعاية للمشروع الجديد في نصوص مثقّفي البلاط من الشعراء. وتصدّى لهذه الوظيفة أكثر من شاعر ممن تمّ إعدادهم لمثل هذا الدور، وسبق بعضهم ظهور المهدي الفاطمي، فبشّر بظهور الدولة الجديدة، وقال ابن عقبة في هذا المعنى [من الرجز: ]

فِي السِتِّ والتِّسْعِينَ تَهْبِطُ رَايَــــةٌ

مِنَ الغَرْبِ فِي جَمْعٍ كَثِيرِ المَواكِبِ

ويَظهَرُ مِن أَبْنَاءِ فاطمَة امرؤٌ

تَقِيٌّ نَقِيُّ العِرضِ جَمُّ المَواهِبِ

سَمِيُّ نَبِيُّ الله وابنُ وصيِّهِ

وأكرمُ مَوْلُودٍ وأشْرَفُ طَالِبٍ

فَيَمْلأُ أرْضَ الله عَدْلاً ورَحْمَةً

بأيّامَ صِدْقٍ طَيِّبَاتُ المكَاسِبِ[1].

لم يكن موقف هذا الداعية في ما قال مجرّد تبشير في المطلق أو تعبير عن أمل، بل هو حدّد التاريخ بدقة. وعبّر تدقيقه عن قربه من السلطة الناشئة في صمت وتستّر، وأكّد دوره في محاولة صناعة ذاكرة جديدة للتونسيين. وبدا ابن عقبة متشبّعاً بالأطروحة الشيعيّة التي ترى الحقّ في أبناء علي وفاطمة، مع تدقيق يضع الدولة وبانيها في سياقها الإسماعيلي المختلف عن الفرع الاثني عشري حين كنّى على المهدي بابن فاطمة، وهي الصّفة التي تمسّك بها المنتمون إلى هذا المذهب بعد استئثار الاثني عشريين برمزيّة الحسين. ووضّح موقعه من الصراع السياسي الحادث في تونس، فتوجّه إلى بني الأغلب الحاكمين باسم «المذهب السنّي» بالتهديد والوعيد، باعتبارهم ورثوا «اغتصاب» شرعيّة العلويين التي أثبتها الرسول نصّاً في الأدبيات الشيعيّة. وقال في هذا المعنى [من البسيط: ]

فَدَوْلةُ المَهْدِي القَائِمِ قدْ أَزفَتْ

أَيَّامُهَا في الذي انْتَابَهُ الأثَرُ

عن النَّبِي وفيهَا قَطْعُ دولَتِكُم

يَا آلَ أغلَبَ فارجُوا ذاكَ وانتَظِروا[2]

كرّر شاعر آخر معنى ظهور الحق وارتباطه بالعلوين المخلّصين وإنصافه للشيعة المنتظرين، ودعاهم إلى نصرة المنتَظَر فقال [من الهزج: ]

أَلَا شيعَةَ الحقِّ

ذَوِي الإيمَانِ والبِرِّ

أَتَتْكُم نُصْرَةُ اللهِ

على التّخويفِ والزّجْرِ[3]

لئن نشطت قرائح الشعراء في المراحل الأولى لإعلان الدعوة، فإنّ دورها الحقيقي اشتدّ إيقاعه مع وصول المهدي وظهوره. ففي هذه المرحلة، أصبح الدّفاع عن المذهب الإسماعيلي أوضح وأدقّ. والتصقت مضامينه أكثر بالصورة التي رسمتها السياسة للمهدي ومن بعده. وقد ربط الشاعر محمد البديل بين الإمام والنبي في مدحه المهدي عند ظهوره بالقيروان فقال [من المخلّع: ]

حَلَّ بِرقَّادة المَسيح

حلّ بهَا آدَمُ ونُوحُ

حَلّ بها أحمَدُ المُصفَّى

حلّل بها الكَبْشُ والذّبيحُ

حلّ بهَا اللهُ ذُو المَعَالي

وكلّ شيءٍ سِوَاهُ ريحُ[4]

ينطلق الشاعر في البيتين الأوّلين من أرضيّة شيعيّة تماثل بين الأئمّة والأنبياء[5]، ليطابق فيها بين المهدي وأولي العزم منهم، ولكنّه لا يقف عند المشترك المعلوم، بل يتحوّل في البيت الثالث إلى الخاصّ المستور في الأطروحة الإسماعيليّة فيُماهي بين الإله والمهدي، ويصبح الذي حلّ في رقادة إلهاً متعالياً لا يكافئه شيءٌ أو أحدٌ. وتتصاعد وتيرة إيقاع هذا التأليه، فيشيع بين أكثر من شاعر ويختصّ ابن هانئ (ت. 362هــــ/973م) ويروّج له على نطاق أوسع. ومن أشهر ما كتب في صورة المهدي قوله [من الكامل: ]

مَا شِئْتَ لَا مَا شَاءَتْ الأقْدَار

فاحكم فَأَنتَ الوَاحِدُ القهَّارُ[6]

لم يترك شاعر البلاط المعزّي فاصلاً في هذا البيت بين قدرة الإله وقدرة المعزّ؛ فالواحد القهّار من صفات الله في الإسلام، ولا يشاركه في صفاته أحد، ولكنّ التمثّل الإسماعيلي المتشبّع بالفلسفات الشرقيّة، والمطّلع ضرورة على المقولات المسيحيّة في الشرق ألغى هذا الامتياز وارتقى بالمهدي إلى مرتبة الإنسان الكامل، ونفى مقولة مهمّة في الفكر الإسلامي هي القضاء والقدر التي تسبق إرادة الإنسان وتعلو عليها، وتمثّل قاعدة إيمانيّة. لقد تخلّص الإمام الإسماعيلي في متخيّل ابن هانئ من ناسوته وأصبح لاهوتاً مكتملاً في صورة مماثلة لصورة عيسى بن مريم في صورته البُولْسِيَّة، نسبة إلى الرّسول بولس، وعبّر ابن هانئ عن التماهي بين الصورتين فقال:

أقْسَمتُ لوْ لَا أنْ دُعِيتَ خليفَةً

لدُعيتَ مِنْ بَعْدِ المَسيحٍ مَسيحَا[7]

ارتفع منسوب الولاء المذهبي للإمام عند أبي الفرج الشيباني، فجعل كل الأدباء شيعة على دين السلطان. ولم يعد يرى وجوداً للمخالفين من أهل السنّة بعد أن تمّت محاصرتهم سياسيّاً واجتماعيّاً، ونُكّل بهم في أكثر من خبر. وقال الشيباني في مدح المعزّ لدين الله الفاطمي (ت. 365هــــ/976م) [من البسيط: ]

شِيعيٌّ أمْلَاكِ بَكْرٍ إنْ هُمْ انْتَسبُوا

ولسْتَ تَلْقَى أدِيباً غيْر شِيعيٍّ

منْ أصْلَحَ المَغْرِبَ الأقصى بلَا أدَبٍ

غيرَ التشيّعِ والدّينِ الحنيفِي[8]

عبّر الشاعر في البيت الثاني بدقّة عن المعنى العام للتشيّع، وقرن بحذر بين التشيّع والدّين الحنيفي دون أن يجعل التشيّع ديناً أو إسلاماً. وكان وفيّاً لمقولات المذهب التأسيسيّة التي تطعن في شرعيّة الخلافتين الأمويّة والعبّاسيّة الحاكمتين باسم المذهب السنّي.

لم يقتصر التقديس على الأئمّة في الشعر الشيعي الفاطمي، ليشمل أماكن ارتبط ظهورها بهم، وقد نالت مدينة المهدية، واشتقّ اسمهما من اسم الخليفة المهدي، نصيباً من القداسة. ورفعها أحد الشعراء إلى مرتبة الحرم المكّي في الحجاز، وقال فيها [من الوافر: ]

لقد عَظُمتْ بأرْضِ الغربِ دارٌ

بها الصّلوات تُقبَلُ والصّياَمُ

هيَ المَهديّةُ الحرَمُ المُوقّى

كمَا بِتِهَامَة البلَدُ الحَرَامُ[9]

لا شكّ في أنّ الذاكرة الشعريّة قد استحضرت صورة المدن الشيعيّة الكبرى في العراق مثل النجف والكوفة وكربلاء. ولم يكن لهذه المدن ذكر قبل أن تشهد مقاتل الطالبيين[10]. وأسّس المهدي المهديّة، رغم ظهوره بالقيروان التي ورثها الأغالبة على الفاتحين بمباركة أمويّة. ولا قداسة لدى الشيعة يمكن بناؤها على ذاكرة متمرّدة على الحقّ وأهله حسب معتقداتهم.

الذي يجعلنا نتحدّث عن صراع مذهبي بين الإسلام الرسمي الذي تبنّى لاحقاً مذهب السنّة والجماعة والشيعة في تونس زمن الحكم الفاطمي، هو ما وصل من قصائد تدعم بني الأغلب الحاكمين باسم المذهب المالكي، وتشدّ عزائمهم في مواجهة المذهب الناشئ. وقال عامر التميمي مادحاً ابن الأغلب [من الكامل: ]

لَوْ لَا دفَاعكَ يَا ابنَ أغلَب أصبَحَتْ

أرضُ الغُرُوبِ رَهِينَةً لِفَسَادِ

ولَعَمَّنَا ذَاكَ الخِلَافُ بفتنةٍ

تَعْدو كَتَائِبُهَا بغيرِ سَوَادِ[11]

إنّ ما يقوم به الشيعة في بلاد المغرب هو فساد وفتنة حسب التميمي، وهو خطأ تصدّى له الأغالبة بحنكة ومسؤوليّة، ومنعوا آثاره السلبيّة. وهذا ردّ واضح على المقولات الشيعيّة التي تطعن في خلافة غير العلويين وتصنّفها كفراً وفساداً وخروجاً على إرادة الله ورسوله في وصيّة غدير خم.

لو اقتصر مدح الشعراء على الأمير الأغلبي، لجاز تصنيف البيتين السابقين ضمن أدبيات التملّق والتكسب الشائعة في الشعر العربي مشرقاً ومغرباً، ولكّنه تطرّق بوضوح إلى المذهب السنّي المالكي، وجعله وريث المرحلة النبويّة في نموذجيّتها. وقال أحدهم [من الطّويل: ]

وعِلْمُ الحِجَازَيْنِ بالغَرْبِ ينتَهي

إلــــى خَيْرِهم فعْلَا وأطْيَبِهم خُبْرَا

وأقوَمهمِ طُرّا لسُنّة أحمَدا

وأعظَمهُم للهِ في دينِهِ نصْرَا

وأَوْسَعِهِمْ علْماً وأَصدَقِهِمْ تُقًى

وأوْرَعِهِم جَهْراً وأوْرَعِهِم سرّا[12]

جاءت عبارات الورجيني، متقلّب الأهواء، أدقّ وأخصّ في مدح مالك بن أنس ومذهبه حين قال [من الطّويل: ]

ومَاتَ رَسول اللهِ فيهَا وبَعْدَهُ

بسِنِّييه أصحَابُهُ قدْ تَأدّبُوا

وفرّقَ شَمْلَ العلمِ في تَابِعيهِم

وكلّ امرئٍ فيه مَذْهَبُ

فخلّصهُ بالسّبكِ للنَّاسِ مالِكُ

ومِنْهُ صَحيحُ في المِجَسِّ وأجدب[13]

يلتقي الشاهدان السابقان في التذكير بالترابط بين المرحلة النبويّة التأسيسيّة ومالك بن أنس الذي استوفي شروط رواية الحديث مثل الصّدق والتّقوى والاستقامة والورع والعلم. واتخذ الخطاب تمشّيا حجاجيّاً يتضمّن الردّ على المشكّكين في شرعيّة المذهب السنّي وفروعه، وعلى الساعين لطرح البديل. ولئن كان الردّ على الآخر الشيعي صريحاً وواضحاً، فإنّ إيقاعه لم يرتق إلى حماس إيقاع دعاة الفاطميين. ولا نستبعد أن ترتبط وتيرة الردّ بطبيعة موازين القوى بين الطرفين؛ إذ بدأت الكفّة تميل لصالح العبيديين بسرعة. ولا نستبعد أيضاً أن يعود ذلك إلى ملكة طرفي الصراع ودرجة اقتدارهم على القول. فالمشارقة متمرّسون بهذه الأدبيات قبل الإسلام وبعده، وبإمكانهم صقل مواهب المدافعين عنهم وتطويع ذائقتهم. وفي المقابل لا عهد للمغاربة بفنون القول السجالي؛ لأنّهم لم يتشبّعوا بمقوّمات الصراع المذهبي، وإن شهدته أراضيهم ولم تعرف عنهم مواهب النظم[14]. ومن أجل أن نقف عند الفارق بين المشارقة والمغاربة في الشعر السياسي نورد بعضاً ممّا قاله تميم بن المعز الفاطمي في الردّ على شعراء البلاط العباسي المتمسكين بمشروعية خلفائهم الدينيّة والتاريخيّة، وقال الأمير [من المتقارب: ]

ألَا قُل لمَنْ ظَلَّ من هَاشمٍ

وَرَامَ اللِّحاقَ بأرْبَابها

أأوسَطُها مثْلَ أطْرَافها

أرؤوسُهَا مثل أذْنَابِهَا؟

أعبَّاسُكُم كَانَ سيفَ النَّبي

إذا أَبْدَت الحَربُ عن نابها

أعبَّاسُكُم كَوَصيِّ النَّبي

وَمُعطَى الرِّغَابُ لطُلّابها[15]

سيعرف التشيّع الرّسمي في إفريقيّة عودةً إلى جذوره المشرقيّة التي تشكّلت معالمها الحقيقيّة على أرض العراق بين الأمويين والهاشميين حين قرر المعزّ الفاطمي بسط نفوذه على بلاد الأندلس الخاضعة للسلطة الأمويّة. وقد أعلن عن سياسته الداخليّة والخارجيّة إلى العامّة بمناسبة أحد الأعياد، وجاء فيها رهانان كبيران تمثّلا في استعادة الأمن والوحدة في المستوى الداخلي، والعمل على توسيع حدود المملكة غرباً وشرقاً في المستوى الخارجي.

قال المعزّ في خطبته: «اللهم أيّدني بنصرك، وافتح لي على أعدائك فتحاً تحيي به الدين وتعزّ به ملّة محمد سيّد المرسلين، وارزقنا زيارة قبره والارتقاء على منبره، وحلول داره، وقضاء الحجّ إلى بيتك الحرام، والوقوف بتلك المشاهد العظام براياتنا، وقد جدّدت لنا العز ولأوليائنا، وقد أيّدتنا وإياهم بالنصر، وأكرمتنا بالظفر، وأظهرتنا على القوم الظالمين، وأخضعت لنا رقاب المعاندين العاصين، وقد تقدّم منك الميعاد للآباء والأجداد ولا خلف لوعدك، ولا رادّ لأمرك»[16].

جاء هذا المقتطف من الخطاب في شكل حلم يقظة يراود الخليفة الفاطمي الشاب؛ فسرد ما جال بخاطره في قالب محاورة وجدانيّة صوّرت ما طمح إلى تحقيقه انطلاقاً ممّا ترسّب في ذاكرته التاريخيّة والثقافيّة. وقد عاد به الحاضر والمستقبل إلى الزمن القدسي البدئي عند الشيعة. ومع هذا الغوص في القدسي، فإنّه لم ينس الصراع الطالبي الأموي الذي بدأ اجتماعيّاً سياسيّاً واستقرّ عقائديّاً مذهبيّاً، وورثته الجماعتان السنّية والشيعيّة[17]. يطمح المعز في هذه الكلمات إلى الثأر من أعداء أجداده والوقوف على آثارهم بعد أن توفّرت القدرة الماديّة؛ لأنّ الشرط العقائدي لم يجد آذاناً صاغية، ولأنّ القرشيين لم يقتنعوا بمقولة الإمامة الإلهيّة التي يزعمها الشيعة.

لقد جدّد المعز ما انطلق في السقيفة وعقد العزم على صناعة التاريخ المفقود من موقع القوّة بعد أن حضر الشيعة في التاريخ بصورة الضحيّة والهامش في كلّ مجال. واعتبر فرحات الدشراوي المبادئ الواردة في خطاب المعزّ بمثابة الإعلان الصّريح لتحقيق أغراض أسلافه التوسعيّة المرتكزة على العقيدة الشيعيّة التي تؤمن بحتميّة عودة عرش الإسلام إلى آل الرّسول؛ أي إلى ذريّة فاطمة[18]. ونقل القاضي النعمان في مجالسه تفاصيل المفاوضات التي سبقت الحرب بين الجيشين الأموي في الأندلس والفاطمي. وتوقّف عند التفاصيل السياسيّة والمذهبيّة التي وردت على لسان المعزّ؛ فقد شعر هذا الأمير بالقوّة الكافية وعزم على الثأر من عدوّه التاريخي. وحرص على تفويت كلّ فرصة للصلح رغم توسلات الطرف الأموي. وقد غلب على أسلوبه الهدوء والحجّة، ولكّنه لم يستطع إخفاء ما استبطنه من رغبة في القصاص من الأمويين[19]. وعبّر طلائع بن رُزِّيك (ت. 556هــــ/1161م) عن انتعاش الذاكرة المذهبيّة بجذورها الشرقيّة الداميّة فقال [من البسيط: ]

أَقُولُ: يَا لَيتنِي قَدْ كُنتُ في زَمَنِ الــــ

هادي لأحضَرَ فيه وقْعَة الجَمَلِ

ليَشْتَفِي كَبِدِي ضَرْباً بذِي شَطَبٍ

في الظَّالمِينَ وطَعْناً بالقَنَا الذّبلِ

وإنَّنِي لَقَتِيل الطفِّ مُكتئِبُ

إذْ راحَتِي لبَني اللّخنَاءِ لم تَطُلِ[20]

لئن بلغت الدولة الفاطميّة من قوّة وتوسّع شرقاَ وغرباً في عهد المعزّ، فإنّها لم تنجح في التغلغل ثقافيّاً بين الأمازيغ. ويمكن أن نقيس ضعف تأثيرها في عقائد أهل إفريقيّة بما ظهر من نصوص في مدح الخلفاء والترويج لفلسفتهم الباطنيّة والتوثيق لسيرهم. واقتصر ما وصل من نظم على مقطوعات قصيرة، ارتبط قولها في تقديرنا بالمناسبات الرسميّة الملزمة. ولا يُستثنى من هذا التقشف العاطفي إلّا محمد بن هانئ الذي تجاوزت علاقته بالمعزّ مجرّد الولاء السياسي وبلغت درجة الافتتان والتبنّي. وقد ماثلت علاقته به علاقة المتنبّي بسيف الدولة. ونرصد الحالة نفسها في الكتابات التاريخيّة والفقهيّة، إذ انحصر التوثيق في ما كتبه القاضي النعمان، وقد كان بدوره جزءاً من منظومة الخليفة المعزّ وأداة من أدواته.

يمكن أن يُفسّر ضعف تفاعل التونسيين مع الثقافة الفاطميّة، رغم ميلهم الوجداني إلى البيت العلوي، بمجموعة من العوامل من بينها سياسة التشدّد والعسف والتسلط التي انتهجها الفاطميون منذ حلولهم تجاه المخالفين والمناوئين[21]. وبتركيز السلطة الجديدة على الجانب الاقتصادي بجمع الضرائب ومراكمتها، وهي سياسة برّرت فيها الغايةُ الوسيلة في تلك المرحلة؛ أي كان لا بدّ من دعم الحملات العسكريّة المتواترة من أجل الهدم وإعادة التأسيس. ويكون الدعم بتوفير الأسلحة أو بالدفع من أجل استمالة المتردّدين وتطويع المعارضين، وهي أولويّة في برنامج تأسيس خلافة شيعيّة ميّزت تجربة الفاطميين على أسلافهم العلويين في المشرق. فبناء الدولة في هذه المرحلة لم يكن من الأسفل إلى الأعلى؛ أي لم تتأسّس على الولاء العقائدي، بل كان من الأعلى إلى الأسفل وأساسه الولاء السياسي والمصلحي وأداته الأساسية الترغيب والترهيب. وتنسجم هذه الحركة مع صورة الإمام/المُؤَله في الفكر الإسماعيليّ الذي يتقاطع مع صورة يهوه التوراتي.

نال المذهب المالكي النصيب الأوفر من الحصار والاستفزاز والتنكيل بفقهائه، باعتباره المذهب الرسمي في بلاد المغرب، بما فيها منطقة الأندلس الخاضعة للحكم الأموي. ويبدو أنّ الفاطميين لم ينسوا انتصاب فقهاء المالكيّة للدفاع عن معتقدات الإسلام الرسمي والطعن في مشروعيتهم انخراطاً في المشروع العباسي بقيادة هارون مع سنة 184هــــ/800م. واتضحت معالم هذا الصّراع في المجال القضائي بعد أن صار بيد السلطة الشيعيّة الجديدة وعملت فيه بموروثها الفقهي، ومنعت الحكم بغير ما سنّته وأغلظت العقوبات للمخالفين. وردّ عليها عدد من فقهاء المالكيّة بالرفض والمقاطعة[22].

لم تفلح هذه الإجراءات الزجريّة في تغيير «الهويّة المذهبيّة» للتونسيين، رغم «تواطؤ» الأحناف مع السلطة الجديدة، ورغم حضورهم اللافت للنظر في عاصمة الأغالبة[23]. وفسّر عبد العزيز سيّد الأهل التلاقي بينهم وبين الشيعة الفاطميين بالميولات العاطفيّة التي ورثها أحناف العراق عن أبي حنيفة المحب لجعفر الصادق باعتباره أستاذه، ونقلها عنهم أسد بن الفرات إلى تونس[24]. وقد فشلت محاولات اختراق ذهنيّة الإفريقيين بالقوة والمأسسة، رغم حرص الفاطميين على التناغم مع السياق العام لهيكليّة القضاء والمحافظة على مكانته التي كانت مع الأغالبة، ودعمها لإغراء المالكيين والأحناف بحثاً عن شرعنة التشيّع[25].

يُضاف إلى هذا العامل معطى موضوعي يتمثّل في الخصوصيّة الذهنيّة لأمازيغ بلاد المغرب عامّة؛ إذ هي تتميّز بالبساطة، وتنبسط للتخفيف، ولا عهد لها بما حصل في المشرق من إغناء وفرته حضارات شرقيّة عريقة مثل اليونانيّة والهنديّة والفارسيّة. فقد نشأت بمقوّمات يعسر معها تقبّل الآخر وإدماجه أو الاندماج فيه أو معه بيسر. ويمكن أنّ نستدلّ على هذه الخصوصيّة من خلال تجربتين متقابلتين؛ وتتمثّل الأولى في صعوبة فتح إفريقيّة من قبل المسلمين، واستغراقهم مدّة طويلة ومحاولات عدّة، رغم حجم الرقعة الجغرافيّة مقارنة بمصر مثلاً. فلم يكن من السهل تقبّل الفاتحين والتفاعل معهم، مع ما أبدوه من ترغيب وترهيب. وتتمثّل التجربة الثانيّة في سهولة استقطاب داعييْ جعفر الصادق (أبي سفيان والحلواني) لأهل المغرب وسرعة انتشار دعوتهما بينهم وقوّة الالتفاف حولهما. ويعود هذا النجاح في تقديرنا إلى بساطة الأفكار التي روجوها، واقتصارها على فضائل الأئمّة العلويين وابتعادها عن الغموض والتعقيد. ومن هذه الزاوية، افترضنا دور هذه الخصوصيّة الذهنيّة في إعاقة التفاعل مع الفلسفة الإسماعيلية المعقّدة والتأثير في انتشارها، والمساهمة في منع تغلغلها بينهم؛ أي إنّ الاستجابة انعدمت بانعدام الرغبة.

ومن العوامل المهمّة التي حدّت من التأثير الثقافي الإسماعيلي بين سكّان إفريقيّة قرار تحويل مركز الخلافة إلى مصر بعد أن استتب الأمر في المغرب وتخوّف المعز من التمدد القرمطي في الشام، وباتجاه بلاد النيل[26] وتمسّك الفقهاء بموروث الفاتحين. وإذا جمعت العوامل السابقة إلى معطى تاريخي يتمثّل في وجود فاطمي لم يتجاوز نصف قرن، وتركّز العمل فيه على إرساء المشروع السياسي بواسطة العمل العسكري على حساب المشروع الثقافي، تكون الحصيلة ضعيفة والتأثير محدوداً والاختراق سطحياً. ويسهل بذلك إحياء ما خفتت جذوته دون أن ينطفئ تماماً، وهو ما حصل عمليّاً بمجرّد انتقال السلطة المركزيّة إلى القاهرة. وحصدت الفلسفة الإسماعيليّة المعقّدة نفس النتائج في مصر، رغم استقرارها فيها حواليْ قرنين من الزّمن. ولقيت المصير نفسه بمجرّد أن ظهر صلاح الدين الأيوبي رافعاً لواء المذهب السنّي.

[1] - محمد اليعلاوي، الأدب بإفريقيّة في العهد الفاطمي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1986، ط1، ص15

[2] - محمد اليعلاوي، الأدب بإفريقيّة في العهد الفاطمي، ص24

[3] - م.ن، ص21

[4] - م. ن، ص34

[5] - يقول زائر قبر الحسين بكربلاء: «السلام عليك يا وارث أدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله». أبو القاسم جعفر بن محمد بن جعفر بن موسى بن قولويه القمي، كامل الزيارات، تحقيق جواد القيومي، نشر الفقاهة، قم، 1429هــــ، ط5، ص401

[6] - محمد ابن هانئ، الديوان، تحقيق محمد اليعلاوي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 2008م، ط2، ص181

[7] - م. ن، ص182

[8] - محمد اليعلاوي، الأدب بإفريقيّة في العهد الفاطمي، ص434

[9] - محمد اليعلاوي، الأدب بإفريقيّة في العهد الفاطمي، ص35

[10] - يقول محمد صادق محمد (الكرباسي) في مكانة كربلاء عن الشيعة: «إنّ محور المراقد المقدّسة للهاشميين كل الهاشميين، هو مرقد أبي عبد الله الحسين (ع)، حيث إنّه يقع في قلب العالم الإسلامي، ولقد أصبح بعد الحرمين الشريفين والغرّي مركزاً دينياً جديداً جاثياً ما بين ضفة الفرات وحافة الصحراء على مفترق الطرق من العالم القديم، ليمدّ أنوار النبوّة المشعّة من المدينة المنوّرة إلى بقيّة أقطار العالم الإسلامي». دائرة المعارف الحسينيّة، تاريخ المراقد، الحسين وأهل بيته وأنصاره، لندن المملكة المتحدة، المركز الحسيني للدراسات، ط1، 1419هــــ/1998م، ج1، ص15

[11] - محمد المختار العبيدي، الحياة الأدبيّة بالقيروان في عهد الأغالبة، تونس، مركز الدراسات الإسلاميّة بالقيروان ودار سحنون للنشر والتوزيع، 1994م، ط1، ص67

[12] - محمد المختار العبيدي، الحياة الأدبيّة بالقيروان في عهد الأغالبة، ص77

[13] - م. ن، ص245

[14] - يميّز الباحثون في تحليل الخطاب بين نوعين من الخطاب السجالي: أوّلهما الخصام (نقاشات الصمّ) حيث لا يُبذل أيّ جهد جدّي لحمل المخاصم على تغيير موقعه، أو أن يكون ذلك الجهد غير ممكن. وثانيهما النقاشات، حيث يشترك المتخالفان في مسلّمات ومناهج وأهداف تسمح بحلّ التعارض. باتريك شارودو- دومينيك منغينو، معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبد القادر المهيري وحمادي صمود، تونس، المركز الوطني للترجمة، ط1، 2008م، ص426. ونصنّف السجال المذهبي بين السنّة والشيعة ضمن النوع الأوّل من السجال.

[15] - محمد عبد الغني حسن، تميم بن المعزّ الأمير الشّاعر، الرياض، دار الرفاعي، 1980م، ص10

[16] - أبو علي منصور العزيزي، سيرة الأستاذ جَوذر، ص83

[17] - جاء في ردّ المعز على دعوة الصلح التي دسّها الأمويون بين جنوده باسم الخليفة الأموي عبد الرحمان الثالث «[...] وأمّا ما دعا إليه من السلم والكفّ والموادعة والصلح، وهو يزعم أنّه أمير المؤمنين -كما يتسمّى دون من سلف من آبائه- وإمام الأمّة بدعواه وانتحاله، ونحن نقول إنّا أهل ذلك دونه ودون من سواه، ونرى أن فرض الله علينا محاربة من انتحل ذلك دوننا وادعاه، مع بين أسلافنا وأسلافه ومن مضى من القديم والحديث من آبائنا وآبائه من العداوة القديمة الأصليّة، والبِغضَة في الإسلام والجاهليّة [...]»، القاضي النعمان: المجالس والمسايرات، تحقيق إبراهيم شبّوح والحبيب الفقي ومحمد اليعلاوي، بيروت، دار المنتظر، 1996م، ص168

[18] - فرحات الدشراوي، الخلافة الفاطميّة بالمغرب، ص331

[19] - تمكن العودة إلى هذه التفاصيل ضمن المجالس والمسايرات، ص 164 وما بعدها.

[20] - محمد الهادي الأميني، عيد الغدير في عهد الفاطميين، طهران، مؤسسة الآفاق، 1417هــــ/1998م، ط1، ص174

[21] - يرى ألفرد بل أنّ العبيديين كانوا متسامحين مع السنّيين وبرّر هذا الاستنتاج بعدم وجود أخبار في المدوّنات التاريخيّة السنيّة تؤكّد العكس. وأنّه لو كان حصل قتل فسيكون الفقهاء السنّة ضحيّته ولكنّ ما ورد من حوادث قليل ويتحمّله عمّال النواحي لا الولاة. واستشهد بنصوص القاضي النعمان حول تنظيم العبيديين مناظرات مع الفقهاء السنّة في مسائل كلاميّة: الفرق الإسلاميّة في الشمال الإفريقي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1987م، ص201 في تقديرنا لا يستقيم هذا الرأي إذا نزّلناه في السياق العام لسياسة العبيديين التي تجمع بين الترغيب والترهيب وتنزع إلى التشدّد إذا لم يؤت الترغيب أكله. ويكفي أن نستحضر سياسة عبيد الله المهدي مع الداعية أبي عبد الله الشيعي مؤسّس دولته ومع أخيه حتى نفهم طبيعة السياسة العبيديّة. لقد قتل المهدي الداعية رغم ما فعله من أجله وأجل دولته، فقط لأنّه استشعر قوّته ونفوذه لدى الكتاميين الذين يمثّلون عصب الدولة في تلك المرحلة. وإذا جعل مصير صانعه الحقيقي بالمعنى السياسي والعسكري فكيف لا يقتل فقيها أو فقهاء يعملون على نسف مشروعه؟ كانت سياسة العبيديين تقوم على المعادلة التالية: حياتك مقابل الصمت أو الولاء. ونرجح أن يكون فقهاء المالكيّة القيروانيون قد قبلوا هذه المعادلة ليقينهم من جديّة العرض المقدّم. وفي المقابل قبل العبيديون الهدنة لأنّهم احتاجوا إلى صورة جميلة تواكب تأسيس دولتهم لتسريع توسّعها دون مقاومة. وهو ما حصل فعلاً، انكفأ فقهاء السنّة فلم تعترض العامّة، ونرجّح أنّها لم تفهم ما حدث، فتشكّلت دولة قوية في وقت قياسي. ونستند في هذا التقييم إلى الحوادث الدموية التي لحقت بالشيعة في القيروان بعد خروج العبيديين إلى مصر. فإذا كان العبيديون متسامحين فعلا فبماذا نفسّر تلك الموجة من الحقد والدمويّة تجاه أتباعهم؟

[22] - فرحات الدشراوي، الخلافة الفاطميّة بالمغرب، ص ص584-585

[23] - م.ن، ص588

[24] - عبد العزيز سيد الأهل، جعفر بن محمد الإمام الصادق، بيروت، 1954م، ص ص108-120

[25] - فرحات الدشراوي، الخلافة الفاطميّة بالمغرب، ص591

[26] - م.ن، ص351