طه جابر العلواني: التحديات التي تواجه هيمنة القرآن على التراث


فئة :  حوارات

طه جابر العلواني: التحديات التي تواجه هيمنة القرآن على التراث

ضيفنا في هذا الحوار هو شاهد على العصر، في عامه الثمانين، ولم يزل يعمل بكل نشاط في مشروعه الفكري القائم على استعادة مركزية القرآن في الفكر الإسلامي، حيث يرى أن التجديد والإصلاح لن يحدث إلا بإعادة القرآن إلى المركز؛ عوضًا عن حالة مركزية التراث التي يرى أن عالمه الإسلامي يعيشها، الدكتور طه جابر علواني ليس فقط صاحب مشروع فكري جريئ، نريد أن نلقي الضوء عليه من قرب، وإنما أيضًا هو عالم دين ومفكر إسلامي عاصر عديد المشروعات الفكرية التي انبثقت حين تلاقى الإسلام مع الحداثة في نفس الأفق، وهو رحالة تنقل بين معظم أقطار أمته وعاصر مشكلاتها ومفكريها عن قرب؛ بل وتعايش أيضًا مع الآخر الذي لا يمكن أن يفهم أمته جيدًا إلا بالنظر إليه وبفهمه؛ ففد شغل الدكتور طه منصب رئيس المجلس الفقهي بأمريكا، وشغل أيضًا منصب رئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية (SISS) بهرندن في الولايات المتحدة الأمريكية.

في هذا الحوار المطول؛ سنطرح على ضيفنا أسئلة في عدة محاور، نستوضح من خلالها مشروعه؛ سيكون المحور الأول عن المشروع وأعمدته الأساسية، ثم سننتقل إلى المحور السياسي في المشروع المتعلق بجدلية (الدين والدولة)، ومن ثم سنركز على قضايا حالية، نستوضح من خلالها مدى قدرة المشروع في الإجابة على أسئلة الراهن.

الدكتور طه جابر العلواني هو رئيس جامعة قرطبة سابقا، ورئيس جامعة العلوم الإسلاميَّة والاجتماعيَّة سابقاً، ورئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي سابقاً، وقد حصل على شهادة الدكتوراه من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر عام 1973م بمرتبة الشرف الأولى في تخصّص "أصول الفقه"، وقد أوصت اللجنة المناقشة بالأزهر بطباعة رسالته وتبادلها مع الجامعات الإسلاميَّة، وقد عمل أستاذًا للفقه والأصول بكلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود من عام 1975م وحتى 1984م، وعمل مستشارًا قانونيًا في الحقوق الخاصة بوزارة الداخلية في المملكة العربية السعودية من عام 1975م وحتى 1976م.

وأهم مؤلفاته هي:

- تحقيق ودراسة كتاب (المحصول في علم أصول الفقه) الإمام فخر الدين الرازي، وقد قامت جامعة الإمام محمد بن سعود بطبعه ونشره في ستة مجلدات 1980. والطبعة الثانية، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1992.

- الاجتهاد والتقليد في الإسلام، القاهرة: دار الأنصار، 1980م.

- تحقيق كتاب "النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار" للعلامة مصطفى الوارداني، الرياض، شركة العبيكان، 1983م.

- أصول الفقه الإسلامي: منهج بحث ومعرفة، فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1988م.

- أدب الاختلاف في الإسلام، ط1، 1985م، قطر: سلسلة كتاب الأمة، الكتاب رقم: 9. ط2، فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1991م.

- مشكلتان وقراءة فيهما، مع المستشار طارق البشري، فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1993م.

- إصلاح الفكر الإسلامي: مدخل إلى نظام الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر، فيرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1994م.

- ابن تيمية وإسلامية المعرفة، فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1995م.

- حاكمية القرآن، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1997م.

- في فقه الأقليات المسلمة (ضمن سلسلة: في التنوير الإسلامي) القاهرة: نهضة مصر، 2000م.

- ابن رشد الحفيد: الفقيه والفيلسوف، مراكش: جامعة القاضي عياض، المطبعة الوطنية، 2006م.

- أزمة الإنسانية ودور القرآن الكريم في الخلاص منها، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006م.

- الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006م.

- الوحدة البنائية للقرآن المجيد، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006م.

- لسان القرآن ومستقبل الأمة القطب، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006م.

- لا إكراه في الدين: إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم. ط2، مشتركة بين المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومكتبة الشروق الدولية، 2006م. 

محمد عزت: تنقلت في حياتك الفكرية بين عدة مشاريع تبنيتها، بداية بمشروع "أسلمة المعرفة"، وانتهيت الآن بالوقوف على تبني مشروع مركزية القرآن وتنقية التراث بإخضاعه للقرآن، فما الذي وجدته ناقصًا في المشاريع السابقة، وتسبب في عدولك عنها، وهل يعد مشروعك الأخير نسخًا لما قبله؟

 طه العلواني: أنا إنسان متعلم، أتعلم من التجارب ومن تلاميذي ومن أصحابي، وأتعلم من كل ما يصادفني في الحياة، أتعلم بنوع من الانفتاح تعلمته منذ الصغر من كتاب الله، فعلاقتي بكتاب الله هي أول علاقة أقمتها مع كتاب، هذه العلاقة بكتاب الله أخذت أشكالًا مختلفة، الشكل الأول: طفل يأخذه أهله إلى الكُتاب ليتعلم القرآن الكريم؛ عالمه كله يدور حول من يعلموه كتاب الله، فمنهم من يعلمك حفظُه ويريد منك أن تحفظ النص ولا شيء غير ذلك، ومنهم من ربما يلفت نظرك مع تعليمك النص إلى بعض مضامينه كالصلاة والصيام؛ حين يمر بالآيات الخاصة بهم، هذه العلاقة بقيت وتطورت، وتحولت بعد ذلك إلى نوع من الوعي، زرعه في نفسي شيخي الأول في المدرسة الدينية؛ حينما كان يشعرني أن كل العلوم والمعارف التي ندرسها عليه (مما سُمي بعلوم المقاصد وعلوم الوسائل في المدارس التقليدية التي كانت ملحقة بالمساجد في بلادنا)، هذه كلها لخدمة القرآن وهدفها الرئيس مساعدة الناس في فهم معانيه، فالتفسير هو تأويل لآيات القرآن، والتوحيد أو العقيدة هو بيان للعقيدة التي جاء القرآن بها، وعلوم الحديث هي أيضًا لولا تأصيل القرآن لطاعة النبي وضرورة اتباعه واتخاذه أسوة، لما وجدت هذه العلوم، وأما علم الفقه والأصول؛ فالقرآن جاء هاديًا وجاء ليأخذ بيد الإنسان إلى النور وإلى التفسير الأحسن لكل ما يصادف هذا الإنسان في الحياة؛ وبذلك كله ترسخت القناعات بهذا الكتاب الكريم، وأنه هو كتاب الاستخلاف وكتاب الهداية ومنبع كل حكمة وخير، ومنذ ذلك بدأت أطرح التساؤلات على نفسي: لماذا إذن، حال المسلمين بعيد عن هذا الكتاب؟ فالمزايا التي يجري الحديث عنها في كتاب الله، لا نراها في حال المسلمين، ولا نراها في سلوكياتهم، فكيف حدث هذا الفصام؟ ولم حدث؟.

قادتني هذه الأسئلة إلى نوع من التفكير في الماضي، هذه العلوم كلها موجودة، ومع ذلك لم تستطع أن تحول بين المسلمين وبين هجران كتاب الله، هذا التساؤل يأتي لأي إنسان يطلع أو يؤمن بما في القرآن المجيد وبإعجازه، وبتفوقه على كل كتاب على وجه الأرض، لا بد أن يسأل نفسه لماذا أخذت أحوال المسلمين هذا المنحى السيئ، وذهبت بهم إلى ذلك الدرك الهابط، وبعد أن انتهيت من هذه المرحلة التي طرحت فيها هذا السؤال، عملت بالإمامة والخطابة ببغداد، فما زادني ذلك إلا وعيًا وارتباطًا بالسؤال الأول، لكن كيف نستطيع أن نجد العلاقة بين القرآن وبين الأمة كالعلاقة التي أوجدها الرسول بين هذا الكتاب وبين الأمة؟

واضح أن الناس انصرفوا عن الكتاب الكريم، وحتى هذه العلوم النقلية التي تأسست في البداية، لتكون في خدمته معظمها في مسائلها الجزئية والتفصيلية لم تعد في خدمة القرآن، فنأتي إلى كثير من القضايا الفقهية، فنجد أن الفقيه قد اتخذ من آيات القرآن شواهد، ولم يتخذها مصدرًا منشئًا للحكم، فهو ينشئ الحكم في موقع ثم يستشهد له بآية قرآنية، هذا اتجاه اكتشفته وأنا أدرس الفقه والأصول؛ ولذلك وجدت علاقة الأصوليين "علماء أصول الفقه" وحتى علماء أصول الدين أو علماء الكلام ضعيفة جدا بكتاب الله، ولذلك وجدت أيضًا أن الفقهاء لم يختلفوا كثيرا في هذا الصدد، حيث يتخذون الآية شاهدًا يُستشهد به لتقوية موقف هذا الفقيه أو ذاك، وفرق كبير بين أن تتخذ الآية دليلًا ينشئ الحكم ويجده ويكشف عنه، وبين أن تتخذها مجرد شاهدة، هنا طُرح التساؤل بإلحاح فقد كنا ندرس في أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون في الأزهر أي كتاب من كتب أصول الفقه؛ فنجد مسائل عديدة: مثلا تجد بحثًا في مسألة تكليف ما لا يطاق، ويناقش هنا الأصوليون فيما بينهم هل يجوز التكليف بما لا يطاق؟، فيقال هذا جائز عقلًا وواقعًا؛ قد نحتمل هنا أن يقال هذا جائز عقلًا، أما واقعًا فهذا يخالف تماما القرآن الكريم، فالقرآن يقول: "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا"، فأن ندرس ونضيع أوقاتًا نفيسة في "هل يجوز التكليف بما لا يطاق؟" ثم نقول نعم يجوز، وكذلك أن نناقش قضية أن الله خاطب أبا لهب بالإيمان لكنه يعلم أنه لن يؤمن، هذه نقاشات شديدة الغرابة، وهذا كله دليل على هجران كتاب الله واستبداله باتباع مذاهب الفلاسفة والمتكلمين، ولذلك الفخر الرازي - رحمه الله - في أواخر أيامه أعلن توبته عن هذه المعارف وقال: "لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما وجدت فيها شيئًا يماثل القرآن"، وأنا حينما انتقلت بعد مناقشة رسالتي للدكتوراه في مصر، إلى المملكة السعودية للعمل في كلية الشريعة بجامعة محمد بن سعود الإسلامية في الرياض كلفت بتدريس فقه وأصول، وطبعًا الفقه الحنبلي وأصول الحنابلة، لم تكن تحتل موقعًا مهمًا في دراساتي الأصولية، فقد درست في الأزهر على المذهب الشافعي، ولم أكن قد اقتربت من الحنابلة بعد، فوجدت أنه لا من دراسة فقه وأصول حنابلة، فكان لا بد وأن أقرأ في هذه الكتب والدراسات، وحين أقبلت عليها، ظننت أنني مقبل على دراسة فقه وأصول مؤسسة على الحديث، فإذا ذُكر الإمام أحمد ذُكر الحديث كما هو معروف؛ حتى قال الطبري ودفع ثمنا باهظًا على قولته تلك: الإمام أحمد محدث وليس بفقيه، لكني لم أجد في المذهب الحنبلي ما كنت أتوقعه من الاعتماد على الحديث النبوي، وبالتالي لأنه لا يوجد حديث صحيح كما قال الشافعي وأحمد وغيرهم إلا وله في القرآن أصل، لأن النبي كلف بتلاوة القرآن وتعليم الناس إياه، وهذا التعليم هو الذي يشكل السنة، إذن هي لها أصل في القرآن، وقد لفت نظري هذا، ولم أجد في البحوث الحنبلية ما يخرج عما ألفته من مباحث الجمهور في مسائل الأصول، ولم أجدهم يختلفون إلا في القليل النادر. وبعد ذلك أتيحت لي فرصة الاطلاع على المذهب المالكي، والإمامي الجعفري، والمذهب الزيدي، لكني ما وجدت عند أحدٍ منهم العناية اللازمة بالقرآن المجيد، فمثلًا في نقاشهم حول تكليف الكفار بفروع الشريعة، وأن أبا لهب خوطب بالإيمان لكن الله يعلم أنه لن يؤمن، هذا كله منحى جبري يؤسس للجبر، بينما القرآن المجيد لا يسمح لنا أن نفهم هذا، إنما يقول: "لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ"، إذن فهناك قول وهذا القول له مجال أن يحق، وهناك مجال حرية الاختيار لا يمسه هذا.

إن علم الله بأن فلانًا سيكون كذا، لا يعني أنه إذا لم يحق عليه القول، فسوف يجبر عليه، فعلم الله لا يجبر الإنسان، يعلم الله أن فلانًا سيعصي أو سيصلي، سيطيعه أو يعصيه، لكن هل علمه جل شأنه لوحده مجردًا سوف يجعل هذا الإنسان يعصي حتمًا أو يطيع حتمًا؟!، القرآن يقول لا؛ يقول: "لقد حق القول"، وكأن القول يقف منتظرًا أنت تصدقه أو لا يحق عليك، فأنت عندك حرية الاختيار، لكن الفقهاء شرحوا الأمر بطريقة يفهم منها الجبر، وانتهاء الاختيار الإنساني، ولو أن القرآن هو الحكم لن ندخل في مثل هذه المناقشات، ولن تشغل الناس ولن تتحول إلى إشكاليات في حياتهم، لكن للأسف هذا ما وجدناه.

وبالعودة إلى حياتي الفكرية، فأنا حين كنت في السعودية كانت المملكة تستقطب أهم العقول في العالم الإسلامي إلى جامعاتها، فكنا نلتقي كأساتذة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وكنا نستغل الفراغ باللقاء والنقاش، وبعد 10 سنوات من العمل ومخالطة العلماء، قررنا أن نقوم بواجبنا العلمي، وقمنا بتأسيس المعهد العالي للفكر الإسلامي، ومن خلال هذه المداولات، قررنا أن نحقق طموحنا الخاص بالأمة، فقررنا بعد المداولات أن نُنشئ مؤسسة تعمل على بلورة القضايا الفكرية الأساسية، وتنصرف لقضية الفكر لا لقضية السياسة، فكانت عندنا قناعة أن السياسة بطبيعتها تتعامل مع الممكن والواقع، وستظل مرتبطة بالواقع والممكن، أما أنا فعندي طموح أن أقارن بين عصر النبوة وعصري هذا، وأن أعرف لم حدث الهجر؟، فأنا أرجع للقرآن الكريم، فيقول لي بأن من سبقونا من أهل الكتب نسوا ما ذُكروا به، حيث طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، فحدثت الفجوة بينهم وبين كتبهم، إذن دعونا نعمل على الجانب الفكري، وقد شخصنا في حينها أن أزمة الأمة هي أزمة فكرية، وتجنبنا الأزمة السياسية، والأزمة العقدية، لأن الكلام في العقيدة سيجعلنا جزءًا من التيار السلفي الذي تنسب إليه الوهابية، بالتالي قررنا الوقوف على الثغرة الفكرية، وأخذ منا هذا الأمر من الجهود والبحث، وكان هدفنا هو إعادة بناء العقل المسلم (منهجيته ومعارفه)؛ على اعتبار أن الشخصية الإنسانية بطبيعتها تتألف من نفس وعقل، النفس تربيها الفنون، فلا تستطيع أن تربي شخصية متوازنة في ظل فنون هابطة، لأن الناتج سيكون نفسيات قلقة، فلا بد هنا من العناية بالفنون والآداب وتصحيح مسارها، لكي نتمكن من إعادة التوازن للنفس المسلمة. أما العقلية ففيها التجارب والخبرات والدراسات التي تنضج الإنسان وقدرته على معالجة الإشكاليات، إذن رأينا أنه لا بد من العمل والمرابطة على هذا الثغر، وقد رابطنا عليه إلى ما شاء الله من عام 1980 إلى الآن، والحمد لله صادفنا نجاح محدود؛ فاستطعنا أن نؤثر بعض التأثير في بعض الأفكار، فالآن إذا كانت عندنا مقاييس دقيقة لحالة الفكر في العالم الإسلامي قبل مرحلة عملنا، سنرى كيف كان مشغولًا ومهمومًا بالمقاربات مع الفكر الغربي، في حين نحن الآن نحن ننظر إلى الفكر وإلى الفكر الغربي نظرة أخرى، ونحاول أن نستفيد من كل ما هو مطروح، ولا نميز بين الأفكار بحسب العروق والأصول، وإنما بحسب المنهج والنموذج، وسنرى أننا بحمد الله أحدثنا بعض التأثير، ووصلنا إلى أن جامعات كثيرة استحدثت أقسامًا دراسية تراجع الأبحاث وفقا لمعطيات وخطوات مشروعنا "أسلمة المعرفة"، وأثرنا في أشخاص ومؤسسات وأفكار، وغيرنا تقريبا في أجندة المفكرين المسلمين، أما بالنسبة لي، فكنت أعلم منذ البداية أن هناك مراحل، وأن المرحلة التي ندخل إليها بعد أن تجاوزنا النجاح الأول هي مرحلة البحث عن تعميق لذلك النجاح، فلا بد إذن، أن يتحول الأمر إلى برامج دراسية وأن يدخل الجامعات، ولا ينبغي أن يكون حكرًا على ما يسمى بالجامعات الإسلامية، وكانت رؤيتنا هي تغيير نموذج الجامعة الموجودة في العالم الإسلامي، ليحاكي أقرانه في العالم كله، فالجامعة في الغرب هي جزء من المجتمع، ومن تياراته، وقائمة على خدمته، أما هنا؛ فجامعاتنا مهتمة بتخريج كتبة وموظفين، هذا هو تأثيرها الأساسي، فحين وصلت هذه المرحلة، وبلغتها وجدت أنه إذا كان هناك شيء لا بد وأن نعمق الوعي به فهو كتاب الله، وأنا أحب كتيبًا لأبي شامة المقدسي، وهو من علماء القرن السادس الهجري، حيث كتب رحمه الله "الرد إلى الأمر الأول"، وهو يدعو في هذه الرسالة للرد إلى القرآن الكريم، فكل محاولات الإصلاح والتجديد التي أتيحت لي فرصة دراستها في تاريخنا الإسلامي؛ كانت دائما ترجع إلى القرآن وتنطلق منه، ثم تأتي إلى السنة، باعتبارها تطبيقات وبيانا فعليا لآيات القرآن الكريم.

كانت الأسئلة التي طرحت ولزم الإجابة عليها هي: لماذا هجر المسلمون الكتاب؟، وكيف هجروه؟، ولماذا تبنوا التقليل من دور القرآن المجيد (لا بقصد معلن وإنما بالنتيجة)؟، فقد أبرزوا الحديث والسنن والأخبار والآثار وأكثروا فيها، وهذا أمر كان الرسول يأباه وينهى عنه، ولم يقر سوى أفراد معدودين على عدم محو ما كتبوه من سنته لأسباب معينة، وفي حدود سنن معينة يحتاجونها للإجابة على أحكام معينة، إذن لا بد من كسر حاجز الهجر بين القرآن والأمة، لكن حاجز الهجر قد بُني بعناية، فأولا رويت أحاديث وأخبار وآثار كثيرة جدًا؛ تحذر الناس من أن يخطئوا بأي فهم، في حين أن الله يلح علينا من أجل قراءة القرآن، ويقول: "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآن لِلذِّكْرِ"، ورغم إعلان كل هذا التيسير، لكن جاء من يقول إن القرآن صعب، فدعونا نبعد عنه؛ لأنه مجمل - ويريدون بالمجمل المبهم -، والقرآن حمال للأوجه، والنصوص متناهية والوقائع غير متناهية، وانتقلوا من تلك الحجج، ليقولوا إن السنن أوسع وأرحب، فبعد أن انتهى تقريبا جيل التلقي؛ انصرف الناس إلى السنة وجمعها وتبويبها إلى القرن الرابع أو الخامس الهجري حتى انتهوا من جمع أدواتهم، وحاولوا أن ينشروا إحساسًا لدى الناس، بأنه ما دمت تقرأ في السنة؛ فالقرآن مضمن فيها، إذن دعك تنهل من مصدر واحد، وبعد فترة حين بدأ الفقهاء في تأسيس فقههم، إذا بهم يتركون السنن إلى أصول وفقه الفقهاء، وقالوا لا يوجد إمام أو فقيه إلا واستند إلى القرآن والسنة، فإذن، أقواله تشتمل على الاثنين، فتركوا بعد ذلك القرآن والسنة وانشغلوا بفقه الفقهاء وأصولهم، وبعد فترة قالوا ليس كل أحد يستطيع أن يشتغل بالفقه، فإذن تتكون نخبة واحدة تذهب إلى دراسة الفقه والأصول والاجتهاد وهذا كافي، وللأمة أن تقلد، ولما سألناهم عن التقليد؛ قالوا التقليد هو قبول رأي الغير بلا حجة، وقولهم هذا أيضًا مخالفٌ للقرآن؛ فالقرآن يقول: "قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ"، ويقول أيضًا: "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"، فالقرآن علمنا، إن كنت مدعيًا شيئا، فعليك بالدليل، وإن كنت راويًا لشيء، فلا بد من إثبات صحته بالأساليب العلمية المتعددة.

المستنتج من هذا كله، أن ما حدث كان هجرًا ممنهجًا له قواعده، ونتج عنه تفكك العلاقة بين الأمة وبين كتابها، فقد أباحوا التقليد ثم أوجبوه وفرضوه، ودخلت السياسة في مداخل كثيرة بعد ذلك فزادت الطين بلة، وتحولت هذه الأمور إلى أيديولوجيا في مجالات مختلفة، وانتهى الأمر بالأمة بأن نادت بمنع الاجتهاد وما سماه ابن الصلاح وغيره "غلق باب الاجتهاد"؛ لكي لا يلج منه المفسدون، وتكرس الاتجاه القائل بأن الأمة يكفيها تقليد الأئمة الأربعة بالنسبة للسنة. أما الشيعة، فقد فضلوا المجتهد الحي لكي يجدد اجتهاد من سبقه، والحقيقة أن تقليد الحي عند الشيعة ليس لمعنى الحياة، وإنما لأن هناك أخماسا وحقوقا مالية يجب أن تُدفع لمن تقلد، وبالتالي لا بد أن يكون عندك مرجع حي تقلده وتدفع له، هذا الذي جعلني في هذه المرحلة بعد المرور بكل تلك التجارب أن أنصرف إلى الكتاب الكريم، لأرى الصوارف التي صرفت الأمة عنه قديمًا وحديثًا، وأعرف لما هجره الناس؟، وقد اكتشفت أن كثيرًا من الإشكاليات والقضايا الفقهية لا وجود لها في الكتاب، ولا أصل لها بالتالي في السنة، وقد تجد لها في السنة أصلًا لكن فيه مقال ينبغي مناقشته وتوثيقه وهكذا.

لقد فهمت أن واجب المحلة هو الكفاح من أجل بناء الوعي على أهمية الرد إلى الأمر الأول، أو التجديد بالقرآن الكريم، فإذا استخرجنا المحددات الأساسية للقرآن الكريم، وكشفنا عن منهجه لتجديد الأمور، وجدنا منهجه دقيقًا جدًا، وأنا أتساءل: أفلا يحق لهذا القرآن الذي منحه الله صلاحية الهيمنة على ما سبقه من كتب، أن يكون له صلاحية مراجعة تراثنا كله الذي أسسناه في البداية، لكي نفهم القرآن؟، إذن لا بد من مراجعة التراث على نور القرآن، وهذه المراجعة لا تقوم على نفي السنن، فالسنة هي التطبيق وفيها النموذج ولا يمكن إهمالها، ولكن يجب أن يصدق القرآن عليها ويهيمن، فلا بد من أن تُجمع إلى القرآن، وتُقرأ في نور هدايته ويصحح عليها ويستدرك، كما كانت في حياة الرسول الكريم، فحينما كان الرسول يقول شيئا ما على خلاف ما في القرآن، يأتي القرآن ليصحح له ويستدرك عليه، فالمشروع الذي أعمل فيه الآن، ولا أحب أن أصرف من حياتي دقيقة خارجه هو مشروع "محاولة العمل على إعادة رد المسلمين إلى القرآن"، وإعادة القرآن إلى مركز الدائرة في تفكير الإنسان المسلم، وبدون ذلك لا أعتقد أن أي مشروع إصلاحي، يمكن أن ينجح إذا لم يعتمد على القرآن.

محمد عزت: تتحدثون في مشروعكم عن توليد فكر محدد لغايات الإسلام ومقاصده المنسجمة مع كلياته ورغباته، في تصوركم هل يمكن لفرد أو لجماعة أو لمدرسة فكرية ما، أن تفرض تصورًا واحدًا لمقاصد الإسلام وغاياته؟، وإلى أي حد يمكن لتصور معين عن غايات الإسلام ومقاصده أن يظل ثابتًا؟

طه العلواني: بفضل الله، تكويني الأصولي في أصول الفقه التقليدية؛ جعل مني قادرًا على نقد كثير من قضاياه، فهذا العلم عبر هضمي له ودراستي المتعمقة فيه، وتدريسي له عبر 40 عامًا، أعطاني نوعًا من الوعي بالمنهج، هذا المنهج قد لا يكون كامل المعالم، لكنه يتألف من مجموعة محددات من شأنها أن تقوم بدور المنهج في مجالات المعرفة، فإذا كان للمنهج العلمي خواصه وحقيقته التي تجعله قادرا على الإنتاج في المجال العلمي، فأستطيع القول بأن محددات القرآن المنهجية الموجودة في داخله، تستطيع أن تمدني، وتمد أي باحث مماثل بمجموعة محددات من شأنها أن تؤصل لمنهج، قد لا يكون هذا المنهج متكاملًا 100% كما نقول بالنسبة للمنهج العلمي، لكنها محددات مستبطنة من القرآن، وهي مفتوحة، يضيف إليها من شاء متى يشاء، فقط عليه تقديم الدليل.

الذي قمت به هو استقراء لآيات القرآن الكريم مع المنهج الذي ذكرته مع وعيي بالمحددات المنهجية من وحدة القرآن البنائية، إلى الجمع بين القراءتين، ووعيي بتميز لسان القرآن على اللسان العربي بمزايا كثيرة، كل هذا جعلني استقرئ القرآن الكريم استقراء؛ لأعثر على القيم التي سميتها "القيم القرآنية العليا" أو "المقاصد القرآنية العليا".

محمد عزت: هل هذه المقاصد هي مقاصد مطلقة؟، أم إنها متعلقة بالقارئ أكثر من كونها متعلقة بالنص؟

طه العلواني: لا هي مطلقة، ومأخوذة من النص وعلاقتها بالقارئ محدودة، تناس أن هناك من اكتشف، فقد اكتشف مثلا الإمام الشافعي أشياء كثيرة متعلقة بالقرآن، وكذلك أحمد، ومختلف العلماء عبر القرون، والقرآن لا تنقضي عجائبه، وهو كريم يعطي من يقصده، فإذا كنت أقول لك أن المحدد المنهجي الأول في القرآن هو التوحيد، وأردت أن تختبر صحة ما أقول، ستجد أن 81 سورة من القرآن تركز على التوحيد، فلا يمكن أن يغفل باحث عن أن التوحيد دعامة أساسية، ولا يمكن التفريط بها، ولا يمكن يجد فيه ما يصطدم بهذه الدعامة، كأن يفتح الباب للشرك، أو يتجاهل تجليات التوحيد في مجالات الحياة، فيقول مثلا إن المال لأصحاب رؤوس الأموال أو للعمال أو الفلاحين، نقول قف فالمال هو مال الله وأنت مستخلف فيه، وهذا ما سيحدد لك وظيفتك ووظيفة المال في وقت واحد، فيُعتبر إذن التوحيد هو أول دعامة في المقاصد القرآنية العليا الحاكمة، وهو يحكم على ما عداه، فأي شيء أجد فيه شركًا أو ما يؤدي إلى الشرك فسوف أرفضه، فمثلا الناس تتحدث عن التصوير، وتتساءل هل التصوير حرام أم حلال، وترى فتاوى عجيبة؛ هذا يقول الفوتوغرافيا حلال أما التجسيد حرام، لكن بالنسبة إلي المهم أن أرى ما علاقة هذا بالتوحيد، فأجد أن التصوير حينما لا يكون للعبادة لا أحرمه، لكن في الوقت نفسه أرى أن هناك من الزعماء من يضع صورته على العملة، ومن يضع صورته في المكاتب الرسمية كلها، هنا أسأل ما دلالات هذا؟، هذا الذي يضع صورته على العملة، يريد أن يقول لي أنا مصدر رزقك؟، فإذا سألتني حينها سأقول لك هذا النوع من التصوير حرام، ليس لأنك ستعبده، لكن لأنه يريد أن يؤكد لك أنه مصدر رزقك، وأنه هو مصدر السلطات؛ هنا نقول إن هذا ينافي التوحيد.

أنا صبرت وتدبرت آيات القرآن الكريم، ووصلت إلى أن التوحيد دعامة أساسية، وبعد التوحيد تأتي التزكية، فإذا كان التوحيد حق الله على الإنسان، فمن حق الإنسان وواجبه أن يتزكى بمقتضى التوحيد؛ ليكون علاقة مع الغير، ثم يأتي بعد ذلك العمران؛ وهو حق الكون علينا، وهذه المقاصد الثلاثة ستكشف لنا عن جدلية وتفاعل تقوم بين الله والإنسان والكون المسخر، فالله هو الخالق المُستخلِف، والإنسان هو المخلوق المُستخلَف، والكون هو المُسخر، وهو ميدان الفعل، بقي أن نضيف إلى هذا كله أمرين؛ الأول: أن هذه المقاصد العليا الحاكمة لكي تتحقق على أفضل وجه، تحتاج إلى أمة؛ أي جماعة من الناس وليس فردًا، فدائمًا تأتي الاكتشافات الأساسية والكبيرة من أفراد، ولكنها تكون في الحقيقة إنجاز أمة، وهنا يتضح الأمر الثاني وهو الاحتياج إلى دعامة خامسة: وهي من يبشر بتلك المقاصد، ويبني الوعي عليها، بالتالي أصبح عندنا خماسية، هي: التوحيد، والتزكية، والعمران، والأمة، والدعوة، ومجموع هؤلاء يشكل مقياسًا من الضوابط تمهد لظهور منهج متكامل، يستنبط منها، ويستكمل لكي نعيد به قراءة وكتابة تراثنا، حينما أضع مثلا الأسئلة المطلوبة المستندة إلى تلك الضوابط، وأذهب إلى كتاب الفقه وأراجعه وفق هذه المنظومة، سوف أجد كثير من القضايا بالأخص الجزئية؛ تستحق أن تراجع وأن يتم تصحيحها، لأنها أخضعت لمقاييس وتصورات وبراديغم أخرى، وبهذا الشكل أصدق على التراث، لأن تراث الأمم ليس ألعوبة بأيدي أفراد ولا جماعات، ولا يمكن حذف فترة من التاريخ، وإنما مراجعتها ونقدها، فما فعلته أوروبا بما عرف بالقطيعة المعرفية، نحن لا نستطيع أن نفعله؛ فنحن أمة مضبوطة بضوابط الكتاب، والتجديد عندنا مرتبط بضوابط الكتاب، والتغيير لا يكون إلا بمرجعية الكتاب.

محمد عزت: من مرتكزات تحقيق مشروعكم "التربية والثقافة وتنمية الذوق العام" بمعنى بناء الجانب الإنساني والاجتماعي للفرد، فما مكان الحرية الفردية في هذا التصور، خصوصًا في ضوء التخوفات الدائمة من كلمة "عام"، وأنها تمهد دومًا لشمولية ما؛ فالباحثون يحملون "جان جاك روسو" مسئولية عن قيام الأنظمة الشمولية بسبب نظريته عن الإرادة العامة؟

طه العلواني: الحرية عندنا قيمة محفوظة كالعدل والمساواة، ولكنها أيضا قيمة مقيدة غير مطلقة، فالقيم المطلقة هي القيم التي سبق أن ذكرتها باسم "القيم القرآنية العليا". أما الحرية، فهي قيمة عليا أيضًا، وتدخل في الإطار المنهجي، لكنها محكومة بقول النبي: (مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا)، فحينما أكون فردًا في مجتمع ستتقيد حريتي بضوابط لا بد منها، وهي ضوابط توصل المجتمع إليها لحماية نفسه ومقدراته، إذن الحرية مقيدة بثقافة السفينة، فأي مجتمع تنتمي إليه تجد نفسك في سفينة، وهذا ليس تصور شمولي، فأنا إذا جئت بشجرة إلى طريق سفر سريع، وحفرت في وسط الطريق لكي أزرعها، هل هذه الحرية؟! بالطبع لا، وهل إذا عارضت هذا، وقلت ليس من حقك أن تفعل ذلك، هل أكون قد أسأت إلى الحرية، بالطبع أيضًا لا، إنما أنت تسيئ إلى الحرية لو قيدت حرية الفرد في التعبير عن نفسه، لكن ليس حرية السب والقذف مثلا بكل تأكيد.

أنا لا أخشى الشمولية، ولكن أخشى الإساءة إلى القيم نتيجة الذرائع؛ فكلمة الشمولية هذه صارت ذريعة من الذرائع للقول بأننا لا نريد أن نقيد الحرية بضوابط؛ حتى لا نقع في الشمولية، أنت بذلك "تجعل من الحرية وثنًا، وهذا أيضا نجده في الممارسات الجنسية، فمعروف أن الشذوذ الجنسي مدمر للحضارة، لأنه يهدد بانتهاء للأسرة وزوال النوع، فالمسألة هنا ليست مسألة حرية، وإنما مسألة خيار بين بناء حضارة، أو تدمير الكون، فإذا كنت تريد تدمير الكون؛ إذن أبح الشذوذ الجنسي، والآن نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اضطرت إلى إباحة الزواج المثلي، وأول من سيتضرر من ذلك هو الأسرة الأمريكية. ما أقصده إذن، هو معارضتي لمن يمسك سيفًا يسميه الشمولية؛ كذريعة لعدم تقييد الحرية، وأنا هنا لا أقول تخل عن حريتك في التعبير أو في اختيار دينك، لكن أن تشوش على الآخرين وتطالبهم بأن يقتدوا بك، هذا فعل آخر، إذن فأنا لا أخشى الشمولية ولا أرغب بإطلاق مفاهيم قيمية من شأنها أن تؤدي إلى اضطراب المجتمع.

محمد عزت: سؤال الراهن في الإعلام الغربي بعد أحداث تشارلي إيبدو، هو هل يمكن للإسلام أن يتعايش مع الحداثة؟ أم إن الأمر كما قال المفكر الراحل علي عزت بيجوفيتش: "المسلم إما أن يغير العالم أو يستسلم هو إلى التغيير؟"

طه العلواني: مقولة المرحوم علي عزت وما شابهها هي التي حرضت الغرب علينا؛ فجعلته يقول: أنا من سأغيرك فأنا الأقوى، وسأفرض عليك منابع فكرك، لذلك نحن نريد استبدال مقولة بيجوفيتش لمقولة: "إذا كنت ترى الآخر مريضًا، فإما أن تعالجه أو ينتقل إليك داؤه؛ فعلينا أن نرفع هذا الشعار دائمًا: "إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ".

للأسف، نحن نستعمل أحيانا مفاهيم أسسها غيرنا دون أن نفهم، فهناك فرق بين التغيير وبين الإصلاح، نحن نريد الإصلاح ما استطعنا، ففي الفكر الغربي يوجد الكثير من الأشياء التي تعجبني ومفيد أن نقتبسها منهم، وبيننا وبينهم مشتركات كثيرة، والاختلافات محدودة جدا، فيمكن أن نناقش هذا المختلف فيه؛ لكي نوسع دائرة المتفق عليه، هذا هو منطلق الإصلاح، أما منطلق التغيير الثوري يعني أن نقول أطرح تراثك كله هذا وخذ شيئا آخر نحن أعددناه لك، ولا ينبغي أن نطالب الآخر بإلقاء تراثه وحضارته وفلسفته وما عاش عليه، من أجل أن نلبسه نحن لباسنا، وإنما علينا أن نركز على ما هو مشترك بين البشر.

محمد عزت: أنت كعالم دين له آراء تجديدية وتنويرية، هل تفضل أن تتبنى الدولة الرؤى التنويرية في الدين وتحميها، أم تود من الدولة أن تقف على الحياد من كل التأويلات الدينية ولا تتدخل؟ وكيف ترى عمومًا جدلية الدولة والدين في عالمنا الإسلامي؟

طه العلواني: أنا أفضل أن تهتم الدولة بشئون الدنيا التي وجدت من أجلها، فعليها أن تركز على مهامها الأساسية، وفي نفس الوقت ستكون عند هذه الدولة نظم وقوانين، وأنا أريد أن أرى على هذه النظم والقوانين بصمة القيم القرآنية العليا، وليست القيم التفصيلية، فأنا لا أدخل في التفاصيل، أنا لا أقول للحاكم تبنّ هذا المذهب بعينه وطبقه، وإلا فأنا خصمك، وإنما أقول له أنا كأكثرية؛ أنت تقول لها دائما أن برنامجك قائم على الديمقراطية والحريات المختلفة: "لا تهمل قيمي إذن وأنت تمارس قيادتي"، فأنت أيها الحاكم تريد أن تدفع عجلة التنمية، والتنمية خصمها الأساسي هو الفساد، وهو ببساطة "انعدام وجود للتزكية"، إذن حين أقول لك إن خير من استأجرت القوي الأمين، وأعمل على إيجاد الأقوياء الأمناء، لكي يتولوا مسئوليات خططك التنموية، ثم أقول لك: هل في ذلك ضرر على أحد؟ لا تقل: لا؛ هذا لا يضرني لكني أريد شيئًا آخر، لأن نتيجة جوابك هذا ستتمثل في فشل خطط تنميتك وسنخسر جميعًا بسببك.

 أنا - كأكثرية - أقول للدولة؛ أنا عندي ضوابط عليا وحاكمة عليها أن تحترمها؛ لكي تحقق ما تريد، فأنا أقرأ في صلاتي "قد أفلح من تزكى"، وأنا أعرف أن الكون والطبيعة سخرهم لي الله، إذن هناك ترابط عميق، لكن هل يقتضي هذا الترابط أن يسيطر المتدينين على السلطة، بالطبع لا؛ فنحن لدينا قيم محدودة جدًا، تستطيع الدولة أن تستوعبها وتعمل بمقتضاها، وهي صالحة، وهي من مشتركات الفكر الإنساني العام، فلا يوجد إنسان يقول: "أنا لا أقبل التزكية أو العمران"!، إذن أنا لا أطلب من السلطة شيئًا صعبًا، أنا أعطيها قيما عليا تستخدمها، وتُضمنها في قواعدها الدستورية إن شاءت، وتجعلها ميزانا تزن فيه الأمور، ولن أقيدها بمذهب إنساني عادي، فلها أن تتقيد بما يناسبها عبر تصورها لخبراتها واحتياجاتها، ونحن بهذا لا نقيد حرية أحد، ولا نتحكم في أحد باسم الدين.

محمد عزت: هل تحاول الدولة وأجهزتها الأيديولوجية في العالم الإسلامي أن تفرض خطابًا دينيًا معينًا على المجتمع يلائم مصالحها؟، وهل هذا هو السبب في نفور الكثير من المتدينين من أي خطاب ديني مستنير، لأنهم يرون فيه امتدادا لمشروع الدولة في فرض نسخة معينة من الإسلام بالقوة؟

طه العلواني: هذا صحيح؛ وعلينا معرفة أن الدين ليس هو من يفرض القيود على الآخرين، وإنما الدين هو المُقيَد في ظل الأنظمة القائمة، فهو مقيد بفرض طريقة معينة في فهمه متلائمة مع فهم الدولة له، ويكون السؤال هنا؛ من الذي أعطى الدولة حق احتكار فهم الدين؟!.

كل ما يحدث هو صراع حول السلطة، أما نحن فلا نصارع أحدا على السلطة، فمن انتخبه الناس سنرحب به حاكمًا، وسيحكمني لكني سأقول له شريعتك تلك تستمد من أناس يعلون شأن القيم القرآنية، ويؤمنون بها، فخذها في نظر الاعتبار حين تشرع القوانين، وتتخذ الإجراءات، وأنا لا أفرضها عليك أيضًا، فلك أن تحاول مثلا إقناع الناس بقواعد وقيم مختلفة؛ هنا نرجع إلى قاعدة "فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"، لكن أن تتحكم بهذه الجماعة على خلاف قيمها ومعتقداتها، وتقول إذا لم تخضع وتخنع وتستجب لتصوري عن الدين فأنت إرهابي، هذا هو الذي يصادر حرية التعبير وليس الدين.

محمد عزت: كتبتم مؤخرًا مقالتين عن "الوحدة العربية" كان لهما صدًى كبيرًا، وأثارا نقاشًا واسعًا ولقيا إعجابًا من أصحاب الميول القومية تحديدًا، السؤال هنا لماذا اخترت التبشير والدعوة للوحدة العربية، ولم تبشر وتنادي بوحدة أشمل تضم العالم الإسلامي بأسره؟

طه العلواني: أنا رجل عملي، وحياتي علمتني التفريق بين العمل والمثل، فأنا أعرف أنك إن وضعت أمام المسلمين شعارًا فضفاضًا؛ لن يطبقوه ولن يتبنوه، فأنا لو تحدثت عن وحدة إسلامية؛ سيغرق المسلمون في بحار من النقاش والجدل، سيخرج واحد منهم ليقول: ولم نتحد مع الإيرانيين الذين احتلوا جزرنا مثلًا؟، ويخرج آخر ليقول لماذا نتحد مع الأتراك مثلًا؟، وأنا لا أريد أن أدخل في مثل هذا النقاش، أنا أقول لك ببساطة أنت مصري؛ وكل عام يزداد عدد سكانك مليون نسمة، ولنتصور مثلًا أن وفياتك تصل إلى نصف مليون، وأنت عدد سكانك الآن 95 مليون نسمة، وأنت لم تستخرج بعد من أرضك المعادن النفيسة التي تكفل لك دخلا كافيا وإنسانيا، إذن أنت تحتاج أن تنسق مع جيرانك لتعم الفائدة عليك وعليهم، وأنا قد شاهدت في شبابي كيف خسرت مصر السودان وخسرت السودان مصر وقت الانفصال، يا ترى لو أن مصر والسودان أدركوا ضرورة وحدتهم آنذاك، هل كان من الممكن أن يفرط فيها "الضباط الأحرار"؟، وماذا لو كتب لهذه الوحدة أن تستمر؟ كنا بدلًا من البحث عن أراضي لنستصلحها، سنجد ملايين الأفدنة الخصبة المنتظرة.

لنقل مثلا، إن مصر والسودان هما دولتان فقيرتان، لكن بجوارهما ليبيا الغنية، التي لا تتمتع بارتفاع في تعداد السكان، وأراضيها شاسعة، تستطيع أن تستوعب 50 مليون مصري، فأنا أمنيتي أن نبدأ بدايات صغيرة ومعقولة ومنطقية، أن تتحد ليبيا ومصر والسودان وتندمج في دولة واحدة، وكذلك العراق مع الأردن، ولبنان وسوريا والأردن، ومجلس التعاون الخليجي يتطور، ليصير "كونفدرالية"، وكذلك الدول المغاربية.

علينا تفهم حقيقة أن الدول العربية كلها، لا تملك واحدة منهم مقومات الدولة، وكل دولة منهم تحتاج إلى غيرها.

محمد عزت: ظهر في المقالتين أنك تدعو إلى إطار وحدوي بمضمون ليبرالي، اتضح ذلك في تركيزك على عبارات، مثل "تيسير التملك" و"تيسير تنقل المال"، كما أنك ضربت المثل في دعوتك بتوحيد ألمانيا؛ وهو أيضًا نموذج لانتصار الليبرالية على المعسكر الشرقي آنذاك؟ فهل فعلًا كان المقصود أنك تطالب بقومية ذات مضمون ليبرالي؟

طه العلواني: لا، أنا أضرب المثال بالواقع، وأنا لا يهمني في هذا المثال الليبرالية ولا غيرها، أنا أركز هنا على الدرس المستفاد؛ وهو كيف كان الألماني الغربي يتمتع بحس عالي بألمانيته، فقد قبل أن يضحي بنصف دخله ليضم الشرقي معه، أما في عالمنا العربي حين طُرح على العراق بعد عام 1958 فكرة الوحدة مع مصر وسوريا؛ كان الشيوعيون العراقيون يقولون آنذاك إن عبد الناصر سيضع البلح في جيبه الأيمن والبترول في جيبه الأيسر، كان من الممكن للألماني الغربي أن يطرح مثل هذا الطرح، ويقول ماذا سأستفيد من الوحدة معك أيها الشرقي المفلس، لكنه لم يقل هذا وقبل أن يضحي.

أنت إذا سألت الناس في الخليج، وقلت لهم ما رأيكم أن تتحدوا مع اليمن وتدخلوها مجلس التعاون الخليجي؛ للأسف سيقال لك: "مثلنا كمثل أربعة أشخاص يجلسون على مائدة فاخرة فلماذا يأتون بشخص خامس يأكل معهم فلا يشبعوا؟".

بالطبع، هذه رؤية قاصرة أنت لن تقوم جوعانا ولا شيئا، بل أنت الآن وأنت ترفض أن تجلسه معك؛ ستهدد بأن تفقد المائدة بأسرها.

بالتالي، نحن ما ننادي به هو أن نأخذ الدرس المستفاد من قصة ألمانيا، وليس الأمر هنا هو الترويج لليبرالية أو غيرها.

محمد عزت: إذا تحدثنا عن القومية، فنحن مضطرون أن ننتقل إلى مفهوم الأمة؛ وهو مفهوم مركزي في مشروعك، فما هو تعريف الأمة عندكم، وما هي حدودها بوصفها جماعة متخيلة؟

طه العلواني: أنا أفهم الأمة فهما قرآنيا، والقرآن ذكر هذا المفهوم مرات عديدة، وفي كلها هي جماعة من الناس تجمعها رؤية كلية مشتركة، وإيمان يؤدي إلى هذه الرؤية، وهو إيمان بالله وملائكته ورسله، ويأتي بعد ذلك اللغة والثقافة؛ حيث يجمع بينها القرآن الكريم بلغته وبما يعطيه من أفكار وثقافة وتأليف بين الناس، بالإضافة إلى المقومات الأخرى المشتركة. كل هذا هو ما أنظر إليه وأنا أقول كلمة أمة، وهذه الأمة يفترض فيها ألا تكون مركزية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو روسيا؛ فهذه الأمة ليس عندها هاجس أن تكون مركزًا يدور حوله الجميع، ويستسلم لعملته وقراراته، إنما بحسب تعريف الدكتور منى أبو الفضل رحمها الله "أمتنا هي الأمة القطب"، بمعنى أنها ليست مشغولة بإيجاد مركزية لنفسها، وإنما تكون مشغولة بتقديم نفسها قطبًا ونموذجًا، وهذا ينسجم مع الاتجاه القرآني "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ"، فأنا أتمنى من أمتي أن تكون هي النموذج الذي يقتضي الناس به، وأن تقوم بواجب الشهادة التي عينها الله لها، بمعنى الحضور في كل مشاكل العالم، ليس الحضور بمعنى الحضور بصفة المركز الذي يريد أن يهيمن على من حوله، لكن بصفة الشاهد الذي لا يريد أن تغيب عنه الأحداث، فأينما وجدت أحداث تنسجم مع القيم التي ذكرناها يدعمها ويؤيدها، وأينما وجد ما يناقضها يحاول أن يحجمها بقدر ما يستطيع؛ بالحكمة والحوار، وهذا هو حوار الحضارات.

محمد عزت: أنت تقول هنا إن أمتنا لا تبحث عن أن تكون مركزًا، لكنك تعرب دومًا عن تفاؤلك بقدرة الأمة على صناعة الأفكار المعاصرة، وحل مشكلة الأمة والبشرية بأسرها وإنقاذها من المعاناة، أفلا يعد تصور إنقاذ أمة بعينها للبشرية بأسرها تصورًا مثاليًا وطوباويًا إلى حد بعيد؟ وألا يعد هذا رغبة في أن تكون مركزًا للعالم؟

طه العلواني: هنا سأضرب المثال بالنموذج الأمريكي، وهذا النموذج كل ما يعاب عليه هو مركزيته وتآمره، ربما لو أن إسرائيل غير موجودة في الصورة لن تكون صورة الولايات المتحدة بهذه البشاعة، لذلك موقف أمريكا من إسرائيل هو ما يسبب لنا المشكلة الكبرى في نموذجها، ولو لم يكن هذا موقفها كنا سنراها بشكل أفضل، فهي الكيان الذي تلجأ إليه العديد من الأمم للتخلص من مشاكلها، فحين أراد العراقيون التخلص من صدام، لم يستطيعوا فعل ذلك سوى عبر الولايات المتحدة، والآن لو استفتيت العراقيين على جعل العراق ولاية أمريكية لن يرفضوا.

محمد عزت: ننتقل الآن إلى محور آخر، وهو الجدل حول تجديد الخطاب الديني، حديث الساعة الآن في مصر هو "الهجوم على صحيح البخاري" من قبل إعلاميين كـ"إبراهيم عيسى" و"إسلام البحيري"، مع العلم أن البعض حتى ممن كانت لهم آراء جريئة في صحيح البخاري رفضوا هذا الهجوم الجديد، واعتبروا أنه أخذ منحًى أيديولوجيًا أكثر من كونه منحًى علميًا، كيف ترى هذا الجدل الدائر الآن، حول الهجوم على صحيح البخاري؟

طه العلواني: هذا الجدل أنا أسميه جدل الهدم، فكثير من قضايا التراث تحتاج ولا شك إلى تفكيك، لكن لا بد أن يكون لدى من يقوم بالتفكيك قدرة على التركيب بعد ذلك، حتى لا يترك الناس في سيولة. فقائدا الحملة الإعلامية هؤلاء - ولا أريد تسمية أحد بعينه - يعرفان التفكيك لكن لا يستطيعان التركيب، هما يدعوان إلى إلقاء التراث في البحر، وهذا كلام لا يليق بإنسان متعلم أن يقوله على أي نوع من أنواع العلم، حتى لو كان علمًا متعلقًا بالسحر أو الشعوذة، فما بالك بأن تصدم الأمة في شخصيات لها موضع تقدير تاريخي، أنا أقول لهم احترموا 10 قرون أو أكثر من التقدير للبخاري؛ عاش عليه آباؤك وأجدادك، انقد البخاري كما تشاء علميًا، "الدار قطني" سبق وأن فعل ذلك، وأخرج من البخاري 120 حديثا استشكل عليهم، وفي مقدمة فتح الباري مجلد كامل يدافع فيه عن البخاري ويحاول أن يصلح له استدراكات "الدار قطني" عليه، وبعض الأحاديث قال إنه لم يستطع أن يرد فيها على الاستدراكات. أنت حين تنقد مثل هذا النقد لن يعترض عليك أحد، فأنا أنقد مثلا عدة أحاديث في الصحيح، لكن أحترم البخاري وأجله، لأنه قام بخدمة جليلة، فقد حاول البخاري أن يعلم الفقهاء فقهًا جديدًا، وهو فقيه أكثر من كونه محدث، فقد كان يبوب كتابه بحسب أبواب الفقه، فكأنه يقول للفقهاء: "استهدوا بالحديث"، وبهذا كان يحاول إصلاح وتجديد الجانب الفقهي بجعل الحديث ليس مجرد شاهد، وإنما منبع استنباط، فما الخطأ بهذا؟، إن كنت ترى أنه أخطأ في عدة أحاديث؛ فادرس أولًا علم الحديث وتعلم كيف تنقد مثل بقية النقاد، وتفضل؛ فالبخاري عرف برجاله في كتابين: التاريخ الكبير، والتاريخ الصغير، ارجع للكتابين وابدأ في التحليل، أما أن يكون الهجوم بهذا الشكل فهذا لا يليق، وهذه طريقة عمل صحفيين، وليست طريقة عمل محدث أو عالم، هم يستندون إلى مقولات غوغائية يثيرون بها الجمهور، ويريدون أن يجيشوا لصالح سلطة خاصة كل شيء.

محمد عزت: كثير من الشباب بعدما وجدوا أن الثورات العربية فشلت في تحقيق أحلامهم وذواتهم، وجدوا أن طريق التصوف هو أفضل طريق لاحتضان هزائمهم، كيف ترى هذا الخيار من بعض الشباب في ضوء هجومكم السابق على أئمة التصوف، باعتبارهم تحايلوا على فكرة ختم النبوة بحديثهم عن الولاية؟

طه العلواني: الحقيقة أن الشباب مساكين، فقد ابتلوا بنظم تعليمية لم تؤسسهم معرفيًا بشكل جيد فلجأوا إلى الجماعات ليستكملوا نواقصهم الثقافية، فالجماعات لم تعلمهم إلا أشياء انتقائية معينة، فارتسمت في أذهانهم أمثلة عديدة وفجأة وجدوا أنفسهم أمام تحدي "هدم المثل والنموذج"، فعانوا من انعدام التوازن، وما يصاحبه من اضطرابات، خصوصًا أن منهجية هدم المثل سارت بطريقة "هدم المثل لا إلى بدل" وهذا حين يحدث مع أعمار معينة لم تؤسس معرفيًا تكون نتائجه وخيمة للغاية.

هنا، ينبغي أن أقول للشاب أنت ظلمت وهذه المثل التي هدمت لك، هي أمثلة جيدة لكن يلزمها تعديلات طفيفة، ولو سلكت معه هذا المسلك ستحافظ على توازنه.

محمد عزت: بعد انتفاضات الربيع العربي، برزت على السطح منظمات "نسوية" كثيرة اجتذبت عددا كبيرا من الشباب (إناثًا وذكورًا)، كيف ترى الأفكار التي تطرحها التيارات النسوية؟ وإلى أي حد قد تتعارض أو تتفق تلك الأفكار مع منظوركم لغايات الإسلام وأهدافه؟

طه العلواني: لا نستطيع التعميم هنا، توجد اتجاهات نسوية تأثرت بالاتجاهات النسوية في الغرب، والاتجاهات النسوية هي اتجاهات واسعة وكبيرة ومتعددة المدارس، والتراث المتعلق بالأسرة ليس من السهل تطويعه، فالشيء المركزي في الليبرالية هو الفردية؛ حيث الإنسان الفرد هو محور الكون، أما عندنا فالوحدة الصغرى ليس الفرد وإنما الأسرة؛ فالنساء شقائق الرجال، فعندنا الرجل نصف والمرأة نصف، لا بد أن يجتمعا لكي يحدث التكامل، إذن هناك اختلاف في المنطلقات وفي تعيين الوحدة الصغرى، فالمفترض حينما نؤسس للنسوية الإسلامية، يجب أن ننطلق من الأسرة وليس الفرد، فلو انطلقت من الأسرة، سترى أن كثيرا من الأسئلة التي تطرحها المرأة الغربية أو مقلدتها الشرقية ستنهار ولن تحتاج إلى جواب.

محمد عزت: أمور السحر والشعوذة والمس من الأمور المستحوذة على اهتمام وسائل الإعلام واهتمام المشاهدين أيضًا، وقد أجريت برامج حاذت على نسبة مشاهدة وتصديق كبيرة، ظهر فيها شيوخ يعالجون أناسًا أصيبوا بالمس، في ضوء مشروعك الذي ينكر وجود أية قوة خارقة لكائنات غيبية كالجن تسيطر على الإنسان، كيف ترى ذلك المد الإيماني بتأثير قوى خارقة على الإنسان، وكيف ترى رعاية وسائل الإعلام لهذا المد؟

طه العلواني: نحن نواجه الآن استشراقا إسرائيليا، وهو أخطر أنواع الاستشراق، لأن الاستشراق الغربي إذا جمعت جهوده كلها ووضعتها في كفة، ووضعت الاستشراق الإسرائيلي المعاصر في كفة سترجح الكفة الإسرائيلية، فقد درسنا الاستشراق الإسرائيلي دراسة غنية جدا، ففي حين اعتمد الغرب على الأنثروبولوجيا في دراستنا وبناء خططه لغزونا، اعتمد الاستشراق الإسرائيلي على ما هو أشمل وأدق، حيث درس القرآن والسنة والتاريخ والشخصيات الإسلامية القديمة والحديثة المؤثرة في الوجدان الإسلامي، وعرفوا كل المؤثرات الفكرية في عالمنا بدقة، ومن ثم فهم يسوقون لإعلامنا أجندة رسمت بعناية شديدة، فالتصوف هم لا يثقون به، لأن الصوفي مهما كان عنده من إشكاليات؛ يمكن حلها ببساطة عبر الحوار. أما المخرف الدجال، فهذا صاحب مشروع يشتمل على مصالح مالية وحيل وجنس، فعدوك يحرص أن يسوق لك مثل هذا الأمر في الظروف التي تفقد فيها توازنك، ولا تجد فيها أجوبة على أسئلتك، وهنا يقفز لك الدجال ويقول لك أنا عندي الإجابة.

أنا أقول لك أن مسألة دخول الجن بالإنس هي مسألة أشاعها بنو إسرائيل في المدينة، فكلما نزلت آية من القرآن على الرسول الكريم؛ حاولوا أن يقدموا مجموعة من الشائعات تحرف مسار معناها، وكل ما نعاني منه في هذا الصدد إلى الآن، هو تأثير من الثقافة الإسرائيلية.

حين تتابع الآن سترى تحالفا عجيبا بين رجال الأعمال المتحكمين في وسائل الإعلام، فمحطة تأتي لك بإسلام البحيري ومن شابهه، ومحطة أخرى تأتي لك بدجال ومشعوذ، ومحطة ثالثة تتحدث عن ظهور العذراء وما شابه، والسلفيون للأسف الشديد عندهم أيضًا مشكلتان في هذا الصدد؛ مشكلة متعلقة بحديث في البخاري يقول بأن الرسول قد سحر، وبالنسبة لهذا الحديث فقد كذبه ابن حزم وآخرون، والقرآن قال لنا إن الله قد عصم الرسول من الناس، لكن صهاينة الماضي هم من صاغوا هذا الحديث المكذوب، لكي يقولوا إنهم أقوى من الله ورسوله، وأنا أقول لمن يصدقون في السحر قولوا لسحرتكم أن يسحروني لو استطاعوا. أما المشكلة الأخرى عند السلفيين، فمتعلق بما قاله ابن تيمية رحمه الله في رسائله الكبرى؛ حيث قال: "وكان لنا جني يحبنا ونحبه"!، ويجوز أن هذا الكلام قد دس عليه.

 الناس تصدق في هذه الخرافات، لأنها منهارة وفاقدة للتوازن، وأنا قد عرفت بنفسي السبب في شيوع ادعاء دخول الجن في الإنس بالريف؛ حيث يكون السبب حالات زنا تريد المتورطة فيها أن تتخلص من الاتهام وعواقبه، فتدعي أنها مركوبة من الجن وأن الجن هو من تسبب في فض بكارتها.

أنا أقول أن التوحيد قد حررنا من كل هذا الدجل، ولا يمكن أن يؤثر عليك سوى ربك وحده، وأنت في أفعالك بعد ذلك مخير.

محمد عزت: انتشرت ظاهرة الإلحاد في العالم العربي، وصارت إحدى القضايا المركزية لدى وسائل الإعلام، وكذلك المؤسسات الإسلامية الرسمية، أنت كرجل دين، كيف ترى ظاهرة الإلحاد، هل تراها ظاهرة يجب أن تحاصر أم إنها حرية فردية لا يحق لأحد أن يتدخل بها ويحاول توجيه مسارها؟

طه العلواني: الإلحاد نجم عن انهيار المثل، حاشاك لو أن أباك علمك ألا تدخن، وفي يوم من الأيام اكتشفت أنه هو نفسه يدخن، وأنه ساقط في وحل الخطايا، كيف سيكون حالك إذن؟، ستكفر بالأبوة، وسترفض كل شيء، وستذهب إلى أقصى نقطة متطرفة في عكس ما كنت تفعله، وتقتنع به من قبل، وهذا هو ما حدث، فقد حُطمت الأمثال والنماذج أمام الشباب، بعد أن عاشوا طويلا يقدسونها، فماذا تنتظر منهم؟ وهذا مع العلم أننا نعيش في عالم صار قرية واحدة، فحين جاءت الصحوة الدينية في منطقتنا، جاءت في نفس الوقت الذي ظهرت به صحوة دينية على مستوى العالم كله، فقد جاءت تلك الصحوة كموجة، ووجدت أرضية خصبة تتبناها، والآن هو وقت موجة الإلحاد على مستوى العالم أيضًا، إنها موجة إلحاد عالمية شاملة.