عادل حدجامي: الإسلام لم يكن في تاريخه أكثر عنفًا من الديانات الأخرى


فئة :  حوارات

عادل حدجامي: الإسلام لم يكن في تاريخه أكثر عنفًا من الديانات الأخرى

عادل حدجامي باحث مغربي متخصص في الفكر والفلسفة، من مواليد الرباط عام 1976، يعمل أستاذًا محاضرًا في الفلسفة الحديثة والمعاصرة بشعبة الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط، استطاع أن يلفت إليه الأنظار في فترة قصيرة بفضل اجتهاده وعمله الدؤوب، حيث فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع المؤلف الشاب، في دورتها السابعة (2012 ـ 2013) عن كتابه "فلسفة جيل دولوز، عن الوجود الاختلاف"، الصادر عن "دار توبقال للنشر" بالمغرب، وهو في الأصل أطروحة جامعية نال من خلالها شهادة الدكتوراه في الفلسفة تحت إشراف الفيلسوف والمفكر المغربي محمد سبيلا.

ويُعد كتابه عن "فلسفة جيل دولوز"، حسب شهادة العديد من المفكرين العرب، أول كتاب عربي استطاع الغوص في فلسفة هذا الفيلسوف الفرنسي الكبير، بعمق شديد، ويقدمها بوسائل نافذة إلى عقل القارئ العربي.

إلى جانب اهتمامه بفلسفة الأخلاق. يهتم عادل حدجامي أيضًا، بفلسفة الجمال والموسيقى، وذلك بحكم تكوينه الموسيقي، لأنّه عمل مدرسًا للموسيقى في فترة معينة.

في هذا الحوار، يقدم الباحث المغربي عادل حدجامي مقاربته لموضوع العنف والدين والشرعية، من خلال مداخلته التي شارك بها في المؤتمر السنوي الثالث لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي بالعاصمة الأردنية عمان، وذلك من خلال الغوص في الأصول الثقافية للعنف، وتقديم قراءة لما يعتمل في العالم العربي الإسلامي اليوم من عنف، ولدور الفلسفة، وواقعها وطريقة تدريسها في العالم العربي.

وفيما يلي نص الحوار:

قسم التحرير: شاركت في المؤتمر السنوي الثالث لمؤسسة مؤمنون بلا حدود في الأردن بمداخلة حول موضوع "الأصول الثقافية للعنف"، وطالبت فيها بالتحرر من النظرة الدينية للعنف، لأنّ الماهية الدينية للعنف برأيك تُجانب الصواب، كيف ذلك وتاريخ الإسلام مثلاً كتب بحد السيف؟

عادل حدجامي: العنوان كما بينت حينه طرحته في صيغة استفهامية وليست تقريرية؛ أي هل يحق لنا أن نتحدث عن أصول ثقافية للعنف؟ والجواب كان عندي بالنفي، فقد حاولت أن أبين أنّ العنف، من جهة، ليس محصورًا في الدين، بل هو عنصر ملازم للبشر من حيث هم كائنات حية، ومن حيث هم كائنات تاريخية، هكذا فقد سقت عددًا من الحجج العلمية المتعلقة بعلوم الجينات والإيتولوجيا، وعددًا من الأمثلة التاريخية لأبين أنّه من الخطأ ربط العنف حصرًا بدين معين، أو ثقافة معينة، بل وربطه بالدين مهما كان هذا الدين، فالعنف من صميم الكائن والوجود، ولا معنى لأن نسقط في رؤية "ماهوية" "تجوهر" الدين، وتجعله يختص دون غيره بعنصر هو أعم من أن يخصص. طبعًا، المحرك الفلسفي العميق الذي حكم هذه الرؤية عندي هو فلسفي أولاً، كوني لا أعتقد إلا في العلاقات والتلاقيات، ولا أومن بأولوية الماهية، فالماهيات نتائج وليست مقدمات، ولكن مبرري كان عمليًّا أيضًا، لهذا فقد استندت على دراسات ديمغرافية وسياسية، لأتجاوز هذا الخطأ الذي يسقطنا فيه الإعلام، والذي يحاول دائمًا أن يؤول الأحداث في أفق ضيق وقصير، ولا يستحضر تعقد الظواهر وتداخلها وتحولها في المكان والزمان. في هذا الإطار، فقد تحدثت فعلاً عن العنف بوصفه خاصية لازمت تاريخ الإسلام "سياسيًّا"، لكني بينت أيضًا أنّه لم يحصل أن تحقق نظام سياسي دون حضور العنف، وقد كنت مضطرًّا لأن أسوق كثيرًا من الأمثلة حتى أرفع الاعتراضات التي تقدم في العادة، وقد قلت وكررت إنّني لا أعرف تجربة سياسية أو حضارية لم يداخلها عنف؛ فالمسألة ليست "أخلاقية"، بل أنطولوجية ووجودية، فالإسلام في تاريخه لم يكن أكثر عنفًا من المسيحية ولا اليهودية ولا البوذية ولا حتى الأيديولوجيات الكبرى التي أعلنت رغبتها في تجاوز الدين، من الشيوعية إلى النازية إلى الحركات القومية. وواضح أنّ الغاية عندي لم تكن الدفاع عن الإسلام ولا الهجوم عليه، بل تقديم رؤية موضوعية "فيما وراء الخير والشر"، وهذا هو منهجي في تناول الأسئلة دائمًا.

قسم التحرير: ذكرت أنّ هناك من يعزو أسباب العنف إلى النمو الديمغرافي، فكيف يمكن تفسير ذلك بشكل عملي؟

عادل حدجامي: هذا عنصر قدمته في آخر المداخلة، فعندما نتخلى عن التحليل الماهوي للأشياء نكون مضطرين لتقديم أجوبة، إن استطعنا، تفسر بشكل كاف ما يقع، وكان من بين المستندات التي اعتمدت في الجواب عن سؤال "ما الذي يفسر العنف الذي تعرفه منطقة الشرق الأوسط؟"، دراسة صدرت سنة 2007 بالفرنسية بعنوان "موعد الحضارات"، أي قبل قيام الثورات المسماة بالربيع العربي، وقبل ظهور الحركات الدموية الإسلامية المتأخرة، في هذا الكتاب ومن خلال رصد دقيق، بالأرقام والجداول، بين الكاتبان: (إيمانويل تود ويوسف كورباج)، أنّ هذه المنطقة من العالم تعرف تغيرات ديمغرافية جذرية، تمس أساسًا تراجع نسبة الولادات والوفيات وتراجع زيجات القرابة وتراجع نسبة الأمية، مع ما يرافق ذلك من تحولات في الوعي والبنيات الاجتماعية والاقتصادية والقيمية. كل هذه التحولات تحدث تمزقات عميقة في الوجدان والوعي، وهو ما يخلق ردود فعل من مختلف الأشكال، وقد اجتهد المؤلفان اللذان استحضرت في مقارنة بعض هذه المتغيرات الديمغرافية التي ذكرت، مع مثيلاتها في مناطق أخرى من العالم وفي تواريخ أخرى، وقد بينا بشكل مقنع جدًّا أنّ التحولات الديمغرافية دائمًا ما تصاحبها حركات ثورة وعنف، هذا يصح على إنجلترا القرن السابع عشر، كما على فرنسا القرن الثامن عشر، وروسيا بدايات القرن العشرين، فكلما حصل تحول ديمغرافي كبير، صاحبه تحول في الوعي ينتج ثورات وحركات وردود فعل رجعية، وقد بدا لي أنّ تناول المسألة من هذه الزاوية الداخلية، مع استحضار الجانب السياسي والجيوستراتيجي، هو الأقدر على تفسير ما يحصل أمامنا من تغيرات، على عكس التناولات الماهوية التي تحاول أن تشتق أسباب العنف من الماهية الصلبة للعقيدة أو الدين، وهذه رؤية خاطئة تمامًا كما سبق وقلت، أولاً لأنّ الدين، مهما كان، لا يمتلك ماهية صلبة إلا في التصورات "الأصولية"، بل هو، كما كل شيء، محض صيرورة وتحول، وثانيًا لأنّه تصور يقطع العلاقة بالتاريخ والعلوم والواقع، ويسقط في التجريد الذي أعتبره شخصيًّا أشنع ما يمكن أن يلحق بالفكر، وبالفكر الفلسفي منه خصوصًا.

قسم التحرير: وما تقييمك لأشغال هذا المؤتمر، ولموضوعه الذي جمع بين ثلاثية: الدين والشرعية والعنف؟

عادل حدجامي: لست أدري هل أمتلك الأهلية لتقديم تقويم لأعمال مؤتمر من هذا الحجم، خصوصًا وأنّي كنت مساهمًا فيه، محاضرًا ومناقشًا وضيفًا، ولكن فيما يتعلق بالمداخلات التي قدمت والسير العام؛ فالانطباع الذي حصل عندي هو الجدية والالتزام والتنوع في التوجهات. هكذا، فقد سمعنا كل الآراء الممكنة تقريبًا، فوجدنا أئمة ومفكرين من مختلف التوجهات، حتى الأكثر جذريةً منها، حاضرون ويتحدثون ويتناقشون، فقط ربما أنّ هذا التنوع والكثرة كان من جهة أخرى مانعًا أمام تعميق النقاش حول بعض الأسئلة المهمة التي طرحت، فكثرة المتدخلين وكثافة المداخلات وتوزعها في مجالات الاهتمام يشتت نوعًا ما الإشكالية، ولعل العلة في ذلك تعود أيضًا لشساعة موضوع المؤتمر، فسؤال العنف والدين والشرعية بهذه الصيغة العامة يقبل كل شيء في التناول، وأنا شخصيًّا أميل إلى التحديد والدقة في هذه الأمور، فمثلاً لو كان السؤال هو العنف، مع تحديد لموضوع العنف المقصود، أو الشرعية، مع تحديد الجوانب التي سيتم من خلالها تناول الموضوع، لكان التناول أدق، ولكانت المداخلات أكثر تحديدًا، وهو ما ينتهي إلى خلاصات واضحة يسهل فيما بعد البناء على أساسها والنقاش بالاستناد إليها، وبالتالي تقوية المفعول والأثر البعدي، وهو ما من شأنه أن يجعل من المؤتمر وأعماله مرجعًا للدارسين في المستقبل، فالدقة شرط في الفكر، وإلا تحول الأمر إلى جملة خواطر عامة تتعلق بالقناعات الفكرية الخاصة بكل مشارك. هذا ما يبدو لي عمومًا، قد أكون مخطئًا لأنّي لا علاقة لي بشروط التنظيم والإعداد التي تحكمها إكراهات وعناصر خاصة، لكن أنا شخصيًّا أدافع عن الدقة وعن الضبط في الأسئلة حتى لا يتعمم النقاش، وينحو نحو الأيديولوجي، وحينها يضيع كل الجهد.

قسم التحرير: بالنظر إلى ما يعتمل في العالم العربي والإسلامي، وما يشهده من إرهاب وتقتيل باسم الدين، ما هي المقاربة التي يمكن أن تقدمها لهذا الوضع، باعتبارك باحثًا متخصصًا في الفلسفة؟

عادل حدجامي: أخلاقيًّا، لا أحد يمكن ألا يتأثر ويحزن لما يقع ويحصل في هذا المجال المسمى بالعربي، فأشكال العنف والقهر وصور التقتيل والذبح، مع ما رافقها مؤخرًا من نزوح جماعي بمئات الآلاف هربًا من كل هذا الجحيم، يبعث في النفس الحزن والأسف العميق. هذا أمر مبدئي، ولا أرى إمكانية للمماراة فيه أو تنسيبه، فكل ذي عقل وحس، لا بد وأن ينفعل بما يحصل فعليًّا، لكن دور الفلسفة، والفكر النقدي عمومًا، هو تجاوز لحظة الانفعال هذه، لتقديم رؤية عن المسألة في كليتها. وإن نحن أعملنا هذا الأمر سنرى أن ما يحصل ليس وليد إرادة سيئة لأشخاص هم "الحكام الأشرار" فحسبقط، بل المسألة نتيجة لعناصر متعددة متداخلة. فالصورة لا تتضح إلا باستحضارها كاملة، لهذا فإن كان لي أن أجد من دور للفلسفة هنا، فسيكون هو محاولتها تقديم أدوات نظر تحقق هذه الشمولية في تناول الأمور وتقديرها، وذلك بالذهاب في الأسئلة إلى أقصاها، فالعنف هنا عام كما نرى، ولا تختص به جهة دون أخرى، وهذا يجعلنا نتساءل لماذا هو هنا بهذه الكيفية؟ وما الأسباب القريبة والبعيدة في الاقتصاد والسياسة والإعلام والتعليم التي جعلت كل كم العنف هذا ممكنًا؟ طبعًا أنت ترين أنّ أسئلة من هذا النوع، تستنكف عن منطق السجال الضيق الثنائي القيم الذي يقسم الناس إلى أخيار مظلومين وأشرار ظلمة، الأمر أعقد من ذلك بكثير، ولا يبينه إلا استقراء التاريخ ومساءلة البنيات، وهذا ما لا يستطيعه التناول الإعلامي الذي يظل دوره هو الإخبار بالأحداث وليس فهمها، وحين يعمل على الاضطلاع بدور التحليل والفهم غالبًا ما يسقط، بفعل منطقه السريع والآني والحدثي، في الابتسار والتشويه بل والتهييج، وعوض أن يكون أداة لتجاوز لحظة الانفعال، يصير هو عينه جزءًا ومظهرًا لهذا الانفعال الذي يعمي ويمنع الرؤية. وما يمكن أن تقدمه النظرة الفلسفية والنقدية عمومًا اليوم، هو أن تقاوم الانفعال، أي أن تفكر ضد الإعلام ومنطقه في تناول هذه القضايا، فالوضع أخطر من أن نتركه للإعلاميين، بالنظر لسلطتهم الهائلة اليوم، وبالنظر لمنطق عملهم الذي يبقى هو البحث عن السبق والحدث والتوتر والصدام والفرجة، وبديهي أنّ موت البشر وحرق الحرث والنسل أمر أخطر من أن نتركه رهين منطق الفرجة والسجال، ورهانات نسب المشاهدة، لهذا فأنا أعتقد ألا تفكير فلسفي ممكن اليوم إلا ضدًّا على الإعلام ومنطقه، قد تكون المعركة خاسرة، ولكن هي هكذا.

قسم التحرير: وأي الفلاسفة تستعين بهم في اشتغالك على الأنطولوجيا لقراءة الواقع العربي اليوم؟ وهل تسعف الفلسفة الأولى في قراءة الواقع؟

عادل حدجامي: بناءً على ما ذكرته سابقًا، لا بد أن أشير إلى أنّ ما أسميته بقراءة الواقع العربي اليوم قد لا يأتي في ما قدمته وما قد أقدمه في صورة مباشرة وسجالية، أي أنّني لن أطرح تناولي للحاضر داخل إشكاليات يصنعها الإعلام نفسه، بل أحاول أن أعرض الأمر في إطار أعم، وهو ما قد يبدو معه الموضوع بعيدًا، ولكنّه ليس كذلك حقيقة؛ فقد نتناول الواقع اليوم، ونحن نشتغل على مفهوم أو سؤال أو قضية لا تنتمي إلى ما يطرح اليوم، وهذا في اعتقادي أهم ميسم للتناول الفكري. على هذا الأساس، فإنّ كل المفكرين وكل الفلاسفة وكل التراث الإنساني قديمه وحديثه يصير مصدرًا ومرجعًا، هكذا فقد يأتي الحديث قريبًا نسبيًّا، كأن نتحدث عن الفلسفة السياسية، من خلال نصوص من مثل "الأمير" لماكيافيل، ونص سبينوزا عن "اللاهوت والسياسة"، وقد يأتي حديثنا أحيانًا أخرى، في إطار سؤال أقدم يبدو للوهلة الأولى بعيدًا، لكنّنا عند تحصيف النظر سننتبه إلى أنّنا في صلب الموضوع، فمن العبث والعته أن يعتقد أحد أنّ ما يطرح علينا من أسئلة هو جديد كلية، وأنّنا الوحيدون من دون كل الأقوام السابقة من يتساءل اليوم حول هذه الأمور التي هي العنف والدين والشرعية، وإذا فهمنا هذه القضية المهمة سيبدو لنا أنّ الأسئلة الجديدة القديمة، يحتاج فهمها للرجوع إلى الأجوبة القديمة -الجديدة، فمسألة الجدة والقدم في تاريخ الفكر نسبية جدًّا، كل هذا يلزمنا بأن نتسم بنوع من التواضع والقدرة على الاستماع والتعلم، بأن نعود، بوصفنا مشتغلين بالفكر، إلى التاريخ وإلى نصوص السابقين، حتى يكون لقولنا أصل، ولتفكيرنا عمق، فكل من لم يؤصل قوله لا يعول عليه، وهذا أمر واضح جدًّا، ويمكن أن نمثل له بأمور عملية وجد بسيطة. لنأخذ مثلاً ما حصل مؤخرًا من أحداث في العالم العربي، لِم لَم ينجح ما يسمى بالربيع العربي؟ لم فشلت هذه الثورات في الأغلب، وأفضت إلى ما أفضت إليه؟ لأنّها لم تحتكم إلى رؤية واضحة، ولم تستحضر أو تستمع لدروس الثورات السابقة في هذه المنطقة عينها، ولم تستحضر الاشتغال العميق الذي قدمه مفكرون عرب، منذ بداية القرن إلى اليوم، حول شروط الفعل السياسي وطبيعة الثقافة السياسية هنا وسيكولوجيا السلطة في هذه المنطقة وعلاقة كل ذلك بالدين والتاريخ والاقتصاد والمحيط، فلو كان الفاعلون قد استلهموا كل هذا لفهموا أنّ الاحتجاج وحده لا يكفي لصنع ثورة، فالثورات، حتى لا تفشل كما سابقاتها في هذه المنطقة، وقد كانت كثيرة جدًّا، سواء باسم الأحزاب البعثية والنهضوية أو باسم القناعات القومية واليسارية، تحتاج لتصور واضح يعي وسائله وحدودها، ويتبين أهدافه القريبة والبعيدة، ويصوغ "برنامج عمل" أولي، ويرسم حدًّا أدنى من الغايات التي يتم التوافق عليها والعمل على تحقيقها، وهذا أمر لا نستطيع أن نقوم به ما لم ندرس تاريخ هذه المنطقة، وتاريخ الثورات السابقة، وتاريخ السياسة والفكر ونصوصهما المؤسسة، فمن العبث الاعتقاد في قيام تغيير من عدم، ومن العبث السعي لتغيير واقع لا نفهم حتى البنيات التي تحكمه، فكل الحركات الثورية التي كان لها أثر في تاريخ الإنسانية كانت تستلهم تراثًا نظريًّا وفكريًّا ما، أما محض التمرد والعنف فلا يأتي بشيء، بل قد يزكي ما يسعى لتنحيته من حيث لا يدري، وهذا ما حصل في مناطق كثيرة إلا تونس نسبياً، والسبب أنّ تونس تمتلك نخبة سياسية متنورة استثمرت الحراك الشعبي في إقامة نواة ديمقراطية محلية، فالتونسيون تعلموا من المستعمر الفرنسي، وحاولوا ترسيخ بعض مبادئه، اجتماعيًّا على الأقل، بعد الاستقلال، فسعوا إلى تأسيس نموذج الدولة المدنية كما هو متعارف عليها في الفكر السياسي الحديث، على الأقل في التعليم والإدارة والأحوال الشخصية وحقوق المرأة. وأزعم أنّ هذه المكتسبات هي التي مكنت هذه النخب من الصمود بالبلاد أمام حالة الفوضى، وإلا كانت الأمور آلت لما هو أفدح، كما حصل في سوريا وفي مصر، ومع ذلك فالتجربة التونسية تبقى جنينية ومحدودة في جوانب كثيرة. للفكر مفعول عملي إذن، لأنّه ببساطة اشتغال على الوعي وسعي لتوسيعه وتعميقه وإصلاحه، وواضح أنّ أي عمل أو فعل لا يتسلح بوعي، فيه حد أدنى من السعة وقبول مبادئ النسبية، وحد أدنى من القدرة التحليلية والنقدية، مصيره الفشل لا محالة. لهذه الاعتبارات كلها، أعتقد جازمًا أنّ إعمال النظر، في كل مستوياته حتى في القضايا الأكثر جذرية، وهو ما أسميتموه بالفلسفة الأولى، هو العمل "فعليًّا"، فلا عمل مهما كان بسيطًا إلا على أساس تصور "فلسفي" قبلي، سواء وعينا هذا التصور أم جهلناه.

قسم التحرير: أما زال الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، والذي اشتغلت عليه وقدمت كتابًا مفصليًّا حول فلسفته، يمارس تأثيره عليك؟

عادل حدجامي: المسألة ليست مسألة تأثير؛ ففي الفكر الأمور ليست عاطفية، صحيح أنّ الانهمام والشغف شرط في الفكر، لكنه ليس كافيًا لوحده، ولا ينبغي أن يكون، فالأصل في اهتمامي بدولوز، وفي اهتمام أساتذتي قبلي بأسماء أخرى، مثل ديكارت، وكانط، وهايدغر، ليس وليد التشهي والرغبة الشخصية، بل هو الرغبة، قياسًا على ما قلناه في الجواب السابق، في خدمة الثقافة واللغة والإنسان العربي المعاصر، من خلال بذل الجهد في تعريب الفكر الغربي وترجمته وتقريبه، حديثه ومعاصره، فالسؤال، مهما تقادم، يبقى هو نفسه، كيف يمكن أن نغير شروط حياتنا سياسةً ومجتمعًا ومعرفةً وسلوكًا؟ هنا الجواب لا يكون مجردًا، بل يكون باستحضار التجارب الإنسانية التي تقدم النموذج، للتعرف عليها والتعلم منها واستلهامها، فيكون مجهودنا نحن، المشتغلين بالفلسفة الغربية المعاصرة اليوم هو، بماذا ينشغل الفكر الغربي اليوم؟ وما هي إشكالياته؟ وكيف يطور ذاته وكيف يصنع علاقته بذاته وبالآخر والعالم والطبيعة؟ والجواب على هذه الأسئلة ضروري جدًّا، فلا ينبغي أن نعتبر الفلاسفة، كما يحب بعض الساسة والإعلاميين القول، أناسًا يتساءلون في المطلق أو في غير ما سياق، الأمر دقيق جدًّا ومحدد، فهايدغر وفوكو ودريدا ودولوز وراوولز، كلهم أناس يشتغلون على قضايا محددة، هي تحليل المشروع الفكري والسياسي النهضوي الأنواري الحديث ونقده واستشكاله، سواء بالنقد أو بالتقويم أو بمساءلة منسياته ومطوياته، فراوولز لا يفهم مثلاً دون كانط أو روسو، أي دون الأساس النظري العميق للدولة الغربية الحديثة سياسةً وقيمًا، وهايدغر لا يفهم إلا في حواره مع ديكارت، وفي عمله على تحليل ماهية المشروع الغربي الحديث الذي يتناوله في إطار سؤال "التقنية"، على هذا الاعتبار يكون اشتغال الباحثين العرب بهذا المجال هو تعريب هذا الاشتغال "الانعكاسي" الذي يقوم به الغرب اليوم لتراثه وترجمته وتقريبه وتوضيحه، ومحاولة استثمار كل ذلك في إشكالياتنا نحن، طبعًا هذا لا ينفي وجود أسئلة وقضايا أكثر عموميةً وتجريدًا في هذا الفكر، والتي تلامس الأفق الإنساني والوجودي العام، لكن الأصل هو هذا، بهذا المعنى أعتقد أنّ اهتمامي السابق بدولوز شخصيًّا لم يكن مسألة ذاتية ولا مجردة، ولا حتى بدافع "تأثر" شخصي، بل هو إسهام في مشروع افتتحه المثقفون العرب منذ مدة طويلة، منذ طه حسين وسلامة موسى وأحمد أمين ويوسف كرم، ومن تلاهم من الأساتذة والمترجمين، وها أنت ترين أنّ أستاذًا كبيرًا من حجم عبد الله العروي يترجم اليوم نصوص روسو ومونتيسكيو، وطبعًا المسألة لا يمكن أن تفهم هنا بدافع تأثر شخصي أو رغبة مرسلة، بل بوعي حقيقي بضرورة تعريب الإنتاج الفكري الغربي وتقريبه وفهمه، لأنّ هذا الأمر هو واحد من الشروط الأساسية لأي نهضة أو إصلاح في المجتمع أو السياسة أو القيم قد نرغب في تحقيقه.

قسم التحرير: تتباين الآراء حول واقع الفلسفة العربية المعاصرة، فهناك من يرى أنّها ليست بخير، وأنّها ظلت حبيسة إشكاليات التراث العربي، بينما يرى بعضهم الآخر أنّها تعرف طفرة تتجلى في تجدد الفلسفة من خلال منابع متعددة، فأي الرأيين أقرب إلى الصواب؟

عادل حدجامي: في الحقيقة أنا لا أملك الأهلية للجواب على هذا الأمر، فلست عارفًا بمجموع ما يحصل في الفلسفة العربية المعاصرة، فهذا مجال له أهله المختصون ممن يشتغل بقضايا الفكر العربي المعاصر، وثقافتي في هذا المجال محدودة جدًّا، فالفكر مجالات واسعة، ولا يمكن للمرء أن يجمعها كلها، فالجمع في المعرفة اليوم محال لا يدرك، لكني مع ذلك، ومبدئيًّا لا أعتقد أنّ واحدًا من الموقفين على صواب، ولا أعتقد حتى أنّ الأمور ينبغي أن تطرح بهذه الصيغة، ففكرة "فلسفة عربية" هذه معترض عليها ابتداءً، إذ لا وجود لقوميات في الفلسفة، فالفكر الفلسفي والعلمي إنساني دائمًا، لكن يحصل في فترة أن يتجسد في لغة وثقافة معينة تصير، ظرفيًّا، هي لسانه الناطق به، هكذا فنحن نتحدث عن الفلسفة الإغريقية، لكن المقصود لم يكن الإغريقي بالمعنى العرقي، بل من كتب وفق قواعد اللغة الإغريقية وثوابتها الثقافية، وفي هؤلاء نجد الأغارقة وغيرهم من الأقوام، سواء مصريين أسكندريين في المرحلة الهيلينيستية، أو قبارصة أو أتراكًا أو حتى ليبيين، كما هو الحال مع المدرسة القورينائية التي توجد آثارها قرب بنغازي اليوم، بعدها تقلّب الأمر في أطوار متعددة، قبل أن يستقر في بلاد الإسلام ويتحدث العربية، لكن كان هناك أندلسيون وموالٍ ومولّدون، ولم تكن المسألة "عربية" عرقية ولا إسلامية خالصة، فمن عرّب النصوص اليونانية، مثل متى بن لوقا أو حنين بن إسحاق، كانوا مسيحيين. هكذا، فلا أعتقد أنّ هناك قوميات أصلاً في الفكر بالمعنى العرقي المتداول إعلاميًّا، وحتى إن كان الأمر ممكنًا مبدئيًّا، فلا أعتقد أنّ هناك اليوم، في الإنتاج العربي، عناصر موضوعية كافية تجعلنا نتحدث عن "فلسفة عربية" مستقلة ومباينة لغيرها.

من جهة ثانية، هذه المقابلة بين الفلسفة التي تبقى حبيسة التراث والفلسفة التي "تتغرب"، تبدو لي فقيرة ومصطنعة، فمن يشتغل بالتراث ليست غايته البقاء في التراث، بل هي استثمار هذا التراث ونقده وتحليله بغاية الفعل في الحاضر، ثم هو يفعل ذلك بأدوات ليست من هذا التراث. فالجابري، أشهر من اشتغل في هذا الباب، هو تلميذ في المنهج للمدارس الفلسفية الغربية، واستحضاره لمفاهيم فوكو والإبستيمولوجيا الفرنسية أظهر من أن يذكر، بل وحتى من يدافع عن "أصالة" ممكنة لهذا التراث، أنت ترين أنّه لا يفعل ذلك إلا قياسًا إلى نموذج "غير أصيل" في اعتقاده، وبناءً على أدوات عمل ومفاهيم ومناهج غربية، سواء صرح بها أو كتمها.

من جهة ثالثة، هؤلاء الذين يستنبتون الفكر الغربي ويشتغلون به ليسوا مقطوعي الصلة بالتراث، بل العكس تمامًا، فلا يمكن تعريب الفكر الغربي أو تقريبه اليوم إشكالات ومفاهيم، دون معرفة قوية بالتراث لغةً وفكرًا، وإلا فلا فائدة ترجى من عملهم. هكذا، فمن يريد أن يعرب هايدغر اليوم لا يستطيع ذلك ما لم يكن عارفًا حقيقيًّا بتراث اللغة العربية وكنوزها المعجمية والدلالية، وهو لا يفعل ذلك إلا بغاية عملية ثقافية نهضوية أيضًا، لهذا فلا أعتقد أنّ الأمور تطرح بهذه الصيغة.

ما أعتقده شخصيًّا هو أنّنا محتاجون لكل شيء، وللبحث في كل القضايا، سواء كان تراثًا أو لم يكن، شريطة الجدية والرصانة والجودة، وهذه هي المشكلة الحقيقية في نظري، فهناك فوضى حقيقية اليوم، وهذا واضح في التضخم الحاصل في مجال النشر، والذي يقابله تراجع مطرد في نسبة القراءة والإقبال على النصوص، فالشرائط التي كانت تعتمد سابقًا في إجازة نشر الأبحاث وتداول الكتب لم تعد موجودة، بل صار هناك استسهال كبير وجرأة لا حد لها على هذا الأمر، والمرء يصيبه الكمد والغم، وهو يرى بعض الفضائح يسمح بنشرها على أنّها "أبحاث". لهذا، فالحد عندي ليس بين تأليف فلسفي عربي منشغل بالتراث وآخر منشغل بغيره، بل بين تأليف يحترم شروط الكتابة والبحث، ويراعي أوليات "الصناعة"، وبين بعض المطبوعات والنشرات التي ما كان لها أن تسوّد أصلاً.

قسم التحرير: وكيف يمكن برأيك إعادة الألق والتوهج للفلسفة في العالم العربي، حتى تسهم في الخطاب الفلسفي الكوني؟

عادل حدجامي: لا أعتقد أنّ الأمر يتعلق بإعادة ألق فيما يخص وجود الفلسفة في العالم العربي، فلم يكن لها ألق يومًا، أما إذا كنا نتحدث عما حدث في أواسط القرن العشرين وبعيده من حيوية فكرية، تعلقت بالأدب كما بالترجمة والفكر والفن، فالمسألة عصية جدًّا، صحيح أنّ هذه الفترة، قياسًا إلى ما نعيشه اليوم، قد تبدو "زاهرة"، لكن الأمر ينبغي أن يرد إلى سياقه أولاً، ثم لأسبابه ثانيًا، من جهة السياق فالأمر لم يكن، قياسًا إلى إيقاع الإنتاج الرمزي العام حينها، كبيرًا جدًّا، بل كان محدودًا وجزئيًّا ونخبويًّا جدًّا، فلا ينبغي أن ننسى نسب الأمية المرتفعة حينها ومحدودية أعداد ما ينشر ومن يقرأ ومن يتفاعل، فالحيوية كانت موجودة صحيح، لكن ليس بالصورة الوردية التي قد تستبد بنا اليوم في تصورنا عن هذه الفترة. بالنسبة إلى الأسباب، لا ينبغي أن ننسى بأنّ العالم العربي حينها كان يعيش فترة "الاستقلال"، وكانت هناك رغبة حقيقية في إثبات الذات وفي استعادة الكرامة إثر إهانة الاستعمار، مع طموح قوي للخروج من التخلف واللحاق بنموذج الشعوب المتقدمة، وهو الأمر الذي دفع عددًا من المبدعين، بنكران ذات واجتهاد نادر، للقيام بمجهودات تبدو خارقة اليوم، فحين ننتبه للأعداد الهائلة من الأعمال التي قام بها مفكرونا حينها، من الناحية الكمّية على الأقل، فإنّنا نستغرب كثيرًا، لكن تفسير ذلك في نظري لا يكون متاحًا إلا إذا استحضرنا هذه العناصر والأسباب العامة. اليوم الوضع مختلف تمامًا، فثنائية الأنا والآخر، والحداثة والتراث، لم تعد حاضرة بالحدة التي كانت عليها، فأجيال اليوم، التي هي أجيال ثقافة معولمة ومهجنة واتصالية، لها أسئلة أخرى وهموم أخرى، ربما تتجاوز الأسئلة النظرية كلها، لهذا فالأمر أعقد من أن يحل بوصفة جاهزة.

قسم التحرير: وما الدور المنوط بالفلسفة اليوم؟

عادل حدجامي: هو الدور الذي كان منوطًا بها دائمًا، النقد والتعرية والكشف عن الأوهام والأكاذيب التي نصنع وننتج، عن وعي أحيانًا ودون وعي في أحيان كثيرة، ما تغير ربما هو الخصم؛ ففي أزمنة سابقة كانت الفلسفة تعي خصمها وتعرف مكانه، فتسميه بـ"اللاعقل" أو الخرافة أو الاستبداد، اليوم الأمر صار معقدًا وشائكًا، إذ أنّ العقل والخرافة والاستبداد اتخذت كلها أشكالاً وصورًا وصيغ حضور أكثر ذكاءً ومكرًا، اللاعقل اليوم يتخذ صورة "البهامة" bétise كما يذكر الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي في بعض نصوصه، ويتخذ من قيم "التقدم" والديمقراطية والشفافية والتواصل حوامله الأفضل، وهذا ما يتجسد بوضوح في الثقافة الإعلامية والاتصالية الجديدة، فالخصم اليوم ليس هو غباء "الحس المشترك" الذي لا يعرف، بل هو مكر الحس المشترك يتجدد ويتحول بسرعة كبيرة، فالخصم اليوم غير محدد، حتى إن كان يظهر في الإعلام بشكل أكبر، الخصم اليوم يتقدم على شكل "بداهات" جديدة، وهذه البداهة قد يكون ضحية لها المفكرون أنفسهم، بل إنّ خطاب مناهضة "البهامة" هذا قد يتحول هو نفسه، حين يصير موضوعًا إعلاميًّا، إلى شكل جديد من "البداهة" وبالتالي البهامة، بهذا المعنى يبدو لي أنّ مهمة الفلسفة اليوم غاية في الأهمية، وغاية في الصعوبة، بل أهم من أزمنة سابقة كثيرة، لأنّ الفلسفة كما تقدم هي فن تعرية الأوهام، والحال أنّ زمننا هو زمن صناعة الأوهام وتسويقها بامتياز، على ألا نفهم الصناعة والتسويق هنا، باعتباره نتيجة إرادة لأشخاص أشرار يفكرون ويمكرون، بل هو نتيجة تلقائية ومحايثة للنظام العام لزمننا. لكن، وكما كان الأمر دائمًا، لا أحد يرغب في أن يحيا دون أوهام وأكاذيب، وهذا ما يفسر الخطاب المعاصر حول موت الفلسفة ومجاوزة النظر والأيديولوجيا، الذي ليس إلا رغبة، باسم أيديولوجيا التقدم والتكنولوجيا، في الدفاع عن أوهام قديمة، كان يدافع عنها آخرون سابقًا باسم العقيدة والتراث والتقليد.

قسم التحرير: وهل الطريقة التي تدرس بها الفلسفة في الجامعات العربية بشكل عام، والمغربية على وجه الخصوص، يمكن أن تؤتي أكلها وتعطي باحثين مشتغلين على السؤال الفلسفي كما يجب أم لا؟ 

عادل حدجامي: لا يوجد أي اهتمام اليوم بالفلسفة ولا بالفكر النقدي ولا حتى بالجامعة، فالنظم السياسية- الاقتصادية القائمة تراهن على مؤسسات تكوين تقنية وتدبيرية مهنية مباشرة؛ فتماشيًا مع منطق موت النظرية وهيمنة أيديولوجيا التدبير والتسيير و"ترشيد" الموارد وملاءمة متطلبات السوق وغيرها من عناصر النزعة الاقتصادوية الجديدة، يصير تدريس الفلسفة والفكر النظري عمومًا "ترفًا" في أحسن الأحيان، وشيئًا غير ذي قيمة أو فائدة في أسوئها، وهذا واضح في الهجوم الشرس الذي تعلنه الدولة على كليات الآداب وشعب العلوم الإنسانية، في مقابل توسيع قطاع التكوين الخاص التقني والمهني، فالجامعة اليوم بالنسبة إلى النظام السياسي- الاقتصادي العام مجرد إرث من زمن آخر وجب تصريفه بأقل الخسائر، في أفق التخلص منه، وهذا التوجه واضح ومعلن. في إطار هذا التصريف يعهد اليوم للجامعة بأن تدبر الفائض البشري الذي ينتج عن المؤسسات التعليمية الثانوية والتـأهيلية التي لم تجد لها مقعدًا في المعاهد المتخصصة المهنية والتقنية، هكذا فالدولة تصرف أزمة الديمغرافيا، باحتواء هذا الفائض وأزمة هذا الفائض بأكذوبة الدراسات العليا الجامعية. وفي إطار جو مثل هذا، لا يمكن الحديث عن إنتاج علمي أو فكري جامعي، أو حتى عن تدريس بالمعنى العادي، الأمر يتعلق بتدبير لوضع هو في تصور الدولة غير مفيد وغير منتج. هكذا، فكل الإنتاجات والأعمال التي نرى هي وليدة مجهودات شخصية وعمل عصامي خالص، فالكتاب والمفكرون اليوم هم كائنات أكاد أقول "منذورة للانقراض"، ومن تبقى منهم هم نماذج أخيرة ووحيدة لا غير، فالمفكر اليوم يسلم مفاتيح السلطة الرمزية للـ"خبير" الذي هو النموذج الأنسب لمجتمع الاتصال المعولم والاقتصاد المباشر، تمامًا كما سلمها رجل الدين في زمن معين للفيلسوف، والساحر قبلها لرجل الدين، وأعتقد شخصيًّا أنّ تكاثر الجوائز الثقافية والرغبة الرسمية في الاحتفاء بـ"الثقافة" إعلاميًّا هو نذير بنهاية الثقافة في معناها الكلاسيكي، لأنّ ممثليها صاروا نادرين ومهددين بالموت، فلا بأس من "تكريمهم" وتقديم بعض الاعتراف بهم وأخذ صور معهم، تمامًا كما نفعل مع الأجناس الحية النادرة، تمهيدًا لدفنها، لكن ليس في الأمر أي بعد مأساوي بالنسبة إلي، لأنّ التاريخ أطوار وأدوار ولا شيء بخالد، وشعاري في كل هذا، ما ورد عن سبينوزا الذي شهد عصرًا لم يكن أقل اضطرابًا من عصرنا، قوله في رسالته الشهيرة لأولدنبيرغ: "إنّ هذه التحولات كلها لا تبعث فيّ رغبة في الضحك ولا في البكاء، بل هي بالأولى تزكي في نفسي الرغبة في التفلسف، وفي فهم الطبيعة الإنسانية بشكل أعمق".