عبد الباسط الغابري: المجتمع التونسي بين الخصوصية الحضارية والانفتاح الثقافي


فئة :  حوارات

عبد الباسط الغابري: المجتمع التونسي بين الخصوصية الحضارية والانفتاح الثقافي

فيصل شلّوف: إنّ المطّلع على أعمالك البحثية، يلاحظ طغيان الهاجس التاريخي، فمن خير الدين التونسي والتاريخ والتمدّن، وصوت الطالب الزيتوني، إلى حضارة القيروان خلال الحقبة الاستعمارية، وجمع مقالات الشيخ محمد البدوي وتحقيقها ضمن كتاب "تونس العميقة"، وما سبق ذلك من أبحاث. فكيف تفسّر هذا الميل باتجاه التاريخي، وخصوصًا الجانب الحديث من تاريخ تونس الثقافي والسياسي والاجتماعي؟

عبد الباسط الغابري: يقترن ذلك في الحقيقة بعاملين أساسيين: عامل موضوعي وعامل ذاتي. يحيل العامل الموضوعي على روافد متعدّدة منها ما يتّصل بنوعية التخصّص العلمي، فقد انخرطنا مبكّرًا في دراسة ما يمكن الاصطلاح عليه بقضايا "الفكر التونسي" في مرحلة تاريخية شهدت فيها الجامعة التونسية وعيًا نسبيًّا بهذه المسألة. على الرغم من بعض حملات التشكيك أو حتّى الاستهزاء سواء من داخل هذا التخصّص الحضاري أو من خارجه في ظلّ التجاذب والتنافر "التقليدي" بين اختصاصي التاريخ والحضارة بسبب الذهول المتعمّد عن الصلات الممكنة بين مختلف الحقول المعرفية. ولعلّنا اليوم يمكننا أن نقف على أهميّة طرح تلك الإشكاليات المرتبطة بالتاريخ الثقافي والاجتماعي لتونس الحديثة والمعاصرة. ففي أزمنة التحوّلات الكبرى وأزمنة "اللايقين" لن نجد غير الثقافة حاميًا للذاكرة والتاريخ بما أنّ الثقافة هي "ما يبقى لدينا بعد أن ننسى كلّ شيء" على حدّ تعبير آريوت Herriot. ولو يتم نشر جلّ الأعمال المخطوطة التي أنجزت بالجامعة التونسية ضمن هذا الباب والاطّلاع عليها من قبل الإعلاميين والفاعلين الاجتماعيين لضمنت البلاد "رأسمالاً رمزيًّا "معتبرًا يقيها مخاطر التجاذب الأيديولوجي الهوّياتي المضرّ بالتعدّدية والديمقراطية الناشئة. لذا فإنّ ذلك الهاجس التاريخي يتقاطع مع رهان إبراز عمق الشخصية التونسية وأصالتها فالشعب التونسي ليس "غبارًا من البشر" مثلما حاولت السياسة الثقافية والبروبغندا الإعلامية ترسيخه في مرحلة ما. واستنادًا إلى ذلك، فإنّ دراسة بعض القضايا المغيّبة من تاريخنا الرسمي وإعادة الاعتبار إلى بعض الأعلام المنسيين يتنزّل ضمن محاولات فهم الواقع وتأسيس المستقبل. وقد جاء في المقولة الشهيرة للويس ألتوسير Louis Althusserما معناه أنّ "دراسة الماضي تمكّننا من استجلاء الحاضر لإنارة المستقبل". إذ يساعد ذلك على عدم تكرار الأخطاء والاستفادة النقدية من تجارب الماضي وحسن توجيه إمكانيات الحاضر لفائدة مستقبل واعد. يعتبر العامل الذاتي امتدادًا للاختيارات العلمية بحكم انتسابنا إلى وحدتي التاريخ المعاصر والأركيولوجيا ضمن الوحدات الاختيارية المقرّرة في نظام المرحلة الثانية من الأستاذية بكلية الآداب بمنوبة خلال السنة الجامعية 1998-1999.

فيصل شلّوف: بحثت في كتاباتك إشكاليات لها ارتباط بمسائل اللغة والهوية والثقافة والتعليم والدين، فهل يتنزّل ذلك ضمن وعي عميق لديك بأهميّتها في صياغة مشروع حضاري حقيقي متأسّس على أرضية أخلاقية ومعرفية متينة؟

عبد الباسط الغابري: لا شكّ في أنّ المشاريع الجادة في كلّ الحضارات التي كان لها إسهام معتبر في تاريخ الإنسانية ارتكزت على أسس أخلاقية ومعرفيّة بيّنة. على الرغم من أنّ مصطلح الأخلاق في هذا السياق قد يضعنا في متاهات مفهومية ومواقف خلافية عديدة ليس أقلّها التساؤل عن حقيقة الربط بين الأخلاق والمعرفة والأخلاق والدين ومدى ارتهان الفعل التاريخي للأخلاق وتاريخية الأخلاق نفسها (...) لقد اهتممنا في أطروحتنا صوت الطالب بصورة صريحة بهذه القضايا، وتعمّقنا فيها بطريقة مضمرة في بحوثنا اللاحقة. وقد اقترن ذلك التناول بمراعاة السياق التاريخي والحضاري الذي تنزّلت فيه، وهو ما ساعدنا على اكتشاف عملية "التلاعب بالعقول" التي تمّت وفق أمزجة شخصيّة علاقتها محدودة بمسائل التقدّم والتنمية وتكريس المواطنة الحقيقية. فعلى سبيل الذكر ظلّت مسألة التعريب محلّ إجماع مختلف القوى الوطنية إلى عام 1955 مثلما تشهد بذلك الصحافة المنشورة في تلك الفترة. لكن بعد الاستقلال والظروف السياسية الحافة به وفي مقدّمتها ما يعرف بالخلاف اليوسفي البورقيبي أضحت تلك القضية الهامّة محلّ تجاذب أيديولوجي هويّاتي حاد، ففي مرحلة أولى وقع تبنّي مشروع المتفقّد الفرنسي جان دوبياس Jean Debiesse في توحيد التعليم وتنظيمه في العشرية التي عرفت بعشرية محمود المسعدي (1968-1958)، وقد ساهم العدول عن اعتماد التعريب في تهميش اللغة العربية والتربية الإسلامية. لكن في المرحلة التالية تزامنا مع التمرّد الطلابي موفّى الستينيات تمّ الانتقال من النقيض إلى نقيضه باعتماد التعريب في عهد الوزير الأسبق محمد مزالي (1970-1980) دون خطط عمل واضحة ولا برامج مقنّنة. وقد استمرّ هذا الوضع إلى اليوم ضمن ما يعرف بمشروع "مدرسة الغدّ" الذي لم يكن في حقيقته إلاّ عملية اختزال مسقط لإصلاحات الوزير محمد الشرفي في منتصف تسعينيات القرن الماضي. وهو ما أثّر ومازال يؤثّر إلى اليوم في مستوى ضعف الزاد اللغوي لشريحة من المتعلّمين التونسيين باللغة العربية أو باللغة الفرنسية. إنّ استصغار المسألة اللغوية وإخضاع السياسات التربوية والتعليمية للمزاج السياسي العام والتجاذب الأيديولوجي المنزوع من برامج جادة لا يمكن إلاّ أن يؤكّد محدودية وعي النخبة أو الطبقة السياسية بمرتكزات البناء الحضاري، إذ يذهب عالم اللسانيات عبد السلام المسدي في هذا الصدد إلى الإقرار بأنّ "توطين العلم وما ينجم عنه من تقنيات أمر مستحيل استحالة قاطعة خارج دائرة اللغة التي بها نكون ومعها نتماهى. والتماهي في الوعي الفردي كما في الوعي الجماعي الرمز الأعلى المعبّر عن الهويّة". أمّا بالنسبة إلى الدين فقد أصبح الاعتقاد راسخًا اليوم حتى بالغرب في كونه عنصرًا هامًّا في توازن المجتمعات فما بالنا بالعالم العربي الذي تأسّست حضارته وثقافته على نصّ محوري وهو القرآن الكريم، ويعدّ الدين الإسلامي الدين الرسمي للدول والشعوب؟

إنّ محدوديّة النتائج التي أفضت إليها العقلانية الأداتية أو العقلانية المنغلقة في تحقيق سعادة الكائن البشري ليس بحاجة إلى أدلّة ولا إلى إثبات، وما تتالي الدعوات إلى عقلانية موسّعة أو منفتحة على حدّ تعبير إدغار موران Edgar Morin ضمن مقاربات مختلفة شأن المقاربة التواصلية مع هابرماس Habermas أو مقاربة التعدّد الثقافي مع تايلور Taylor أو مقاربة الاعتراف مع أوغست هونث Honnethإلاّ علامات على ضرورة إعادة الاعتبار إلى مسائل الدين والهوية واللغة والثقافة ضمن مراجعات جادة تميّز في مجال الدين مثلاً بين الدين والتديّن لتكريس حداثة حقيقية ترتقي بالإنسان أينما كان وكيفما كان.

فيصل شلّوف: من خلال اطلاعك على التعليم الديني والمؤسّسة الزيتونية، وهو ما يبدو من تخصّص بعض أبحاثك في هذا المجال، كيف يمكن أن تقيّم حالة التعليم الديني في تونس؟ وما هي مرتكزات عملية إصلاح المنظومة التعليمية ككل في رأيك؟

عبد الباسط الغابري: لا يمكن تقييم وضعية التعليم الديني بتونس بمعزل عن وضعية التعليم الرسمي ككلّ لخضوعهما للظروف والعوامل نفسها المسهمة في صياغتهما. فكلاهما ارتبط بسياسة ثقافية وتربوية وتعليمية مرتجلة في أحيان عدّة. وقد درسنا هذه المسألة بحيث يمكن القول إنّ ما يسمّى بالإصلاحات لم تكن في حقيقتها إلاّ استجابة لتطلّعات السياسي في إحكام سيطرته على المجتمع والدولة فحتّى قرار غلق جامع الزيتونة سنة 1958 -بصفته مؤسّسة تربوية تؤمّن تعليمًا دينيًّا متوازنًا وشهد محاولات إصلاحية متعدّدة بلغت أوجها في خمسينيات القرن الماضي بتأسيس الشعبة العصرية الزيتونية-كان قرارًا سياسيًّا أساسًا هدفه التخلّص من مناكفة أربعة عشر ألف طالب زيتوني من الممكن أن يشكّلوا خطرًا على السلطة البورقيبية الفتية آنذاك. وهو رأي يتّفق فيه جلّ المهتمين بتاريخ الزيتونة مثل الأستاذ المختار العياشي. لم تتحرّر وضعية التعليم الديني طيلة العقود اللاحقة من تأثير الارتجال السياسي في التربوي على الرغم ممّا يلاحظ من تركيز برامج التربية الإسلامية والتفكير الإسلامي على تكريس البعد الأخلاقي والمقاصدي في اختيار النصوص الدينية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وسير الخلفاء والصلحاء. وذلك لأنّ الانتقاء يعدّ سلاحًا ذا حدّين، فبقدر ما يوجّه اهتمامات المتعلّمين إلى ما تسمّيه مقرّرات البرامج بالوجه المشرق والمستنير للإسلام وتاريخنا بصورة عامة، فإنّها كذلك تعيق تطوّر ملكاتهم النقدية من خلال حرمانهم من الاطّلاع على الوجه الآخر من تاريخنا أو بقيّة النصوص الدينية التي تحضّ على القتال والجهاد وتطبيق الشريعة. وهو ما يمكن أن تستغلّه التيارات الجذروية ذات النزعة الماضوية في تضليل الناشئة والقاصرين معرفيًّا. ولئن كان من العسير وضع وصفات جاهزة لتحديد مرتكزات إصلاح المنظومة التعليمية، فإنّه من الممكن الانطلاق من مبادئ أوّلية متمثّلة في:

أوّلاً: تحرير عملية الإصلاح من ضغوط السياسي وتوصيات المانحين والمموّلين اعتبارًا أنّ قضيّة الإصلاح قضيّة معرفية بالأساس يجب أن يباشرها الخبراء دون سواهم.

ثانيًا: تحديد الهدف من عملية الإصلاح، بل من العملية التربوية والتعليمية حتى لا تكون إصلاحًا للإصلاح أو مسايرة للمناخ السياسي والاجتماعي العام. فقد تضرّرت المنظومة التربوية كثيرًا من هذا التمشّي الذي ينتهي غالبًا بتعليم دون تثقيف وما الانحدار الرهيب لمستوى المتعلّمين منذ موفّى التسعينيات وبداية الألفية الجديدة خاصّة إلاّ نتائج لذلك التمشّي الخاطئ. وفي هذا المضمار يمكن أن يكون هدف خلق مواطنة حقيقية أو مواطن صالح الرهان الأساسي للعملية التربوية والتعليمية.

ثالثًا: تشخيص الواقع الحالي تشخيصًا موضوعيًّا دقيقًا بالاستناد إلى إحصائيات دقيقة وتقارير بيداغوجية وعلمية مفصّلة.

رابعًا: الحسم النهائي في مسألة المرجعية العربية الإسلامية باعتبارها لا تشكّل عائقًا أمام الاستزادة من العلم وتبنّي الكثير من القيم الكونية خاصّة إذا تزامن ذلك مع مقاربات مقاصدية ونقدية.

خامسًا: الاستئناس بتجارب تعليمية ناجحة مثلما هو الشأن بفنلندا وغيرها دون محاولة استنساخها وتطبيق تطبيقاتها الخاصّة بمجالها التداولي ووضعها السوسيوثقافي.

فيصل شلّوف: لعلّك لاحظت مؤخّرًا، مثلما لاحظنا، التوجّه السياسي في تونس نحو تكريس التعليم الديني وتحفيظ القرآن، وربما وراء ذلك تكمن غايات كثيرة، لكن برأيك هل يمكن للتعليم الديني إنتاج سياسة ثقافية وتربوية تقدّم المعرفي على الأيديولوجي (الفئوي)، وتخضع لاستراتيجيات محدّدة ضمن تفكير مؤسّساتي لا يتعارض بالضرورة مع مبدأ الحداثة؟

عبد الباسط الغابري: اسمح لي بالتذكير بأنّ مسألة حفظ القرآن الكريم تعتبر من العادات المألوفة في مجتمعنا التونسي إلى حدّ أنّ محمود المسعدي الذي أشرف على تطبيق مشروع توحيد التعليم التونسي طيلة عشرية كاملة 1968-1958 كان من الذين يحفظون القرآن الكريم، وقد أرجع بعض النقاد متانة لغته العربية في أعماله الأدبية مثل "السدّ" و"حدّث أبو هريرة قال" إلى تطبّعه بلغة القرآن. وقبل ذلك لا أحد ينكر قيمة أبي القاسم الشابي في الأدب التونسي والمغاربي، ولا إسهام عبد العزيز الثعالبي في مجال نشر فكرة الدستور وتأسيس الحزب الدستوري خلال عشرينيات القرن الماضي، ولا ريادة الطاهر الحداد في مجال تحرير المرأة والإصلاح الاجتماعي، ولا دور محمد الفاضل ابن عاشور في تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل. وهؤلاء جميعًا من أبناء مؤسّسة زيتونية تقليدية تشترط حفظ القرآن وتلاوته للولوج إلى أبوابها. ينسحب الأمر نفسه تقريبًا على بعض الأعلام والزعماء الوطنيين، فمثلاً محمد بن الخوجة صاحب التكوين الصادقي هو أوّل من أرّخ لمعالم التوحيد بتونس من جوامع مالكية وحنفية في كتابه"تاريخ معالم التوحيد في القديم والجديد". وقد ساندت حركة الشباب التونسي التي يعدّ أبرز قادتها من خريجي التعليم العصري شأن زعيمها علي باش حامبة وعبد الجليل الزواش تحرّكات الطلبة الزيتونيين المطالبة بالإصلاح. ولا شكّ أنّهم كانوا لا يجهلون أنّ الطلبة الذين يدافعون عنهم من حفظة القرآن الكريم والمتمسّكين بالمرجعية العربية الإسلامية، بل أكثر من ذلك إنّ عمليّة تحفيظ القرآن الكريم تتمّ منذ سنة 1968 بواسطة الجمعية القومية للمحافظة على القرآن الكريم ثم رابطة الجمعيات القرآنية منذ سنة 1988 بترخيص من الدولة سواء في عهد مؤسّس الجمهورية الحبيب بورقيبة أو في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي. إذن لم يكن المشكل في تحفيظ القرآن في حدّ ذاته مطروحًا بقدر ما يتعلّق أوّلاً بالطريقة التي تمّ بها إعلان القرار ثم بكيفية تعاطي الخطاب الإعلامي معه فردود الفعل الارتجالية تجاهه. فالسيّد وزير الشؤون الدينية لم يكن مجبرًا على أن يعلن بنفسه ولا أن تعلن الوزارة عن قرار تحفيظ بضعة آلاف من التونسيين القرآن الكريم لمواجهة التطرّف بتلك الطريقة الارتجالية والاستعراضية اجتنابًا لحساسيات بعض الأطراف التي تعتبر وجوده في الوزارة تمّ باقتراح وتزكية من حزب سياسي ما مازال إلى اليوم محل ريبة تلك الأطراف ذات المرجعية "اليسارية" أساسًا. والخطاب الإعلامي وبعض ردود الفعل المرتجلة صوّرته وكأنّه غزوة أو معركة سياسية، وهو ما زاد الطين بلّة وأفرغ القضيّة من كلّ جدل أيديولوجي قائم على أساس البرامج الذي يعدّ من مقتضيات التعدّدية الثقافية والسياسية الضرورية لنماء الديمقراطية.

بيد أنّ التفكير في تدريس التعليم الديني وتطويره أو في اضطلاع الدين بدور هام في الفضاء العمومي أو في المسألة التربوية يظلّ رهين عمليّة إصلاح ديني جاد ومراجعات عميقة لتخليص الإسلام من الشوائب والزوائد التي لحقت به منذ شيوع التقليد وغلق باب الاجتهاد. ولا بدّ أيضًا من أن ننبّه إلى خطورة التلاعب السياسي بالمسألة سواء في حاضر البلاد أو في مستقبلها. لذا يجب ضمان استقلالية هذه القضيّة عن السياسي.

فيصل شلّوف: خلصت في كتابك "مقدّمات في دراسة تفاعل الثقافات" إلى تأكيد انفتاح الثقافة العربية الإسلامية واشتمالها على نزعة إنسانية-عقلانية مطموسة، في حين أنّك في مواضع أخرى تولي اهتمامًا لما تسمّيه بالخصوصية الحضارية العربية الإسلامية، ألا يوجد تعارض بين مفهومي الانفتاح والخصوصية؟

عبد الباسط الغابري: إنّ إشكالية الانفتاح والخصوصية وما يماثلهما شأن مسألة الأصالة والمعاصرة مسائل ظرفية إن لم نقل زائفة لارتباطها بأوضاع حضارية معيّنة. فالحضارة العربية إبّان ازدهارها الحضاري لم تطرح هذه الإشكالية كما نطرحها نحن منذ فجر النهضة العربية إلى اليوم، على الرغم من أنّ روافد أجنبية وعناصر أعجميّة متعدّدة أسهمت بنصيب مهمّ في ذلك الازدهار الحضاري مثلما خلص إلى ذلك ابن خلدون. ولمّا طرحت قضايا الترجمة وعلاقة الشريعة بالحكمة والعقل بالنقل كان ذلك في إطار المناظرة والجدل، ولم يصبح الاختلاف في تمثّل تلك القضايا خطرًا على صاحبه أو تحرق كتبه إلاّ منذ بداية النكوص الحضاري واستشراء التقليد وغلق باب الاجتهاد في أحيان عدّة. تكمن قيمة المثقف النوعي في الاشتغال على مثل هذه المسائل وتحليلها دون خوف من تحلّل الهويّة لأنّها كامنة كمون النار في الحجر، إذ لا يمكن للذات أن تتطوّر بشخصية متحجّرة وهوية منغلقة فالمغايرة والاختلاف من شروط التطوّر والنماء والتمكّن.

إنّ تدبّر بعض التجارب التاريخية المعاصرة يثبت مصداقية هذه المعادلة التي تماهي بين قيمتي الخصوصية والانفتاح فمثلاً "إسرائيل" أعادت إحياء اللغة العبرية وطوّرتها، ووظّفت النصّ التوراتي حتّى في تسمية بعض عملياتها العسكرية مثل العملية العسكرية الأخيرة على غزة التي سمّتها "عمود سحاب" وهي عبارة توراتية تحيل على الظلال التي حمت اليهود في رحلتهم مع موسى عليه السلام من مصر إلى الأرض الموعودة. ولكنّها في الوقت نفسه تفتخر بكونها الديمقراطية الوحيدة في شرق أوسطي تعيس. إضافة إلى تصدّرها المراتب الأولى في الترتيب العالمي للجامعات ومؤشّرات تنميتها البشرية الجيّدة. ولئن اعتُبر التنويه بالديمقراطية الإسرائيلية محلّ نقاش، فإنّ بقيّة العناصر يمكن اعتمادها للتأكيد بأنّ المشكل ليس في الخصوصيّة الحضارية في حدّ ذاتها بقدر ما يكمن في كيفيّات تمثّلها والانحرافات الناجمة عن ذلك.

فيصل شلّوف: في علاقة بما ذكرت في هذا الصدد، ما هي أهمية الاحتكام إلى بعد نقدي في التعامل مع تلك الخصوصية، وهل يمكن أن يساعد ذلك في تحصيل رؤية تاريخية سليمة؟

عبد الباسط الغابري: لا بد من الإشارة إلى أنّ تعزيز الملكات النقدية رهان أساسي في فلسفة البرامج التعليمية والتربوية والحقول المعرفية والمسارات الأكاديمية، إذ لا سبيل إلى تحصيل رؤية تاريخية سليمة يمكن بواسطتها تلافي تكرّر الأخطاء نفسها التي تؤدّي إلى نتائج كارثية على المستويين الفردي والجماعي وتفادي الانفعالات التي تغري ولا تجدي. فمتابع التاريخ العربي المعاصر يمكنه الجزم أنّه تاريخ الخيبات والنكبات المتلاحقة، فعلى الرغم من مضي ما يقارب القرنين من عصر النهضة مازلنا إلى اليوم نطرح القضايا نفسها التي طرحت في بداية القرن الماضي، بل أضحى خطر العنف يهدّد الكيانات المنبثقة عن اتفاقية سايكس بيكو. ويثبت كلّ ذلك ضعف رؤيتنا التاريخية وعدم قدرتنا على تقييم أنفسنا وأفعالنا وأعمالنا تقييمًا صحيحًا، وكما تقول نويل كالهونNoel Calhoun: "إنّ من ينسى ماضيه يحكم عليه بتكراره". وهو ما يعني في جملته ضعف ملكاتنا النقدية سواء في موقفنا من ذاتنا أو في موقفنا من الآخر لأسباب عديدة ذكرنا بعضها سابقًا ويمكن أن نضيف إليها مسألة ارتجال السياسات وعدم الاعتماد على مشاريع جادة يستغرق تطبيقها عقودًا طويلةً بسبب حرص صنّاع القرار على النتائج العاجلة والفورية. وهو ما يجعل من الحديث عن نظرية المؤامرة تهرّبًا من المسؤولية التاريخية، فالمؤامرة إن حدثت فعلاً ما أمكنها أن تنجح لولاً عناصر الوهن والخذلان السائد بالعالم العربي.

فيصل شلّوف: باعتبار اشتغالك بمركزي بحث؛ هما مركز حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة ثم مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان، هل لك توضّح لنا كيف يمكن أن تسهم هذه المراكز بدور ريادي في إنتاج المعرفة ونشرها وصياغة الأهداف التربوية والثقافية الناجحة؟

عبد الباسط الغابري: قبل أن نتحدّث عن الوظائف المرتقبة لمراكز البحوث التونسية أو العربية في إنتاج المعرفة وصياغة الأهداف الثقافية والتربوية علينا أن نوجز تشخيص واقعها. وهو وضع هامشي سواء من ناحية حجم الاعتمادات المادية التي تتراوح بين 0,1% و1,2% من الناتج المحلّي والإجمالي للدول العربية حسب تقرير الأسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا) الصادر سنة 2014، أو من ناحية نوعيّة الموارد البشرية أو غياب استراتيجيات عمل واضحة على الأمدين المتوسط والبعيد (...) إذا تمّ تجاوز تلك النقائص يمكن لمراكز البحوث أن تسهم في رسم السياسات الثقافية والتربوية انطلاقًا من بعض المحاور التالية:

- وضع التقارير العلمية للحالات الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.

- إنتاج معرفة منصرفة للصياغة لا للدعاية. وهو ما لا يمكن أن يتمّ إلاّ بتغيير التصوّر السائد للعلاقة بين السياسي والثقافي بالعالم العربي الذي يقوم على تبعيّة الثقافي للسياسي بتكريس ريادية العلمي والثقافي وأسبقيّتهما مثلما هو معمول به في الغرب خاصّة الولايات المتّحدة.

- وضع استراتيجيات عمل على الأمدين المتوسّط والبعيد.

- تطوير الإعلام الثقافي والأكاديمي بشكل يجعله مؤثّرًا في توجيه الرأي العام.

- تعزيز دور الباحث/المثقف الخبير الذي ليس من مهامه وعظ الناس والوصاية عليهم، وإنّما توضيح مختلف القضايا وتحديد مختلف فرضيّاتها ومآلاتها المرتقبة، وترك مهمّة تقرير مصير الآخرين إلى الآخرين أنفسهم.