علي حرب: المفكر التفكيكي والجدلي الصعب


فئة :  قراءات في كتب

علي حرب: المفكر التفكيكي والجدلي الصعب

علي حرب: المفكر التفكيكي والجدلي الصعب[1]

شغل علي حرب مساحة واسعة من السجال الفكري والجدال المعرفي، وشاغل كثيراً المفهومات أو المصطلحات التي شكلت كل واحدة منها برأيه، حلقة في سلسلة حلقات أوهام النخب، وأرباب الثقافة وسدنة محراب الفكر، مقتربا منها "مفككاً" جريئاً وناقدا صعب المراس.

يمثل المفكر علي حرب "التفكيكية" خير تمثيل في البيئة الفكرية العربية، ومنها أو من خلالها يمارس نقده لمفهومات طالما بقيت مكرسة بطابعها التقليدي الصلب، ومصطلحات بقيت أزمنة كثيرة وما زالت، تقيد الفكرة حولها وتمارس سطوتها وسلطتها في أية محاولة لتأويلها أو تفكيكها، لكن حرب أخذ يقترب منها بسلاح التفكيك، ناقدا لذاتيتها وأحاديتها، وإطلاقيتها، فالحقيقة ليست واحدة. إنها حقائق، والمعرفة كذلك وصولا إلى المثقف والحرية والهوية والثورات والبُنى الفكرية والسياسية والأيديولوجية والدكتاتورية والأصولية ومتاريسها، التي اقتحمها بصبر الناظر المدقق والناقد المحقق.

النص - الاختلاف - الحقيقة

بدأ علي حرب نقده أو تفكيكه من كتلة معرفية كبرى وأساسية، تنبثق عنها أفكار شتى، وتتمحور حولها دلالات كثيرة، تشكل مثارا للجدل ومحركا للسجال. إنها "الحقيقة" ناقدا لها وكاشفا لأسئلتها ومستدرجا إياها إلى حقل التأويل، في ثلاثة كتب هي: "نقد الحقيقة"، و"أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر"، و"التأويل والحقيقة".

وحين أراد الكاتب والمفكر اللبناني علي حرب أن يميز "نقد الحقيقة" أو يعرفه، أو يكشف نواياها فيه، قال إن "الغاية هنا هي فضح ألاعيب الحقيقة التي يمارسها خطاب الحقيقة"، موظفا لأجل هذا الكشف سلاح النقد الذي باستطاعته أن يبين "أن الكلمات ليست بريئة في تمثلها لعالم المعنى، وأن المنطوقات لا تتواطأ مع المفهومات، وأن الأسماء لا تشف عن المسميات" كما يقول.

إنه - حتما - لا يصادر الحقيقة، ولا يعمل على نفيها أو رفضها، إنما أراد أن يثوِّر بؤرة المسكوت عنه حيالها، باعتبارها ليست "جوهراً" أو "أصلا" ثابتا أو "يقينا" يثقل عقول الكثير من الذين اعتنقوها دينا أو مارسوها عبادة، أو تقمصوها طقساً وجوديا لا يداخله الشك ولا يقترب منه نقد ولا يجترئ عليه إلا ممسوس.

يلج علي حرب إلى نقد الحقيقة وتفكيكها من باب تفكيك الاختلاف، موطئا لذلك بجملة من المعرفيات التراثية التي تقيم الاختلاف مقامه اللائق، وتجعل النظر والرأي والاجتهاد في الفقهيات والأصول صوابا، وإن تعدد هذا الصواب، وبذلك تبدو الحقيقة "لا حقيقة" واحدة، بل متعددة ومفككة ولا يُقطع بحقيقتها قطعاً واحدا وقولا واحدا..

إنه ينسف كتلاً عملاقة من اليقينيات التي حولت أفهام الناس - عامةً ونخباً - إلى أوهام مفترضة واجتراء على الحقائق بجعلها حقيقة واحدة تتنازعها الأمة.

أراد حرب أن يؤسس لمنطلقات حقائقية تقبل الاختلاف في الرأي والنظر في الصواب الذي تلتزمه جماعة أو مجتمع، واللاصواب الذي تعتنقه أخرى.. والكل يقبل بهذه القسمة المعرفية التي تتطلب نضوجا في الوعي والتفكير، كما تتطلب من النقاد والمفكرين تفكيكها لتوضيحا وتبيانها وتيسيرها للعامة.

من الحقيقة إلى النص..

النص الذي يؤمن به المفكر علي حرب يسع الجميع دون استثناء أحد، يجد فيه كل أحد ضالته المعرفية، وبرهانه إلى الحقيقة التي يعتنقها ودلالته إلى وجوده كذات وفكرة، منبها إلى الاختلاف في النص، الاختلاف المرفوض شرعا ومعتقدا، والمقبول واقعا وعقلا، داعيا إلى الانفتاح المتعدد والمختلف وتجاوز القراءة الأحادية للنص، استنادا إلى أن "البيِّنة" كبرهان معرفي نصّي، تتطلب الاختلاف في الرأي والقول.

في عام 2010، أصدر حرب كتابا حمل عنوانا لافتاً ومثيرا ومؤشراً إلى واقع لم يسقط سهوا من سماء العرب الملبدة بغيوم ثقيلة ومحشوة بالقلق والخوف والاستلاب؛ ففي نهايات العام حدثت أولى ثورات العرب المعاصرة في سياق ما يعرف بالربيع العربي في تونس، وفيما بعد تبين حجم المشكلات والمختنقات التي عانى منها الإنسان العربي، بدءاً من أمراض الدين وليس انتهاءً بأعطال الحداثة..

هذا الكتاب هو: "الإنسان الأدنى...أمراض الدين وأعطال الحداثة"..

فالإنسان فيه هو المشكلة، كان هذا مفتتح الكتاب أو تصديره، أو مقدمته المكثفة المليئة بالدلالات والتأويلات والإسقاطات والإشارات، فهذا المسرح الكوني الذي - بحسب حرب - يدار تمزقا وتأزما أو اضطراباً وإرهابا، يحمل من يفكر ويتأمل على المراجعة وإعادة النظر بصورة جذرية تضع موضع المساءلة والفحص الترسانة الرمزية للعقيدة الإنسانية...".

إنه لا يحاول أبدا أن يسوغ ما وصلنا إليه من تردي وتدهور واضطراب وإرهاب، بل العكس تماما، إن الكتاب بكليته مرافعة ضد الإنسان، أو مساءلة مفهومه لتفكيكه وإعادة بناء نموذجه.

إن حرب يكشف عن تورطنا في حرائقنا واشتعالات واقعنا وحياتنا، إذ يقول إن "الوحش الإرهابي .. الذي نستنكره وندينه هو صنيعة تعليمنا وتعاليمنا .. إلى أن يقول: "نحن الذين ربيناه ورعيناه في العقول والنفوس بنماذجنا الثقافية وفتاوانا الشرعية ومهماتنا الإلهية .."، داعياً إلى ضرورة تغيير، ليس فقط مفاهيمنا حول أنفسنا والعالم، بل مفهومنا للمفهوم وللفكرة وللمعرفة والحقيقة... إنه يعتبر الحقيقة جوهر المفهوم والمعرفة، بتعدداتها وتمثلاتها وتمظهراتها وعدم قدرة أي كان على التجرؤ عليها أو الزعم بامتلاكها..

إن كل ما يحدث لنا، وكل صيروراتنا المفخخة بالعنف والإرهاب والجهل والاستلاب نتيجته محسومة بين فعاليتي: "الدين" بالأمراض التي أنتجها فيه وحوله المتدينون، و"الحداثة" بأعطالها المتعددة، ولا يقف حرب مع الحداثة ضد التقليد، بحسب الحداثيين التقليديين، الذين واجهوا المطلق الديني بالمطلق العقلي، ولا مع التراث بالانقطاع فيه، بل يقف بشكل حاسم مع تفكيكهما، مؤسسا ذلك على فعل الـ "حدوث"، ذلك - بحسب قوله - إن ما يحدث يستحيل نفيه أو إلغاؤه أو الانقطاع عنه "بل يتطلب ذلك إعادة ترتيب علاقاتنا معه بتحليله وتوظيفه واستثماره".

عالم جديد / معرفة جديدة

إن هذا الإنسان المتلبس بالذاتية من السهل أن يتم برهنة مختنقاته، وأعطاله تلك المتصلة بممارساته في حقل الدين، أو المتصلة بممارساته الحداثوية، وما اتصل منها بالحرية أيضا... وهذا حديث يقود أيضا إلى كتاب آخر وفتح من فتوحات الفكر لدى علي حرب، وأقصد هنا كتاب "أصنام النظرية وأطياف الحرية.. نقد بورديو وتشومسكي"... باعتبارهما من أهم من حمل لواء الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان وخيارات الشعوب ونضالاتها أمام آلة القمع والاستلاب والهيمنة والدكتاتورية..

يعتبر علي حرب منطلقه في هذا النقد، أن ما ندافع عنه أو نخشى عليه قد يكون هو ذاته مصدر الفشل والإخفاق، وأن ما أثبتته التجارب، أن ثمة قضايا وأفكاراً كبيرة لم تُطرح إلا لكي يفشل أصحابها في تحقيقها أو ممارستها، أو - كما يقول - كي يمعنوا في انتهاكها، مستدركا على شكل حكم سجالي أن معظم المشاريع التحررية والنضالية تحولت إلى "تهويمات أيديولوجية ومعالجات طوباوية تترجم في ميادين الممارسة مبادرات قاصرة وقوى مفلولة".

ويتدارك بكثير من الحزم على عقليات الوصاية والتقديس والمطابقة، حيث تتم معاملة الأفكار بعقل غيبي أو ما ورائي أو متعال، تماما مثلما يقدم النظام الاجتماعي - بحسب بورديو - نفسه عبر طقوسه واستراتيجياته وعبر منظومة من الاعتقادات والعادات التي تتحول إلى بنية راسخة في العقل المجتمعي، ضاربا مثالا برجل الدين الذي تنحجب مهمته تحت دعوى "الخدمة الإلهية" والخلاص.

يلجأ حرب هنا إلى تفكيك هذه البنى المتعددة تفكيكا يظهر خفاياها ويكشف عن سوءات ممارساتها، بدءاً برجل الدين وليس انتهاء بالأحزاب التي تحاول ضمان سيطرتها بالعمل وفق شعارات ذات فعالية قصوى في المجتمع مرتبطة بأفكار وشعارات الطبقة العاملة والعدالة والحرية وغير ذلك.

يحاول حرب أن يكشف الطريق نحو العالم الجديد الذي يتأسس على المعرفة المتقدمة والعصر السيبرنيتي الافتراضي، مفككا الأطر المجتمعية التقليدية التي ما زال البعض من أتباعها يناضلون من أجلها نضالا فاشلا ... فمجابهة حركة التاريخ وصيرورات الحياة بغير أدواتها يعد فشلاً حقيقيا، والذين - بحسب حرب - يدافعون عن الإسلام والقومية والماركسية بآليات فكرية عقيمة أو بتهويمات أيديولوجية فاشلة أو مدمرة يريدون للعرب والمسلمين أن يستمروا في حالة الضعف والتمزق، لأجل هذا يدعو حرب إلى نقد الهوية الوطنية أو الإسلامية، بما هو طريق لتفجير رؤى أصيلة وتفتيق أفكار خصبة واجتراح أساليب فعالة، بدل أن يبقى العرب يمارسون عجزهم عن مجاراة حركة العصر وحركة العالم ومتغيراته وتحولاته الجامحة، معتبرا أن الأولوية تُعطى لمساءلة الأسماء والهويات حسب تعبيره، والعقائد والأيديولوجيات.

أردت من هذا الكتاب أن أستعرض الفكرة المتصلة بمجالنا العام المليء بالتوجس من التجديد على مستوى الأفكار والممارسات، فما تعانيه المجتمعات المعاصرة من الأزمات يؤكد أن الأزمة تمكن في العقول والأفكار، بقدر "ما يعني أن مجابهة التحديات بنفس العقلية والعدة الفكرية مآلها نصب الأفخاخ وإنتاج المزيد من العوائق".

الحدث الثوري

في "ثورات القوة الناعمة في العالم العربي .. من المنظومة إلى الشبكة"، الكتاب الصادر إبان بدايات "الربيع العربي" وثورات العرب المعاصرة، نجد أفكارا مثيرة للاهتمامات القصوى من نوع: "قوى جديدة تفتح أبواب المستقبل" و"الإسلاميون وشعارهم المستحيل" و"ثورات جديدة - ثقافة مختلفة". يكاد القارئ لمقدمة طبعته الثانية يتساءل بقوة: هل تسرع حرب في قراءته للثورات العربية حين اعتبرها ثورة الناشطين في الميادين، وأن ما حدث معجزة، وأن المواطن يبدأ عهداً جديدا يتصرف فيه الفرد كمواطن له كلمته ورأيه وله دوره وفاعليته؟..

هل قرأ حرب مقدمات "الربيع العربي" فيما لم يقرأ نتائج تلك المقدمات؟ وهل يبدو الأمر فعلا تسرعا في الحكم على هذه الأحداث التي وسمت بالثورات وبالربيع ...؟ ربما .. لكن ثمة ما يقوله حرب هنا مستدركا بذكاء الكاتب والمثقف والمفكر والناقد "أن ثمة قلقاً وخوفاً من أن يجري التفاف على الثورات أو مصادرتها أو تخريبها من جانب الثالوث المضاد" قاصدا النخب الباحثة عن دور أو واجهة، وقوى النظام الدكتاتوري الآفل، والتيارات السلفية".

المهم لدى حرب في هذا الكتاب أن يضع النقاط الكبيرة على الحروف الصغيرة التي لا تكاد تُرى، إذ لا جدوى من الرجوع إلى الوراء، والذي يحدث يغيِّر الجميع، في سياق متصل مع العالم الذي يتغير على نحو لا سابق له وبصورة تتجاوز العناوين القديمة المستهلكة أو البائدة حسب وصفه، كما أنه في خاتمة رحلة اكتشاف الثورات هنا في هذا الكتاب يستدرك استدراكا كبيرا، أن الثورة لا رائد لها، وأن ربيع دمشق ليس رائد الثورات.

أراد حرب أن يقدم صياغة مختلفة لنقد الثورات و"الربيع العربي"، من زاوية أنه نموذج للعمل السياسي الجديد، خلافا لكل النماذج القديمة، الذي باستطاعته أن يستوعب التعددية والاختلاف والرأي والرأي الآخر، والهوية العابرة للقبائلية والحزبية، والعرقية، مستشهدا بذلك في ميدان التحرير في مصر، حيث يد المسلم في يد القبطي، وفي سوريا حيث لأول مرة يرفع شعار في بلد عربي مكتوب باللغة الكردية... أو أن تخرج تظاهرات في المساجد تحت شعار مسيحي.

أراد حرب أن يقدم الثورات بصورة مغايرة، باعتبارها تفكيرا جديدا وأسلوبا جديدا وعلاقات تشاركية جديدة، بمعزل عن نتائجها وسطوة قوى الضد والشد العكسي التي تحاول مصادرتها أو تخريبها أو إفشالها. ومع ذلك، فهو لا يقول بأن الحدث الثوري أحادي، ولا هو يتم بصورة نهائية، فالإنسان - كما يقول - كائن مركب على نحو جيولوجي بقدر ما هو صنيعة تجاربه المتعددة والكثيرة، بنجاحاتها وإخفاقاتها.

تفكيك "الجمهور" العمومي

بعد أن أنتج أو خلق علي حرب كل هذا الفكر، وما اتصل به من نقد وتأويل وتفسير وتفكيك للنص والحقيقة والخطاب، لم يرسُ على شاطئ "الأمان المعرفي"، كما يقول هو نفسه في "خطاب الهوية"، باعتبار هذا الكتاب سيرة فكرية، مارس فيها طريقته في التفكير وإنشاء الخطاب، وبقي متجولاً في أصقاع الفكر وبحور المعرفة، معترفاً بأنه يتغير ويختلف باستمرار، ما دامت الحقائق التي يصادفها تختلف، وما دام قادراً على تخليق الفكر والمعرفة، فالحياة "سرداً وكتابة" كما عنون مقدمته للطبعة الثانية لهذا الكتاب.

الغريب هنا هو أن حرب شرع في كتابة هذه السيرة منذ أكثر من ربع قرن، حيث اختلفت الوقائع وازدحمت الأحداث، وتشابكت المفاهيم وتعددت على النحو الذي يريد الحقائق، لكن ثمة ما يتشابه بين وقائع السيرة ووقائع "الآن"، إذ ثمة معارك بدأ معها كتابة السيرة أكرهته كما يقول على مغادرة بيروت إلى لارنكا عام 1984. وثمة معارك اليوم لو قدر له أن يكتب سيرته الفكرية على وقعها ربما لا يختلف الأمر ولا تختلف الوقائع ولا تختلف التخليقات الفكرية كثيرا؛ فالفرار من الذات شكل من أشكال التشابه بين الأمس القريب واليوم الأقرب..

الحرب التي وصفها في "سيرته"، تشبه حرب اليوم حتما. إنها ليست كسائر الحروب، إذ هي حرب - حسب وصفه - مركبة ولها أكثر من وجه، وتتدخل فيها أطراف يصعب حصرها، وتعمل على إيقادها أكثر من جهة وتختلط فيها الأهداف والأعراض والشعارات..

يذهب حرب من الذات إلى الجمهور، ليقر بأن الجمهور بوصفه اسما للعامة، ونتيجة لطواعيتهم للسائد والمألوف والتعاطي بالمحسوس والمشاهَد، لا يدرك الأمور بالعقل والبرهان، بل بالمناسبة والتمثيل، يقصد - الأمثلة الملموسة - ولا قدرة لهم على تأويل الحقائق بل يقفون على عتبات الظاهر، لذا لزم من يشتغل على التأويل والتفسير والتفكيك، كل ذلك قصد حرب من ورائه أن يتجاوز هذا الجمهور العمومي حالة التوثين والاستصنام وخلع ألقاب التمجيد والتأليه على أصحاب السلطة والسطوة وحتى على ما يعتبرونها حقائق مقدسة لا تقبل التأويل وأفكاراً لا تقبل التجزيء ولا المثال.

من أجل هذا، ابتدأت فكرة حرب في النظر بأحوال الإنسانية المعاصرة، المصابة باللامعقول والأسطوري والمقدس.. وقال: "لقد دعاني ذلك إلى إعادة النظر في مفهوم التقدم ذاته، المفهوم الذي شكل عنوان الحضارة الغربية".. مقتنعاً في خلاصة البحث والنظر في أنه لا عقل أرقى من عقل، وأن "لكل جماعة معقوليتها ... ولكل ثقافة محرماتها ومقدساتها"، وأن الإنسان كائن عجيب التكوين سيظل يجر وراءه تواريخ مديدة ومتباينة.

وخلص أيضا إلى أن هذه الحضارة الحديثة ليست عقلا كلها، ولا حرية كلها... بل هي وجه من وجوه تمثلات اللامعقول والاستبداد والذاتية المفرطة والبربرية المعاصرة.

تبقى كتب الدكتور المفكر، أو كما يتبنى هو مصطلح "الخالق" بديلا عن المفكر، مرافعات جادة وخلاقة أمام صلابة هذا الواقع، وصلابة الأفكار القديمة والمعارف المثخنة بطعونات الحداثة والمغايرة والحداثة - كذلك - المثخنة أيضا بسهام الأصولية الجامدة.

واللافت، أن أي كتاب من هذه الكتب يفضي إلى الآخر، تتوالد فيها مشتركات معرفية كثيرة وتقاطعات متعددة، فنقد الحقيقة يفضي إلى نقد النص، والعكس أيضا، والأختام الأصولية والشعائر التقدمية يفضي إلى تواطؤ الأضداد: الآلهة الجدد وخراب العالم، وغيرها من مؤلفات علي حرب الكثيرة والمستمرة أيضا، فلدى هذا المفكر والمفكك غير التقليدي جرأة مناسبة لاجتراح آفاق معرفية جديدة، ليس وقوفا عند كتل من النصوص والحقائق، بل تجاوزها بالبناء عليها وتوظيفها واستنطاقها من أجل حقائق أخرى وأفكار جديدة، تقبل بدورها التفكيك والتأويل والاستنطاق.

[1]- ذوات 43