حوار مع الباحث المصري الدكتور عمار علي حسن : "لمواجهة الطائفية يجب إخضاع الدين للحوار"


فئة :  حوارات

حوار مع الباحث المصري الدكتور عمار علي حسن : "لمواجهة الطائفية يجب إخضاع الدين للحوار"

حوار مع الباحث المصري الدكتور عمار علي حسن[1]:

"لمواجهة الطائفية يجب إخضاع الدين للحوار"

دعا الباحث المصري الدكتور عمار علي حسن، في سياق دراسات الظاهرة الطائفية، إلى تفكيكها، وردّها إلى أولياتها في التاريخ من خلال طرح أسئلة: كيف نشأت؟ ولماذا انطلقت؟ وما هي الأفكار الأساسية الحاكمة لها؟ ومن هم الرجال الذي عملوا على تعميقها في الواقع المعيش؟ وما مستوى تأثير أفكارهم القديمة على اللاحقين من أتباع الطائفة، باعتبارها أسئلة مفتاحية لفهم هذه الظاهرة المتنامية.

وحول الجدل بين الديني والسياسي في تفكيك الظاهرة الطائفية، لفت الباحث في هذا الحوار الذي أجرته معه مجلة "ذوات"، إلى أن الطائفية بدأت دينية إلى أن عملت الصراعات الاجتماعية والسياسية على إضافة أسباب جديدة للتناحر، مستشهدا بالحالة الإسلامية التي ظهرت فيها الطائفية كممارسة سياسية في خلاف حول السلطة أيام الفتنة الكبرى، وأنها احتاجت أن تصنع، على عجل، تصورا دينيا، أو بالأصح أيديولوجيا، تتخذه إطارا لحركتها، ومبررا لمسلكها، ونقطة مركزية لانطلاقها.

وينظر الباحث إلى أن الطائفية ناتج من نواتج عدم قدرة السلطة الحاكمة في الدولة على خلق التوازن المجتمعي، عامدا إلى توضيح عناصر واقعية أو إجراءات وتصرفات يعتقد أن بوسعها تفكيك التعصب الطائفي تدريجيا، في سياق البحث عن حلول أو معالجات للظاهرة، ومن هذه العناصر التعليم والإعلام والمنتج الثقافي ومنظومة القوانين والتشريعات ومؤسسات المجتمع المدني وعلماء الدين.

والدكتور عمار علي حسن هو كاتب وباحث مصري في العلوم السياسية، تخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، عام 1989، وحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية عام 2001، وهو واسع الإنتاج العلمي والبحثي، صدرت له العديد من المؤلفات المتعلقة بحقل العلوم السياسية، ومؤلفات أخرى مهتمة بدراسة الجماعات الإسلامية في مصر والوطن العربي. عمل في بداياته العملية صحفيا بوكالة "أنباء الشرق الأوسط"، ومديرا لمكتب صحيفة "البلد" اللبنانية بالقاهرة، كما عمل كباحث في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بأبوظبي.

واللافت في مسيرة الدكتور عمار علي حسن، أن له جانباً آخر من الاهتمامات على مستوى التأليف والنشر، من خلال أعماله الأدبية، التي أهلته للحصول على عدد من الجوائز الأدبية المصرية والعربية. فمن أهم أعماله السياسية كتاب "التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر: ثقافة الديمقراطية ومسار التحديث لدى تيار ديني تقليدي"، وكتاب "النص والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية، دراسة في علم الاجتماع السياسي"، وكتاب "ممرات غير آمنة: تهديد الراديكاليين الإسلاميين لوسائط نقل الطاقة"، وكتاب "التحديث ومسار البنى الاجتماعية التقليدية: حالة اليمن"، وكتاب "العلاقات الخليجية ـ المصرية: جذور الماضي ومعطيات الحاضر وآفاق المستقبل"، وكتاب "الفريضة الواجبة: الإصلاح السياسي في محراب الأزهر والإخوان المسلمين"، و"أمة في أزمة: من أمراض العرب السياسية في الفكر والحركة"، و"الأيديولوجيا: المعنى والمبنى"، و"حناجر وخناجر: دراسات حول الدين والسياسة والتعليم في مصر"، و"العودة إلى المجهول: راهن الإصلاح في مصر ومستقبله"، و"التغيير الآمن: المقاومة السلمية من التذمر إلى الثورة"، و"الطريق إلى الثورة: التباشير والنبوءة، الانطلاق والتعثر"، و"القرية والقارة: دراسات في النظم السياسية والعلاقات الدولية"، و"انتحار الإخوان: انطفاء الفكرة وسقوط الأخلاق وتصدع التنظيم"، و"المجتمع العميق: الشبكات الاقتصادية والاجتماعية للأصولية في مصر"، و"شبه دولة: القصة الكاملة لتنظيم داعش".

ومن إصداراته الأدبية مجموعات قصصية منها: "عرب العطيات"، :التي هي أحزن"، "حكايات الحب الأول"، "عطر الليل"، ومن مؤلفاته الروائية "حكاية شمردل"، "جدران المدى"، "زهر الخريف"، "شجرة العابد"، "سقوط الصمت"، "السلفي"، "جبل الطير"، "باب رزق"، "بيت السناري"، "خبيئة العارف". وفي حقل السيرة الذاتية أصدر "مكان وسط الزحام".

مروان العياصرة: كيف يقرأ الأستاذ عمار علي حسن نشأة الطائفية / الجذر التاريخي...؟

عمار علي حسن: ولدت الطائفية حين انزلق التعدد في الآراء والاتجاهات والتصورات الاعتقادية أو الدينية إلى تعصب أعمى، أطلق في نفوس المعتقدين كراهية لغيرهم، من منطلق أن ما هم عليه "حلال" وما عليه الآخرون "حرام". كانت في البداية تصورات سائلة غير مستقرة، لكن ظهر لكل طائفة قادة اجتماعيون ومنظرون، أخذوا صيغة رجال دين أو وعاظ أو حكماء، مما ساهم في نقلها إلى حالة جامدة بتقادم وجودها تاريخيا، وتزايد عدد المنتمين إليها، وتراكم موروث شعبي يعبر عنها، مفعم بالحكايات والأساطير التي ترمي إلى تماسكها. وفي هذا لا يختلف الشيعة عن السنة إلا في الدرجة، ولا البروتستانت عن الكاثوليك والأرثوذوكس، ولا الهندوس عن البراهمة، ولا البهرة عن الأحمدية، ولا الكتبة عن الفريسيين، والصدوقيين عن الهيرودسيين في اليهودية.

مروان العياصرة: هل تبدو ظروف النشأة الطائفية دينية أم سياسية...؟

عمار علي حسن: بدأت نشأة الطائفية دينية في بعض الحالات، ثم جاءت الصراعات الاجتماعية والسياسية لتكسوها بطابع آخر، لتنضاف إليها أسباب جديدة للتناحر، وبدلا من أن تغلب السياسة في واقعيتها وبراغماتيتها وتبدلها وتغير من الطائفية الدينية، نجدها قد عمقت منها، لأنها لم تقف بها عند حد ما تحكم به السماء على الناس، لكن ما تقضيه المصالح الدنيوية البحتة. وفي الحالة الإسلامية بدأت الطائفية سياسية في خلاف حول السلطة أيام الفتنة الكبرى، وكان عليها أن تصنع، على عجل، تصوّرا دينيا، أو بالأصح أيديولوجيا، تتخذه إطارا لحركتها، ومبررا لمسلكها، ونقطة مركزية لانطلاقها، ومنظومة قيم تنهل منها.

مروان العياصرة: كيف يمكن لنا تفكيك مفهوم "الدين والطائفية" بالنظر إلى مسألتي الاختلاف والتعصب...؟

عمار علي حسن: مسألة الاختلاف لا ضير منها، إن وقفت عند حد التنوع الخلّاق، ورسوخ تفهم أن ما عليه أية طائفة دينية هو محض اجتهاد في الدين، وليس كل الدين، وما عليه أية طائفة سياسية هو وجهة نظر في إقرار المصلحة العامة وتقديرها. لكن حين ينتقل الأمر إلى التعصب الأعمى، الذي يفضي إلى انغلاق العقول وشحن النفوس بالحقد والكراهية والبغضاء، فإن واجبا يقع على عاتق من يقومون بالتنوير، من علماء الدين والمثقفين والقادة الاجتماعيين، في أن يقوموا بتفكيك الظاهرة الطائفية، بردّها إلى أولياتها في التاريخ: كيف نشأت؟ ولماذا انطلقت؟ وما هي الأفكار الأساسية الحاكمة لها؟ ومن هم الرجال الذي عملوا على تعميقها في الواقع المعيش؟ وما مستوى تأثير أفكارهم القديمة على اللاحقين من أتباع الطائفة؟ وأعتقد أن اتباع أفكار ووسائل التحديث والعصرنة، التي تعلي من دور العقل والمصلحة الاجتماعية والنفس السوية، بوسعها أن تفكك تدريجيا الكثير من الحمولات الفكرية والممارسات الحياتية للطائفية.

فالتعايش بين القديم والحديث هو السّمة الغالبة في التاريخ الاجتماعي، وقد أظهرت الأبحاث الأنثروبولوجية أن التقليدي لا يتعارض تماما مع الحداثي في المجتمعات غير المتقدمة، بل يتجاور الاثنين في كثير من الأحيان. ولعل هذا ما دفع عالم الاجتماع الروسي بوريس كاجارليتسكي إلى أن يُصدِّر كتابه عن التحديث بعبارة أثيرة مفادها: "القديم يموت والجديد يولد، لكن ليس باستطاعة القديم أن يموت تماما". وهناك دراسات علمية برهنت على صحة هذه الرؤية، منها تلك التي تم تطبيقها على بعض المجتمعات، وأظهرت أن التحديث الذي شهدته لم يظهر تأثيره في قيم وأنماط سلوك وتوجهات الناس، نظرا لسيطرة التعليم الديني وتنامي نفوذ تيار يرفض أي أفكار تأتي من الغير، علاوة على القيم التقليدية التي ترسخها البنى الاجتماعية التقليدية في عقول أبنائها ونفوسهم.

ومع هذا لا يجب أن نيأس، فالقديم لا يموت كله، نعم، لكن علينا أن نعمل بإصرار على أن يبقى على قيد الحياة منه فقط ما يفيد في تحقيق التسامح والاعتدال والتعايش من معارف وقيم واتجاهات.

لكن هناك عامل لا يتوقف عن فعله المستمر في سبيل تذويب الطائفية، أو على الأقل الحد من غلوائها، يتمثل في تعدد ولاءات الفرد داخل المجتمع؛ ففي كل الأحوال يكون الفرد مخيرا بين ثلاث جهات يمنحها ولاءه الأساسي؛ الأولى الدولة الوطنية، والثاني هو الأمة وبعض الجماعات والكيانات التي تتجاوزها والمرتبطة بالدين والطبقة والتحيز الأيديولوجي. أما الثالثة، فهي التجمعات الأصغر من الدولة مثل العائلة والقبيلة والطائفة والمؤسسة... إلخ. ومعظم الأفراد يدينون بشكل من أشكال الولاء للجهات الثلاث معا، ويسعون إلى إيجاد طريقة للجمع بينها، وإدارة أي اختلافات أو خلافات قد تنشب بينها، والتقليل من حجم التوتر الناجم عنها، والذي يتواجد دوما.

إن قيمة الولاء من العوامل الأصيلة التي تزكي الاستقرار، وتدعم أركانه، عبر مساهمتها في كسب رضاء الجماهير الغفيرة، ودفعها إلى الالتفاف حول المصلحة الوطنية العليا. ومن ثم، فإن النظم المستبدة، المحافظ منها والثوري، وكذلك النظم الديمقراطية، تهتم بقضية الولاء. ففي الدول التي تحتكر مجموعة محددة السلطة، ويقل فيها معدل دوران النخبة السياسية أو تلك التي تفتقد إلى تداول السلطة بشكل منظم ومحدد، بناء على إجراءات متفق عليها نابعة عن عقد اجتماعي عادل مبرم بين السلطة والجماهير، يصبح الاستقرار بمعنى "تكريس الوضع القائم" هو الهدف الأساسي للسلطة الحاكمة، فتحاول عبر آلتها الدعائية أن تقدمه على أنه غاية في حد ذاته. والنظم الثورية تحتاج إلى الولاء، لتجنيد الناس وتعبئتهم خلف مواقفها الرامية إلى إحداث تغييرات جذرية في بعض المجالات. أما الدول الديمقراطية، فهي تحتاج الولاء لحشد الناس وراء مشروعات التنمية الاقتصادية والسياسية، وإعلاء حقوق المواطنة. وجميع النظم تحتاج إلى ولاء شعوبها أيام الأزمات الداخلية والخارجية. وداخل الدولة الواحدة لا يسير الولاء في اتجاه واحد، أو يذهب إلى جهة واحدة، إذ لا يتفق المواطنون كافة على الإخلاص لرمز أو قيمة أو فكرة أو أيديولوجيا واحدة، وإنما تتعدد الانتماءات، وتتشابك الولاءات، ويصبح لدينا نسيج عريض من التحيزات العاطفية والمعرفية داخل حدود الدولة الواحدة، وفي ربوع المجتمع الواحد. وعلى الرغم من أن هذا الافتراض يقوم على مقولة أو حكمة عامة تصل إلى حد أن تكون مذهبا، بل ترقى إلى مستوى القاعدة المسلم بها، وهي أن "الاختلاف سنة الحياة"، فإن هناك أسبابا كثيرة تؤدي إلى تباين الولاءات بين الناس، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تعدد ركائز القوة وانتشارها، وتنوع الأفكار واختلاف البيئات النفسية والاجتماعية للأفراد. فالقوة المادية والمعنوية لا تتركز على فرد واحد أو مجموعة واحدة، وإنما تنتشر بين أفراد عدة ومجموعات عديدة، فهذا يستمد قوته من منصب سياسي يتبوؤه، وهذا يستند في نفوذه إلى صيت أو سمعة طيبة، وذلك يمتلك ثروة طائلة، تجعله قادرا على التأثير الاجتماعي، أو يحمل في عقله معرفة دينية أو دنيوية تجلب له المكانة الاجتماعية. والأفكار ليست نمطا واحدا، وإنما ألوان عديدة؛ فالنسبة إلى النوع هناك التقليدي والتحديثي. وبالنسبة إلى الاتجاه نجد اليمني واليساري ومن يقف في المنتصف أو متبع "الطريق الثالث". وبالنسبة إلى التصنيف القيمي هناك المتطرف والمعتدل. ويندرج كل هذا تحت مسميات ثقافية عامة، مثل ديني وعلماني، كما يختلف الأفراد من حيث البيئة الاجتماعية التي ينتمون إليها، فهناك الريفي وهناك الحضري. ومن حيث التصنيف الطبقي نجد الناس تتفاوت بين الفقر المدقع والثراء الفاحش، وهما طرفان متناقضان بينهما عشرات المستويات التي تظهر إلى حد بعيد مدى تعقد الوضع الطبقي، إذا ما تم تحديده على أساس الدخل.

وهذا التفاوت والتشابك يؤدي في النهاية إلى تعدد التحيزات العقلية، والميول النفسية للأفراد لتباين خلفياتهم من جهة، وتعارض مصالحهم من جهة ثانية، ومن ثم تتعدد ولاءاتهم. وقد يبدو ذلك في نظر البعض طريقا للتفسخ والتضارب بين مختلف الشرائح الاجتماعية، ما يسبب قلاقل متوالية للنظام السياسي. لكن النظرة المتأنية يمكن أن تقود إلى رأي يتناقض مع هذا إلى حد بعيد. فاختلاف الولاءات، إن كان يتم تحت راية إطار عام أو أرضية مشتركة، يؤدي إلى تفاعل قوى المجتمع مع بعضها البعض، بشكل أفقي، حيث يتكفل كل منها بالآخر، ما يقلل من إمكانية أن تسير الإرادة المجتمعية بشكل رأسي لإزاحة السلطة الحاكمة. وحين تفشل هذه السلطة في الحفاظ على ذلك التوازن يحدث الانقطاع الحاد للرحلة الطبيعية للمجتمع، كأن تقوم ثورة أو يقع تمرد أو انقلاب، أو تسقط البلد في حرب أهلية، وفي الحالة الأخيرة تستيقظ الطائفية، وتفعل أفاعلها الجهنمية في القتل والتخريب.

وبعيدا عن هذه التصورات النظرية، فإن هناك عناصر واقعية أو إجراءات وتصرفات بوسعها أن تفكك التعصب الطائفي تدريجيا، منها:

1 ـ التعليم: وذلك بتضمين المناهج التعليمية ما يحض على التعايش، ويحرص عليه، وتنقيتها مما قد يقود إلى كراهية طرف لآخر. فإذا كانت التعليم يتم على ركائز ثلاث هي "تعلم لتعرف" و"تعلم لتعمل" و"تعلم لتكون" فيجب أن نعزز من تواجد الركيزة الرابعة، وهي "تعلم لتتعايش".

2 ـ الإعلام: وهو وسيلة مهمة، لو استخدمت على الوجه الأكمل، ومن دون انفعال ولا افتعال، فإن بوسعها أن تقلل من أيّ احتقانات، وترسخ في عقول الناس ونفوسهم قيم التسامح والاعتراف بالآخر واحترامه.

3 ـ المنتج الثقافي، الذي يجب أن يحوي كل ثقافة الأمة الواحدة، عبر التاريخ، في جميع الأنواع الأدبية والفنون بمختلف ألوانها.

4 ـ منظومة القوانين والتشريعات: أي وجود حزمة من التشريعات التي تقنن التعايش، وتحدد مرجعية عامة له، يلتزم بها الجميع.

5 ـ المشروعات القومية، التي يجب أن تستوعب جميع المواطنين، من دون تفرقة، وتوجه طاقاتهم إلى عمل وطني مفيد، بدلا من الفراغ الذي يزيد الشقة بين الناس، ويرفع درجة الطاقة الغضبية لديهم.

6 ـ الجهاز البيروقراطي، الذي إن وجدت معايير سليمة للتعيين والترقي فيه، تقوم على أساس مبدأ "الاستحقاق والجدارة، سيتم رفع الظلم عن كثيرين من أبناء الطوائف المهمشة أو المقصاة، وزال سبب مهم للتعصب والاحتقان.

7 ـ المجتمع الأهلي، والذي يمكنه حال وجود جمعيات خيرية دينية مشتركة بين مختلف أبناء الطوائف، أن يزيد من أواصر التعايش بين الجانبين.

8 ـ علماء الدين: فبوسعهم، إن خلصت النوايا وصح الفهم، أن يحضّوا الناس على التعايش، ويبينوا لهم ضروراته، وأصوله في الشرائع السماوية ذاتها، والممارسات السلمية والسليمة.

مروان العياصرة: هل ترى أن ثمة فارقا بين الطائفية في الشرق والغرب على مستوى المضامين والتصورات؟

عمار علي حسن: تنصب الفروق في الحالتين على المضامين الفكرية والقيمية، وعلى اختلاف السياق والتجارب أو الخبرات؛ فالطائفية الشرقية تحيل إلى تاريخ المسلمين، وما صنعه من تصورات، أضفى عليها البعض قداسة بمرور الزمن، وصارت تغطي على الأساس أو التأسيس، المتمثل في الوحي. فالقرآن الكريم مثلا، بوصفه النص المؤسس للإسلام، لا يقر بهذا الخلاف السني الشيعي الذي صنعته المواقف والممارسات السياسية، لكن الطرفين يحيلان إلى أحاديث نُسبت إلى الرسول، وفيما يحيل أهل السنة إلى كلام الرجال الأوائل من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان، يحيل الشيعة إلى علي، وإلى أئمة الشيعة. ولهذا، يبدأ من يريد الرد الحاسم على هذا الانقسام الطائفي بطرح سؤال مبدئي مفاده: هل كان الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) سنيا أم شيعيا؟ والإجابة بالطبع، أنه لم يكن لا هذا ولا ذاك، إنما كان "قرآنا يمشي على الأرض" حسبما تم وصفه، باعتباره حامل رسالة السماء إلى الناس أجمعين. لكن هناك من يلوي عنق هذه الحقيقة، محاولا أن يحمل أطروحاته للرسول، في أقواله وأفعاله وما أقره، حتى يثبت وجهة نظر، وهذا في كل الأحوال فعل بشري لا يقرّه نص الإسلام المؤسس، وهو القرآن، إنما ينبني إقراره على أفعال وأفكار بشرية لاحقة، تضفى عليها قداسة كي تمثل أيديولوجية متماسكة، استمرت معنا بعد الفتنة الكبرى مغذية الصراعات السياسية أيام الأمويين والعباسيين والعثمانيين، ولا تزال قادرة على فعل هذا لخدمة مشروعات سياسية متنافسة أو متصارعة.

مروان العياصرة: ما حدود التعايش وحدود الاقتتال أو التناحر بالنسبة إلى الطائفة السياسية؟

عمار علي حسن: إن كانت الطائفية سياسية بحتة، فإن إمكانية التعايش بين أتباع الطوائف تكون ممكنة، أو أن الجهد الذي يبذل في سبيل حدوث ذلك، أقل بكثير منه إن كانت دينية بحتة. وتساعد في تحقيق هذا الكثير من الأطر العامة التي يرضى بها ويقرّها المنتمون إلى مختلف الطوائف داخل حدود الدولة الواحدة، مثل الدساتير والقوانين، فضلا عن المصالح المشتركة، أو المنافع التي يسعى الجميع إلى حيازتها، والمؤسسات السياسية التي يمكن أن تستوعب جهود الكل دون تفرقة، مثل الأحزاب السياسية.

وحتى الطائفية الدينية بوسع أتباعها التعايش، ويمكنني في هذا المقام أن آخذ مثلا عن الطائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر، حيث نجد أن هناك عوامل عدة تذكي التعايش بين الطرفين، منها:

1 ـ التجانس العرقي: فالمصريون من أشدّ شعوب العالم تجانسا في الصفات العرقية والمقاسات الجسمية، ومن أكثرهم تشابها في السحنة والملامح. ويمتد هذا التجانس من "البيولوجيا" إلى "السيكولوجيا" ليعزز التقارب النفسي بينهم. ويعبر الأب شنودة نفسه عن هذا الوضع بجلاء حين يقول: "وحدة مصر والمصريين من أسرار هذا البلد الخالد... هل هي الجغرافيا؟ هل هو الإنسان؟! ... كم أصابنا من البلايا على مدى التاريخ، ولكن وحدتنا بقيت تقاوم الزمن. فلا خوف على مصر، ولا تشابه بينها وبين غيرها. ولم تنجح القوى الأجنبية قط في التفرقة بين المصريين، فمصر تحمي وحدتها، لأنها وحدة محصنة ضد مصائب الجهل والفقر والتخلف والمخططات الأجنبية".

2 ـ هبة الجغرافيا: فالمسيحيون ينتشرون في كل قرى ومدن مصر تقريبا، ولا يقطنون منطقة جغرافية محددة، كما هو الحال بالنسبة إلى الأكراد في كل من العراق وسوريا وتركيا وإيران. وهذا الأمر يجعل علاقات الوجه للوجه قائمة يوميا بين مسلمي مصر ومسيحييها، ويزيد من تشابك المصالح المتبادلة، ولا يجعل فكرة الانفصال قائمة أبدا، أو لها أي معنى، ومن ثم استقر في وعي الجماعة الوطنية برمتها أنه لا مناص من العيش المشترك، ونشأت حاجة ماسة إلى تحسين مستوى هذا العيش. كما أن الجغرافيا أتاحت فرصة كبيرة للدولة المركزية في السيطرة على الشعب، منذ فجر التاريخ؛ فالمصريون يعيشون في واد ضيق منبسط، يسهل ضبطه من الناحية الأمنية، ومن يتمرّد على الوادي، ويخرج إلى الصحراء يعرض نفسه لهلاك محقق. وهذا الأمر جعل بوسع النظم المتعاقبة على حكم مصر أن تخمد أية محاولة للفتنة في مهدها، وبات مستقرا في وعي الناس أن السلطة متواجدة دوما، ويتصرفون في علاقاتهم اليومية على هذا الأساس.

3 ـ التشرب الحضاري: فمصر الحاضر تتشرب كل طبقات الثقافات التي تراكمت عليها، هاضمة ما أتاها من الخارج، محتفظة في الوقت نفسه بكثير من أصالتها الأولى، لتبدو ـ كما يقول الفرنسي إدوارد لين ـ وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل فيها مكتوب فوق هيرودوت، وفوقهما القرآن، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء. وإذا كانت مصر الراهنة عربية الهوية والحضارة، فإن كثيرا من المثقفين المسيحيين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم "مسيحيون دينيا، لكنهم مسلمون ثقافة وحضارة"، وزاد من هذا التصور أن كثيرا من منظري "القومية العربية" الأوائل كانوا من المسيحيين، وهم إن انتقدوا "الخلافة الإسلامية" كنظام سياسي، فإنهم لم يستطيعوا أن يتجاوزوا الإسلام كدين وحضارة لتلك البقعة الجغرافية من العالم.

4 ـ وحدة الموروث الشعبي: فالفلكلور المصري واحد، لا يفرق بين مسلم ومسيحي؛ فعادات الأفراح والأحزان متشابهة، وطقوس الموالد واحدة، والجميع يتفاعلون مع الأساطير الشعبية بالدرجة نفسها.

5 ـ علاقات السوق: إن المصالح التجارية الحياتية بين المسلمين والمِسيحيين في مصر تفرض على الجانبين تعايشا مستمرا؛ فالأفراد في خاتمة المطاف ينحازون إلى مصالحهم الشخصية، وقد يبتعدون عن الهموم العامة إن وجدوها تؤثر سلبا على أرزاقهم، أو على الأقل يفصلون بين واجباتهم حيال المشكلة الكبرى ومقتضيات مصالحهم الفردية. وفي القرون الفائتة استعان حكام مصر بمسيحيين في الإدارة والتجارة والري، نظرا لخبرتهم في هذه النواحي، وتماهي هؤلاء في نظام الدولة ودفاعهم عنه. وفي الوقت الحالي يستعين المسلمون بأهل الحرفة من المسيحيين، ويسعى المسيحيون من أصحاب التجارة إلى كسب ود المسلمين لأغلبيتهم العددية، التي تجعلهم القوة الشرائية الأساسية في البلاد.

6 ـ الخوف من عواقب الفتنة: فهذا الخوف يشكل كابحا للطرفين من أن يتماديا في تصعيد أي خلاف طارئ ينشب بينهما، لأن استشراء الفتنة، يعني إزهاق أرواح وتدمير ممتلكات، لا أحد بوسعه أن يعرف حجمها.

مروان العياصرة: كيف تقرأ مفهوم الفرقة الناجية من زاوية طائفية؟

عمار علي حسن: يجسد موضوع الفرقة الناجية الطائفية في أمقت صورها، لأنه أعلى مراحل التعصب وادعاء الأصالة والطهرانية، ومن ثم تهميش "الآخر"، بل إقصاؤه تماما، خاصة أن هذه المسألة تدخل، حسب تصور من يعتنقونها، في دائرة "الإيمان" و"الكفر"، زاعمة أن ما عليه من فرقة هو ما يعبر عن أمر الله وإرادته. ويسند، في الإسلام، مفهوم "الفرقة الناجية" إلى أحاديث ضعيفة، وتنزع عنه التجربة التاريخية أية حجية علمية، لكن يتمسك به أولئك الذين يزعمون أنهم فقط من يمثل الإسلام؛ فالسلفيون مثلا يقولون: نحن الفرقة الناجية، لكنهم أكثر من فريق، وكل منهم يقدح في الآخر. وحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان كان يقول لأتباعه: "يجب أن نكون نحن الممثل الوحيد للإسلام"، وكثير من الجماعات المتطرفة والإرهابية تزعم هذا، وآخرها داعش التي يتوهم أتباعها أنهم على "الصراط المستقيم". وعموما، فهذا المفهوم يتناقض بالكلية مع جوهر رسالة الإسلام التي تقوم على "الرحمة"، وتعلي من قيمة "الأخلاق" ودورها، بل هو مفهوم يجعل صاحبه أو المقتنع به متألها على الله، الذي له وحده تحديد من سينجو، ومن سيقع عليه العقاب.

مروان العياصرة: ثمة مصنفات تراثية حملت مضامين مضمرة للطائفية، من مثل "الملل والنحل" وغيرها، فهل ترى أن هذا تأسيس للمفهوم الطائفي أم جهد تأريخي توثيقي فقط؟

عمار علي حسن: هذه المسألة فرضها أمران: تعصب بعض المؤرخين لطوائفهم أو قبائلهم أو عشائرهم، وإقرار بعض المؤرخين للواقع، وتعاملهم مع ما هو قائم، باعتبار أن الأمانة العلمية تقتضي منهم هذا؛ فابن خلدون مثلا حين تناول مسألة "العصبية" في مقدمته الشهيرة، كان يصف ويحلل ما عليه العرب وقت حياته، وما ألفوه في تاريخهم الذي سبق وجوده في الدنيا، ولم يكن يسعى إلى تعميق الطائفية.

مروان العياصرة: يرى البعض أن الطائفية هي تمثيل لأسوأ مراحل الدولة في الحضارة العربية الإسلامية سياسيا ومدنيا، فهل ترى شواهد على ذلك؟

عمار علي حسن: بالطبع هي أسوأ المراحل، بل هي بدأت بسوء قاد إلى الأٍسوأ دوما في تاريخ المسلمين والعرب، فليس هناك ما هو أفدح مما جرى أيام "الفتنة الكبرى"، وحين نقرأ ما كتبه طه حسين، مثلا، عن هذه الفترة العصيبة تقشعر أبداننا، إذ وضع الإٍسلام في محنة، لا تزال آثارها مستمرة، بدليل أن العنف الطائفي الراهن يحيل إلى تلك الأيام البعيدة، وما جرى بعدها أيام الإمبراطورية الأموية.

إن الاختلافات الفقهية، والصراعات القبلية والجهوية في تاريخ المسلمين أمكن الخروج منها نسبيا، وتقليل آثارها السلبية، ليبقى الانقسام المذهبي وحده، وهو مصدر الفُرقة الحقيقية والألم، لاسيما مع تماهيه ضمن مشروعين سياسيين متناطحين.

مروان العياصرة: الخلفاء والطائفية... والقتل باسم دولة الإسلام... هل ثمة تأريخ لهذا الأمر؟

عمار علي حسن: سُفكت دماء غزيرة في تاريخ المسلمين باسم الله، أو الإسلام، وكان كلّ خليفة يقتل على اعتبار أن قتلاه كفرة أو مارقون، ووصل الأمر إلى قتل معارضين للحكم على أسس سياسية، لكن كان يتم نعتهم دوما بالردة أو الرافضية حتى تنزع أية مشروعية عن معارضتهم، ويتقبل الناس التخلص منهم. ومن بين الخلفاء من قتل باسم أهل السنة والجماعة، ومنهم من قتل باسم المعتزلة، وهذا باسم التشيع، وذاك باسم التسنن، وهكذا. وعموما، فالقتل باسم الله أو الرب حدث في أديان أخرى، ويكفي أن نعرف أن الحروب الدينية في أوروبا تسببت في قتل الملايين عبر التاريخ.

مروان العياصرة: كيف يروج الطائفيون لعنفهم الطائفي المقدس، وتحت أية ذريعة؟

عمار علي حسن: لا يعدم الطائفيون وسيلة في نشر أفكارهم، وتعبئة الجمهور خلفها، فالجماعات السنية المتطرفة لها وسائلها، والفرق الشيعية المتشددة في العالم العربي لها أدواتها، والتي لا يمكن فصلها عن أدوات الدولة الإيرانية، التي لا تتحرك من فراغ، ولا تمضي في طريقها مدفوعة برغبة في المشاكسة أو الشغب أو محاولة لفت الانتباه أو تفزيع الآخرين منها، إنما تحكمها استراتيجية، تقوم في بنيتها العامة على ثلاثة تصورات هي: إحياء المشروع الفارسي، واعتبار شبه الجزيرة العربية والعراق والشام مجرد مجال حيوي لإيران، والقيام بدفاع متقدم عن إيران على أرض عربية، وهناك خمس أدوات لتنفيذ هذه السياسة، أولها الوكلاء المنظمون، حيث ارتبطت إيران بعلاقات قوية مع جماعات وتنظيمات وأحزاب في دول عربية وإسلامية، لا تخفي علاقتها القوية بطهران، وفي مطلعها "حزب الله" في لبنان، و"الحوثيون" في اليمن. والأداة الثانية هي الفضاء الشيعي، وكان خاملاً إلى حد بعيد، قبل قيام الثورة الإيرانية، لكن تم تنشيطه في ركاب استغلال إيران لأشكال متفاوتة من التمييز التي مورست ضد الشيعة في بعض البلدان العربية، وتهميش مدرسة "النجف" كمرجعية للشيعة العرب، في وقت تصاعدت فيه "مرجعية قم"، كي تقدم نفسها باعتبارها نصيراً للشيعة.

والأداة الثالثة هي الاعتماد على ما يسمى "الهوى الشيعي" أحياناً، إذ إن حب أتباع المذهب السُني لآل البيت، وهي مسألة طبيعية، يتم استغلاله أحياناً من قبل رجال الدين في إيران لدغدغة مشاعر قطاعات عريضة من السُنة بغية خلق حالة تعاطف مع المشروع الإيراني بعد 1979، وهي حالة عبر عنها الخميني نفسه حين قال: "مصر سنية المذهب شيعية الهوى" مستغلاً حب المصريين الجارف لآل البيت، وهو قول يلقى انتقادات شديدة من قبل المؤسسات الدينية المصرية التي ترى فيه محاولة مكشوفة لمغازلة عموم المصريين من قبل الخميني، وهو ما حال دون أن يأتي هذا التوجه أُكله بالنسبة إلى الملالي. أما الرابعة، فهي توظيف بعض الجماعات والتنظيمات السُنّية: فإيران أبدت مرونة سياسية عالية في التعامل مع جماعات سُنّية في العالم العربي، فمدت جسور تعاون مع حركة "حماس"، وغازلت جماعة "الإخوان" ونسقت معها في بعض المواقف، علاوة على أوجه الشبه التنظيمية بين هذه الجماعة، وبين تنظيمات باطنية وشيعية قديمة في التاريخ، علاوة على اعتراف "الإخوان" وبعض التنظيمات "الجهادية" السُنّية بأن الثورة الإيرانية كانت مصدر إلهام لها، وأن تكرارها في دول يعتنق سكانها، أو أغلبهم، المذهب السُنّي مسألة قابلة للتكرار. ولم تكتف طهران بهذا، بل سمحت لبعض رموز الحركات "الجهادية" بدخول أراضيها بعد انتهاء مهمتها في أفغانستان وقت الصراع ضد الاتحاد السوفياتي سابقا، واستمرت تنسق مع بعضهم وتستخدمهم كأوراق ضغط على دول معينة، أو وسيلة لجمع معلومات عن مختلف الجماعات الإرهابية والمتطرفة. كما أن هناك تشابها جزئياً في التكتيكات بين بعض الجماعات المتطرفة سُنية المذهب، وبين التصورات الدينية عند الشيعة؛ فمثلا "حزب التحرير الإسلامي" وهو من الجماعات شديدة العنف، يؤمن بفكرة "التقية" لتبرير خداع خصومه، فيما تتفق جماعات سنية تندرج ضمن ما يسمى "الإسلام السياسي" مع التصور الشيعي في الإيمان بحتمية تاريخية، هي عند هذه الجماعات استعادة الخلافة في النهاية، وعند الشيعة عودة المهدي وقيام الدولة، وهي المسألة التي تم استبدالها بوكالة الإمام أيام الصفوي، ثم ولاية الفقيه أيام الخميني.

والأداة الخامسة هي جذب الخطاب الإيراني الثوري بعض التنظيمات اليسارية، وكذلك الأفراد الذين يمضون في هذا الاتجاه، من خلال تأكيده على قضايا الحرمان، أو "حركات المحرومين" والمهمشين، علاوة على مقاومة المشروع الإسرائيلي، مستغلا تراجع الدعم العربي عموما لحركات أو اتجاهات النضال ضد إسرائيل.

مروان العياصرة: إدمان الطائفية، له دوافعه وأبعاده، ما هي في رأيك؟

عمار علي حسن: ليس إدمانا، بقدر ما هو توظيف النزعة الطائفية في خدمة مشروعات سياسية، أي مصالح دول، وقيادات وبعض الأفراد من البارزين في كل طائفة. والنظر في الدوافع والأبعاد، قد يقودنا إلى حديث صريح عن وكلاء أو أدوات إيران في العالم العربي، وهذا يحتم علينا النظر بعين الدقة والإنصاف والاعتبار لموقف الشيعة العرب، وكيف يكون بوسعنا عدم السماح لطهران بالاستمرار في توظيفهم لخدمة مشروعها في الإقليم. في حقيقة الأمر ومن المسلم به، أن التشيع في العالم العربي سابق على التشيع في إيران ومختلف عنه في كثير من التصورات والتصرفات. فالتشيع لعلي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، في جزيرة العرب بدأ قبل دخول الفرس الإسلام. وفي هذا الوقت، كانت إيران مجوسية. فلما فتح المسلمون العراق وفارس، مالت قبائل عربية هناك إلى اعتناق التشيع، بينما ظلت الغالبية الكاسحة من الإيرانيين تعتنق المذهب السني، باستثناء قم، إلى أن تم تحويلهم قسرا سنة 1500م، حين أُعلن التشيع مذهبا رسميا للدولة الصفوية، بل إن الشيعة لم يصبحوا أكثرية في العراق إلا في القرن التاسع عشر، حين استقرت معظم القبائل البدوية على أرض الرافدين، وتشيعت. أما الاختلاف، فيتجسد أساسا في المرجعيات، إذ يعتز غالبية الشيعة في العراق بإمامة النجف الأشرف، باستثناء أتباع "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" الذين خضعوا لمؤثرات إيرانية، في السياسة والمذهب الديني. وإذا كان المراجع الكبار لشيعة العراق مثل آيات الله علي السيستاني، ومحمد إسحق فياض، وحسين بشير الأفغاني، ومحمد سعيد الحكيم، من أصول إيرانية، فإن مسلكهم يختلف كثيرا عن نظرائهم في إيران، من زاوية ابتعادهم عن لعب أي دور سياسي، وتفرغهم للمسائل الدينية البحتة. وإذا كانت اجتهادات وسلوك الإمام محمد صادق الصدر، اقتربت من شيعة إيران في الإيمان بمبدأ الولاية العامة للفقيه، فإنه أقام هذا الفهم على أرض مختلفة، إذ لعب دورا كبيرا في بلورة الهوية العربية لشيعة العراق، عبر إنشاء الحوزة الناطقة، التي أنزلت رجال الدين من برجهم العاجي، ليعايشوا الناس، ويقفوا على أفراحهم وأتراحهم، وكذلك من خلال تقريب الحوزة والمرجعية من القبائل والعشائر العربية، وإحياء شعيرة الجمعة بعد طول إغفال، تحت شعار راسخ في أذهان شيعة العراق وهو "نعم، نعم للحوزة... نعم، نعم للجمعة". وجاءت الحرب العراقية - الإيرانية التي دارت رحاها من 1980 - 1989 لتظهر متانة الانتماء الوطني لشيعة العراق، إذ شكلوا أغلبية جنود سلاح المشاة، وقاتلوا الإيرانيين بضراوة دفاعا عن بلدهم، جنبا إلى جنب مع أتباع المذهب السني. وكان الصدر يرى أن الشروط الاقتصادية والسياسية التي تقف وراء الثورة الإيرانية غير متوفرة في العراق، ويدعو الناس إلى الإخلاص لوطنهم. وسعى الإمام موسى الصدر إلى بلورة هوية خاصة للتشيع في لبنان، رغم تأثره بالتجربة الإيرانية ومواءمة التجربة الشيعية العراقية مع نظام سياسي مستبد مع انحيازه إلى قضايا العروبة، وفي مقدمها قضية فلسطين. وحاول الصدر التوفيق بين المذاهب الإسلامية، وانحاز بشدة إلى الانتماء العربي للبنان، ودوره في الصراع ضد إسرائيل، وسخّر في هذا منظومة القيم الدينية الشيعية، مثل التضحية بالمال والنفس ومساندة المحرومين. ودافع في طروحاته عن وجهة نظر تؤكد أنه لا تعارض بين خصوصية لبنان وقوميته العربية، ولا تنافر بين التشيع والانتماء للعروبة. وشهدت هذه الأفكار وغيرها طريقها إلى تطبيق عملي، تجسد في كفاح "حزب الله" وحركة "أمل" في لبنان ضد إسرائيل، حتى أجبرت على الخروج الذليل من جنوب لبنان في مايو (أيار) عام 2000 هناك أربع مسائل رئيسة يجب أخذها في الاعتبار حين نناقش الانتماء القومي للشيعة العرب، أولاها: إن رفض قطاعات من الشيعة للقومية العربية، لا يعني بالضرورة رفض الانتماء إلى العالم العربي، بقدر ما يعني عدم التجاوب مع الجانب "العلماني" من الفكرة القومية. فقد رأى رجال الدين الشيعة، شأنهم في ذلك شأن العديد من الحركات الإسلامية السنية، أن القومية تبدو في جوهرها معادية للإسلام، واستندوا في ذلك إلى كون المفكرين القوميين العرب الأوائل لم يكونوا مسلمين، وكون القومية تنطوي على "عنصرية" للعرق العربي، طالما عانى منها المسلمون من غير العرب طويلا في القرون التي رحلت. وبغض النظر عن مدى صواب أو خطأ تصورات الشيعة عن القومية، فإننا لا يجب أن نتخذ منها دليلا على عدم انتمائهم، لأن قطاعات عريضة من السنة العرب، خصوصاً من المنتمين إلى الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، رفضت القومية وعادتها، ورأت أنها تهدف إلى محاربة الإسلام، ومن ثم قاومتها، وفرحت لفشلها. ومع ذلك، فإن من بين الشيعة مفكرين وساسة تفاعلوا بإيجابية مع الفكر القومي، ودافعوا عنه، من صفوف حزب البعث، والأحزاب الاشتراكية في بلاد الشام، والتيارات القومية في منطقة الخليج العربي، شأنهم في هذا شأن نظرائهم من السنة. وثاني المسائل أنه ليس من صالح الدول العربية أن تتحدث في الاتجاه الذي يسلخ الشيعة عن عروبتهم، فمثلاً ستصبح عروبة العراق هشة إذا خرج العرب الشيعة من المعادلة، بل ستكون حتما دولة غير عربية من دونهم. كما أنه ليس من صالح التطور السياسي في المنطقة النفخ في أوصال العلاقة بين الدين والسياسة، سواء من بوابة التشيع أو من نافذة الحركات الإسلامية السنية. كما أن هناك أجندة مشتركة للسنة والشيعة معا في المنطقة، منها مواجهة العدوان الإسرائيلي والاستكبار الأمريكي.أما المسألة الثالثة، فإن الولاء للدولة الوطنية ليس مجرد رابطة عاطفية تدور في فراغ، بل تتأسس على أفكار وممارسات في الواقع المعيش، تقوم على إعلاء مبدأ المواطنة، والمساواة بين الفئات والشرائح المكونة للدولة، وبناء معايير عادلة في توزيع الثروة والمناصب والأمن الاجتماعي. وآفة الأنظمة العربية أنها منذ الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة لم تفعل ما تحافظ به على "التكامل الوطني"، فجارت على الأقليات ومن بينها الشيعة. وآن الأوان أن تنتهج هذه الأنظمة من السياسات ما يرمم الشروخ التي أوجدتها التفرقة بين العناصر الاجتماعية المكونة للدولة، بدلا من اتهام أية أقلية بعدم الولاء لوطنها. والمسألة الرابعة التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند مناقشة هذا الموضوع، فهي أن هناك مساحة شاسعة بين "التعاطف" و"الولاء"، وإذا كان الشيعة العرب يتعاطفون مع إيران، فإن هذا التعاطف امتد إلى السنة العرب أيضا في لحظات تاريخية محددة، مثل التي أعقبت قيام ثورة الخميني، التي بدت ملهمة للجماعات الإسلامية برمتها، ومثل فترات المواجهة بين إيران والغرب، حيث يرى العرب السنة في النهاية أن إيران أقرب إليهم من أمريكا وإسرائيل، وأن هناك قواسم مشتركة بينها وبين العرب، خصوصاً في مقاومة المشروع الاستيطاني الصهيوني، والتصدي للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة. إن الاختلافات المذهبية لا يجب أن تعمي أبصارنا عما عداها، ومن الفطنة أن نُخضع ما يخص الدين للحوار، على أساس مبدأ "نتعاون في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه"، ونخضع ما يتعلق بالسياسة للمصلحة العليا، فنعزز الوشائج التي تزيد من مناعة العرب، ليقاوموا مشروعات خارجية، يتأسس جانب منها على بث الفرقة بينهم، على خلفيات المذهب والدين والعرق؛ أي إحياء النعرات الطائفية.

مروان العياصرة: هل هناك مجال لقبول "الطائفي – الوطني"؟ وكيف يصبح مرفوضا أو مقبولا؟

عمار علي حسن: تتناقض الطائفية كلية مع الوطنية، التي تقتضي ابتداء الإيمان بفكرة المواطنة، التي تعني المساواة بين الناس جميعا في الحقوق والواجبات داخل إطار "الدولة الوطنية المدنية الحديثة"، بغض النظر عن اختلافهم في الدين أو المذهب أو الطبقة أو العرق أو الجهة أو اللغة. والطائفية الدينية في فكرها وسعيها، تقاوم وجود مثل هذه الدولة الحديثة، لأنها تقتات على الأفكار الرجعية القديمة التي تعمل على تبرير تمييز أبناء الطائفة عن أمثالهم في سائر الطوائف، وتسعى، بالقطع، إلى توظيف الإمكانيات الاقتصادية والسياسية والثقافية والرمزية للدولة في خدمة المسلك الطائفي، من خلال محاولات مضنية لأبناء الطائفة إلى السيطرة على مؤسسات الدولة وقواها الفاعلة، وحرمان الآخرين منها، أو تقليل منافعهم منها إلى الحد الأدنى.

ومع هذا، وعملا بالواقع لا المثال، يمكن توظيف قضية الوطنية في التخفيف من الآثار السلبية للطائفية، وهي مسألة لا يجب الاقتصار في استغلالها أو اهتبال الفرص التي تسنح بها على أوقات الشدة والأزمات السياسية المتقطعة، التي يجد أبناء مختلف الطوائف فيها أنفسهم في حاجة ماسة إلى التغاضي عن أسباب الصراع، أو تأجيلها، إنما يجب أن تكون عملا وطنيا مستمرا.

[1] - مجلة ذوات العدد54