فرنسيسكو كافاتورتا وفابيو ميرون السلفيَّة بعد الصَّحوة العربيَّة، ومساهمتها في السّلطة الشعبيَّة


فئة :  قراءات في كتب

فرنسيسكو كافاتورتا وفابيو ميرون السلفيَّة بعد الصَّحوة العربيَّة، ومساهمتها في السّلطة الشعبيَّة

فرنسيسكو كافاتورتا وفابيو ميرون

السلفيَّة بعد الصَّحوة العربيَّة، ومساهمتها في السّلطة الشعبيَّة[1]

بقلم: تييو بلون / Théo Blanc(*)

ترجمة: مدني قصري

هذا الكتاب حول السلفيَّة(1)، وهو آخرُ عمل أكاديمي للباحثَين فرنسيسكو كافاتورتا وفابيو ميرون، يهدف إلى شرح وتفسير تطوّرات هذا التيار الدّيني في أعقاب الثورات العربيَّة. السلفيَّة المعروفة تقليديّاً بارتيابِها إزاء السياسة، بل التي لا علاقة لها بالسياسة أصلاً، أصبحت منذ عام 2011 تتجنّد داخل الجمعيّات أو المنظمات غير الحكوميَّة أو حتى الأحزاب. ظاهرةُ التسيّس هذه، التي تشهد توسُّعاً غير مسبوق، تجعلنا نتساءل حول قدرة السلفيَّة على الاندماج في المجال السياسي المؤسَّساتي، وتوافُقِها مع الديمقراطيَّة.

كيف نُفسِّر التطوّرَ السياسي المفاجئ للسلفيَّة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟ لماذا، وبأيّ الطرق يقوم السّلفيّون بتعبئة أنفسهم بعد عام 2011؟ ما علاقة السلفيّين بالإسلاميين، وخاصَّة الإخوان المسلمين؟ وأخيراً، كيف يتصوّرون الديمقراطيَّة ومشاركَتهم في الانتخابات؟ هذه الأسئلة الأربعة تُشكّل جوهرَ إشكاليَّة هذا الكِتاب الذي يسعى إلى التعرّف على أسباب ظهور السلفيَّة السياسيَّة ومظاهرها المختلفة بعد الثورات العربيَّة.

يبدو أنَّ إجماعاً ينبثق من إسهامات المؤلفين الثلاثة عشر: تسيُّسُ السلفيّين يُفسَّر قبل كلّ شيء من خلال نافذة "الفرصة المتاحة" (صفحة 67، و83، و98، و106، و233) التي فتحتها ثورات 2011، بما في ذلك في البلدان التي لم تشهد تغييراً في النظام (المغرب والكويت على سبيل المثال). انفتاحُ المجال السياسي الناجم عن نهاية الأنظمة السلطويَّة في تونس ومصر وليبيا واليمن مكّن الجهات المُهمَّشة والمقموعة في السابق من التعبير عن نفسها في الفضاء العام، ومن تشكيل نفسها كقوّة اجتماعية و/ أو سياسيَّة (صفحة (157. فالسلفيّون، وكان معظمُهم من الطُّمأنينِيّين في عام 2011، هُم جزءٌ من هؤلاء الفاعلين على هامش النظم السياسيَّة القائمة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، الذين اكتسبوا فجأة مزيداً من الرؤية، وانخرطوا في الشؤون العامَّة.

لا شكَّ أنَّ الطابع السلمي لرحيل زين العابدين بن علي في 14 يناير في تونس، وحسني مبارك في 11 فبراير في مصر قد شلّ مع ذلك، في البداية، تيّاراً سلفيّاً عاجزاً عن تصوُّر أيّ تغيير في السلطة بطرق أخرى غير ممارسة عنف غير شرعي. ففي العقيدة السلفيَّة، التي بُنيت إلى حدّ كبير عن جهل أو ازدراء الواقع، فإنَّ الإطاحة بالنظام مرهونة بالضرورة بالتمرُّد ضدَّ الحاكم. فحتى مصطلح الثورة نفسه كان غائباً عن مفردات السلفيَّة قبل عام 2011. وهكذا، فقد خلق اندلاع ثورات سِلميَّة في العالم العربي "شذوذاً في الإطار المَفاهِيمي للسلفيّين"، حيث يشكّل النظامُ القيمة الأساسيَّة، وهو ما يفسِّر جزئيَّاً ظاهرة تكيّف السلفيين مع تغيير الواقع (صفحة 96).

السّلفيَّة قبل الثورات العربيَّة

ما خصائص السلفيَّة على الصعيد الوطني قبل عام 2011؟ الإجابة عن هذا السؤال مهمَّة جدّاً؛ لأنَّه في كلّ بلد عربي كانت مسارات التسييس التي انتهجها السلفيّون بعد الثورة "مختلفة وفقاً لموقفهم (مواقفهم) الأصلي" (ص 231).

في الدّول التسع التي درَسها المؤلفون - مصر، لبنان، المملكة العربية السعوديَّة، المغرب، اليمن، الأردن، سورية، تونس، الكويت ـ كانت السلفيَّة ما قبل 2011، في جوهرها، حركةً طُمأنِينِيَّة (خارج السياسة) وصَفائِيَّة (مُنشغلة بنقاء العقيدة). ففي مصر، حيث تتميّز السلفيّة بكونها ظهرت قبل الإسلامويَّة ـ ظهرت جمعياتُ السلفيّين مثل الجمعيَّة الشرعيَّة وأنصار السّنَّة المحمديَّة في بداية 1920، فيما حركة الإخوان المسلمين تمَّ إنشاؤها في عام 1928 ـ سانَد نظامُ مبارك السلفيّين الطّمأنينيّين. موقفُ هؤلاء الذي كان يَرتكز على الدعوة، كان في الواقع يُنظر إليه كحاجز أمام تسييس الإسلاميين. وهذا هو الحال أيضاً في الأردن، وخاصَّة في المغرب، حيث كان السلفيّون الطّمأنينيّون، حتى عام 2003، يُستخدَمون من قِبل القصر كوكلاء لإلغاء تسيِيس المجال الديني (قبل أن يتمَّ استبدالهم بالصوفيَّة بعد هجمات الدار البيضاء). وفي المملكة العربيَّة السعوديَّة، صار الإسلاميّون ـ الذين هم في السياق السعودي بمثابة سلفيّين، بحكم خصوصيَّة الحقل الديني الوطني (ص 62) ـ يَستَتِرون منذ قمعِهم في التسعينيّات، حيث إمّا تمَّ احتواؤهم، و/ أو اختاروا خطّ الموالاة أو الطمأنينيَّة.

فيما يتعلق بلبنان وسورية كان السلفيّون هامشيّين للغاية قبل عام 2011، وكانوا يتطوّرون بشكل رئيس في داخل شبكات غير رسميَّة، وكذلك من خلال منظّمات خيريَّة، ابتداء من التسعينيات. كما شهد تفوُّق الأعمال الخيريَّة ما قبل عام 2011 نجاحاً كبيراً في الكويت، حيث تأسّست جمعيَّة إحياء التراث الإسلامي منذ عام 1981، وكذلك في اليمن التي أصبحت منذ التسعينيّات مسرحَ منافسة بين جمعيّتين سلفيّتين خيريّتين؛ الإحسان والحكمة.

لكنَّ هذه المنافسة ليست بريئة في ظاهرة التعبئة السياسيَّة التي أحدثتها الثورات العربيَّة، لأنَّها وَلّدت، خاصَّة في الكويت واليمن، تسيِيساً مُبكّراً للسلفيّين. فهكذا شارك أعضاء في مجموعة الحكمة اليمنيَّة في الانتخابات المحليَّة في عدن لعامي 1997 و2006 (في هذا العام الأخير، حصلوا على بعض المقاعد)، بينما في الكويت قدّم السلفيّون أنفسَهم مرشَّحين منذ عام 1982. في الواقع، تُعتبَر الكويت رائدةَ السلفية السياسيَّة. لقد دعا الأيديولوجي الكويتي عبد الخالق، مؤسّس جمعيَّة إحياء التراث الإسلامي منذ الثمانينيَّات، لإنشاء أحزاب سياسيَّة سلفيَّة. وقد كان لخطابه المُسيّس والمعارض المتحمّس، الذي تحدّى فيه عقيدة الطاعة غير المشروطة للأمير في حال عدم حُكم هذا الأخير وفقاً للشريعة (توحيد الحاكميَّة)، تأثيرٌ كبير على الحركة السلفيَّة العالميَّة، مع إعطاء الشرعيَّة اللّاهوتَّية اللّازمة لإنشاء أحزاب سلفيَّة، وهكذا كان الحال بالنسبة إلى حزب "الأمَّة الكويتي" (الذي أنشئ في عام 2005) على غرار حزب الأمَّة الإسلامي السعودي (الذي أنشئ في عام 2011).

السلفيون أمام الثورات العربيَّة

ما الموقف (أو المواقف) التي اتخذها السلفيّون، الذين كانت أغلبيتهم طمأنينيَّة في عام 2011، إزاء الثورات العربيَّة؟ يمكن تمييز ثلاثة أنواع من التفاعل:

أوّلاً: في المملكة العربيَّة السعوديَّة، وبداية في مصر، انتقد السلفيّون الثورات بشدّة، ودعوا لعدم المشاركة فيها. الحركة السلفيَّة المصريَّة الرئيسة، المعروفة بحزب الدّعوة السلفيَّة (التي تأسَّست في 1970)، وكذلك المؤسَّسة الوهابيَّة السعوديَّة (بصوت المفتي عبد العزيز آل الشيخ) أدانتا الثورة، على أساس أنَّها ستُقسّم المجتمع (الفتنة)، وقد وقَفتا كسلطة سياسيَّة شرعيَّة (ولي الأمر). وفي مارس 2011، أصدرت هيئة كبار العلماء في المملكة العربيَّة السعوديَّة فتوَى تُحرّم أيَّة مظاهرة، أو أيَّة عريضة (ص 210-11).

وقد عارض هذا الموقفَ الأوّل، الذي ربَّما كان الأكثر انتشاراً في الأوساط السلفيَّة، دعمٌ قويٌّ للثوار من قِبل سلفيّي المغرب (حركة 20 فبراير)، واليمن والأردن والكويت. أمّا سلفيّو السعوديَّة المسيّسون، فقد رحّبوا بدورهم، كما فعل على سبيل المثال سلمان العودة، بالزخم الثوري في المنطقة (مع استثناء ملحوظ لانتفاضة البحرين) (ص 69). وقد أعرب ناصر العمر أيضاً، الرقم الرمز الآخر للسلفيَّة السياسيَّة السعوديَّة، عن دعمه للثوار، مع الحرص على استبعاد السعوديَّة عن نطاق المعارضة المشروعة، من خلال التذرّع بـ "دولة على أساس الدين" (ص 72). وفي مصر، أجبَر التوسعُ الذي عرفته الانتفاضات الدعوةَ السلفيِّة على التراجع كليَّاً عن مواقفها، وهكذا، منذ منتصف عام 2011 أعلنت دعمها للثوار.

وفي الكويت أخيراً، شارك السلفيّون (الحركيّون) في احتجاجات صيف 2011، مُطالبين باستقالة الحكومة بزعامة الشيخ ناصر محمَّد الصباح. من جهتها، انتقدت جمعيَّة إحياء التراث الإسلامي الثورات في البداية، ثمَّ تبنّت موقفاً أكثر تصالحيَّة في ضوء تحوّل العنف المتطرّف الذي شهدته الثورة في ليبيا وسورية. بشكل عام، أدرك الطمأنينيون حدودَ الخطاب السلفي والطاعة المطلقة للحاكم في حالة الاستخدام المنتظم للعنف غير المتناسب ضدَّ المتظاهرين، على سبيل المثال براميل الـ تي إن تي TNT التي أسقطت من المروحيَّات من قِبل النظام السوري (ص 181).

الموقف الأخير للسلفيّين إزاء الثورات، الذي نجِده على الخصوص في الحالة التونسيَّة، يتمثل في غياب المشاركة في الانتفاضات، والصمت حول شرعيَّة المطالب الثوريَّة. وفي الأردن، إذا كانت الأوساط السلفيّة المُسيَّسة متحمّسة للزخم الثوري في المنطقة، فإنَّ هذا الدعم لم يُترجَم إلى تعبئة ملموسة في الفضاء العام.

تسييس السلفيّين وأشكاله

يتّفق المساهمون في الكتاب على نقطة واحدة: السلفيّون يشاركون أكثر فأكثر في السياسة، فكيف يُترجَم هذا التسييس؟

هناك أربعة أشكال للتسييس والتعبئة السلفيَّة، تمَّ تحديدُها في العالم العربي. فإذا لم تكن موجودةً بشكل منهجي في كلّ بلد، فهي في بعض الحالات تراكميَّة.

السلوك السياسي الأوّل الذي تبنّاه السلفيّون تَجسّد في إنشاء أحزاب. ففي مصر، بعد تحوّله 180 درجة، أسّس حزبُ الدعوة السلفيَّة حزبَ النور، وهي الإيماءةُ التي قلّدها سلفيّون آخرون نظّموا أنفسَهم في أحزاب الأصالة، والوطن، والفضيلة، أو البناء والتنمية. فإذا كان حزب النور في البداية قد انضم إلى ائتلاف الإخوان، جنباً إلى جنب مع الأصالة (السلفي) والوفد (الليبرالي)، فقد شَكّل بعد ذلك مع الأصالة والبناء والتنمية تحالفاً سلفيّاً حصريّاً، حصل على 27.8٪ من الأصوات في الانتخابات البرلمانيَّة في أواخر 2011 - أوائل 2012؛ أي 112 مقعداً من إجمالي 596 مقعداً. هذا الأداء الانتخابي كان له صدى قوي، مثل رعد حقيقي على الحركة السلفيّة العالميَّة: فلم يحصل السلفيّون لأوّل مرّة على تمثيل واسع في البرلمان وحسب، بل إنَّهم بالإضافة إلى ذلك، كانوا أوّلَ كتلة معارضة للحزب الفائز؛ أي الإخوان المسلمين. وقد أضحت هذه المنافسة سائغة في الحقل الديني والسياسي المصري، خاصَّة بعد الانقلاب على محمَّد مرسي في يوليو 2013.

تيمّناً بالتجربة المصريَّة، أسّس السلفي محمَّد خوجة، وهو عضو سابق في حركة النزعة الإسلاميَّة (سلف النهضة)، حزبَ جبهة الإصلاح الذي حصل على اعتراف رسمي في مارس 2012. كما تمَّ إنشاء أحزاب سلفيَّة صغيرة أخرى، مثل الأصالة والرحمة.

وبعد ذلك بقليل، أُسِّس في اليمن في مارس 2012 حزبُ اتحاد الرشاد من قِبل مجموعة من السلفيين المقرَّبين من الحكمة. بالنسبة إلى عبد الوهاب الحميقاني، وهو أحد الأعضاء المؤسّسين، فإنّ إنشاءَ الحزب يُفسَّر بـ:1ـ تغييرات في الفكر السلفي المعاصر [...]؛ 2ـ تغييرات في اليمن [...]؛ 3ـ ضغوط يمارسها الشّباب السلفي [...]؛ 4ـ الحاجة إلى توفير[...] بديل للمجموعات العنيفة؛ 5ـ عدم وجود صوت إسلامي واضح في اليمن" (ص 105).

غير أنَّ اليمن ليس الدولة الوحيدة في شِبه الجزيرة العربيَّة المَعنيَّة بإنشاء أحزاب سلفيَّة.

في المملكة العربية السعوديَّة، على الرّغم من الحظر المفروض على إنشاء الأحزاب، فقد تمَّ تأسيسُ حزب الأمَّة الإسلامي في أوائل عام 2011، على غرار نظيره الكويتي. في الكويت، على وجه التحديد، فإنَّ حزب "الأمَّة" (الذي تأسَّس عام 2005) يعمل منذ عام 2012 على تأسيس "رابطة دعاة الكويت"، وهي نوع من التحالف يهدف إلى توحيد جميع القوى الإسلاميَّة في البلاد للانتخابات القادمة. ومع ذلك، فإنَّ "التجمّع السلفي الإسلامي"، المرتبط بجمعيَّة إحياء التراث الإسلامي الطمأنينيَّة، هو الذي يشكّل أكبرَ كتلة سلفيَّة برلمانيَّة (من 8 إلى 10 مقاعد).

في بلدان أخرى، مثل المغرب، يفضّل السلفيّون دعمَ الأحزاب القائمة (الشكل الثاني للتسييس). وهذه هي حالة الشيخ محمَّد مغراوي، الذي انضمَّ إلى حزب النهضة والتجديد. محمَّد الفيزازي، الشخصيَّة المركزيَّة للسلفيَّة المغربيَّة، يحاول إنشاء حزب سلفي، دون نجاح في الوقت الراهن. النوع الثالث من التعبئة السلفيَّة، الأقلّ إثارة للجدل، يكمن في خلق (أو اندماج) منظّمات غير حكوميَّة وجمعيَّات إسلاميَّة. على سبيل المثال، هناك جمعيَّة الدعوة إلى القرآن والسنَّة للشيخ المغربي محمَّد المغراوي، ودار الحكمة للشيخين المغربيين، رفيق أبي حفص، وحسن الكتاني، والجمعيَّة الوسطيَّة للتوعية والإصلاح، للتونسي عادل علمي، والإحسان والحكمة في اليمن، أو جمعيَّة الكِتاب والسنَّة في الأردن.

وأخيراً، فإنَّ الدرجة الأدنى من التسييس السلفي، والأكثر انتشاراً، هي المشاركة في النقاش العام؛ فلأوَّل مرَّة اتخذ السلفيّون وضعاً في الفضاء الإعلامي حول قضايا سياسيَّة، بعد أن كانت الأسئلة اللّاهوتيَّة تقليديّاً هي الوحيدة التي يتحدَّث فيها السلفيّون. وفي الأردن، على الرغم من النقص الواضح في الموارد، والرقابة الصارمة التي تمارسها الدولة، وضَع السلفيّون مطالبَ بإصلاحات سياسيَّة، بينما في لبنان فإنَّ الحرب السوريَّة، وما صاحب ذلك من صعود لحزب الله، دفعت السلفيَين إلى انتقاد عجز النخب السنيَّة التقليديَّة عن احتواء الشيعة، والسيطرة على الحدود مع سورية. وفي المملكة العربيَّة السعوديَّة، لم تمنع الطبيعة السلطويَّة للنظام، وغيابُ حريَّة التعبير، من أن يظهر في سياق الثورات "الشعور العام بأنَّ فرصة تاريخيَّة قد أصبحت متاحة لاتخاذ موقف علني لصالح التغيير"(ص 68).

من الصعب تفسير تنوّع أشكال التسييس التي تبنّاها السلفيّون؛ فهي في المقابل يمكن أن تكتسب بعض المعقوليَّة والجلاء، إذا أخذنا بالاعتبار التعارضَ الأساسيَّ بين الموقف "السلبي" (ردّ الفعل لِمعارضة وتحدّي القوى الليبراليَّة والعلمانيَّة)، وبين الموقف "الإيجابي" (اقتراح نموذج سياسي) للسلفيّين المسيّسين. في بعض الحالات، لا سيَّما في اليمن والكويت، كانت الأسباب الوحيدة لتشكيل الأحزاب أو المشاركة في السياسة هي عرقلة الأحزاب الليبراليَّة، الحامِلة للغوربَّة "الضارَّة"، أو عرقلة الأحزاب الإسلاميَّة (الإخوان المسلمون في مصر واليمن على سبيل المثال)، المُنافِسَة الدينيَّة والسياسيَّة في النهاية. على العكس من ذلك، حاولت مجموعات سلفيَّة أخرى وضْع برامج سياسيَّة مفصَّلة، بهدف اقتراح نموذج سياسي "إيجابي" بديل، لتوجيه الزخم الثوري نحو ظهور مجتمع "إسلامي" (ص 220).

العلاقات مع الأحزاب الإسلاميَّة

قبل الثورات العربيَّة، كانت العلاقات بين السلفيّين والإخوان المسلمين قائمة في الأساس على التنافس في المجال الديني، من أجل السيطرة على المساجد والأرثوذكسيَّة السنيَّة. في المغرب ومصر والأردن واليمن، كان السلفيّون يأخذون بشدّة على الإخوان المسلمين تفضيلَهم السياسة على الدين، وخضوعَهم لتأثيرات خارجيَّة منحرفة (الصوفيَّة والشيعيَّة الثوريَّة...)؛ أي أنَّهم لا يدْعون إلى الإسلام السنّي الأصيل. ومع الثورات، التي شهدت دخولَ العديد من السلفيّين إلى السياسة، صار النقدُ الديني لِمنهاج الإخوان يميل إلى التلاشي لصالح النقد السياسي: الإخوان، بِحكم وجودهم تحت النظام القديم، لعلهم انفصلوا عن المطالب الشعبيَّة التي قدّمتها الثورة، وبالتالي لعلهم عاجزون عن إجراء الإصلاحات اللازمة لإرضاء هذه المطالب. ففي مصر، أدّى سقوط مبارك إلى تجدّد "النزاعات والمنافسة ما بين الجماعات الإسلامويَّة" (ص 28)، وأحدث، بحكم هذا الواقع، استقطاباً في الحيز الإسلامي المتنازع فيه بين الإخوان والسلفيين. ناهيك عن أنَّه، في يوليو 2013، ساند حزبُ النور انقلابَ الجنرال السيسي ضدّ الإخواني محمَّد مرسي، في حين أنَّ الأحزاب السلفيَّة الأخرى، الأصالة، والوطن والفضيلة، أدانت استعادة السلطة من قِبل الجيش، وانضمَّت إلى التحالف الإخواني المناهض للانقلاب. واليوم يأمل النور في أنْ يكون قمْع الدولة قد حَرَمَ الإخوانَ بشكل نهائي من كلّ قدرة تنظيميَّة، ويرغب في الاستفادة من الفراغ السياسي الناجم عن الانقلاب العسكري، لتعزيز تمثيله في البرلمان (صفحة 40).

في اليمن، تبنّى السلفيّون في اتحاد الرشاد موقفاً متناقضاً تجاه حزب الإصلاح الإخواني. ففي حين رحّب العديد من كوادر الإخوان بإنشاء حزب سلفي (ص 122)، فقد حافظ الرشاد على انتقاداته العقائديَّة إزاء الإصلاح، مع مقاومة هذا "الحزب القديم، الذي أفسده نظامُ علي عبد الله صالح، بأصالة مشروعه السياسي"، المنتَج الحقيقي للانتفاضات"(ص 141).

في المغرب، أعرب السلفيّون، على العكس، عن تعاطف كبير إزاء الإخواني حزب العدالة والتنمية، الذي كانوا انتقدوه بقوَّة قبل عام 2011. بل لقد طالب البعضُ بالتصويت لصالح حزب العدالة والتنمية، في حين اعتبره آخرون تهديداً على المدى الطويل للمعسكر الإسلامي. إنَّ الادعاء بعدم قدرة "حزب العدالة والتنمية" على تنفيذ إصلاحات مُهمّة قد يؤدي في الواقع إلى فقدان الثقة في الحركة الإسلاميَّة السلفيَّة برمَّتها.

أخيراً، في تونس، لا يبدو الحزب السلفي "جبهة الإصلاح" في صراعٍ رسميّ مع حزب النهضة (الإخواني)، الذي من جانبه يتابع ويلاحظ باهتمام مظاهرَ السلفيّة "المؤسّسيَّة" بهدف الحفاظ على صلة مع الناخبين المحافظين"(ص160).

العلاقة مع الديمقراطيَّة

يطرح دخولُ السلفيّين إلى المجال السياسي المؤسّسي مسألة قُدرتهم على تكييف عِنادهم العقائدي مع عالم السياسة، حيث تغلب التسوية على الأحاديَّة، والبراغماتيَّة على النقاء الأيديولوجي.

يبدو أنَّ السلفيّين السياسيين يُدمِجون بصعوبة الديمقراطيَّةَ كمفهوم فلسفي في أدواتهم الأيديولوجيَّة. سيادة الله، المطلقة في العقيدة السلفيّة، تُقصي في القانون إمكانيةَ إدارة الإنسان للمدينة، وبالتالي تجعل الإنسانَ مجرَّدَ مُنفّذ للوصايا الإلهيَّة. وبغضّ النظر عن موقفهم من السياسة، يرفض السلفيّون مبدأ السيادة الشعبيَّة، التي ينظرون إليها كاغتصاب لاختصاص الله الحصري. إذن، يبقى السؤال: هل يملك السلفيّون وسائل اندماجهم في السياسة؟

بالنسبة إلى كافاتورتا Cavatorta الإجابة واضحة: "السلفيَّة تيارٌ من تيارات الإسلام السياسي، لا تتوافق على الإطلاق مع مبادئ النظام الليبرالي الديمقراطي" (ص160-1). لكن يبدو أنَّ هذا التأكيد لا يأخذ في الحسبان مَيل السلفيّين إلى جعل اللعبة الديمقراطيَّة ليس مجموعة من المبادئ الجوهريَّة "المستعصية" بالضرورة، وإنّما حلبة مُؤسّسيَّة يمكن أن تستثمرها أيديولوجيَّات مختلفة. هكذا، على سبيل المثال، يرى السلفيّ المغربي محمَّد الفيزازي، الذي يتبنَّى "الديمقراطيَّة الإسلاميَّة" بديلاً عن "الديمقراطيَّة العلمانيَّة" (ص 88). إذا كان هذا الموقف يعكس بالفعل إنكار السلطة التشريعيَّة للبشر، فهو لا يعني مع ذلك رفْضَ الديمقراطيَّة كفضاء للتداول، بهدف إنشاء مجتمع "إسلامي". في اليمن، يُميّز موسى العامري (الشخصيَّة المركزيَّة لاتحاد الرشاد) بين الديمقراطيَّة الفلسفيَّة (أي السيادة الإنسانيَّة) التي يرفضها، وبين الديمقراطيَّة الإجرائيَّة (أي الانتخابات، وحريَّة التعبير، والمسؤوليَّة) التي يَقبلها (110-1).

رفض الديمقراطيَّة لا يعني من حيث المبدأ (المبادئ) رفض اللعبة الديمقراطيَّة من حيث الممارسة (الممارسات). يبدو أنَّ السلفيّين لديهم رؤية أدواتيَّة واسعة للسياسة. فبالنسبة إلى الكثيرين منهم، تُعتبر "المشاركة في السياسة المؤسّسيَّة الرسميَّة امتداداً لنشاط الوعظ" (ص 27). لذلك، تصبح "اللعبة الديمقراطيَّة وسيلةً للتوصل إلى غاية" (ص 42)؛ فبمجرَّد اندماجهم في المجال السياسي الرسمي يُصبح من مصلحة السلفيّين الحفاظُ على حُسن سيرِه.

استنتاج

لقد ساهمت الثورات العربيَّة إلى حدّ كبير في تسيِيس الحركة السلفيَّة، سواء في البلدان التي انتهت فيها الأنظمة الاستبداديَّة (تونس، مصر، بين عامي 2011 و2013، اليمن، ليبيا)، أو التي نَفّذت إصلاحات مُهمَّة (المغرب)، أو التي تبنّت نهجاً شاملاً (الكويت)، أو التي لم تشملها الثورات (المملكة العربيَّة السعوديَّة، والأردن، والجزائر)، خرج السلفيّون من ساحتهم اللّاهوتيَّة لمناقشة الرّهانات السياسيَّة، بل وفي بعض الحالات انخرطوا في الساحة السياسيَّة المؤسَّساتيَّة.

وهكذا كان للثورات العربيَّة أثر ثلاثي على السلفيَّة، من حيث التسييس، وظهور هياكل تنظيميَّة جديدة، واللجوء إلى جدول عمل جديد. هذه الظاهرة، التي لم يسبق لها مثيل، تقود المؤلفين إلى تقديم تعريف جديد وأكثر دقّة للسلفيّة السياسيَّة؛ أي "حركة اجتماعيَّة- دينيَّة تشمل مجموعات مختلفة، أحزاباً وحركات سلفيَّة، تسعى للتعبير عن رأيها في المجال العام، إمَّا عن طريق المشاركة في السياسة الرسميَّة (مثل إنشاء الأحزاب، والترشيحات، وبناء التحالفات، وما إلى ذلك)، أو عن طريق تجنيد شبكات غير رسميَّة (مثل المظاهرات، والمظاهر الإعلاميَّة، والنشاط الاجتماعي، وما إلى ذلك)" (ص28).

 

الهوامش:

(*): هذا المقال منشور بـموقع:

LES CLES DU MOYEN ORIENT

ARTICLE PUBLIÉ LE 21/12/2017

Compte rendu de Théo Blanc

ورابط المقالين المترجمين هما:

-FRANCESCO CAVATORTA & FABIO MERONE (ED.), SALAFISM AFTER THE ARAB AWAKENING. CONTENDING WITH PEOPLE’S POWER (1/2).

https://www.lesclesdumoyenorient.com/Francesco-Cavatorta-Fabio-Merone-ed-Salafism-after-the-Arab-Awakening.html

-FRANCESCO CAVATORTA & FABIO MERONE (ED.), SALAFISM AFTER THE ARAB AWAKENING. CONTENDING WITH PEOPLE’S POWER (2/2)

https://www.lesclesdumoyenorient.com/Francesco-Cavatorta-Fabio-Merone-ed-Salafism-after-the-Arab-Awakening-2561.html

(1): العنوان الأصلي للكتاب هو:

Francesco Cavatorta & Fabio Merone (ed.), Salafism after the Arab Awakening. Contending with People’s Power, Hurst & Co, 2016

[1]- مجلة ذوات العدد49