فشل الدول العربيّة في بناء الشرعيّة الديمقراطيّة


فئة :  مقالات

فشل الدول العربيّة في بناء الشرعيّة الديمقراطيّة

لا يمكن فصل مظاهر الانفجارات الإثنية الحاصلة في الراهن العربي عن التحولات التي تجري في مجتمعنا في عقود ما بعد الاستقلال، حيث لم تتمكن المجتمعات العربية من الحسم في كثير من إشكالات مجتمعاتنا في السياسة والتاريخ والمجتمع. كما لا يمكن فصلها عن التداعيات التي تلاحقت في سياق ما بعد الثورات العربية، فنحن ما نزال نعاين مظاهر مجتمعاتٍ مُفَكَّكَة، وما نزال نتطلع إلى بناء أنظمة سياسية قادرة على تدبير أشكال التحول التي لحقت بمجتمعاتنا في عالم جديد.

وإذا كان من المؤكد أنّ محيطنا الإقليمي يمارس بصورة أو بأخرى ترجيحاً معيّناً لكثير من جوانب الإشكالات القائمة، فمن المؤكد أيضاً أنّ النظام الدولي يمارس بدوره بعد استقلال أغلب البلدان العربية مراقبة خاصة على جغرافيتنا، وقد صنع من الوجود الإسرائيلي في فلسطين ما يشكل القوة الأمامية لحضوره في المنطقة العربية.

تشير المعطيات التي أوردناها في الفقرة السابقة إلى فشل الدولة العربية في مجابهة التحديات التي واجهت مجتمعاتنا بعد الاستقلال، وهي تضعنا أيضاً أمام مشروع إعادة تكوُّن الدولة في مجتمع جديد؛ فقد بدأت تتبلور في النسيج الاجتماعي العربي منذ عقود خلت الملامح العامة لمعطيات اجتماعية تتجاوز ما ورثناه من نظام الملل العثماني الذي سمح بالتعدد الطائفي، وما ورثناه أيضاً من تركة التنظيمات ونموذج الدولة الوطنية كما تبلورت زمن الاستعمار الغربي. دون أن نغفل الإشارة أيضاً إلى المُكَوِّن التاريخي المحفوظ في سياقات الأزمنة، والمُكَوِّن الجغرافي الذي تعاقبت فوقه جماعات يصعب حصرها أو حصر مُخَلَّفاتها، الأمر الذي جعل الدولة العربية الناشئة تتأرجح في مختلف مظاهرها بين نمطين من السلطة: النمط السلطاني ونمط الدولة الوطنية، مع محاولات للجمع بين النمطين، الأمر الذي يجعلها عرضة للهشاشة والقصور.

لم ينجح العرب في نظر العروي في ترسيخ كيان الدولة وتحويله إلى مجتمع سياسي، فقد ظلت النظرة التي ورثها العربي من الماضي بمثابة عائق أمام بنائه لكيان سياسي، كما أنّ المشروع القومي لم يفتح الطريق لإنشاء الدولة العربية الواحدة.

لم يحصل التجاوب المطلوب بين تطلعات النخب والطلائع المجتمعية وبين الدولة الناشئة في مجتمعات ما بعد الاستقلال، فاتجهت الأنظمة لبناء ما يُمكّنها من الاستمرار في السلطة بدل مواجهة التحديات التي اعترضتها في موضوع الشرعية الديمقراطية وموضوع النهوض بالمجتمع. وقد عدَّد أحد الباحثين حصيلة أدوار الدولة في العالم العربي خلال القرن الماضي، موضحاً فشلها بعد تفكك السلطنة العثمانية وانتهاء الحقبة الاستعمارية، مشيراً إلى أنّ مظاهر الفشل تتمثل أولاً في عدم تمكنها من الاستمرار، وعدم قدرتها على مجابهة التحديات التي تعترضها داخل المجتمع. كما تتحدد ثانياً، في إفرازها لمعارضة جديدة، تتمثل في صور التوسع الذي عرفته التيارات الإسلامية في أغلب البلدان العربية. وقد توقف الباحث المذكور أمام نتيجة ثالثة تشير إلى ما انتهى إليه الأمر في موضوع القضية الفلسطينية واعتراف الفلسطينيين ومختلف الأنظمة العربية بإسرائيل.

لا يتعلق الأمر إذن، في موضوع الانفجارات الإثنية وتوظيفاتها المتنوعة بحدث طارئ، بل إننا أمام معطيات تعكس جوانب من معطيات اجتماعية ثقافية قائمة، معطيات تختفي في غمرة مساع تروم ترسيخها، لتعود إلى الظهور مبرزة الطابع الانتقالي المتأرجح في مجتمعنا بين التقليد والتحديث، بين منطق العقيدة والقبيلة والطائفة، ومنطق المؤسسة والرأي ومقتضيات مجتمع المواطنة.

لم نستغرب كثيراً من عودة الإثني والطائفي إلى مجتمعنا، ذلك أنّ مفردة دولة في تاريخنا القديم ارتبطت في الأغلب الأعم بقبيلة أو بنسب عرقي أو طائفة أو مذهب، حيث تقدم لنا كتب التاريخ مُصَنَّفَات تُعنى بالدولة الأموية والدولة الفاطمية...إلخ. صحيح أنّ الدولة الإسلامية في تاريخنا مركّبة، وأنها تستوعب في مسارها أقواماً وثقافات لا يجادل أحد في تعدّد مكوناتها، كما تُشَكِّل فترات تفككها حقباً تاريخية تفوق أزمنة انسجامها ووحدتها.

عندما نقف اليوم أمام ظاهرة الانفجارات الإثنية في صيغها الجديدة وأساليبها المستجدة في التجييش والعمل، وكذلك صور العنف المستخدمة في الخطاب والواقع، نكون أمام ظواهر لم تسمح لنا عقود من الاستقلال تحت سلطة أنظمة سياسية ناشئة من تجاوزها. فما يجري اليوم في سورية ليس غريباً على بنية نظام يمارس السلطة من موقع طائفي، ويحكم بتوسط آليات حزبية مرتبة ومراقبة، نظام يوظف جوانب من شعارات المرحلة ورهانات الصراع الإقليمي، ولا يتردد في توريث السلطة بحسابات مُعَدَّة سلفاً. ولهذا، ينخرط اليوم بعنف في أتون الانفجارات المناهضة له، مُرتِّباً أوراق بَعْضِهَا وملوِّحاً بأخرى، وذلك مقابل معارضة تعوّدت أغلب فصائلها استخدام الآليات نفسها، الأمر الذي يخلق جحيماً مركّباً داخل المجتمع.

ينطبق الأمر نفسه على ما جرى ويجري في العراق ولبنان وليبيا واليمن، ذلك أنّ الوضع السياسي في العراق يواجه تحديات اجتماعية وسياسية، لا يمكن فهمها دون استحضار مساره قبل الاحتلال الأمريكي وبعده. كما لا يمكن فصل النزوعات الإثنية داخله عن فشل الأنظمة التي تعاقبت على حكمه، بما فيها النظام البعثي في تحقيق الاندماج الاجتماعي. وإذا كان الوضع الإثني في العراق يتجه نحو ما هو أسوأ، فإنّ شعارات دولة الخلافة الإسلامية لا تعتبر إلا أدوات تروم مزيداً من تفتيته.

ولا يختلف الوضع في لبنان في موضوع بناء الدولة عن مخلَّفات النظام الطائفي وتوابعه، ويمكن أن نتأكد من ذلك في صور التغييب التي تمارسها الطوائف، حيث يطغى الانتساب والولاء للطائفة على صفة الوطن، الأمر الذي يؤدي إلى التباعد بين أفراد المجتمع، ويعمّق أزمة الدولة، وفي الراهن علامات كاشفة لما نحن بصدده.

لن نواصل الحديث هنا عن مبررات ما حصل وعن مآلاتنا في الراهن، ذلك أنّ صور الانكسار والتمزق تضعنا اليوم في مواجهة أنفسنا بكثير من القسوة، خاصة وأننا لن نسجن أنفسنا في حديث المؤامرة والتربص بثرواتنا وأمجادنا وحماية أمن إسرائيل، وهي المسوغات التي تستعاد بصيغ تكرارية في كثير من الأنظمة والتيارات السياسية العربية، ذلك أنّ مثل هذه المواقف عندما يتم استدعاؤها من طرف البعض، لنفض ذات اليد من كلّ ما حصل، تكون درجات قسوتها في نظرنا أعمقَ وأبلغَ، بحكم أنها تخاف من الأوهام التي ركِّبتها بنفسها.