في إشكالية تحليل الخطاب


فئة :  مقالات

في إشكالية تحليل الخطاب

 

  1. عمدنا للحديث في هذا الموضوع، لاعتبارين أساسين اثنين: الأول لأن مسألة تحليل الخطاب لا تزال، على الرغم من قدم طرحها، ذات راهنية كبرى، لا سيما وقد برز نوع من الخطاب يستحق القراءة والرصد: الخطاب الديني. نحن بحاجة لدراسة هذا "الخطاب"، كي نفهم خلفيات صاحبه ومرجعيته وأدواته والأهداف المتوخاة من مضمون ما يصدر عنه.

أما الاعتبار الثاني، فلأن الكتابات الرائجة غالبا ما تخلط بين الشيء والحديث فيه. عندما يتحدث المرء عن الدين، فهو يتحدث فيه، باعتباره مادة للحديث والبحث. الحديث في الدين ليس هو الدين. إذ عندما نسائل الخطاب المتحدث في الدين، فنحن إنما نتحدث في الخطاب وليس في الدين: نسائل الخطاب باعتباره كلاما في الدين، ولا نسائل الدين في حد ذاته، اللهم إلا فيما يسعفنا لمساءلة الخطاب إياه.

ولذلك، يبدو لنا هذا الحديث ذا أهمية منهجية كبيرة، على الأقل من زاوية أنه يرفع اللبس بين الشيء وبين الخطاب عنه أو فيه.

  1. يعتبر العديد من الباحثين أن نشأة وتطور بحوث ودراسات الإعلام ارتبطت، في العشرينيات من القرن الماضي، بالنموذجين الوضعي والسلوكي، إذ "استمد التخصص الجديد الكثير من منطلقاته ومفاهيمه وأطره النظرية والمنهجية من هذين النموذجين".

لقد ركزت بحوث الإعلام في حينه، ولا تزال لحد اليوم في جزء منها، على تأثير وسائل الإعلام على الجمهور المتلقي، اعتمادا على ما يعرف عندها بدراسات الجمهور، لكنها "أهملت إلى حد كبير دراسة مضمون وشكل الرسالة الإعلامية، التي يفترض أنها تحدث التأثير المطلوب، أو المرغوب فيه، من وجهة نظر المرسل أو القائم بالاتصال، سواء كان شخصا أو مؤسسة".

ولذلك، فقد سادت تقاليد التحليل الكمي للدراسات الإعلامية، وأصبحت جزءا من التقاليد البحثية في هذا الحقل، بينما اختفت أو تم تغييب الدراسات النوعية، لا بل اعتبرت متحيزة وبعيدة عن الموضوعية، ومن ثمة "لا تصلح" لمقاربة الحقل الإعلامي. وقد ترتب على ذلك، تبرم واسع عن الدراسات الإعلامية المرتكزة على تحليل المضمون، وتزايد الاهتمام ثم التركيز على عمليات وآليات إنتاج واستقبال الأفراد أو المجموعات لهذه الرسائل، وذلك "رغم أن الأفراد المتلقين يفسرون النصوص الإعلامية وفقا لحياتهم الشخصية وخبراتهم وتجاربهم الذاتية".

إن عيب التحليل الكمي لا يكمن فيه، بقدر ما يكمن في إهماله لسياق النص وعلاقات القوى بداخله، ناهيك عن منظور الفاعل إليه. ثم إنه لا يعير كبير اعتبار للمعاني الضمنية أو المضمرة في النص، أو الثاوية خلفه كبنية مرجعية موجهة. من هنا أتت المحاولات الأولى لاستخدام مناهج وأدوات التحليل النوعي في دراسة النصوص، على الرغم من تدرجها وعدم اكتمال أدواتها وأعتدتها المنهجية وتصدي المقاربات التقليدية للمشتغلين فيها أو عليها.

إن إحدى مميزات التحليل النوعي للمحتوى، إنما قيامه "على الفحص الدقيق لمصادر المادة المزمع تحليلها، وعلى الملاحظة الصريحة والفهم الذاتي للذين يقومون بالتحليل، مع الاهتمام أيضا بوجهات نظر الآخرين". بيد أن هذه الأدوات المنهجية لم تكن، بنظر العديدين، "كافية لدراسات الرسائل أو النصوص... في علاقاتها المتشابكة والمعقدة مع الرسائل السابقة، ومع بنية المجتمع والقوة المهيمنة عليه"، فظهرت بالتالي بموازاة ذلك، منهجية جديدة في الدراسات الإعلامية تراهن على تحليل الخطاب، باعتباره بنية مادية ورمزية تحيل (ويجب أن تحيل في نظر البعض) على الحقول المعرفية "المجاورة". لذلك رأيناها تمحور إشكاليتها انطلاقا من أربع منظومات كبرى: المنظومة المنطوقية، والمنظومة الحجاجية، والمنظومة السردية والمنظومة الخطابية.

  1. إن من حسنات وفضائل نظرية الخطاب على عمليات تحليل النصوص، أنها دفعت العديد من الباحثين إلى "إعادة التفكير في العلاقة بين المعنى والبنية الاجتماعية، من خلال التركيز على السلطة من داخل نظام المعنى، وليس من خارجه". فنظم المعنى نفسها تعتبر سلطة، وهي لا تظهر بسهولة كنظم، مثل بنية اللغة، "بل من خلال ممارسات ذات دلالة". ولذلك، فإنه من النتائج "العملية" المباشرة لنظرية تحليل الخطاب، تكريس "القناعات" المنهجية التالية:

- "أن الخطاب يشكل من خلال الكلمة، كما أنه يشكل الكلمة،

- أن اللغة تشكل الخطاب والخطاب يشكل اللغة،

- أن الممارسة تشكل الخطاب، كما أن الخطاب يشكل الممارسة،

- أن الخطاب يشكل من خلال الخطاب السابق، خطاب الماضي، والخطاب يشكل إمكانيات خطاب المستقبل،

- أن الخطاب يشكل من خلال وسيلته، كما أن الخطاب يشكل إمكانيات هذه الوسيلة،

- وأن الخطاب يشكل بواسطة غرضه، كما أن الخطاب يشكل الأغراض الممكنة".

وهي محاور غاية في الأهمية من زاوية تحليل الخطاب بوجه عام، إلا أنها على الرغم من ذلك، تبقى محكومة بطبيعة الخطاب الرائج دون التساؤل في الخلفيات التي بنت له الخلفية والمرجعية أو في الأنظمة الفكرية والإيديولوجية التي أطرت سياقه وتموجاته. إذ بقدر ما أن اللغة مثلا هي اختيار أيديولوجي، فإن الخطاب أيضا هو ممارسة ذات طابع إيديولوجي من حيث تكوينها وتأثيرها.

ومع ذلك، فإننا اليوم بحاجة ماسة، ولربما أكثر من أي وقت مضى، للتمرس على تحليل الخطاب، ليس فقط باعتباره قولا مجردا، بل لأنه محكوم بخلفيات معينة، ويجر من خلفه رهانات لا يمكن تلمسها بأية وسيلة أخرى، كمية أو أدواتية أو إجرائية... وهذا أمر يسري على الخطاب الإعلامي العام، ويسري على باقي أنواع الخطاب... وضمنها الخطاب الديني.