في إمكانيّة استئناف توظيف مفهوم الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة


فئة :  حوارات

في إمكانيّة استئناف توظيف مفهوم الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة

حوار مع الأستاذ سهيل الحبيّب:

في إمكانيّة استئناف توظيف مفهوم الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة

لتفسير ظاهرة الإسلام السياسي

حاوره أنس الطريقي

سهيل الحبيّب يقدّم نفسه:

أستاذ تعليم عال في مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان – جامعة الزيتونة في تونس، متخصص في دراسة الفكر العربي الحديث والمعاصر تحقيبا وتصنيفا، وتحولات الخطاب فيه. من مؤلفاتي المنشورة خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر: معالم في مشروع آخر، والمفاهيم الأيديولوجية في مجرى حراك الثورات العربية، الأزمة الأيديولوجية العربية وفاعليتها في مآزق مسارات الانتقال الديمقراطي، العلمانية من سالب الدين إلى موجب الدولة... فضلا عن مجموعة من المقالات في عدد من المجلات العلميّة والمواقع الإلكترونية.

أنس الطريق: أنت من الأكاديميّين المهتمّين بمتابعة مسارات الفكر العربيّ الحديث والمعاصر، متابعة نقديّة، بيّنت فيها العوامل المتحكّمة في هذه المسارات، ومواطن العطالة في هذا الفكر، وبدا هذا منذ كتبك الأولى (في تشكيل الخطاب الإصلاحي العربي، وخطاب النقد الثقافي في الفكر العربيّ المعاصر)، وصولا إلى كتبك الأخيرة المتتالية عقب ثورة الربيع العربي (المفاهيم الإيديولوجية في مجرى حراك الثورات العربيّة.. (2014)، والأزمة الإيديولوجيّة وفاعليتها في مآزق الانتقال الديمقراطيّ ومآلاتها (2017)، والعلمانيّة من سالب الدين إلى موجب الدولة.. (2019)) التي يبدو أنّها حرّكت شهيّتك للكتابة. من منظور اهتمامنا بعلاقة الإسلام السياسي بالدولة الوطنيّة، ومن منظور المحورة التي اعتمدتها في تحليل الحراك الثوري العربي، وحاولت فيها اعتماد الإيديولوجيا إطارا تحليليّا وتفسيريّا، ما موقع الإيديولوجيا الإسلامويّة وتحديدا إيديولوجيا الإسلام السياسيّ في تحليلاتك استنادا إلى رؤيتك لموقعها في المسار الانتقالي الثوريّ؟

سهيل الحبيّب: إيديولوجيا الإسلام السياسي مكوّن أساسي من مكوّنات الإيديولوجيا العربية المعاصرة، وهو المفهوم الذي أخذته عن عبد الله العروي من منطلق القناعة بأن المشروع النقدي الذي أرسى معالمه هذا المفكر الكبير خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مازال يحتفظ بكل راهنيته إلى يوم الناس هذا. الأطروحة المركزية في فكر العروي، كما فهمته أنا على الأقل، مؤداها أن الإيديولوجيا العربية المعاصرة، من حيث هي بنية ذهنية، مفارقة أو غير مطابقة لمفترضات النهوض الذي يبحث عنه العرب منذ القرن التاسع عشر. ما حاولت الاجتهاد فيه ("اجتهاد داخل المذهب" كما يقول القدامى)، وإضافته (إن صحّ أنه إضافة)، هو حديثي عن الإيديولوجيا العربية المعاصرة، باعتبارها جماع التمثّلات والمتخيّلات الاجتماعية والسياسية التي يشتقّ منها الفاعلون السياسيون والاجتماعيون العرب، بشكل عيني ومباشر، برامجهم وخيارتهم العملية. التمثّلات والمتخيّلات عناصر ذهنية قابلة للتحديد ورصد علاقتها بهذا الخيار الاجتماعي أو السياسي، أو ذاك أمر قابل للتعيين الدقيق. وهذا ما حاولت أن أبرزه في مختلف كتاباتي التي اشتغلت فيها على فهم المسارات الثورية والانتقالية التي عرفها شطر من البلدان العربية خلال العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين. بطبيعة الحال نصيب مهم، إذا لم نقل النصيب الأهم، من المتخيّلات والتمثّلات الاجتماعية والسياسية التي لعبت دورا حاسما في هذه المسارات يمثّله فكر حركات الإسلام السياسي بمختلف ما شهده من تحوّلات وتشقّقات وتنوعات منذ نشأته في أواخر الثلث الأول من القرن العشرين.

أنس الطريق: حلّلتم علاقة الإسلام السياسيّ إيديولوجيا وعمليّا بالثورة، من منطلق مصادرة تحكّمت في كتابيكم حول الإيديولوجيا العربية المعاصرة تتمثّل في كون الرؤى الإيديولوجيّة لها امتدادات في واقع الممارسة العمليّ، لو شرحتم مفهوم الثورة في فكر الإسلام السياسيّ، وهل تجدون هذا الأمر متحقّقا في السلوك السياسيّ من خلال قنوات الدولة لممثلي الإسلام السياسي في تونس؟

سهيل الحبيّب: تمثّل الإسلاميون الثورات العربية، أو بالأدق تخيّلوها، باعتبارها ثورات "هوياتية"؛ بمعنى ثورات شعوب مسلمة على دول صنيعة الاستعمار، وتهيمن عليها نخب علمانية متغرّبة عميلة. لا ينكر الإسلاميون كون هذه الثورات قامت على مظاهر مادية محدّدة مثل الاستبداد السياسي والقمع والفساد وغياب النمو والفساد والاستئثار بالثروة والتفاوت الجهوي... إلخ، لكنهم اعتمدوا "لعبة" ما أسميته في إحدى كتاباتي بـ"الإدماج الحسّي"، فاعتبروا أن جميع هذه المظاهر جزء لا يتجزأ من نتائج الابتعاد عن الإسلام واعتماد السياسات والخيارات العلمانية. والإسلاميون في تونس، من أتباع حركة النهضة كما من أتباع حزب التحرير والجماعات السلفية المختلفة، تصرفوا، خاصة خلال الفترات الأولى التي أعقبت ثورة 14 يناير 2011، وفق هذا المتخيّل الثوري المخصوص. وخياراتهم العملية، السياسية وغير السياسية (القتالية عند الجماعات الجهادية) كانت تصبّ في هدف أسلمة المجتمع والدولة تحقيقا لـ"أهداف الثورة".

أنس الطريق: تبعا لاهتمامك بالخطوط الإيديولوجيّة الكبرى في الفكر العربيّ المعاصر، ومعرفتك بالسلالة الإصلاحيّة لهذا الفكر، هل يمكن ردّ علاقة الإسلام السياسيّ بالدولة الوطنيّة إلى السلالة الإصلاحيّة، خصوصا وقد حاول هو نفسه أن يجد لنفسه أصولا فيها، فبهذا المنطق قد يجوز القول بأنهم استمرار للحدس الإصلاحي بالدولة، الذي تحدّث عنه الأستاذ محمّد الحدّاد، في كتابه الدولة العالقة، ودعا إلى العودة إليه لاستئناف شرعية الدولة الراهنة بعد الثورة؟

سهيل الحبيّب: من المسائل التي باتت تطرح بقوة في سياقنا الراهن مسألة علاقة الإسلام السياسي الوليد مع منعطف الثلث الثاني العشرين بتراث الفكر الإصلاحي العربي الإسلامي الناشئ في القرن التاسع عشر والممتد إلى بدايات القرن العشرين. تطرح هذه المسألة اليوم، حسب تقديري، في علاقة بما بات الإسلام السياسي في حاجة إليه من إعادة بناء لسردياته الإيديولوجية ومتخيّلاتها، ومنها سردية "الأصول" أو "الجذور"، وسردية علاقة الإسلام بالمفاهيم السياسية والاجتماعية الحديثة؛ وذلك تحت ضغط مظاهر الإخفاق والفشل التي صاحبت تجارب الإسلام السياسي في العشرية الثانية من القرن العشرين. وبصرف النظر عن الوجه المركّب لهذه العلاقة وتعدد مستويات وزوايا النظر إليها، وبصرف النظر عن أطروحة الأستاذ الحداد التي لم أطلع عليها، وآمل أن يحدث ذلك في أقرب وقت، فإن ما يبدو لي، وفي مسألة الدولة الوطنية بالذات، هو كون مشروع الإسلام السياسي مثّل نقضا للمشروع الإصلاحي وإجهاضا لمسار تطوّره. فهاجس المصلحين كان تقوية أجهزة الحكم القائمة وإحكام سيطرتها على المجالات الترابية التي هي تحت نفوذها، في هذا الإطار برزت دعواتهم إلى اقتباس العلوم العصرية وتحديث الجيوش واعتماد "التنظيمات" السياسية الحديثة، كما برزت عندهم أشكال من الوعي الوطني الحديث المتمايز عن الرابطة الدينية الإسلامية، وجميعها عناصر تدعم صيرورة بناء الدولة بمفهومها الحديث. في حين أن مشروع الإسلام السياسي الوليد في أجواء تداعيات إلغاء الخلافة العثمانية وقيام الدولة التركية الحديثة على أنقاضها كان مشروعا مضادا لصيرورة قيام الدول الحديثة المقامة على الروابط والأسس الوطنية في المجال العربي والإسلامي عامة.

أنس الطريق: انطلاقا من متابعتك لدور الإسلام السياسيّ في هذا المسار الانتقاليّ الديمقراطيّ، هل عاينتم تحوّلا في علاقته بالدولة الوطنيّة قياسا إلى فترات سابقة من تاريخه بدت فيها هذه العلاقة قائمة على تعارض ضديّ؟

سهيل الحبيّب: هذا التحوّل في الموقف من الدولة الوطنية في تونس واضح للعيان اليوم، على الأقل في سطح الخطاب السياسي لحركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي. ثمة مقطع فيديو على شبكة الإنترنت يمكن لأي كان مشاهدته، في هذا المقطع الذي هو جزء من خطاب الشيخ الغنوشي في افتتاح المؤتمر العاشر للحركة (ماي 2016) جاء قوله: "الدولة التونسية سفينتنا التي يجب أن تحمل على ظهرها كافة أبنائها وبناتها، أيها النهضويون أنتم قوة للدولة، هذه دولتكم ليست لكم أية دولة سواها، فذودوا عنها بكل ما تملكون". ولكي نفهم مستندات هذا التحوّل، لا بد أن نستحضر كيف أن مجريات الانتقال الديمقراطي في بلدان الثورات العربية مربكة، إذا لم نقل مضللة، بالنسبة إلى الإسلاميين؛ لأنها دللت على ما ينقض طرحهم بشأن الدولة الحديثة وبنيتها المجتمعية. فمن جهة أولى، دلّلت تجارب البلدان العربية التي لم تتغلغل فيها فكرة الدولة الحديثة بشكل واسع على أن البديل من الكيانات القطرية القائمة ليس غير فوضى الحرب الأهلية المدمرة والطاحنة، وهذا ما تشهد به تجربتا اليمن وليبيا بشكل واضح. في مقابل ذلك، كانت الوحدة المجتمعية أكثر تماسكا والنزعات الانقسامية الصراعية كانت أقل حدة في السياق التونسي الذي بلغت فيه صيرورة بناء الدولة الحديثة أشواطا متقدّمة. ونقدّر أن خلفيات الموقف الجديد من الدولة التونسية الذي بات يعبّر عنه بكثافة لافتة الشيخ راشد الغنوشي تكمن في هذه التطوّرات العاصفة أو هذا التاريخ الشاهد الحيّ الذي لا تتيح وقائعه إدانة الدولة الوطنية الحديثة أو رفع مطلب إزالتها باسم "قوة العقيدة الإسلامية" (كما كان يقول الشيخ في كتاباته قبل الثورة)، في وقت غدا فيه هذا المطلب عزيز المنال في أكثر من قطر عربي. صحيح أن هذا الموقف الجديد لم يبرح بعد مستوى السطح السياسي العملي المرتهن بإكراهات اللحظة التي لم تعد، في سياقها، إمكانية الحديث عن "مفسدة" الدولة الوطنية الحديثة و"مصلحة" البنى التقليدية الهوياتية، وصحيح أنه لم تتبلور بعد خلفيات نظرية وتشريعية عميقة لتأصيل هذا الموقف إسلاميا، أو ما سميته بـ"فقه الدولة الوطنية"؛ غير أنه لا تجوز الاستهانة بأهمية هذا الموقف

أنس الطريق: في كتابكم العلمانيّة من سالب الدين إلى موجب الدولة، تحدّثتم عن براديغم جديد يجب أن تفهم به العلمانيّة، هو براديغم بيّنه عزمي بشارة، ويتمثّل في تفسير نشأة العلمانيّة، باعتبارها مسارا منتجا للدولة، لا بوصفها صيرورة إضعاف دور الدين في الحياة والسياسة. من هذا المنظور التفسيري للتاريخ وللعلمنة، هل تتصوّرون نهاية للتعارض بين الإسلام السياسيّ وبين العلمنة؟ ثمّ ألاّ يؤدّي هذا القران بين الدولة والعلمنة إلى تكريس مقاطعتهم لها على اعتبار أنّها منتجة للدولة؟

سهيل الحبيّب: للدقة مؤدى نظرية بشارة أن العلمنة صيرورة تنشأ بموجبها الدولة الحديثة، باعتبارها كيانا متمايزا عن الدين وتضطلع بوظائف كانت، من قبل، شطرا من وظائف الدين الدنيوية. وللدقة أيضا نظرية بشارة لا تقول بأن العلمنة لا تضعف دور الدين في الحياة السياسية، بل تقول إن التحوّلات التي تطال مكانة الدين ووظائفه في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة لا تُختزل في تلك الصورة النمطية التي يكرّسها مفهوم العلمانية المتداول (فصل الدين عن الدولة)، بل تأخذ أشكالا عديدة، أهمّها هيمنة الدولة على الدين، وتكيّف أنماط التديّن لتتلاءم مع دنيوة ميادين السياسة والاجتماع والاقتصاد. براديغم بشارة، بهذا المعنى، يفتح آفاقا جديدة في إعادة فهم ظاهرة الإسلام السياسي، حسب تقدري. لا يتسع المقام لشرح ذلك، وهو يحتاج إلى أعمال بحثية قطاعية تختبر مقولات بشارة النظرية وقدرتها على تفسير خطابات جماعات الإسلام السياسي وممارساته العملية. لكن أكتفي بالقول هنا، إن مفارقة هيكلية تلازم ظاهرة الإسلام السياسي، فهو، حسب منظور هذا البراديغم، نتاج العلمنة ومعارض لها في نفس الوقت. الإسلام السياسي ضد الدولة الحديثة في بنيته الإيديولوجية ومجبور على العمل في نطاقها واعتماد أدواتها في نشاطه السياسي (الحزب والتعبئة الجماهيرية والمشاركة السياسية.... كلها من أدوات الدولة الحديثة). هذا يعني أن الدولة الحديثة هي كـ"القدر" بالنسبة إلى الإسلام السياسي (لا مفرّ منه إلا إليه). وقد بيّنت التجربة الداعشية، بوضوح، النتائج الكارثية التي تنجر عن أية محاولة لبناء كيان سياسي خارج عن منظومة النظام الدولتي الحديثة

أنس الطريق: يعتبر عدد كبير من الدارسين أنّ الدولة في العالم العربيّ كانت مساهما فاعلا في تغذية وجود الإسلام السياسيّ بأطروحته الدينيّة والسياسيّة المحافظة؛ وذلك سواء بتدخّلها في الشأن الدينيّ، والعمل على تعميم خطاب ينشر حالة وعي دينيّ مناسبة لاستمرار مشروعية أطروحات الإسلام السياسيّ، أو بقمعها لهذا الفكر الذي يجد صدى واسعا لدى الجماهير، أو بمخاتلتها في تطبيق وعود الديمقراطيّة. ألا يمكن أن يؤدّي على المستوى العملي، القران النظري بين الدولة والعلمنة، إلى أن يستمرّ هذا الدور للدولة في ممارسة هذه العلمنة المشوّهة؟

سهيل الحبيّب: في تقديري، لم يعد بمقدورنا اليوم أن نطرح أسئلة على هذا المنوال التعميمي، فقد بيّنت مجريات هذه العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين الحبلى بالحراكات والمتغيّرات أنه من الصعب الحديث عن "تجربة الدولة في العالم العربي" بصيغة المفرد. ثمة في العالم العربي المعاصر تجارب دولتية عديدة ومختلفة ومتباينة تنوعت فيها سياسات التعامل مع الشأن الديني وذهبت مذاهب شتى، وتنوعت فيها كذلك سياسات "الهندسة" الاجتماعية والثقافية (بين المحافظة على البنى التقليدية والتحديث) بما ينعكس مباشرة على مضامين التديّن وأنماطه. فهل يمكن التسوية بين تجربتي السعودية وتونس أو موريتانية ولبنان أو المغرب والسودان ...؟ وحتى تجارب الإسلام السياسي تثبت الوقائع والحقائق الراهنة أنها ليست متجانسة، بما في ذلك تجارب التنظيمات التي تنحدر تاريخيا من السلالة الإخوانية (تنظيم الإخوان المسلمين العالمي). فلقد بتنا اليوم نتساءل ما الذي يجمع اليوم مثلا بين حركة النهضة في تونس والتجمع اليمني للإصلاح وحزب العدالة والبناء في ليبيا وحزب العدالة والتنمية في المغرب... إلخ؟ أعتقد أننا في حاجة إلى النظر في التجارب القطرية منفردة، واستخلاص نتائج دقيقة في العلاقة بين التجربة الدولتية وسياساتها الاجتماعية والدينية والثقافية من جهة، وطبيعة التنظيمات السياسية الإسلامية التي تظهر في سياقها وتحولات خطاباتها وسياساتها.

أنس الطريق: في لعبة الدولنة والأسلمة التي يراها بعض الدارسين آيلة لتهذيب معاداة الإسلام السياسي للدولة، وإدراجه تدريجيّا في منطقها، ويرى غيرهم أنّ مصيرها أن تطوّع الدولة، وتغيّر نموذجها في اتجاه التخفيف من علاقتها الحدية بالإسلام السياسي، خصوصا مع تزايد الحديث عن نهاية صلاحية نموذج الدولة القوميّة. ما هو استشرافكم الذاتي في هذا الموضوع، وسط الحديث عمّا بعد إسلامويّة، وعمّا بعد الدولة الأمّة؟

سهيل الحبيّب: لي مشكلة كبيرة مع مقولات "ّالما بعد" و"الما قبل"، خاصة حينما تُسحب على سياقات تاريخية غير متجانسة. مقولة "ما بعد الدولة الأمة" مطروحة في سياقات مجتمعات لها تاريخ عريق في تجربة الدولة الأمة الحديثة. وحينما تطرح في مجتمعاتنا العربية الإسلامية التي مازال فيها هذا المطلب عزيز المنال تشرع موضوعيا لمقولة ما قبل الدولة الأمة الحديثة، وهي عمدة إيديولوجيا الإسلام السياسي كما أسلفنا. ولعل المفارقة في رؤيتي الشخصية هو أنّني أذهب إلى أنّ مرحلة "ما بعد الإسلاموية" في البلدان العربية؛ أي ما بعد الحركات الإسلامية ذات المضامين الإيديولوجية التي تشكّلت في القرن الماضي، هي مرحلة تحوّل هذه البلدان إلى دول أمم مواطنية ديمقراطية. وإذا وُجدت حركات تنسب نفسها إلى "الإسلام السياسي" في مثل هكذا دول، فإن مضامين إيديولوجياتها لن تكون، في تقديري، هي عينها التي صاغها البنّا وقطب والترابي والغنوشي وغيرهم، اللهم إن كانت حركات هامشية ومعزولة على شاكلة الحركات الجهادية اليوم. من هذا المنطلق، يبدو لي أن المستقبل في المنطقة العربية سيكون لمنطق الدولنة، (بمعنى الدولة المواطنية الديمقراطية) لا لمنطق "الأسلمة" (بالمعنى الإيديولوجي الإسلاموي).