في الإعلام الديني


فئة :  مقالات

في الإعلام الديني

تعبير "الإعلام الديني" عموما، وفي المغرب على وجه التحديد، تعبير غير دقيق، أو لنقل إنه يعبر عن الظاهرة، ظاهرة الدين، ولا يعبّر عن المجال، مجال الإعلام. التعبير يحتكم إلى المرجعية، أكثر ما يرتكز على الصفة أو الطبيعة أو الوظيفة. الإعلام هو في البداية وفي النهاية إعلام، بمعنى أنه بصرف النظر عن الحامل والمحمول (أعني المضمون)، فإن الرسالة تبقى هي نفسها، لا تتغير، اللهم إلا لربما على مستوى الاختلاف الذي قد نلحظه بخصوص الجمهور المستهدف، أو الجهة التي ينطق باسمها هذا المنبر الإعلامي أو ذاك.

ثمة إذن مشترك قار بين الخطاب الديني وباقي الخطابات فيما يخص "الأداة الإعلامية" المستخدمة. الخطاب الديني، كما الخطاب السياسي أو الثقافي أو الفني أو ما سواهم، يمتطون جميعا ناصية الإعلام، بكلّ أشكاله وأنواعه وحوامله، لترويج ونشر ما يتوفر لديهم من معطيات أو أخبار أو معارف أو غيرها. ليس ثمة منبر خاص بهذا أو منبر خاص بذاك. لا بل حتى وإن بدا الحامل الإعلامي من طبيعة دينية ما، فإنه يبقى حاملا إعلاميا من زاوية المرسل والرسالة والمتلقي. إنه يبقى ضمن المجال المحيل عليه: مجال الإعلام.

من جهة ثانية، فإن الإعلام هو صورة المجتمع، في سكونيته كما في تموجاته. إذا كان هذا الأخير سليما، فإن إعلامه سليم، وإن كانت صورته متردّية، فلا يمكن أن يكون الإعلام غير ذلك. الإعلام في العالم العربي/الإسلامي مثلا، هو صورة تكاد تكون طبق الأصل لواقع ذات العالم، على مستوى الشكل كما على مستوى المظهر. إذ يعيش، بكل روافده المختلفة، حالة أزمة حقيقية، ووضعية ضعف بنيوية، متأتية من ضعف المضامين، وتردي مستوى المقروئية، واحتداد المنافسة الإلكترونية، وما سوى ذلك. الأزمة تطاول هنا كل روافد الإعلام، وضمنها قطعا ما يسمّى تجاوزا بالإعلام الديني.

بهذا الجانب، جانب الإعلام الديني، يبدو لنا أن وضعه المتردي هنا أو هناك، متأتّ بالأساس من مكانة ووظيفة الدين نفسه، والمستويات القائمة عليه بالشكل والمضمون. المجال الديني بمعظم البلدان العربية/الإسلامية هو حكر على السلطة بهذه الصيغة أو تلك. هي صاحبة الأمر والنهي فيه، توجيها وإرشادا وإفتاء واجتهادا، ولا سبيل بالتالي، لما سواها من مستويات، فردية أو جماعية، أن تزايد عليها في هذا المعطى الجوهري، الذي بات معطى ثابتا.

صحيح أن ثمة جماعات دينية لا ترتضي هذا الاحتكار، وتزايد على السلطة بهذا الخصوص، من خلال منابر لها بشبكة الإنترنيت أو من خلال الفضائيات العابرة للحدود، لكنها لا تستطيع بأي وجه من الوجوه أن تثني السلطة عن "ترك الدين"، أو أن تدفعها إلى أن تتقاسم معها المجال المحيل عليه. صحيح أيضا، أن الطفرة التكنولوجية قد وسعت من فضاء "التعبير الديني"، وفسحت في المجال واسعا أمام الدّعاة، لكن الطفرة إياها لم تستطع النيل كثيرا من "الخطاب الديني الرسمي" المحتكم على الشرعية وعلى شبكة من المساجد والحسينيات محكمة التسيير والمراقبة...

لذلك، فقد يتفهّم المرء شيوع أكثر من منبر رسمي، يتناول الدين وفق هذه المرجعية أو تلك، لكنه من غير الممكن العمل من خارج المنظومة، اجتهادا أو تطلعا للاجتهاد، ليس فقط على الواجهة الإعلامية، بل وأيضا بجهة البحث الأكاديمي الصرف. حتى منابر الأقلّيات المذهبية المتواجدة بهذا البلد الإسلامي أو ذاك، لا تستطيع المجازفة بالتصادم مع السلطة، حتى وإن سمح لها أو تم التغاضي على سلوكها في الترويج لمذهبها أو لتصورها الخاص.

بيد أن الملاحظ، منذ أحداث الحادي عشر من شتنبر تحديدا، وانتشار العمليات الإرهابية التي قامت هنا أو هناك باسم الدين، هو أن الإعلام، الرسمي وغيره، قد بات محتاطا من التعرض لما قد "يسقط في المحظور"، وبات على قناعة شبه تامة، بضرورة أن تكون الدولة، مباشرة أو عبر هيئاتها، هي المحتكر الرئيس للدين.

الحاصل في النتيجة أن المجال الديني أضحى مجالا مغلقا، يشبه في وضعه وضع السوق الذي يفتقر إلى جرعة في المنافسة تغذيه وتمنح المرء سبل الاختيار. بالتالي، فحتى وإن بدا لنا أن ثمة منافسة ما، على الأقل فيما تقدمه الفضائيات الدينية، فإن التربة المشتغل عليها لا تختلف، تماما كما لا تختلف مواصفات المحصول.

لو سلّمنا بأن المجال محتكر ومغلق، فإننا قد نسلم أيضا بالقول بأنه ليس من المطلوب في الإعلام أو في الإعلاميين أن يكونوا من علماء الدين أو من الخطباء المفوهين. المطلوب أن يقدموا مادة إعلامية "مشتغل عليها" بجدية ومهنية وحرفية، لا تنفر الجمهور أو تعمل على زعزعة قناعاته، بل تقدم له المادة الدينية في ظل إخراج مميز وثوب لائق، وهو لربما ما فشل فيه الإعلاميون، ونجح فيه الدعاة، لا سيما الشباب ضمنهم.

قد يكون بهذا الرأي بعض من الوجاهة. لكن الثابت حقا، أن الفعل الإعلامي المرتكز على المادة الدينية كمضمون، يبقى محكوما بطبيعة المجال ذاته، وهو مجال المزاوجة بين فائدة المادة وجمالية الإخراج، دع عنك حقيقة أن المادة المروجة تهدف لخدمة هذه الجهة أو للطعن في تلك. إذا اختل عنصر من عنصري المعادلة، اختلت المعادلة برمتها. لذلك، فإن المرء قد ينفر من مضامين فضائية "شيعية" حتى وإن كان إخراجها جيدا، وقد يستلطف مادة مقتنية لفضائية "سنية" حتى وإن كان إخراجها متواضعا والعكس بالعكس.

ثم إنه بصرف النظر عن طبيعة المعادلة إياها ومدى قدرتها على صناعة "إعلام ديني" جاد ومهني، فإن إحدى نقط ضعف المنابر الإعلامية، المتخذة من الدين مادة ومضمون تحليل، تبقى في غالبيتها العظمى، محكومة بالسياق الذي تعتمل من بين ظهرانيه: هي بالتالي مادة ذات طبيعة أبوية، إرشادية، توجيهية، وبخلفية خطاب عمودي، تستبطن فكرة أن الجمهور المستهدف لا يفقه شيئا في الدين أو لا دراية لديه عن أهم شعائره وقضاياه. وهذا تجاوز، إذ حتى لو سلمنا بعدم قدرة المتلقي على استساغة المقاصد أو فهمها، فإنه، في غالبيته العظمى، مدرك لحدوده، ومتمكن من طقوسه وممارساته.

إن زمن حديث الإعلام في مبطلات الصوم والصلاة، أو طرق الاغتسال أو الوقاية من النجاسة، قد ولى. الجمهور، في زمننا الحاضر، بحاجة إلى الدين كعنصر تجنيد لمحاربة التخلف والفساد، وإشاعة القيم الحميدة والأخلاق السامية. إنه بحاجة إلى الدين كمرشد للسلوك اليومي مع الذات ومع الآخرين. وهذا ما قد نجده ببعض المنابر، لكن بصيغة الأمر والنهي، لا بصيغة النصيحة وتبيان الضرر.

صحيح أن المنابر الإعلامية لا تستطيع أن تتحدث إلا فيما يشار عليها به أو يسمح لها بإثارته. لكنه بمقدورها أن "تجتهد" في المقاربة وبزاوية المعالجة. صحيح أيضا، أن القضايا الدينية ذات وضع خاص، كونها تخاطب القلوب قبل العقول، لكن هذا لا يستثني إمكانية هذا الإعلامي أو ذاك لاستحضار روح النص وتطويعه بما يخدم واقع الناس وحياتهم اليومية.

الإعلام في منطوقه وفلسفته، مجال حرية في التعبير والتفكير والرأي. لذلك، يبدو لنا من الغبن حقا أن يكون الإعلام الديني، وهو فرع منه، مستثنى من ذات الامتياز بالجملة أو بالتفصيل...