قراءة في السياسي لدى جاك دريدا: المُتخيل العائلي والفكر الأخواتي


فئة :  مقالات

قراءة في السياسي لدى جاك دريدا: المُتخيل العائلي والفكر الأخواتي

قراءة في السياسي لدى جاك دريدا:

المُتخيل العائلي والفكر الأخواتي

 

عبد الرحمان أبو عابد

تُنسب العبارة اليونانية الشهيرة “o philoi, oudeis philos” لأرسطو، وهي المدخل الذي سَلكه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا Jacques Derrida ليقدم عبره قراءته للسياسي في التاريخ الفلسفي الأوروبي وتمظهرات ذلك في الواقع السياسي للمجتمعات الأوروبية المعاصرة، وتعني العبارة بالعربية: «أواه يا أصدقائي، لا يوجد صديق». وأتتبع في هذا المقال قراءة دريدا لهذه العبارة للإحاطة بمفهوم السياسي وشبكة المفاهيم الرديفة لديه بمعية كتاباته حول السياسة فيما عرف بالمنعطف السياسي والأخلاقي لمسيرته الفكرية في الثمانينيات والتسعينيات، ومنها مقالته الشهيرة بعنوان "Politics of Friendship" بالإنجليزية، وبالعربية «سياسات الصداقة»، والتي يفكك فيها تناقض عبارة أرسطو ويحاول خلخلة المتقابلات التي بُنيت عليها جماعية الجماعة في الدولة الأمة في أوروبا عبر متخيل العائلة والأصل الواحد، ومتخيل الصداقة والأخوة الذي بُنيت عليه الممارسات السياسية في العملية الديمقراطية المعاصرة، من ثم تقصي الطريقة التي تُرجمت بعد ذلك إلى قوانين ثابتة وممارسات عملية ومراسم عديدة جعلت من متقابلات مثل (الصديق والعدو) أساسًا ناظمًا للسياسي، بل ومتقابلة طبيعية في الأنظمة الديمقراطية في الدول الغرب أوروبية والشمال أمريكية وتستمر في توليد معنى للممارسات السياسية داخليًا وخارجيًا فيها.

بالطبع وجريًا على نمط قراءته المعتاد، لا يحاول دريدا الخروج عن الأطر التي يفككها؛ لأن الخروج يعيد خلق الإشكالية التي يحاول تجاوزها في عملية صناعة لميتافيزيقا حضور جديدة، لكنه يعمل بجد دائمًا لنزع طبيعانية (من طبيعي) هذه المفاهيم ليعيدها لحلبة النقاش مع كل ما تحمله هذه العملية من توتر وإثارة، وسنرى كيف تحلم الديمقراطية معه بواحدةٍ أفضل. سأعتمد على النصوص الإنجليزية المُترجمة من الفرنسية في قراءة السياسي لدى دريدا، وكافة الاقتباسات المذكورة من ترجمتي وسأشير إلى خلاف ذلك.

يظل جاك دريدا من أهم فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين سواء لدى معتقديه أو منتقديه، وهو وريث أهم فلاسفة النصف الأول من نفس القرن مارتن هايدجر. ولد في دولة الجزائر أبان الاستعمار الفرنسي لأسرة يهودية عام 1930، ثم هاجر إلى فرنسا في بداية شبابه بعد أن أنهى دراسة الثانوية في الجزائر، ثم انتقل لدراسة الفلسفة في باريس، كانت بداية عمله البحثي في حقل الفيمنولوجيا إذ تناولت أطروحته للدكتوراه الفيمنولوجي إدموند هوسرل Edmund Husserl إلا أنه لم يُكملها، وكتب عدة مقالات عن الموضوع وترجم بعض أعمال هوسرل إلى الفرنسية.

ركّز في بداية أبحاثه على فعل الكتابة في الفلسفة الأوروبية من أفلاطون وصولًا لهوسرل، وظل على ذلك وصولًا إلى مؤلفه La voix et le phénomene، وهي دراسة عن الفيمنولوجي هوسرل، ثم كتابه الثاني L’écriture et la différence هو عبارة عن مجموعة مقالات عن كلاود ليفي ستراوس، وميشيل فوكو، وإيموانويل ليفانس. وأخيرًا، وربما كتابه الأشهر حول علم الكتابة De la grammatologie، والذي أدخله للفضاء العالمي للفلسفة، لكن من الضروري هنا لفت الانتباه إلى أن الصدى الكبير الذي لاقاه دريدا لم يكن في فرنسا، بل التلقي الأنجلوسكسوني الأمريكي الذي نجمَ عن ترجمة كتاباته إلى الإنجليزية هو من ضمن له مكانًا في الفضاء الأكاديمي الأمريكي إلى اليوم، هناك ذاع صيته وأصبح نجمًا بمعنى النجومية التي يلاقيها نجوم موسيقي الروك أو حتى لاعبي البيسبول في الولايات المتحدة، وهو أمر نادر الحصول لفيلسوف؛ فالرجل أنتج عنه فيلمين وعدة أغاني ناهيكم أنه دخل معاجم المعمارين ومصممي الأزياء، وأصبح مصطلح التفكيكية متداولًا في الأوساط الغير أكاديمية بشكل مُلفت للنظر، وعلى شهرته ظلت كتاباته مُحاطة بهالة من تعسر الفهم وهو أمر مثير للاستغراب، فالكل تناول التفكيكية ككلمة سر فقط لعالم جديد أكثر تمردًا، وأصبحت هناك العديد من الكتابات حول كتابات دريدا لتسهيل عملية وصول الناس إلى أفكاره.

ومن أبرز الأسباب وراء تعسر قراءة كتابات دريدا هو أسلوبه في الكتابة الذي يستعصي معه الفهم السريع في ظل التداعي المستمر للأفكار والتنقل الخاطف في شبكات فكرية مختلفة، وهذا يتماشى مع فلسفته، دع عنك أنه يحاول دائمًا تفكيك المتقابلات كما نعرف، وأهم متقابلة في الفلسفة الأوروبية منذ اليونان القديمة هي المحاورة في الكتابة التي انتقلت من الشفاهية، وما يترتب على ذلك من طبيعة فهمنا وتعودنا على اللغة ومفهوم المؤلف وما يقصده أو لا يقصده.

بدأ منذ الثمانينيات ما بات يعرف بِالمنعطف الأخلاقي والسياسي لدى دريدا، وهو اعتقاد دارج لكنه غير صحيح؛ فكتاباته لم تكن يومًا غير سياسية، وكما قال يومًا: «لم يكن هناك يومًا في الثمانينيات ولا التسعينات ما يدعيه البعض بالمنعطف السياسي أو الأخلاقي للتفكيكية، على الأقل فيما أرى، لطالما كان التفكير في السياسي لدي هو التفكير في الاختلاف différance»[1].

ومنذ كتاباته الأولى وسؤال المعنى أو لنقل تعذر المعنى وسؤال الأخر والهامش والمسكوت عنه حاضرين في كتاباته، وهذان السؤالان سياسيان بامتياز، كما صاحب نشاطه الفكري نشاط سياسي في نصرة قضايا عصره مثل وقوفه ضد اعتقال نِلسون مانديلا مع مجموعة من المثقفين الفرنسيين، وموقفه من الثورة الجزائرية، ودعمه لحقوق السود في الولايات المتحدة وانتفاضاتهم المدنية، وموقفه تجاه الحق الفلسطيني والمسألة اليهودية في علاقتها بالصهيونية، إلا أن النجومية بالمعنى الإعلامي للكلمة واتساع رقعة جمهوره بالإضافة للتغييرات السياسية الهائلة التي شهدها خاصة سقوط الاتحاد السياسي وغلبة الولايات المتحدة على الساحة الدولية وبداية ما سُمي بالحرب على الإرهاب، جعل تركيزه ينصب أكثر فأكثر على أسئلة يومية مثل سؤال الديمقراطية والحقوق المدنية، والتعددية داخل المجتمع الواحد والثقافة الواحدة، دع عنكم الاختلاف بين المجتمعات والثقافات المختلفة.

يأتي على رأس المفاهيم الرئيسة التي يمتلكها دريدا في عدته البحثية، والتي علينا التعريج عليها لنتعرف على مدخله السياسي مفهوم ميتافيزيقا الحضور خاصة لكونه يدخل في سياحة نقدية مع الفلسفات الأوروبية منذ أفلاطون وصولًا للقرن العشرين، وعلى رغم من التعقيد الهائل الذي نقرأه لدى الكثير ممن يكتبون عن هذا المفهوم أسوة بكتابة دريدا، إلا أنه واضح إلى حد بعيد إلا إذا أردنا نكون دريدائين، ففي هذه الحال وخاصة مع نقد دريدا لفعل القراءة نفسه كونه يبحث هو الآخر عن حضور، بمعنى أنه يحاكم النص أو يفتش بداخله عن جوهر ومعنى ثابت.

الميتافيزيقا فرع من الفلسفة تسعى لِمُوقعة جوهر أو أساس للواقع متجاوز له؛ أي خارج العالم الحسي التجريبي، وهذه المُوقعة ناجزة، ويظل المثال الكلاسيكي لهذا هو مثالية أفلاطون. إلا أن هذا النقاش سيأخذ منحى جديدًا مع دريدا فهي أوسع من التعريف الكلاسيكي، من ناحية أن الفلسفات الأوروبية منذ بداياتها وصولًا لعصره؛ أي تاريخها كله، كانت ميتافزيقية المسعى؛ لأنها تحاول أن تُموقع جوهر أو أساس واقع متجاوز لهُ، ويُسمى دريدا هذا الواقع المتجاوز (حضور)، وما يجمع الفلسفات الأوروبية على تعدد مشاربها هو هذا السعي: أن تصنع حضورًا نقيًا كاملًا ناجزًا تُحاكم من خلاله الواقع، وهذا الحضور يصاحبه مكانية وزمانية معينة بطبيعة الحال، الأمر الذي يقودنا للنقطة الثانية حول آلية عمل واشتغال هذه السعي، إذ يرى دريدا بأن هذا تم تاريخيًا من خلال متقابلات، الأول يؤكد الحضور والثاني ينقضه ومن أشهر هذه المتقابلات: المثالي دائمًا متعالي عن المادي، والنفس عن الجسد، والذكوري عن الأنثوي، والمركز عن الهامش.

الآن نأتي للنقطة الثالثة في ميتافيزيقا الحضور، وهي اللااستقرار أو التوتر الكامن أبدًا في الحضور، إذ على الرغم من السعي الدائم للفلسفات الأوروبية على تأكيد حضور ما أيّا كان شكله، فإن هذا الحضور ليس ثابتًا ومستقرًّا، فهو أبدًا متغير ومتحرك، فالحضور عينه ليس سوى سلسلة من تغيرات وإزاحات مستمرة، بل هو أثر وركام هذه التغيرات فهو وليدها وفي نفس الوقت مولّد لشبكة من الدلالات وهكذا إلى ما لا نهاية، فلو عدنا للأمثلة السابقة من المتقابلات مثل تفّضيل الذكوري على الأنثوي، يصبح الذكوري نفسه غير ناجز ونهبًا لتغيرات داخلية دائمة وتفضيله على الأنثوي وليد شروط تاريخية دائمة الحركة وقابلة للتغيير. إن هذا اللاستقرار أو التوتر الدائم هو ما سيتضح معنا أكثر عند تناول مفهوم الصداقة في التقليد الأوروبي. ويلتفت دريدا، بل ويؤكد عند تفكيكه لـ «تاريخ الصداقة»[2] بأنه خاص فقط بالدرس الفلسفي الأوروبي، بالطبع يأتي هذا انسجامًا مع مجموعة أفكاره التي ما فتئ ينتقد فيها الخطاب الأورومركزي الذي ينبع من متقابلة نحن وهم.

يقتبس دريدا عبارة «أواه يا أصدقائي، ما من صديق» من مونتين الذي يقتبسها عن أرسطو، ولا ينتهي دريدا بهذه العبارة إلى أصل مؤكد بل يقول: «يبدو أن هذه العبارة سليلة زمن سحيق.»[3] بالطبع ينطلق فيلسوفنا كعادته من قرار واع بتناول هذا العبارة، واقتباسه لاقتباس مُقتبس، ويطرح سؤال المسؤولية المفروضة عليه من هذا الجانب؛ كونه متلقٍ لهذا الاقتباس، وهي نفس المسؤولية الملقاة على كتفه كأوروبي ورث هذا الدرس منذ أرسطو، لا فقط في الفلسفة بل في السياسة أيضًا، بل بالضرورة في السياسة؛ فمسعاه في فهم تاريخ مفهوم الصداقة هو مسعى لفهم السياسي أوروبيًا.

ويرى بأننا نرث كل أشكال الحكم المتعددة التي عرفتها أوروبا مذ كانت، سواء وافقنا أو عارضنا شكل معين فهذا لا يهم، كما أنه يرث تاريخ انتقال مفهوم الصديق الذي أدى لاحقًا لنشوء مفهوم الدولة القومية والحقوق المدنية وفق علاقة مثلية جنسيًا - كما سنوضح لاحقًا - تفتقت عن مفاهيم الصديق والصداقة والأخ والاخوية. على الرغم من تعدد المفاهيم التي نحتها دريدا إلى أنها تعمل جميعها كبينة تحتية واحدة لجميع أفكاره، فما ينطبق على مجال واحد ينطبق على مجالات أخرى عديدة، وهي تسعى دائمًا لخلخلة آليات توليد المعنى عبر المتقابلات وعبر التسليم بطبيعانية (من طبيعي) بعض المفاهيم المؤسسة.

من أهم سمات التفكيكية خلخلة أو نزع طبيعانية المفاهيم، وهذا بالضبط ما يفعله في بداية تفكيكه لمفهوم الصداقة، إذ يرى جاك دريدا بأن هناك العديد من المسلمات التي تُبنى عليها الدولة الأمة الحديثة ولا يتناولها النقاش السياسي الحالي، خاصة النقاش التصحيحي، ومنها مفهوم الصداقة - لاحقًا سنرى بأن الصديق سيتحول إلى أخ – الذي ورثته فرنسا عن الرومان من ثم الكنيسة وبني عليها لاحقًا المفهوم، أو دعنا نقل المتخيل الذي يخلق جماعية الجماعة من خلال حقل من الدلالات سيُسميه دريدا حقل ذكوري (فحولي) عائلي، حتى إن مفهوم أمة nation يحيل إلى هذه العلاقة العائلية، وهذا الحقل معطى مسبق، سواء وعى به الفرد أم لم يعه عند حمله لمواطنة دولة معينة أو هوية ثقافية معينة، ويترتب عليها بالطبع العديد من الامتيازات أو الإقصاءات، والأخيرة هي ما تهم دريدا بالدرجة الأولى.

إن الإشكال في هذا المفهوم مزدوج، بمعنى أن تطلب من صديقك/أخيك أن يتصرف مثلك وبشكل يتماشى مع قيم العائلة، إن جاز التعبير، ومع الآخر (العدو) الذي يكون خارج عائلة، يذكرنا هذا بالمثل العربي الذي يكشف لنا خصوصية «عصبية» بلغة ابن خلدون: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.» ولكن في حين أن لدينا ثلاثية تتولد من هذا المثل الشعبي، يرى دريدا أن السياسي يتولد من متقابلة الصديق والعدو، ويناقش موقف كارل شميت الذي حاول أن يؤسس للسياسي على مفهوم العدو لا الصديق، فيكتب دريدا: «إذا ما كان شميت يؤسس للسياسي على العدو لا الصديق... ويعتمد هو على جدلية، فدعونا لا ننسى بأننا نعرف الصديق فقط من خلال العدو.»[4]

إن مفهوم الصديق والصداقة يتحول في الثقافة الأوروبية إلى مفهوم الأخ والأخوية كما أسلفت؛ وذلك عبر حركة تاريخية طويلة ومخيلة ممتدة تبدأ من أرسطو، وهو أمر طال بضلاله العديد من المساحات الفكرية، منه المساهمة في إقصاء النسوي من السياسي بشكل مزدوج عبر زعزعة الصداقة بين الإناث أنفسهن، والصداقة بين الإناث والذكور، وحصر مفهوم الصداقة بين الذكور وحسب، وهنا ولد مفهوم (الأخوة) الذي تفتق عنها سلسلة طويلة من الجمعيات والأخويات والجماعات السرية والعلنية التي يبدأ اسمها بأخوية كذا، وهذه الحركة داخل المتخيل العائلي للدولة الأمة تحيل إلى علاقة مثلية جنسية فاعلة سياسيًا وفق قراءة دريدا الفرويدية للبرادايم السياسي الأوروبي[5]، أي إن المعنى السياسي المتولد سليل علاقة بين ذكور، من هنا ووفقًا لقراءته نستطيع أن نفهم أحد جوانب غياب فاعلية المرأة السياسية ونفهم ثنائية الفضاءين: العام للذكور والفضاء الخاص للإناث.

يرى دريدا بأن المتخيل السياسي الحالي (الأخواتي) يترتب عليه العديد من حالات الإقصاء سواء داخل المتخيل العائلي أو خارجها، ويأخذ هذا المتخيل شكلًا آخًرًا حاليًا فهو لا يعلن عن نفسه في المجتمعات حيث تمت ترجمته إلى قوانين ومواثيق واحتفالات ومراسم...إلخ، بل هو حاضر كقانون وعرف بتواطؤ عام غير مُعبر عنه لكنه فاعل سياسيًا، ولكن بالطبع يقوم دريدا بعد تعرية هذه المتخيل بزعزعته أو بنزع مركزيته؛ لأنه ووفقًا للتفكيكية فهذه المركزية ليست معطى ثابت وطبيعي بل يشكو من توتر دائم، وفي نفس الوقت لا يحاول تجاوز هذا النمط الموجود ولا الخروج عنه لأن هذه الحركة تضمن السقوط في نفس الفخ، فهو يؤمن باللعب داخل نفس الأطر الموجودة سلفًا ولكن من خلال تعريتها وقلبها.

ففي حالة الدولة الأمة الحديثة التي بُنيت على المتخيل العائلي الذي يحيل إلى أصل واحد، والديمقراطية التي بُنيت على متخيل ذكوري أخواتي، يرى دريدا بأن نتحرك للجانب الآخر؛ أي نزعزع المركز بعد الكشف عنه، ويكتب عن مقاله: «إن كان لهذا المقال فرضية واحدة فهي بأن لا خيار أمامنا: علينا أن نقرر بدون أن نستثني، أن نقرر بدون أن نخترع تسميات ومفاهيم جديدة، أن نتجاوز العائلي والذكوري (الفحولي) ونستمر في اقتحام هذا المتخيل لنُحوله.»[6] ومع استمرار الاقتحام نستطيع أن نحلم بصداقة وديمقراطية تتجاوز المتخيل العائلي وشروطه الإقصائية المزدوجة داخلياً وخارجيًا، فالتفكيكية كما يُصّر تعمل دائمًا من الداخل «وتستعير الموارد الاقتصادية والاستراتيجية الهادمة من البنية الميتافيزيقية القديمة.»[7] وذلك لكي تنزع المركزية من الداخل وتدفعها بعيدًا عن مداها المنظور واحتمالها الأقصى، وفيها يتعلق بمفهوم الأخوية فنقوم بذلك من خلال نزع طبيعانية المفهوم «طبيعانية الأخ وسلطته ورصيده وكاريزمته... ألا يكون جوهري، أساسي، بعيد عن المتناول.»[8] وبهذا ننال الديمقراطية الهاربة أبدًا في شكلها المفارق والمؤجلة دومًا.

من النقاط الرديفة المرتبطة بمفهوم الأخوية والديمقراطية التي يناقشها دريدا، والتي أراها ضرورية للإضاءة على سؤال السياسي لديه من عدة زاويا، هو أن الديمقراطية بها «عيب خُلقي» منذ نشأتها لا يمكن حله بواسطة الترّقيع السياسي وهو المعنى، حيث يكتب: «ما ينقص الديمقراطية هو الفكرة.»[9] بالإضافة إلى مرض المناعة الآلية: فمن ناحية الديمقراطية «ترحب بالجميع شريطة أن يكونوا أخوة ومواطنين»[10] بمعنى الأخوة التي شرحناها من قبل، وتشير إلى اتبعانا إلى منظومة قيم وثقافة واحدة تقبل الحياة في فضاء واحد محدد وواضح الحدود (من نفي وإثبات) وتطرد من لا يلتزم بهذا، ولكن وفي نفس الوقت تعبر عن نفسها من صهوة امتلاكها لفضاء مفتوح لا يحده اختلاف أو تعدد، وهي تفعل هذا في نفس الوقت أحيانًا بدون أي شعور بالتناقض.

إن ما يريده دريدا وما يُسوّق له ليس ديمقراطية قادمة موعودة (ديمقراطية المثال) بل استخدام جديد للديمقراطية نفسها الحالية، ديمقراطية بالفعل متاحة للجميع، بدون إقصاء وبدون المتخيل العائلي والأخوي، هي ديمقراطية تعيد فهم معنى الصداقة والصديق على متغير دائم نابع من متغير الثقافة لكل فرد منا، من حيث إن الثقافة ليست التعريف الأول والناجز لهويتنا؛ فالثقافة نفسها كما يقول وليدة عُلق ثقافية أخرى تشمل بالضرورة الآخر، فيكتب في أحد كتبه بأن ثقافة الأنا هي ثقافة الآخر[11] بالضرورة، فلا يوجد أصل واحد مُولّد لثقافة ما، واعترافنا بهذا يرفع عنا علة تغريب «otherness» الآخر، لأنه جزء منا أولًا وأخيرًا، هذا هو حلم دريدا السياسي.

يتضح معنا عند مناقشة موقف دريدا السياسي ومحاولة فهمه في إطار مجموعة من كتاباته الرئيسة في المجال، أن مسعاه الدائم هو تعكير صفو المتقابلات التي تحاول توليد المعاني في السياسي والثقافي وتتخذ لنفسها مكاناً طبيعياً، يتجاوز المساءلة أو المناقشة، ومنها الفاعلة سياسيًا المحددة لشكل الممارسات السياسية، بل وشكل القوانين والمراسم والأعراف داخل الثقافة. يحاول دريدا بعد تعرية هذه المتقابلات أن يخلخلها مثل مفهومي الصداقة والأخوة، الذي ولّد المخيلة العائلية الحاكمة للدولة الأمة الحديثة، والناظمة للسياسي في هذه الدول على عدة مستويات. ورأينا كيف يحلم دريدا بصداقة (ديمقراطية) جديدة لا يطالب فيها الصديق من صديقه أن يماهيه ويبايعه على كل شيء، وإلا فهو عدو وآخر، بل يقبله كما هو باختلافه، لأن التفكير في المتشابه، كما يلُح دريدا دائمًا، هو التفكير في الاختلاف وبالاختلاف، والتفكير في الأنا هو تفكير في الآخر.

 

المراجع:

Derrida, Jacques. "Politics of Friendship." American Imago 50, no. 3 (1993): 353-91

Derrida, Jacques. Of Grammatology. trans. Gayathri Chakravarty Spivak. Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 1997.

Derrida, Jacques. Politics of Friendship. trans. George Collins. New York: Verso, 1997

Derrida, Jacques. Rogues: Two Essays on Reason. trans. Pascale-Anne Brault and Michael Naas. Stanford: Stanford University Press, 2005

Derrida, Jacques. The Other Heading: Reflections on Today’s Europe. Bloomington: Indiana University Press, 1992

www.jstor.org/stable/26303875

[1] Jacques Derrida, Rogues: Two Essays on Reason, trans. Pascale-Anne Brault and Michael Naas (Stanford: Stanford University Press, 2005),24

[2] Jacques Derrida. "Politics of Friendship." American Imago 50, no. 3 (1993): 353-91. 385

www.jstor.org/stable/26303875

[3] Ibid. 353

[4] Ibid. 375

[5] Ibid. 384

[6] Jacques Derrida, Politics of Friendship, trans. George Collins (New York: Verso, 1997), 158–9. My translation.

[7] Jacques Derrida, Of Grammatology, trans. Gayathri Chakravarty Spivak (Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 1997), 24. My translation.

[8] Jacques Derrida, Politics of Friendship, trans. George Collins (New York: Verso, 1997), 195

[9] Jacques Derrida, Rogues: Two Essays on Reason, trans. Pascale-Anne Brault & Michael Naas (Stanford: Stanford University Press, 2005), 37

[10] Ibid, 63.

[11] Jacques Derrida, The Other Heading: Reflections on Today’s Europe (Bloomington: Indiana University Press, 1992), 9–11