قراءة في كتاب "الإسلام والدولة" للمفكّر السوداني النيل عبد القادر أبو قرون


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب "الإسلام والدولة" للمفكّر السوداني النيل عبد القادر أبو قرون

تمهيد:

يُعدّ كتاب "الإسلام والدولة"[1] للمفكّر السوداني النيل عبد القادر أبو قرون[2] من أكثر كتب هذا الباحث إثارة للجدل والنقاش؛ لما تضمّنه من جرأة في القراءة وصراحة في المناقشة والاستنتاج لم يسبقه إليها مفكّر من داخل الحضارة العربيّة الحديثة، إلاّ وكُفّر أو رُميّ بكلّ كبيرة أو أُدخل محاكم التجريم.[3]

والكتاب صادر عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر سنة 2010، وهو يتكوّن من مفتتح واثني عشر فصلاً تُعالج قضايا على علاقة وطيدة بأمور الدعوة النبويّة والدولة ومُستلزماتها وما أثارته هذا القضايا من إشكاليات. أمّا عناوين هذه الفصول، فقد قام أغلبها على الاستفهام الذي يبغي صاحبه منه المراجعة أو التفكير في مسائل طرحت قبله مراراً وتكراراً من قبيل:

-دين الإسلام أم دين المسلمين؟

-دولة أم دعوة؟

-ما حكم الله؟

-مرجعيّة دينيّة أم حكم سياسي؟

-دولة من أجل الدين أم دين من أجل الدولة؟

-دولة مدنيّة أم دينيّة؟

-من هم الذين آمنوا؟

وإذا كان هذا الباحث السودانيّ قد اشتهر بكتابه "نبيّ من بلاد السودان" الذي قدّم فيه قراءة مُغايرة لقصّة فرعون وموسى تشذُّ عن المعهود من القراءات، فإنّه في هذا الكتاب يُلامس موضوعاً جوهريّاً حارقاً في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وهو علاقة الإسلام بالدولة من نواحي مختلفة. فمن أهمّ الاستفهامات التي وقف عندها: هل يمكن القول إنّ الإسلام هو دين جاء لتكوين دولة سياسيّة محدودة أم هو دعوة إلهيّة للناس كافّة؟ وهل جاء ليلغي الديانات السابقة ويكفّر أصحابها أم جاء مصدّقاً لها؟ وهل يجوز إجبار الناس على الدخول في الإسلام بحدّ السيف، أم إنّ الإسلام جاء ليكفل الحريّات الدينيّة، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر؟ وإذا كان الأمر كذلك، فماذا عن "الفتوحات الإسلاميّة" أو "غزوات" النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ ثمّ من هم "الّذين آمنوا" الّذين خوطبوا مراراً في القرآن الكريم، وما الفرق بينهم وبين الّذين هادوا والنصارى والصابئين؟

ويقول ناشر الكتاب إنّ المفكّر السودانيّ الشيخ النيل عبد القادر أبو قرون قد نفض الغبار في كتابه هذا عن: "أربعة عشر قرناً من الأفكار والممارسات الّتي وجدنا عليها آباءنا وما تناقله السلف دون تمحيص، حتّى لو كانت نصوصهم المنقولة تطعن أحياناً في أخلاق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أو تشكّك في القرآن العظيم، مستنداً في حججه الدامغة إلى كتاب الله وعصمة نبيّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وبالتالي فإنّ من يقرأه سيشعر بمقدار أصالته، فهو لا يقلّد السابقين في تفسيراتهم، ولا يتقيّد بها، بل لا تجد في مادّته رجوعاً إلى مصادرهم في ما يخالف القرآن العظيم وعصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد يرى بعضهم في نصوصه حقائق صادمة، ذلك أنّ قروناً كثيرة مضت دون اجتهاد وتجديد، ولهذا فإنّ خير قراءة لهذا الكتاب هي أخذه بالمحبّة بعيداً عن التعصّب الأعمى والانغلاق والخوف".[4]

وقد انطلق الشيخ أبو قرون من مُسلّمة رئيسة في الإسلام، فحواها أهميّة الإيمان بالرسول ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وتصديق عصمته مُستنداً في ذلك إلى جملة من الآيات القرآنيّة من سورة لقمان وسورة الفرقان وسورة النحل وسورة العنكبوت، وكلّها تحثّ على اتباع النبيّ، لأنّ طاعته من طاعة الله، وهي طاعة تدلّ على سبيل الخير وتهدي إلى صراط مستقيم، لا سيما وقد بُعث ليُتمّم مكارم الأخلاق. بيد أنّه لا مجال للإكراه أو الإلزام في هذه الطاعة، لأنّ دين الله ليس ذلك المكروه الذي يُجبر عليه الإنسان ولا هو بالبغيض الذي يُدفع إليه دفعاً أو يُقاتل دونه ويستباح مال وعرض ودم من أعرض عنه، لذلك: "نجد هذا النهج الربّانيّ يصطدم بحديث ينسبونه لرسول الله ـ صلى الله وبارك عليه ـ وهو "أُمرت أن أقاتل الناس حتىّ يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وإن فعلوا هذا عصموا منيّ دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّ الإسلام وحسابهم على الله". فهل يمكننا تصديق من يقول إنّ النبيّ المعصوم ـ صلى الله وبارك عليه وآله ـ يقول أو يفعل ما يعارض ما أنزل إليه من ربّه أو يتّخذ نهجاً غير الذي أرسل به؟ وهل قاتل النبيّ ـ صلى الله وبارك عليه وآله ـ الناس لإجبارهم على الدخول في الإسلام؟".[5]

إنّ عدم الإكراه على الإيمان هي الحقيقة التي ينبغي التقيّد بها عند قراءة تاريخ الرسول وما فعله قبل فتح مكّة وبعدها، لا سيما أنّه لا توجد حادثة تاريخيّة واحدة تُروى عن إجبار الرسول لشخص على الإسلام أو عن النطق بالشهادتين.[6]

ويلفت الشيخ النيل النظر إلى أنّ نشر بعض الأحاديث النبويّة التي ينادي فيها الرسول بفرض الإسلام بحدّ السيف[7] فيها إساءة لنبيّ الإسلام ولنهجه، لذلك يرنو المؤلّف من خلال مراجعته الموروث الدينيّ المتّصل بطريقة قيام الدعوة وطبيعة تشكّل الحكم في بدايات الإسلام إلى تحريك سواكن القرّاء وزعزعة ركودهم الذي يصفه الشيخ أبو قرون "بالركود المصنوع"، في دعوة علمية للنقاش والحوار الهادئ مؤكداً أنه يقبل المُراجعة والتعديل.

إنّ جوهر الأطروحة التي يدافع عنها الشيخ أبو قرون قائمة على أساس أنّ الإسلام لم يأت لإقامة دولة، وأنّ الرسول محمد ـ صلى الله وبارك عليه وآله ـ لم يحمل هذه الرسالة ليُقيم حكماً. فالدعوة التي جاء بها النبي محمد - مثل دعوات غيره من الأنبياء والرسل- قامت على أساس البلاغ ولم تتعد حدود قوله تعالى: "وما على الرسول إلا البلاغ المبين".(العنكبوت، آية 18).

أمّا الاعتقاد بأنّ الدعوة لا تقوم إلا بالسلطان والسيف، فهو اعتقاد فاسد وفق فهم مؤلف الكتاب؛ لأنّه يبرهن عن ضعف في الإيمان ويخالف النهج الإلهي الذي ندب إليه نبيّه، ويكشف عن حبّ للسلطة مقيت نفاها الله عن رسوله. فغزوات الرسول كانت في أغلبها من باب الدفاع عن دينه وأهله ومن اتّبع ملّته، ويكفي تتبّع قصص غزوات بدر وأحد والخندق، لنفهم أنّ النبيّ لم يكن الغازي في هذه المعارك ولم يقاتل أحداً لفرض الإسلام.[8]

فماذا عن إقامة الدولة؟

إنّ إقامة الدولة وفق الشيخ "أبو قرون" لا علاقة لها لا بالبلاغ ولا بالرسالة؛ فالدولة تقوم على فرض سلطتها على الناس وبسط سطوتها واحتكار العنف وتقنينه، وهو إكراه يتنافى وروح الإسلام. وليدعم الباحث فكرته انطلق من قول الله تعالى: "إنّ الدين عند الله الإسلام."(آل عمران، آية 19) وقوله تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه."(آل عمران، آية 85). ليؤكّد: "أنّ الرسل كلهم - صلوات الله عليهم- ما جاءوا من عند الله إلا بالدين؛ أي الإسلام. فإذا كان الله ـ سبحانه وتعالى- يؤكد أنّ الدين عند الله الإسلام، فما جاء موسى إلا بالإسلام، ولم يؤسس دولة أو حكومة، ولم يكن حاكماً ولا أميراً، وعيسى ـ عليه السلام ـ كذلك، جاء بالإسلام مصدقاً لموسى ـ عليه السلام ـ وكتابه وما أنزل فيه من أحكام، ولم ينشئ دولة، وما كان ملكاً ولم ينصب نفسه حاكماً أو أميراً، وما أنزل الله فيه من أحكام" وقفّينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة."(المائدة، آية 48)، وقال "ما لله لله وما لقيصر لقيصر" ولم يسجل التاريخ عن دولة موسوية أو عيسوية أو دولة إبراهيمية أو دولة لوطية. وجاء محمد ـ صلى الله وبارك عليه وآله ـ بالإسلام مصدقاً "لما بين يديه من الكتاب" أي التوراة والإنجيل وما أنزل الله. ولهذا، فإنّ من لا يؤمن بهذه الكتب كما نزلت (...) فقد كفر بما أنزل على محمد ـ صلى الله وبارك عليه وآله ـ."[9]

لقد جاء خاتم النبيين مصدقاً لكل ما جاءت به الرسل "ومُهيمناً عليه"(المائدة، آية 48) والهيمنة في فهمالشيخ النيل لا تعني إلغاء ما سبق من تلك الكتب والديانات، وإنما تعني الوسع والشمولية لما تضمنته: "ليكون النبي الخاتم رسولاً لسائر الناس السابقين واللاحقين، لأن من آمنوا بتلك الكتب السابقة قد آمنوا بما تضمنه كتاب محمد ـ صلى الله وبارك عليه وآله ـ، فهم مسلمون من قبل بعثته"[10]. ذلك أنّ المسيحيّة لم تأت لإلغاء اليهوديّة ولا الإسلام المحمّديّ جاء لإلغاء المسيحيّة واليهوديّة، بل جاء مصدّقاً لما كان قبله من الرسل وكتبهم التي نزلت عليهم من الله.[11]

وإذا كان الرسل قد جاؤوا بالدين، وهو الإسلام كما ذكر الله ذلك، فهذا يعني أنّ الدين عند كلّ الأنبياء ما هو إلاّ شرائع وتعاليم جاء بها هؤلاء لبناء المجتمع الفاضل وتكريم الإنسان فيه من خلال إعطائه مكانته الحقيقيّة، بما أنّه المقصود من كلّ الرسائل، وله جاء كلّ هؤلاء الرسل. أمّا الإسلام، فهو خاتم الرسالات والمهيمن عليها حتى يعلم الجميع أنّ الدين واحد وأن لا عصبيّة فيه ولا صراعات، وأنّ الله أخذ في ذلك عهداً من كلّ الرسل على هذا وقد ذكر ذلك في القرآن: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ."(آل عمران، آية 81). لذلك تبدو العصبيّة الدينيّة الموجودة اليوم مُنتجة للبعد عن منهج الله القائم على: "الحبّ والمعرفة وحريّة الإنسان".[12]

أمّا المنهج القويم، فهو المنهج الذي اتّبعه رسول الأمّة يوم فتح مكّة عندما منح لأهل مكة الحرية وأطلق سراحهم بكل كرامة، فجاء ذلك تماشياً مع إرساء قواعد الإسلام وطاعة لله الذي بيّن بصورة لا لبس فيها أنّ الحُرّية مصونة إن كفر الإنسان أو آمن: "قل يا أيّها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين."(سورة الكافرون).

ويعتبر الشيخ "أبو قرون" أنّ ما حدث بعد وفاته ـ عليه السلام ـ هو التسلّط والظلم، إذ احتاج الحكّام لمن حولهم ليُجبروا الناس ويكرهوهم على المبايعة والطاعة بالسيف ولو كانوا أعلم الناس بالدين منهم، وقد يصل الأمر بالحاكم إلى التجسّس والتسوّر على الناس لغايات سلطويّة، ومن ذلك تلك الأخبار التي تنسب إلى عمر بن الخطّاب الذي تسوّر على جماعة يشربون الخمر في بيت فلمّا واجهوه بأخطائه "الإسلاميّة"، مثل التجسّس وعدم دخول البيوت من أبوابها ما كان منه إلاّ أن خرج وتركهم، فأضاف بذلك وفق هذه الرواية خطأ آخر هو عدم تنفيذ حدّ إلهيّ بيّن. كذلك ينسب إلى عمر نفيه نصر بن حجّاج من المدينة، لأنّه جميل الوجه خوفاً من فتنته النساء فيها، وهذا تسلّط لأنّ المكان الذي سينفى إليه لن يكون خالياً من النساء، ثمّ إنّ الجمال ليس عيباً وليس جريمة يستحقّ عليها العقاب، كذلك ينسب لعمر ضربه لرجل يمشي ببطء بالدرّة وقوله له لا تمت علينا ديننا، وهو عجيب لأنّ الرجل يمكن أن يكون مريضاً كما أنّ له أن يكفر وهو حرّ في خياراته. فالذي يرى قيام الدولة ليقوم بها الإسلام فقد عكس الأمر وخالف نبيّ الأمّة الذي نشر تعاليم الدين بمظهره الرحيم ورحمته للعالمين.

وبصورة عامّة، يرى الشيخ "أبو قرون" أنّ الحاكم في الدولة قد يخالف شرائع الإسلام إذ لا عصمة لحاكم ولا يمكن مطالبته بالعصمة من قبل الرعيّة، وما يصدر عنه لا يُعدّ سنّة تُتّبع، وعليه فإنّ الإسلام ليس هو الدولة والإسلام لا تحصره دولة ولا حدود جغرافيّة ولا يمكن بحال أن يمثّله رأس الدولة نتيجة مُبايعة الناس له: "ففي الإسلام كلّ فرد اختار الإسلام ديناً فهو مقيّد محكوم بما أنزل الله من الشرائع التي هي حكم الله، بل هو الذي قيّد نفسه بها وهي الحاكمة على الجميع والرقيب على الالتزام بها هو الله وحده (...) ولا قدسيّة فوقها - ملكاً كان أو أميراً – ولا يحقّ لأحد سنّ قوانين أو تشريعات تخالفها تنتقص من حرّيات الناس وحقوقهم".[13]

إنّ سبيل السلطة والدولة غير سبيل الدعوة والتبليغ، وبقدر ما تقاطع هذان الأمران في حياة الرسول بقدر ما اتّحدا بعد وفاته بعد أن: "انحرف بعضهم بالدين إلى غير مقاصده ووجّهه إلى إنشاء الدولة الدنيويّة والحكم السياسيّ."[14] لا سيما ما وقع في سقيفة بني ساعدة من جماعة: "نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فالحكم عندهم كان هو الأهم فاستبقوا إليه رغبة في السلطة والتحكّم في عباد الله".[15]

ولأنّ الدولة لا بدّ لها من تنظيم أو حزب سياسيّ، وهذا ليس من الدين في شيء، فإنّ هذا الحزب إذا كانت الغلبة له عامل من هم من أتباعه على أساس أنّهم مواطنون من درجة ثانية ونظر لهم بعين الريبة والشكّ، حتى إن كانوا من نسل النبيّ. وهذا يخالف عند الشيخ النيل سيرة النبيّ الذي فرّق في حياته تفريقاً جليّا بين الدعوة والدولة عندما عيّن على الجيش شاباً في العشرين من عمره، هو أسامة بن زيد، وجعل تحت إمرته أبا بكر وعمر والزبير وطلحة، حتى لا يقال فلان أرفع شأناً من فلان فهو يستحقّ الإمارة وفلان أتقى من فلان فهو أولى بالإمارة، فالتقوى محلّها القلب ولا يطّلع عليها إلاّ الله: "ولا ينبغي أن تكون سبباً للإمارة والتسلّط على خلق الله".[16]

أمّا من يرى أنّ الإسلام دولة لم يُكمل الرسول إنشاءها وتشكيل هرميتها ومؤسّساتها بسبب موته، فإنّه يتّهم الرسول ضمنا بالتقصير ويتّهم الله بعدم إكمال الدين، وهو القائل: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً."(المائدة، آية 3). والخطأ القاتل الذي يقع فيه البعض هو أن يظنّ أنّ من جاء بعد الرسول: "وأقام مؤسّسات الدولة له الفضل في توسيع الدعوة والرسالة."[17] إذ لا علاقة بين الدولة بمؤسّساتها المُختلفة (تعليم، صحة، مواصلات، اتّصالات، ...) وجغرافياتها المحدودة وصراعاتها السياسيّة، وبين الدين الذي لا يخضع للحدود ولا حياة له إلاّ مع الحريّة والإيمان السليم والفطرة الصحيحة، وشتّان بين الشأن الدُنيوي السلطوي وبين الشأن الروحي الديني، بين الإكراه وبين الحريّة بين القمع والظلم والهيمنة والإخضاع وبين الدين الذي محلّه القلب وشرطه الإيمان وجوهره القبول أو الرفض. ومن أجل إثبات ذلك عمليّاً يحلّل الشيخ النيل سيرة الخلفاء الأربعة بعد وفاة الرسول، ويكشف اختلافهم عن سيرة النبيّ في كثير من المواطن، واختلاف بعضهم عن بعض في السيرة وأسلوب القيادة وطريقة الاستخلاف أيضاً.

ويُخصّص الباحث الفصل الأخير من كتابه الموسوم بـ"من هم الذين آمنوا؟" ليدلّل من خلاله على أنّ المؤمنين المقصودين بالخطاب في القرآن هم اليهود والنصارى والمسلمون، وأنّ الإسلام جاء مصدّقاً للديانات السابقة ومدعّماً لها، وعليه فإنّ ما سُمّي بعد وفاة النبيّ بالفتوحات الإسلاميّة: "كلّه عدوان وعلى أصحاب دين أنزله الله إليهم عن طريق رسله الكرام موسى وعيسى عليهما السلام. وغطّت تلك الحروب الاستعماريّة بصائر الناس وعقولهم عن رؤية سماحة الإسلام وعظمته (...) وغيّرت صورة الدين الذي جاء به محمد ـ صلى الله وبارك عليه وآله ـ، وأصبح الطرح عكس ما جاء به الرسول".[18]

ويقيم الكاتب مقابلة صريحة بين رسالة النبيّ الذي جاء مصدّقاً للتوراة والإنجيل و"لإخوته" موسى وعيسى وبين أصحاب الفتوحات الإسلاميّة ـ أي الصحابة من بعده- الذين جعلوا العداوة والبغضاء بينهم وبين بقيّة الرسالات: "وسموّا أنفسهم بالمسلمين ليكفّروا أولئك المسلمين من أصحاب الرسالات السابقة التي صدّق عليها رسول الله ـ صلى الله وبارك عليه وآله ـ وعلى كتبها ورسلها وتعاملوا مع تلك الأمم المسلمة على أنّ أسماءها اليهود والنصارى أسماء كفريّة لا تشير إلى أنّهم مسلمون، وهكذا أخرجوهم من دائرة الإسلام (...) وجعلوا من الإسلام المحمّدي ديناً يناطح ما سبقه من دين الله ولا يعترف به".[19]

مرجعيّة الكتاب:

إنّ هذا التوجّه النقديّ للمفكّر السوداني النيل عبد القادر أبو قرون ليس توجّهاً يسلك فيه طريقاً غير مطروقة. فقد سبقه إلى ذلك بعض المفكّرين ممّن اختار مجادلة المسلّمات ومناقشتها، رغم مخاطر وطئها والسعي في مناكبها. ومن ذلك ما يؤكّده الباحث اللبناني رضوان السيد في كتابه "الأمة والجماعة والسلطة: دراسات في الفكر العربيّ الإسلاميّ"[20] من أنّ الإسلام لا يُقدم نظامًا سياسيًّا مُحددًا يقتضيه الدين، وإنما نشأ هذا الانطباع عند العامّة وحتىّ عند بعض الدارسين من التباسات تاريخية، ومن دعاوى سلطوية حينًا، ودينية واهمة حينًا آخر.

وكذلك ما يذكره المفكّر السوري محمد شحرور في كتابه "الدين والسلطة - قراءة معاصرة للحاكمية"[21] من أنّ: "كل الاختلافات التي حصلت بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلّم ـ كانت بناءً على اختلافات سياسية، ولم يقتل أي أحد في سبيل الإسلام، بل جراء هذه الاختلافات التي تحوّلت إلى صراعات دموية. ونشأت مصطلحات مُتطرّف ومُعتدل بعد خلط الدين بالسياسة، وعند فصلهما ستفقد هذه المصطلحات معناها تماماً. علماً أنّ الدين يمكن فصله عن السياسة بسهولة بالاعتماد على مفهومه المطروح في التنزيل الحكيم وإبعاده عما جاء في المرويات ذات البعد السياسي. أما عن المجتمع، فلا يمكن فصله نهائياً؛ لأن الدين جاء ليغير حياة الناس إلى الأفضل ويتماشى مع فطرتهم."[22]

بيد أنّ المفكّر الأشهر الذي يعيدنا كتاب أبو قرون "الإسلام والدولة" إلى مؤلّفه هو شيخ المحاكم الشرعيّة المصريّة الشهير علي عبد الرازق (1888م-1966م)، إذ يُعدّ كتابه "الإسلام وأصول الحكم"[23] من أوّل الكتب التي قدّمت أسئلة شكّل بعضها علامة فارقة في النقاش السياسي الإسلامي، وفتح باباً جديدًا ربما لم يُفتح قبله، وهو يتساءل: هل منصب الخلافة من الإسلام في شيء؟ وهل هناك شيء اسمه "نظام حكم" في الإسلام؟ وهل الإسلام دين ودولة؟

وقد أجاب علي عبد الرازق في كتابه بوضوح عن هذا الإشكال عندما قال: إنّ الخلافة الإسلامية ليست أصلاً من أصول الإسلام، بل هي مسألة دنيوية وسياسية أكثر من كونها مسألة دينية، ولم يرد بيانٌ في القرآن، ولا في الأحاديث النبوية في التأكيد على وجوب تنصيب الخليفة أو اختياره. ويذهب هذا المفكّر المصريّ أبعد من ذلك، فهو يرى أنّ الكثير من نكبات المسلمين ومطاعن الإسلام راجعة إلى تبنيّ الخلافة نظام حكم لأسباب سياسيّة كانت معروفة في تلك الفترة.[24]

وقد اجتهد علي عبد الرازق في مناقشة النظرية القائلة بأن "الإسلام دينٌ ودولةُ" منبّهاً إلى ضعف اعتقاد المسلم العادي و"جمهور العلماء من الإسلام" في أنّ الإسلام يمثل وحدة سياسية وأنّ "الخلافة مقام ديني". فقد رأى أنّ ذلك من الأخطاء الشائعة التي تسربت إلى عامة المسلمين الذين اعتقدوا أنّ الخلافة مركز ديني وأنّ من ولِيَ أمر المسلمين، فقد حلّ منهم في المقام الذي كان يحله صاحب الرسالة، واعتبر أنّ استمرار هذا الاعتقاد يصلح أن يكون شاهدًا على استقالة العقل عند المسلمين في التفكير السياسي، لذلك يقول علي عبد الرازق إنّ: "الواقع المحسوس الذي يؤيده العقل ويشهد به التاريخ قديمًا وحديثًا أنّ إقامة الشعائر الدينية لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة، ولا على أولئك الذين يلقبهم الناس خلفاء، والواقع أيضًا أنّ صلاح المسلمين في دنياهم لا يتوقف على شيء من ذلك، فليس لنا حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا دنيانا، بل إنما كانت الخلافة نكبة على الإسلام وعلى المسلمين… فمعاذ الله أن يجعل عزّ هذا الدين وذلّه منوطًا بنوع من الحكومة، وتحت رهن الخلافة، ورحمة الخلفاء".[25]

وبعد ما بيّناه من أطروحة علي عبد الرازق يتّضح أنّ الشيخ النيل أبو قرون يعمّق بحثه في بعض مراجعات هذا المفكّر المصريّ، لا سيما قضيّة التساؤل عن نظام الحكم في الإسلام لينظر إليها من جهة الفصل بين الدين والسياسة أو الكتاب والسلطان، ويصل من خلال ذلك إلى النتائج التي كنّا بصدد ذكرها. بيد أنّ المميّز في هذه المراجعة هو أنّها كانت مسنودة بحتميّة الإيمان بالرسول والاعتقاد في عصمته والاقتناع في وظيفة الشرائع الأساسيّة، وهي التذكير والبلاغ. أمّا الإكراه على التنفيذ والسيطرة على الناس من أجل دعوتهم إلى الله، فهي أمور لم يشرّعها الله ولا أصل لها في الرسالة المحمّديّة.

وإنّنا حين نتدبّر ما يقصده الشيخ النيل نفهم أنّه لا يعني أنّ الإسلام لا يقرُّ بوجود دولة أو يرفض تكوينها، لكنّه يعتقد أنّ الإسلام الحقيقيّ لا تمثله دولة ولا تحدّه حدود.[26]


[1]- النيل عبد القادر أبو قرون: الإسلام والدولة، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 2010

[2]- هو مفكّر سودانيّ يعدّه الكثيرون من المجدّدين الذين ينبغي الإنصات لخطابهم الدينيّ لما يتضمّنه من جديّة ووعيّ بما تآكل في الحضارة الإسلاميّة وآن أوان تغييره. أمّا المختلفون معه، فيتّهمونه بتزعّم الشيعة تارة والزندقة والإيمان بوحدة الوجود تارة أخرى. ولهذا الباحث مؤلفات عديدة من بينها كتاب"فيرحاب الرسالة" وكتاب"أسرى بدر" و"من تفسير سورة عبس"و"اليقين" و "المرجعية" و"الإيمان بمحمد"بالإضافة إلى كتابه الشهير"نبي من بلاد السودان" عن قصّة موسى وفرعون، وكتابه الذي هو بين أيدينا "الإسلام والدولة" قدّم فيه أطروحة مغايرة لما هو سائد، حيث اعتبر الإسلام دعوة لا دولة، وتناول فيه بجرأة العديد من الإشكالات الفكرية الأخرى.

وقد تخرّجالشيخ "النيل عبد القادر أبو قرون" في جامعة الخرطوم - كلية القانون، وعمل قاضياً بالهيئة القضائية ثمّ تدرّج فيها حتى عمل بالمحكمة العليا، قبل أن يعُيِّن مُلحقاً قضائياً برئاسة الجمهورية، وفي عام (1983) قام مع بعض زملائه بوضع قوانين سبتمبر المعروفة بقوانين الشريعة الإسلامية، ثم عُيِّن وزيراً للشؤون القانونية برئاسة الجمهورية، ومنذ عام (2000) تولى الشيخ "النيّل" خلافة والده بعد وفاة الخليفة "الجيلي خليفة الشيخ أبو قرون".

[3]- نذكر على سبيل المثال علي عبد الرازق بعد صدور كتابه الإسلام وأصول الحكم فقد صدرت في حقه أحكام قاسية بإجماع كبار المشايخ والعلماء في الجامع الأزهر قضت بطرده من زمرة العلماء، وفصله من وظيفته في القضاء، وسحب إجازته العلمية من الأزهر. ونذكر أيضاً نصر حامد أبو زيد الذي كٌفُّر وقضت المحاكم المصريّةبطلاق زوجه منه. وكذلك المفكّر الإيراني عبد الكريم سروش الذي تمّ الاعتداء عليه في قم، وهرب إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة بعد كتاباته التي راجع فيها نظريّة ولاية الفقيه.

[4]- انظر: النيل أبو القرون: الإسلام والدولة، غلاف الكتاب الخلفي.

[5]- نفسه، ص 13-14

[6]- بل العكس هو الذي وقع يوم فتح مكّة فعوض أن يأمر الرسول أهل مكّة أن يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله قال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء. "وإن كان قد أٌمر بأن يقاتل الناس على الشهادتين كما جاء في "الحديث المزعوم" فكيف لم يمتثل لأمر الله وهو رسوله الأمين الذي لا ينطق عن الهوى." (نفسه، ص16)

[7]- مثل: "جعل رزقي تحت رمحي."(تهذيب الكمال) أو: "من بدّل دينه فاقتلوه."(صحيح البخاري).

[8]- انظر: الإسلام والدولة، ص 16-17

[9]- نفسه، ص 29-30

[10]- نفسه، ص 30

[11]- نفسه.

[12]- نفسه، ص 37

[13]- نفسه، ص 71

[14]- نفسه، ص 73

[15]- نفسه، ص 75

[16]- نفسه، ص 90

[17]- نفسه، ص 91

[18]- نفسه، ص 148-149

[19]- نفسه، ص 149

[20]- رضوان السيّد: الأمة والجماعة والسلطة: دراسات في الفكر العربيّ الإسلاميّ، جداول للطباعة والنشر والتوزيع، ط5، 2011، ص12

[21]- محمد شحرور: "الدين والسلطة - قراءة معاصرة للحاكمية" عن دار الساقي، بيروت، لبنان، 2013

[22]- نفسه، ص11

[23]- علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الدين، دار الكتاب المصري - دار الكتاب اللبناني - مكتبة الإسكندرية، 2011

[24]- لقد أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة في حينه، وتوالت عليه ردود علمية كثيرة، شعر الملك فؤاد أنّ عبد الرازق سيقطع عليه الطريق أمام حلم تولي الخلافة، فصدرت في حقه أحكام قاسية بإجماع كبار المشايخ والعلماء في الجامع الأزهر قضت بطرده من زمرة العلماء، وفصله من وظيفته في القضاء، وسحب إجازته العلمية من الأزهر.

[25]- نفسه، ص111

[26]- سأل الصحفي عزمي عبد الرازق الشيخ "النيل عبد القادر أبو قرون" في حوار أجراه معه في صحيفة الأهرام اليوم (بتاريخ 2010/10/08): أنت تقول إن الإسلام دين ودعوة، وليس ديناً ودولة، كما أنّ حديثك عن فصل الدين عن السياسة لا يستقيم مع مطالبتك بتطبيق الشريعة الإسلامية، فهل تدعو إلى علمانية جديدة؟

فأجاب: فليرجع الناس إلى النصوص والسيرة المحمدية التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم في (23) سنة، والقرآن يقول « فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ»، ويقول «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ». الدعوة لم تكن بالسيف وإنما هي بالبلاغ « أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».. السيف أصلاً ليس له وجود في الدعوة، يكون له وجود في حالة نشوب الحروب، «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ». ففي هذه الآية تكفل الله بإيصالها، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما عُرض عليه أن يكون ملكاً رفض، وعندما عرضوا عليه المال رفض، بينما الدولة لا تقوم إلا على المال والسلطان، والرسول صلى الله عليه وسلم قام بالدعوة على عكس ما تقوم به الدولة وهو السلطان والمال، ولذلك، لصدقها وصحتها انتصرت، لأنها حق والحق لا يحتاج إلى دعم والمدعوم ضعيف والداعم أقوى من المدعوم، فالدعوة لا تحتاج إلى دعم وسلطة وإكراه.

انظر: مقال الشيخ "النيَّل أبو قرون" يخرج عن صمته ويروي لـ«الأهرام اليوم» شهادته للتاريخ

: http://www.alahramsd.com/ah_news/12062.html