الحقيقة وأنواعها عند كارل بوبر


فئة :  مقالات

الحقيقة وأنواعها عند كارل بوبر

الحقيقة وأنواعها عند كارل بوبر

في دراسة الحقيقة وفق المنظور البوبري، لا تتضح هذه الأخيرة كموضوع جامد أو ملكية نهائية للمعرفة البشرية، بل كمسار مستمر من البحث، كإطار معرفي يرتكز على الحركة النقدية وعلى إمكان الاختبار والدحض. الحقيقة في هذا الفهم ليست مطابقة تامة بين الفكر والواقع، ولا امتلاكاً معلوماً يُتحكم فيه، بل هي عملية دينامية تتشكل من تفاعل الإنسان مع الطبيعة، من خلال الفرضيات، والتجريب، والتقويم المستمر، ومن خلال الأخطاء التي تتحول إلى أدوات معرفية، ومن ثم إلى وسائل تقدم نحو ما يُقارب الحقيقة. إذن، العلم في هذا السياق لا يمتلك الحقيقة، بل يقترب منها، ويستثمر كل خطأ وكل فرضية مضادة لإعادة بناء المعرفة، بما يجعل كل نظرية ليست أكثر من خطوة نحو الفهم، وكل اختبار ليس إلا محاولة لتحسين الاقتراب من ما لا يمكن الوصول إليه تماماً.

يطرح كارل بوبر مصطلح "الفيريسيملتود" (vérisimilitude) ليصوغ المفهوم المركزي للحقيقة التقريبية، ويضع هذا المفهوم في صميم مشروعه الإبستيمولوجي، حيث تتحول الحقيقة إلى حالة من الاحتمالية المنهجية، أو إلى ما يمكن وصفه بالاقتراب المستمر من الواقع. هذا الاقتراب ليس حالة ثابتة، ولا ضماناً للعلم التام، بل هو عملية مستمرة، يُبنى عليها العلم كحركة، حيث تتوالى النظريات وتخضع للاختبار والدحض، ويُعاد النظر فيها، لتتقدم المعرفة خطوة خطوة نحو أفضل تقريب ممكن للحقيقة. هنا، تنبثق فكرة أن التقدم العلمي لا يقاس باليقين المطلق، بل بدرجة احتمالية النجاح في الوصول إلى تفسير أقرب للواقع، وبقدرة النظرية على مقاومة الدحض، أو على الأقل، على إثبات ضعف البدائل السابقة.

في هذا السياق، يبرز تقسيم الحقيقة إلى نوعين: الحقيقة المطلقة، التي تمثل حالة مثالية نادرة، أو مستحيلة التحقق بالنسبة إلى الإنسان، والحقيقة التقريبية، أو ما يُسمى بالفيريسيملتود، التي تعكس السعي المستمر، والاختبار الدائم، وتوظيف الخطأ كآلية للتعلم والتصحيح. العلم إذن ليس امتلاكاً للمعرفة، بل ممارسة واعية للتحقق، ومساحة للمراجعة المستمرة، حيث يشكل الدحض شرطاً جوهرياً للتقدم، ويجعل كل فرضية قابلة للتصحيح، وكل نظرية مؤقتة، لكنها خطوة جديدة نحو الحقيقة.

هذه الديناميكية للمعرفة تقودنا إلى إدراك أن الحقيقة لا يمكن أن تكون مقولة جاهزة، ولا اكتشافاً نهائياً، بل هي نتيجة فعل معرفي متجدد، وهي تتطلب من الباحث امتلاك حس نقدي متواصل، وقدرة على التشكيك في الفرضيات القائمة، وعلى البناء المنهجي الذي يجعل من الخطأ أداة معرفية، ومن الدحض وسيلة للتقدم، ومن التجربة فضاءً للتعلم. في هذه العملية، تتحدد العلاقة بين الفكر والعالم ليس من خلال امتلاك اليقين، بل من خلال القدرة على تصحيح الفهم، واستثمار الأخطاء، وتطوير المعرفة بصورة مستمرة.

إزاء هذا الإطار، يطرح البحث البوبرى أسئلة جوهرية: ما حدود ما يمكن للإنسان معرفته عن الحقيقة؟ كيف يمكن تمييز ما هو قريب من الحقيقة، وما هو مجرد تصورات مؤقتة قابلة للنقد والدحض؟ ما طبيعة العلاقة بين الحقيقة المطلقة والفيريسيملتود؟ وهل يمكن للعلم أن يقارب الحقيقة بصورة منهجية دون أن يمتلكها نهائياً؟ وكيف يمكن للوعي بمحدودية المعرفة أن يتحول إلى أداة للإبداع العلمي والمعرفي؟ وكيف يساهم الدحض المنهجي في صياغة ما يمكن اعتباره تقدماً حقيقياً نحو الحقيقة؟

هذه الأسئلة تشكل مدخلاً أساسياً لفهم فلسفة كارل بوبر، فهي لا تعالج الحقيقة كموضوع نظري جامد، بل كعملية معرفية حيّة، تتفاعل مع الإنسان، وتستثمر محدوديته في صناعة المعرفة، وفي رسم حدود الممكن من المعرفة، مع إدراك أن كل اقتراب من الحقيقة يبقى مؤقتاً، وأن الحركة العلمية نفسها هي التعبير الأوضح عن السعي الدائم نحو ما يظل، رغم كل المحاولات، في حدود الاقتراب المستمر والفهم التدريجي للواقع.

إن المعرفة في جوهرها قابلة للخطأ، والسعي إلى الحقيقة ليس امتلاكًا لها، بل هو مثَلٌ موجِّه أو مثالٌ منظِّم للعقل العلمي. ففكرة الحقيقة تمارس في العلم وظيفةً تنظيمية، لأن «فكرة الخطأ ذاتها – أو وعيُنا بقابليّتنا للخطأ – تفترضُ مسبقًا فكرة الحقيقة باعتبارها معيارًا لن يُبلَغ بالضرورة، ومن هذا المنظور تكون الحقيقة فكرةً منظِّمة.»[1] إنّ التوجّه نحو البحث عن الصواب يكشف أنّ الأخطاء التي يقع فيها العلماء ليست عقبات، بل وسائط للتعلّم والتقدّم في المعرفة. فالحقيقة بما هي مبدأ منظّم، تدفع إلى إبراز قيمة الخطأ وإلى تأسيس ما يُسمّى بـ "العقلانية النقدية" التي تقوم على النقاش والمراجعة بين المفكرين.

إنّ استحالة تحديد معيار نهائي للحقيقة العلمية تؤدي إلى القول إنّ فكرة الحقيقة ليست مقياسًا جاهزًا، بل هي «مبدأ منظِّم يؤسّس عقلانيةَ السير النقدي في الممارسة العلمية والفلسفية.»[2] فالحقيقة، من هذا المنظور، ليست نتيجةً تُمتلك، بل بوصلة تهدي التفكير وترشده، وقاعدة تنظّم النقد. النقد في ذاته لا يهدف إلى امتلاك الحقيقة، بل إلى اكتشاف الخطأ، أي إلى تصفية الخطأ خدمةً للحقيقة: «إنّ أعظم مزايا نظرية الحقيقة الموضوعية [...] تكمن في كونها تمكّننا من القول إننا نبحث عن الحقيقة دون أن نعلم متى بلغناها؛ وإنه، رغم غياب معيارٍ نهائيٍّ للحقيقة، فإننا نظلُّ مهتدين بفكرتها باعتبارها مبدأً منظِّمًا؛ وبالرغم من أنه لا وجود لمبدأ عامٍّ يُمكّننا من التعرّف على الحقيقة – باستثناء ربما الحقيقة التكرارية (التحصيل الحاصل) – إلا أنّ هناك معايير للتقدّم نحو الحقيقة.»[3]

وفي معرض حديثه عن الحقيقة بوصفها مبدأً منظِّمًا، يقدّم كارل بوبر تشبيهًا بليغًا: «يمكننا أن نقارن وضع الحقيقة بالمعنى الموضوعي؛ أي الحقيقة بوصفها مطابقةً للوقائع، ووظيفتها التنظيمية، بموقع القمة الجبلية التي تُحجب غالبًا بالغيوم. فقد يعجز المتسلّق عن بلوغها، وقد يبلغها دون أن يدرك ذلك؛ لأنّ الضباب يحول دون تمييزها عن قممٍ ثانويةٍ مجاورة. لكنّ وجود القمة في ذاتها لا يتأثّر بذلك. وإذا قال المتسلّق: "أتساءل إن كنتُ قد بلغتُ القمة الحقيقية"، فهو يعترف ضمناً بوجودها الموضوعي.»[4] - تلك هي الاستعارة البوبرية -نسبة إلى كارل بوبر- التي تُمثّل بعمق معنى الحقيقة كمبدأ منظّم.

إنّ الحوارات العلمية بين المفكرين تحرّكها دومًا رغبة الاقتراب من الحقيقة. فالنظريات التي يختارها العلماء هي تلك التي يُظَنّ أنها أكثر اقترابًا من الصواب[5]. والحقيقة، كمبدأ منظّم، تُعطي معنًى لفكرة التقدّم نحوها. فلا عالم يمكنه الادّعاء أنه "يعرف" بمعنى الامتلاك النهائي؛ إذ لا أحد "يعرف" حقًّا؛ كلّ ما يمكن فعله هو "اقتراح الفروض" و"صياغة الافتراضات". القول بالمعرفة يعني القول بيقينٍ نهائيّ، وهذا ما ترفضه العقلانية العلمية. فالحقيقة التي تبحث عنها العلوم تختلف جوهريًا عن اليقين: إنها لا تُمتلك، بل يُقترب منها فقط.

الاقتراب من الحقيقة في نظر بوبر يعني إخضاع النظرية لمبدأ القابلية للاختبار والدّحض. الإبستيمولوجيا البوبرية ترفض فكرة تبرير المعرفة عبر حججٍ معقولة أو أدلة نهائية، لأنّها تنظر إلى كل معرفة على أنها افتراضية، بل وقابلة للدحض، ومن ثمّ فإنّ مفهوم الحقيقة في فلسفة بوبر ينفتح على فكرة "الحقيقة التقريبية"، فالنظريات العلمية دومًا قابلة لأن تدحض وعاجزة عن بلوغ الحقيقة في كمالها المطلق. الباحث، إذن، لا يملك الحقيقة بل يسعى إليها؛ والنظريات لا تُعبّر عنها بل تقترب منها وتُدحض جزئيًا، فنحن نعلم مثلا أن غاليلي أكثر قربا للحقيقة من أرسطو، وأن نيوتن أقرب إلى الحقيقة من غاليلي وهكذا دواليك. إن الحقيقة ليست سوى غاية لا تُنال، بل نقترب منها تدريجيًا.

ومع ذلك، يبقى السؤال: كيف نعرف أننا قد اقتربنا منها؟

الجواب عند بوبر أنّ العلماء حين ينتجون نظرياتٍ أكثر تفسيرًا وأكثر قابلية للاختبار، فإنهم يتقدّمون نحو الحقيقة، مع وعيٍ مسبق بأنّ ما يقدّمونه لا يعدو كونه تقريبًا ناقصًا لما لن يُدرَك أبدًا: الحقيقة.

العلوم لا تبلغ الحقيقة. فدينامية العلم لا تستمد حركتها إلا من ذاتها؛ إذ إن «المواجهة بين النظريات يجب أن تتيح انتصار الأكثر جرأة والأشد اختباراً؛ أي تلك التي لدينا أسباب وجيهة للاعتقاد، لا بأنها صادقة، بل بأنها تُمكّننا من التقدم خطوة أخرى نحو الحقيقة»[6]. يتقدم العلم إذن عبر تعديل معارفه السابقة؛ لأن الحقيقة تظل عصيّة المنال، فهي ما لم يتحقق بعد. وفكرة الحقيقة، رغم طابعها المطلق، لا تمنح الإنسان يقيناً مطلقاً؛ فنحن طالِبو حقيقة ولسنا مالكيها[7]. غير أننا نقترب منها دون أن نتمكن من الإمساك بها؛ لأنها تنفلت من أيدينا كما ينفلت السمك في الماء. ومع ذلك، فقد أصبحت فكرة الحقيقة نفسها «موضع ريبة لدى عدد من الفلاسفة، وكذلك فكرة الاقتراب من الحقيقة أو أفضل تقريب للحقيقة[8]». فالعلم لا يملك الحقيقة، بل يسعى إليها، لا بوصفها امتلاكاً للمعرفة، بل بوصفها بحثاً دائماً عنها.[9]

يرى بوبر أنه «إذا كان من الضروري أن تخضع العبارات الأساسية بدورها لاختبارات بينذاتية، فلا يمكن للعلم أن يقوم على عبارات نهائية؛ إذ لا وجود في العلم لعبارات تُعفى من الاختبار، وبالتالي من إمكان دحضها استناداً إلى نتائج يمكن اشتقاقها منها»[10]. لذلك يرفض بوبر القول بوجود قضايا علمية علينا قبولها كحقائق نهائية لمجرد أنه يبدو منطقياً استحالة إخضاعها للاختبار. فالنظرية العلمية يجب أن تُختبر بمبدأ القابلية الدحض؛ لأن «تقدم العلم لا يعود إلى تراكم تجاربنا الحسية تدريجياً، ولا إلى تحسّن استخدامنا لحواسنا. فالتجربة الحسية غير المؤوَّلة لا تُنتج علماً مهما كان حرصنا في جمعها وفرزها. الأفكار الجريئة، والتوقعات غير المبررة، والتخمينات هي الوسيلة الوحيدة لفهم الطبيعة، وهي أداتنا الوحيدة لإمساكها. ومن يرفض تعريض أفكاره لخطر الدحض لا يشارك في اللعبة العلمية.»[11]

لا تملك أي نظرية ضمان أن تكون حقيقة نهائية خالصة من إمكان الاختبار أو النقد. فكل نظرية تظل مفتوحة للنقض؛ أي للانقلابات المحتملة والتكذيبات المستقبلية[12]. والمهم هنا الموقف النقدي؛ أي أن تتحدد الممارسة العلمية بقدرتها على دحض نظرياتها ذاتها.[13]

إن مفهوم الحقيقة التقريبية يتعارض مع النزعة الذاتية التي كانت ترى أن «المثل العلمي القديم، مثال الإبستيمِي (epistêmê)؛ أي المعرفة المطلقة المبرهنة، تبيّن أنه صنم. فمطلب الموضوعية العلمية يجعل من المحتم أن تظل كل عبارة علمية مجرد محاولة إلى الأبد.»[14]

العلماء يبحثون عن حقيقة مثيرة وموضحة، وعن نظريات تقدم حلولاً لمشكلات ذات معنى. هم لا يسعون إلى بلوغ نقطة محددة، بل إلى فضاء أوسع وأغنى في مجال بحثهم. ومبدأ الدحض يدل على أن الحقيقة العلمية ثمرة تعديلات وتصحيحات متعاقبة. من هنا تأتي أهمية فكرة تقريب الحقيقة في العلم، التي تعني أنه إذا فشل الباحثون في دحض نظرية جديدة، خصوصاً في المجالات التي أثبتت فيها النظرية السابقة ضعفها، فلديهم حينها أسباب موضوعية تدعوهم إلى اعتبار النظرية الجديدة تقريباً أفضل للحقيقة من القديمة.

فالنظريات جميعها خاطئة على الأرجح، وقابلة لأن تُستبدل بأخرى أرقى مستقبلاً. ومع ذلك، يؤكد أنصار البوبرية أن العلم يتقدم باقترابه المستمر من الحقيقة. فعلى سبيل المثال، يقولون إن نظرية نيوتن أقرب إلى الحقيقة من نظرية غاليلي، رغم أن كليهما خطأ.[15]

ومن غير الممكن أن يقدم العلماء حججاً كافية لإثبات أنهم يملكون الحقيقة. «فنحن لا نملك أبداً أدلة كافية تدعونا إلى الادعاء بأننا بلغنا الحقيقة فعلاً، بل لدينا فقط حجج قوية ومعقولة لنقول إننا تقدمنا في طريقها؛ أي إن النظرية T2 أفضل من سابقتها T1، على الأقل في ضوء جميع الحجج العقلانية المعروفة.»[16]

النظريات التي تنتجها المعرفة البشرية هي، في أفضل الأحوال، شبيهة بالحقيقة. فـ«الحقيقة اليقينية لم يعرفها أحد من البشر ولن يعرفها، لا عن الآلهة ولا عن الأشياء التي أتحدث عنها. وحتى لو نطق المرء صدفة بالحقيقة النهائية، فلن يعرف أنه فعل ذلك، إذ كل شيء ليس إلا نسيجاً من الافتراضات»[17]. وبوبر يرى في هذا القول المنسوب إلى كزينوفان (Xénophane) تعبيراً أصيلاً عن روح الإبستيمولوجيا؛ إذ يؤكد أن الحقيقة اليقينية تتجاوز قدرة الإنسان، وأن كل معرفة بشرية ذات طابع افتراضي في مقابل المعرفة الإلهية.[18]

لقد بحث المفكرون عن الحقيقة ولا يزالون يبحثون عنها. لم يجدوها كما هي، بل وجدوا حقائق مؤقتة. وكلما ازداد وعيهم بجهلهم، ازداد اقترابهم من الحقيقة نفسها. فالعلم «حركة وصراع نحو الحقيقة، يتحقق عبر يقظة دائمة تجاه خطر الخطأ. ولا سبيل إلى برهان مطلق على الحقيقة، لكن ينبغي السعي دائماً إلى كشف الخطأ وإثباته، لأننا بذلك نتوصل إلى حقائق عن الخطأ ذاته.»[19]

الحقيقة، إذن، تقريبية، لأن «غاية العلم هي الحقيقة، غير أنه ما دمنا لا نستطيع أن نعلن عن أي نظرية بأنها صحيحة، فالأجدر أن نعتبر غايته تقريب الحقيقة، أي "مشابهة الحقيقة" (vérisimilitude)»[20]. فكل نظرية تنجح في إحلال أخرى محلها تُعدّ تقريباً أفضل للحقيقة. ولشرح هذه الفكرة عن تقريب الحقيقة، يتحدث بوبر عن مفهوم "مشابهة الحقيقة" أو "الفيريسيملتود" (vérisimilitude).

ابتكر بوبر مصطلحاً جديداً هو "مشابهة الحقيقة" (vérisimilitude) للدلالة على الحالة التقريبية للحقيقة التي يمكن أن تصل إليها النظرية. فالحقيقة عصية المنال، لكنها تظهر بصورة تقريبية. ويتم الحصول على "الفيريسيملتود" من خلال الجمع بين فكرة الحقيقة ومضمون النظرية. السعي وراء الحقيقة، الذي يظل دائماً غير مكتمل، هو بالفعل الطموح الحقيقي للعلم، لكنه يظل في متناول غير متاح. تتحول المعرفة في هذا المسعى لتقترب أكثر فأكثر من الحقيقة، وبذلك يمكن وصف المثالية العلمية بمفهوم "الفيريسيملتود".

يقول بوبر: «هدفي هو النجاح في مجال المشابهة -ولكن بدرجة أقل دقة- بما يقارب ما حققه تارسكي للحقيقة: إعادة تأهيل مفهوم شائع أصبح موضع ريبة، والذي أعتبره ضروريًّا جدًّا لأي واقعية نقدية للمعنى العام، ولكل نظرية نقدية للعلم. أرغب في أن أتمكن من القول إن العلم يهدف إلى الحقيقة بمعنى مطابقتها للواقع؛ وأرغب أيضاً في القول -مع أينشتاين وغيره من العلماء- إن نظرية النسبية [...] هي تقريب أفضل للحقيقة من نظرية نيوتن، تماماً كما أن هذه الأخيرة تقريب أفضل للحقيقة من نظرية كبلر. وأرغب في أن أتمكن من قول هذا دون الخوف من أن يُساء فهم مفهوم القرب من الحقيقة أو المشابهة من منظور منطقي، أو يُعتبر خالي المعنى.»[21]

وبعد بوبر، يلاحظ مولينز: «لن نكون أبداً متأكدين من صحة فرضية علمية عامة، لكن يمكننا التأكد من أنها أكثر أو أقل احتمالاً. ويمكننا أن نعترف بها ضمن مجال التخصصات العلمية الحقيقية إذا كانت تتمتع بدرجة عالية من الاحتمالية.»[22]

إن هذا النهج القائم على "الفيريسيملتود" في العلوم يبدو معقولاً ودائماً؛ إذ إن العلم لا يبلغ الحقيقة لكنه يقترب منها باستمرار. ويتقدم العلم بفضل الأخطاء التي يرتكبها الباحثون: «مفهوم الدحض (falsification) مرتبط بشكل لا ينفصل بمفهوم العلم، وبمفهوم الحقيقة، وبمفهوم الواقع»[23]. والنظريات هي محاولات جدية لرصد الحقيقة.

يمكن للعالم تفضيل نظرية على أخرى؛ إذ إن النظرية ليست سوى فرضية، أو تجربة، وهي قابلة للتأكيد: «فإن مفهوم "الفيريسيملتود" يُعرف، في الواقع، بمساعدة فكرة الحقيقة، وبالتالي يجب اعتباره معادلاً أكثر دقة لمفهوم القرب من الحقيقة.»[24]

النظرية لا تتجاوز كونها اقتربت من الحقيقة، وتدفع الحقيقة التقريبية الإنسان من العلماء إلى سعيه المستمر، كما تُهيئها لتكون قابلة للدحض.

تستند دينامية العلم على العلم ذاته؛ ذلك أن «الصراع المنطقي بين النظريات يجب أن يتيح انتصار الأكثر جرأة والأشد اختباراً؛ أي تلك التي لدينا أسباب وجيهة للاعتقاد، لا بأنها صادقة، بل لأنها تجعلنا نخطو خطوة إضافية نحو الحقيقة. إذن، السبب ليس السلطة التي نملكها لتبرير معارفنا، بل هو الاسم الآخر لمجال النقاش النقدي. ومهمة الفلسفة ليست تقديم أساس متعالٍ للعلم، بل توضيح هذا المسار من التفوق الذاتي، ومن السمو الذاتي، الذي يرتقي من خلاله العلم.»[25]

فيما يخص التقدم العلمي، يجب أن تمتلك النظرية الحديثة درجة من "الفيريسيملتود" تفوق تلك الخاصة بالنظرية السابقة. وواقعيًّا، «بما أن غاية العلم مقصورة على "الفيريسيملتود"، فإن قولنا إن غاية العلم هي "الفيريسيملتود" يعطي ميزة كبيرة على الصياغة التي تقول ربما إن الغاية تتحقق بالكامل بمجرد صياغة الحقيقة التي لا جدال فيها، مثل أن جميع الطاولات طاولات أو أن 1+1=2. [...] لذا فإن السعي وراء "الفيريسيملتود" يُعطي هدفاً أكثر وضوحاً وواقعية من السعي وراء الحقيقة.»[26]

يمكن القول إن التحليل البوبري للحقيقة، بما في ذلك تمييزه بين الحقيقة المطلقة والحقيقة التقريبية، يضع الإنسان أمام تصور معرفي متجدد ومفتوح، يرفض التثبيت النهائي للمعرفة، ويؤكد على الطابع الديناميكي للعلم. فالحقيقة، في هذا الإطار، ليست ممتلكاً يمكن إدراكه مرة واحدة، ولا واقعاً مستقلاً يمكن قياسه باليقين التام، بل هي مسار دائم من البحث والتقصي، تتحقق عبر اختبار الفرضيات، ومواجهة الخطأ، وإعادة بناء المعرفة، ومن خلال النقد المستمر الذي يشكل جوهر الحركة العلمية. إن الفيريسيملتود، أو الاقتراب التدريجي من الحقيقة، ليس مجرد مفهوم نظري، بل هو أداة منهجية تصوغها الممارسة العلمية نفسها، وتؤكد على أهمية الرؤية الواقعية النقدية، التي تحول كل خطأ إلى فرصة للتقدم، وكل فرضية ضعيفة إلى ميدان للتقييم والمراجعة.

إن منهج بوبر يبرز أن العلم يتقدم ليس بامتلاك اليقين، ولا بتجميع الحقائق النهائية، بل بالقدرة على تطوير الفرضيات، واستثمار الأخطاء، ومقاربة الحقيقة عبر التقديرات التدريجية، التي تنسجم مع المنهج التجريبي والنقدي في الوقت نفسه. في هذا السياق، يصبح الدحض شرطاً أساسياً لتقدم المعرفة، والاختبار المستمر أداة لضبط الجودة الفكرية للمعرفة العلمية، بينما تبقى الحقيقة المطلقة حالة مثالية، غائبة عن إمكانات الإنسان المباشرة، لكنها تُسهم في توجيه البحث، وفي تحديد معيار للمراجعة المستمرة.

كما يوضح التحليل البوبرى، فإن الحركة العلمية، بما تحمله من فرضيات قابلة للدحض ومن أخطاء تُستثمر كوسائل للتقدم، تعكس فهماً عميقاً لطبيعة المعرفة البشرية، التي لا يمكن أن تبلغ الكمال، لكنها تستطيع الاقتراب من الواقع بشكل متزايد. فالحقائق العلمية، في هذا الفهم، مؤقتة وقابلة للنقد، وهي نتاج جدل مستمر بين النظريات، بين الفرضيات والتجربة، بين الخطأ والصواب الجزئي، حيث يشكل كل اختبار فشلاً محتملاً وفرصةً للتقريب من الحقيقة. بهذا المعنى، العلم ليس امتلاكاً للحقيقة، بل ممارسة واعية للتقريب المستمر نحو ما يُمكن تسميته بالأفضل شبهًا بالواقع، أو بما يعكس “مشابهة الحقيقة” التي صاغها بوبر كإطار فلسفي ومنهجي متكامل.

تتجلى هنا قيمة الحقيقة التقريبية ليس فقط في كونها أداة لتقدم المعرفة، بل في كونها إطاراً يسمح للفكر البشري بالتحرك ضمن حدود الممكن، وضمن قدرة الإنسان على التعلم من الخطأ، وضمن وعيه الدائم بمحدودية ما يمكن معرفته. إن إدراك هذه الحدود لا يضع الإنسان أمام عجز معرفي، بل يمنحه القدرة على الإبداع المنهجي، ويجعله شريكاً في عملية مستمرة من التحقق والتقويم، مع الحفاظ على روح النقد والمساءلة التي تحمي المعرفة العلمية من الجمود والاستبداد النظري.

ومع ذلك، يظل البحث عن الحقيقة، في الفلسفة البوبرية، محفوفاً بالتساؤلات الجوهرية: كيف يمكن تقييم مدى قرب نظرية ما من الحقيقة؟ وما هي المعايير الدقيقة التي تحدد الاقتراب من الحقيقة في ظل غياب اليقين المطلق؟ وهل يمكن للمعرفة البشرية أن تحقق الفيريسيملتود دون الانخراط الكامل في النقد الذاتي والدحض التجريبي؟ وما هي حدود قدرة الإنسان على تحويل الخطأ إلى فرصة معرفية حقيقية؟ وهل يمكن النظر إلى الفعل العلمي كعملية مستمرة من الاقتراب من الحقيقة مع إدراك أن الحقيقة المطلقة قد تبقى خارج الإمكان البشري؟

إن هذه التساؤلات، وأكثر منها، تضعنا أمام تحدٍّ فلسفي ومعرفي، فهي تكشف أن الحقيقة ليست مجرد غاية، بل ممارسة، وهي عملية مستمرة من البحث والنقد والتقويم، تجعل من العلم حركة دائمة نحو ما هو أقرب إلى الواقع، دون أن تتحقق أبداً في كليتها. وهكذا، فإن خاتمة البحث في فلسفة بوبر لا تنهي المساءلة عن الحقيقة، بل تفتح أمام الفكر آفاقاً واسعة من الاستقصاء المعرفي، لتستمر الأسئلة نفسها في صياغة مسار البحث الفلسفي والعلمي، ضمن حدود الدينامية النقدية، ومن خلال التفاعل المستمر بين الفكر والواقع، بين الفرضية والتجربة، وبين الاقتراب والتصحيح.

 

لائحة المصادر والمراجع:

K. POPPER, Conjectures et Réfutations : La croissance du savoir scientifique, trad. De Michelle-Irène et M. B. Launay, Payot, Paris, 1985

K. POPPER, La connaissance objective : Une approche évolutionniste, trad. de J.-J. Rosat, Aubier, Paris, 1991

POPPER, K., Les deux problèmes fondamentaux de la théorie de la connaissance, trad. de C. Bonnet, Hermann, Paris, 1999

K. POPPER. Des sources de la connaissance et de l’ignorance, trad. de Michelle Irène & M. B. Launay, Payot & Rivages, Paris, 1998

K. POPPER. The world of Parmenides. Essays on the presocratic enlightenment, Routledge, London and New York, 1998

J.-F. MALHERBE, La philosophie de Karl Popper et le positivisme logique, P.U.F., Paris, 1979

RADNITZKY, G., « Savoir et conjecturer », in R. BOUVERESSE & H. BARREAU, Karl Popper. Science et philosophie, J. Vrin, Paris, 1991

Qu’est-ce-que la science ? Récents développements en philosophie des sciences : Popper, Kuhn, Lakatos, Feyerabend, La découverte, Paris, 1987

E. MORIN, La complexité humaine, Flammarion, Paris, 1994

Philosophie des sciences. L’invention d’une discipline (fin XIXème début XXIème siècle), Presses de l’Ecole normale supérieure, Paris, 2006

J.-M. BESNIER, Les théories de la connaissance, P.U.F., Paris, 2008

[1] K. POPPER, Conjectures et Réfutations : La croissance du savoir scientifique, trad. de

Michelle-Irène et M. B. Launay, Payot, Paris, 1985. P :339

[2] J.-F. MALHERBE, La philosophie de Karl Popper et le positivisme logique, P.U.F., Paris, 1979, p. 124

[3] K. POPPER, Conjectures et Réfutations. La croissance du savoir scientifique, Payot et Rivages, Paris, 2006, p. 226

[4] K. POPPER, Conjectures et Réfutations. La croissance du savoir scientifique, Payot, Paris, 1985, p. 335

[5] K. POPPER, La connaissance objective : Une approche évolutionniste, trad. de J.-J.

Rosat, Aubier, Paris, 1991. p. 77

[6] K. POPPER, La connaissance objective : Une Approche évolutionniste, la préface du traducteur Aubier, Paris, 1991, p. 14

[7] K. POPPER. La connaissance objective. Une Approche évolutionniste, Aubier, Paris, 1991, p. 57

[8] K. POPPER. La connaissance objective, trad. de Catherine Bastyns, Editions Complexe, Bruxelles, 1978. P :58

[9] POPPER, K., Les deux problèmes fondamentaux de la théorie de la connaissance,

trad. de C. Bonnet, Hermann, Paris, 1999. P : 12 

[10] POPPER, K., La logique de la découverte scientifique, trad. de N. Thyssen-Rutten et

P. Devaux, Payot, Paris, 1973. PP : 44-45

[11] K. POPPER, La logique de la découverte scientifique, Payot, Paris, 1973, pp. 285-286

[12] RADNITZKY, G., « Savoir et conjecturer », in R. BOUVERESSE & H. BARREAU, Karl Popper. Science et philosophie, J. Vrin, Paris, 1991, pp. 55

[13] K. POPPER, Les deux problèmes fondamentaux de la théorie de la connaissance, Hermann, Paris, 1999, p.19

[14] K. POPPER, La logique de la découverte scientifique, Payot, Paris, 1973, p. 286

[15] Qu’est-ce-que la science ? Récents développements en philosophie des sciences : Popper, Kuhn, Lakatos, Feyerabend, La découverte, Paris, 1987. P : 204

[16] K. POPPER, La connaissance objective, Editions Complexe, Bruxelles, 1978, p. 68

[17] K. POPPER. Des sources de la connaissance et de l’ignorance, trad. de Michelle Irène & M. B. Launay, Payot & Rivages, Paris, 1998. P : 135-136

[18] K. POPPER. The world of Parmenides. Essays on the presocratic enlightenment, Routledge, London and New York, 1998. P: 218

[19] E. MORIN, La complexité humaine, Flammarion, Paris, 1994, p. 254

[20] La connaissance objective. Une approche évolutionniste, Aubier, Paris, 1991, p. 18

[21] K. POPPER, La connaissance objective, Editions Complexe, Bruxelles, 1978, p. 70

[22] Philosophie des sciences. L’invention d’une discipline (fin XIXème début XXIème siècle), Presses de l’Ecole normale supérieure, Paris, 2006. P : 47

[23] J.-M. BESNIER, Les théories de la connaissance, P.U.F., Paris, 2008, p. 55

[24] J.-F. MALHERBE, La philosophie de Karl Popper et le positivisme logique, P.U.F., Paris, 1979, p. 129

[25] K. POPPER, La connaissance objective. Une approche évolutionniste, Aubier, Paris, 1991, pp. 14-15.

[26] K. POPPER, La connaissance objective. Une approche évolutionniste, Aubier, Paris, 1991, pp. 115-116