ماذا بعد تنظيم جماعة "الإخوان المسلمين"؟


فئة :  قراءات في كتب

ماذا بعد تنظيم جماعة "الإخوان المسلمين"؟

وقع بين يدي كتاب بعنوان: "تحولات الإخوان المسلمين"ـ تفكك الإيديولوجيا ونهاية التنظيم- في طبعته الثانية المنقحة والصادرة عن مكتبة مدبولي2010، لمؤلفه حسام تمام -رحمة الله عليه- وهو كاتب وصحفي مصري متخصص في حركات الإسلام السياسي، ومؤسس أول مرصد متخصص لدراسة الحركات الإسلامية (توفي يوم الاربعاء 26 أكتوبر2011 ). ورغم مرور ثلاث سنوات على صدور الكتاب في طبعته الأولى، فإن مضامينه ما تزال تحتفظ براهنيتها، وإذا كانت الطبعة الأولى قد صدرت على عجل ـ كما ذكر المؤلف- نظرا لتزامنها مع انتخابات برلمانية في عهد الرئيس المصري المخلوع؛ فإن الطبعة الثانية تضمنت مقدمة إضافية ترسم ملامح التحولات التي عاشها الإخوان المسلمون، وهي تفيد كثيرا في جمع الأفكار التي احتواها الكتاب (خمس وعشرون مقالة)- بحسب تعبير الكاتب- ولنا وقفة مع مقدمة هذا الكتاب، وكذا بعض المقالات التي ألمحت بشكل أعمق إلى الثغرات والقصور المهول في الجوانب الفكرية والسياسية لتنظيم الإخوان.

وقفة مع عنوان الكتاب

ما بين مقولة الأستاذ حسام تمام في العنوان الفرعي للكتاب: تفكك الإيديولوجية ونهاية التنظيم (سنة 2009)، وعبارة المهندس هيثم أبو خليل القيادي الإخواني السابق: "مصر مقبرة تنظيم الإخوان" - التي كتبها على حائطه الفايسبوكي (2013) - وهو صاحب كتاب "إخوان إصلاحيون" الصادر عن دار دون، الطبعة 1و2عام 2012، والطبعة 3 عام 2013- هذا إذا أضفنا آراء نقدية لمنشقين أو منسحبين آخرين ومواقفهم حول الجماعة، من أمثال: القيادي ثروت الخرباوي، ومختار نوح، والهلباوي وغيرهم، سنلاحظ أن حركة النقد من الداخل لتنظيم الإخوان ارتفعت وتيرتها مع ولوجها ملعب السياسة، كما تراوحت بين النقد الجذري ، والمراجعة السريعة تحت حرج اللحظة. لقد قال حسام تمام بنهاية التنظيم والجماعة في المعارضة، وقال الثاني بالنهاية التراجيدية للتنظيم والجماعة في السلطة، إنها توقعات من الداخل؛ أي ممن يعرفون جيدا خبايا التنظيم ومنعرجاته وأسراره، ولو قدر للأستاذ حسام الحياة حتى هذه اللحظة التي يتربع فيها الإخوان على عرش السلطة، وما صدر عنهم من سلوك سياسي ملتبس، لوقف بالملموس على تشظي الإيديولوجية الإخوانية وتآكلها، وما كان يوجهه من سهام النقد للتنظيم ـ وهم في موقع المعارض المتلهف على السلطة ـ ينكشف اليوم بشكل جلي. ولم يكن الكاتب قاسيا على الإخوان، حينما أدرج في العنوان كلمة " تحولات"، ولم يقل "أزمة"؛ لأن الأزمة يمكن تخطيها بعد فترة زمنية معينة. ولم يقل "انحراف"؛ لأن محتوى الكتاب لا يدعو إلى رجوع الإخوان إلى النسخة الأولى؛ أي النقاء الإيديولوجي، وإنما عبر عن التحولات التي تشير إلى الانتقال إلى مرحلة أخرى من تاريخ التنظيم، أو تبلور نسخة أخرى في الأفق للتنظيم بهوية جديدة. والنهاية التي يذكرها الكاتب هي نهاية الفكرة والمشروع والإيديولوجيا، ولا أظن أنه يقصد نهاية التنظيم كهيكل؛ لأن الهيكل والإطار التنظيمي قد يستمر ويصمد، لكن من دون جدوى ولا معنى. وبعبارة أدق، فإن فكرة نهاية تنظيم الإخوان تنطبق على كل تنظيم إسلامي انتهى بعد ممارسة السياسة إلى مشروع سياسي يتناسب مع مشروع الدولة الوطنية الحديثة.

بين يدي الكتاب

1- استهل حسام. رحمة الله عليه - كتابه بمقالة بعنوان "في مشهد التحولات: تفكك الإيديولوجيا ونهاية التنظيم" مبرزا أن تنظيم الإخوان يشهد تغيرات كبرى، تتسم بكونها تغيرات غير واعية أو مخطط لها مسبقا، بقدر ما هي أقرب إلى التغير الذاتي الذي يجري وفق منطق الصيرورة الاجتماعية، وهذه الحالة ـ بنظرنا - تصدق على كافة حركات الإسلام السياسي الحزبي، وهو منطق فيه الفعل على التنظير، الذي يتأخر؛ أي إن التنظير لا يؤسس في هذه الحالة للفعل والحركة، وإنما يبرره ويدعمه ويكمله. وللوقوف على هذه الظاهرة ينبغي طلبها والكشف عنها في غير المكتوب، وليس من خلال أدبياتها ونصوصها على حد تعبير حسام. من أمثلة انفصال الفعل عن الخطاب لدى الإخوان، الموقف من الدولة؛ فهي تمارس - جماعة الإخوان- فعلا سياسيا ينتمي إلى لحظة الدولة الوطنية الحديثة، فيما ما زالت أطرها الفكرية والتربوية عاكفة على تداول أفكار ونظريات سياسية عتيقة تنتمي إلى ما قبل ظهور الدولة القومية. حتى إن اضطرت الجماعة لمراجعة خطابها، فإنها تقوم بذلك تحت حرج اللحظة وضغط الخصم، وليس ناتجا عن قناعة ذاتية؛ فمثلا قضية الأقباط ودفع الجزية التي أثيرت في حوار شهير للمرشد الراحل الأستاذ مصطفى مشهور 1996، فقد أعلن المرشد وقتها أن الأقباط أهل ذمة، يجب أن يدفعوا الجزية مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية. هذا التصريح أثار موجة استياء، لم تجد إلا بعض أبناء الجماعة من تيار العمل العام (السياسي) الذين دخلوا التنظيم من بوابة السياسية، فدفعوا بالجماعة لتبني اجتهاد جديد انتهى إليه المفكر الإسلامي المستقل طارق البشري الذي يؤسس لفكرة المواطنة على أرضية إسلامية. ومن التحولات على مستوى الخطاب والشعارات: عدول الإخوان عن الحديث عن الخلافة، وإقامة الدولة الإسلامية العالمية، والانخراط في مشروع الدولة الوطنية القطرية. وللخروج من حرج اللحظة وتناقض خطابهم السياسي؛ وجدوا تخريجات مناسبة من قبيل "دولة المسلمين"، و"دولة ديمقراطية بمرجعية إسلامية" التي يطرحها "جيل الوسط" داخل الجماعة، وكذلك "الدولة الآذنة بالإسلام".

2- إن التراجع عن دولة الخلافة قد أنهى بشكل أوتوماتيكي فكرة التنظيم الدولي للإخوان؛ الذي تشكل نهاية السبعينيات، ولم تعد له أية سلطة على التنظيمات القطرية. وقد انتقلت جماعة الإخوان المسلمين من صورة الجماعة المفتوحة الشمولية التي تقدم نفسها ممثلا وحيدا للإيديولوجية الإسلامية إلى بروز صورة جديدة تحمل نوعا من الخصوصية الإخوانية، ولعل السبب – يستأنف حسام القول- يرجع إلى الدخول البراجماتي للإخوان في السياسية، وتخليهم عن الرواية الكبرى" الدولة الإسلامية"، والالتزام بطرح برنامج لا يبعد كثيرا عن برامج الأحزاب الوطنية الأخرى. وخلاصة هذه الفقرة، مفادها ولوج الإخوان لملعب السياسة، جعلهم يخففون من المرجعية الدينية في العمل السياسي، وفق مسلكية تتأسس على منطق براجماتي.

3- تحت عنوان فرعي: "من النقاء الإيديولوجي إلى العادية"، يشير حسام إلى تبدد الصورة النمطية للإخواني نتيجة الانغماس في العمل السياسي، ولم تعد مقولات سيد قطب حاضرة على سبيل المثال: "جيل قرآني فريد" "المفاصلة و النقاوة"... وعوضتها قولة "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها، فهو أحق الناس بها"(...). يقول حسام في هذا الصدد: انفتاح كادر الإخوان ودخوله في تفصيلات الحياة (... ) جعله أقرب إلى العادية، (...)، ثم جاءت تطورات في حقل التدين لتنهي أي حديث عن النقاوة الإيديولوجية في القاعدة الإخوانية؛ فمع تراجع دور المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، صار تأثير الخارج ثقافيا وفكريا في الداخل الإخواني أكبر بكثير، وذلك عبر ظاهرة الدعاة الجدد، وقبلها المفكرون الاسلاميون المستقلون.

4- تحت عنوان: "من تغيير العالم إلى التمتع به" كتب حسام ما يلي: في حقبة الحلم كانت الكوادر الإخوانية تستغرقها روح زهد وتقشف وانصراف عن زينة الدنيا ومتاعها (...)، أما التحول الذي طرأ حيث أصبح الكادر الإخواني يبني ذاته، ويتعلم إداراتها ليستعد لمواجهة متطلبات الحياة أكثر، مما يستعد لسؤال الآخرة(...)، فأصبحت الروح الإخوانية الجديدة هي روح التعايش والتكيف مع الواقع كما هو دون السعي إلى تغييره، فقط إعطاؤه مسحة أخلاقية تحت لافتة الأسلمة" ويختم حسام – رحمه الله - إننا إزاء حالة تحول عامة تطاول المشهد الإخواني برمته، نتيجة الانخراط المكثف في العمل السياسي .

ظاهرة ترييف الإخوان:

وقد انتقل حسام إلى الحديث عن موضوع في غاية الأهمية، ويتعلق الأمر بظاهرة "ترييف الإخوان"، وهو مصطلح من نحت المرحوم حسام إلى جانب " تسلف الإخوان"، وقد ألمح إلى هذه الظاهرة؛ حيث ذكر أن المنظومة الإخوانية تحولت من الإطار الصوفي الذي يعطي الأولوية للجانب الروحي إلى الإطار السلفي الوهابي الذي يغلب الاهتمام بالنقاء العقائدي، وما يفرض ذلك من صدام مع التيارات المجتمعية التي لا يراها تتفق مع الكتاب والسنة (مقالة : الإخوان والصوفية ماض غير مستعاد). ويتساءل حسام عن كيفية تحول جماعة الإخوان من جماعة مدنية إلى جماعة ريفية، والمقصود عنده بترييف الجماعة؛ أي مجموعة المظاهر القيمية والسلوكية التي تبدو أقرب إلى انتشار ثقافة ريفية داخلها؛ وبتعبير آخر؛ هي نمط علاقات جديدة تنتمي لما قبل المؤسسية، وتستحضر الولاءات الأولية، ومن ملامح هذا الترييف : افتقاد الثقافة والتقاليد القانونية الواضحة والمرعية، كما يعطي مثالا على اكتساح الثقافة الريفية لمكتب الإرشاد: ومن بينهم محمود حسن من أسيوط ، وصبري عرفة الكومي من الدقهلية، ومحمد مرسي من الشرقية، يستأنف حسام كلامه بقوله: "لقد تراجع "أفندية" حسن البنا الذين تولوا إدارة الجماعة تاريخيا مثل حسن الهضيبي وعمر التلمساني وحسن عشماوي ومنير دلة وعبد القادر حلمي وفريد عبد الخالق....تواروا لمصلحة الريفيين الذين تقدموا لاحتلال الصفوف الأولى حتى داخل القاهرة مثل محمد مرسي - الرئيس الحالي لمصر- وسعد الكتاتني... كما ضم الكتاب مجموعة من المقالات التي تتمحور حول تنظيم الإخوان من الداخل، وعلاقته بالآخر المختلف دينيا أو سياسيا (القبطي- العلماني- النظام)، وصنف آخر من المقالات يتعلق بعلاقة الإخوان مع الخارج (الغربي) وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية، (والعربي) المملكة العربية السعودية. لكنه ركز حديثه عن البيت الداخلي للإخوان، خصوصا التيار الإصلاحي وجيل الوسط، ومآل التنظيم الدولي، وتاريخ الإخوان غير المكتوب، والحركات الاحتجاجية الجديدة، والمسألة الاجتماعية وقضية العولمة وموقف الإخوان منها، وثنائية الحزب والجماعة ومستقبل الاخوان في ظلها... ويعتبر هذا الكتاب وثيقة تاريخية مهمة للحركات الإسلامية في ربوع الوطن العربي، ولا تهم الإخوان فحسب، نظرا لتأثر كافة التنظيمات الإسلامية بأدبيات الجماعة، وماتزال الآثار الاخوانية قائمة إلى الآن. ومن هذا المنطلق تكمن أهمية الكتاب كمرجع لحركة النقد التي عرفها المشهد الإخواني داخليا من ناحية، وحالة الجمود والركود والتراجعات، ومظاهر الارتجال التي يعرفها تنظيم الجماعة على كافة الأصعدة. لقد رصد المؤلف أهم التحولات التي مست الجماعة في السنوات الأخيرة على مستوى المشروع والرؤية والأفكار والتكوين والقواعد، ويرى الكاتب أن التحولات الجارية والمتسارعة طبيعية، لكن المشكلة لديه أنها تتم بغير وعي وبشكل عشوائي.

ويلاحظ أن الكاتب أغفل الحديث عن العنصر النسوي داخل التنظيم "المرأة الإخوانية" من حيث الأدوار والمشاركة والمواقف، ولا أظن أنه لا يمتلك معطيات حول الموضوع، لاسيما وأنه المتابع الدقيق لشؤون الجماعة (حديثه عن آل البنا، وكذا حديثه عن جماعة المشروع على سبيل التمثيل)، كما يلاحظ أيضا تركيزه الشديد على التيار التجديدي داخل الإخوان خصوصا تيار الدكتور عبد المنعم أبو الفتو ح - قبل انسحابه من الجماعة -، وكذا تيار الوسط في شخص أبو العلا ماضي (مقالة: الإخوان الديمقراطيون..الأفكار، خريطة الانتشار، والعقبات) متحيزا للعناصر المجددة داخل الجماعة، خصوصا تيار العمل العام (العمل السياسي) الذي يبدي تفاعلا سريعا مع المستجدات ومتطلبات العصر، وقد أبدى تذمره من تضييع الجماعة لعقولها الاستراتيجية؛ أي الكفاءات الإخوانية (مقالة: ماذا جرى لعقل الإخوان الاستراتيجي؟) وقمعها للشباب خاصة حركة المدونين منهم؛ الذين خرجوا عن الخطوط الحمر للتنظيم (مقالة: المدونون الإخوان .. حركة احتجاج أم تيار للنقد الذاتي). وعلى عكس المهندس هيثم أبو خليل الذي يبدو نقده للجماعة يتسم بالشراسة والوضوح وتحديد موطن الخلل والجهة المسؤولة عنه:(مثلا يعتبر – هيثم - القيادي الإخواني خيرت الشاطر الأكثر تأثيرا على مكتب الإرشاد والجماعة، وصاحب الأفكار المضادة للإصلاح من الداخل)، فإن الأستاذ حسام تمام- رحمة الله عليه- بحكم مهنته كصحفي وكاتب متخصص في حركة الإسلام السياسي الحزبي، كان يحاول أن يظهر بمظهر الباحث الموضوعي، يقول في ختام مقالته الموسومة بـ "الإخوان والأمريكان.. تساؤلات حول مواقف ملتبسة": ليس همي نقد الإخوان أو الإساءة إليهم، بل أؤكد أن ما أكتبه هو حرص عليها "يقصد الجماعة"، وعلى المشروع الإسلامي ومحاولة لوضع الإخوان أمام مسؤولياتهم التاريخية وأمام الأمة والتاريخ. إن هذه القراءة المجملة والمقتضبة للكتاب لا تغني عن قراءته بأكمله؛ حيث يحتوي على تفاصيل وحقائق في غاية الأهمية، تساعد الباحث في فهم الذهنية الإخوانية، وتطوراتها الفكرية، ومواقفها السياسية، وقد عرضها الأستاذ حسام بأسلوب سهل، مدعوم بأمثلة وملاحظات مباشرة لسلوك الإخوان، تشير إلى تأثره واستخدامه للمقاربة السوسيولوجية، فضلا عن تأثره بأطروحات نقدية حديثة للظاهرة الإسلامية . وقد أقر ـ في مقام آخر ـ بتأثره بأطروحة الباحث الفرنسي أوليفييه روا: "ما بعد الإسلام السياسي"، واستفاد منها في دراسته المشار إليها أعلاه.