"الإسلاميون والإسلام".. تكامل أم صراع


فئة :  مقالات

"الإسلاميون والإسلام".. تكامل أم صراع

"الإسلاميون والإسلام".. تكامل أم صراع *


مدخل

يظل الإسلام الدين الكامل بشريعته التي حفظها الله ودعمتها سنة الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وتبقى التيارات الفكرية الإسلامية، منذ انبلاج فجر هذا الدين وتصدره في قلب الإنسانية، رؤى اجتهادية ليس إلا، فإما أن تدور في فلكه أو تشذ عنه، وما بين التأييد والتسليم والتدعيم من جهة، والرفض والإنكار من جهة أخرى، ظلت الاجتهادات والتأويلات والتفسيرات تتمحور حول هذا الدين، وتلتف به في اتجاهين متناقضين؛ أولهما: يسعى للتأكيد على ما يصبو إليه وإثباته بالحجج والبراهين النقلية مدعومة بالشواهد العقلية، وثانيهما: لا يجد حرجاً في التشكيك وتفنيد الآراء المختلفة من أجل زعزعته والنيل منه.

لقد تعرضت الكثير من التيارات الفكرية التي تعيش على تخوم الدين الإسلامي، إلى موجات مد وجزر ضربت شطآناً هنا، واستقرت على ضفاف أخرى هناك، متأرجحة بين الصعود والهبوط، ومن بين هذه التيارات كان الإسلامي منها بشقيه السياسي والراديكالي - إذا تعاملنا معها كتيارات فكرية ذات بعد أيديولوجي ديني في العصر الحديث؛ أي بعد سقوط الخلافة العثمانية 1928 - لها واقع الأثر في إعطاء الإسلام كدين سماوي أبعاداً اجتهادية جديدة، ورؤى مغايرة للشكل الكلاسيكي الذي كان في مخيلة العامة والخاصة.

مثلت فكرة الخلافة الإسلامية محور تماس ونصف قطر الدائرة التي دارت حولها جل القوى الإسلامية، منذ انطلاقتها عقب سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية

في هذا العمل، نحاول تلمّس مدى ومقدار التأثير والتأثر الواقعان من قبل هذين المكونين الفكريين المنبثقين من رؤى اجتهادية دينية، والإسلام كدين رسالي سماوي لا يحتاج إلى تكملة أو تتمة، "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا"[1]، في مسعى اجتهادي يتناول انعكاسات الإسلام السياسي بتنويعاته المتناقضة ومسمياته المختلفة، فضلاً عن الآخر الراديكالي، على الإسلام كدين سماوي، وتداعياته على أهل الملة، ومن هم دونه من غير المسلمين الذين لا يؤمنون به.

أولًا: الإسلام السياسي.. "الإسلام هو الحل"

ارتبط شعار "الإسلام هو الحل" بجماعة الإخوان المسلمين، الجماعة الأبرز في الساحة الإسلامية، ومفرخة التيارات الإسلامية في مصر والعالمين العربي والإسلامي[2]، ويكمن سر قوة هذا الشعار في أنه تجاوز الشعارات التقليدية التي صاحبت الجماعة على يد مؤسسها الشيخ حسن البنا، منذ عشرينيات القرن الماضي، وحتى اللحظة، مثل "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا، الجهاد سبيلنا، الإصلاح هو الحل.. إلخ"، كان وليد ظرف سياسي ساهم في صعوده وبقائه في آن معا[3].

بدأت قصة هذا الشعار، عندما ظهر في بداية الأمر كمؤلف لـ "خالد الزعفراني"[4]، أحد أهم رجالات الإخوان وأبرزهم في فترة السبعينيات، وتحديداً عام 1979، قبل أن ينشق فيما بعد وينقلب على الجماعة، بعدها تم استدعاؤه ليتم توظيفه سياسياً كشعار انتخابي لتحالف "الإخوان وحزب العمل وحزب الأحرار" في الانتخابات البرلمانية عام 1987[5]، ثم صار الشعار الحصري للجماعة بعد تجميد حزب العمل، ما دفعه إلى أن يكون بمثابة حالة تخندق للحالة الإسلامية الصاعدة، أو ما كان يطلق عليها في ذلك الوقت بـ "الصحوة الإسلامية"[6] فضلاً عن تمترس أنصار هذا الاتجاه، في مواجهة المعسكر الآخر الذي يتبنى أيديولوجية وأفكاراً مغايرة له، من الاشتراكية والشيوعية والناصرية وغيرها[7].

بيد أن القوى المدنية المعارضة لجماعة الإخوان المسلمين وحلفائها من المعسكر الإسلامي وقفت أمام هذا الشعار موقفاً معادياً، ما أثار قدراً كبيراً من الجدل حوله، لما رأوا فيه من "تحايل" على الإسلام، عبر توظيفه سياسياً في معركتهم تلك، فضلاً عن الحديث حول دوره في استقطاب البسطاء والعوام، ما اعتبر استخداماً صريحاً وتوظيفاً مباشراً للإسلام، وجعله مطية لخدمة أهداف أيديولوجية لدى الجماعة، وإخراج الخصوم السياسيين من دائرة الإسلام، لكونهم أضحوا يملكون الحل الإسلامي الحصري[8].

وفي حقيقة الأمر، لعب هذا الشعار دوراً بارزاً وكبيراً في تشبث الكثيرين من شرائح المجتمع المصري بالإسلاميين، وتحديدًا بجماعة الإخوان، ما جعلها تشحذ خلفها فئات مجتمعية متعاطفة معهم في معركتهم السياسية ونفوذهم الدعوى - على حد سواء - ما دفعهم إلى احتضانه وعدم التخلي عنه.

غير أنه طوال فترة المعارضة التي تخندق وسطها الإسلاميون وعلى رأسهم جماعة الإخوان، لم يتم اختبار هذا الشعار بشكل دقيق، حتى جاءت اللحظة المصيرية والاختبار الصعب عقب ثورة الـ25 من يناير (كانون الثاني) 2011 ووصول الجماعة عبر ذراع سياسية وليدة لها "الحرية والعدالة"[9] للسلطة، وتصدرها المشهد السياسي المصري بقوة، وعلى الرغم من أنها لم تتبنه صراحة، إلا أن من اندفع إليها من عموم فئات المجتمع كانوا يرون في الجماعة وانتهاجها الأيديولوجية الإسلامية حلاً سريعاً وناجزاً لمشكلاتها الضاربة في العمقين السياسي والمجتمعي[10]، جراء نظام مبارك الذي قام بتقعير الحالتين في المشهد المصري خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا أن النتيجة لم تكن لصالح الجماعة ومن وراءها من الإسلاميين، خلال تجربتهم الوليدة في السلطة، وشعر الجميع أن الشعار ما هو إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فارتد الحل الإسلامي إلى الوراء، ولم يعد "الإسلام حلاً" كما كانوا يتوقعون أو يأملون، حينها عجزت القوى الإسلامية عن تحقيق المعادلة الصعبة، التي لم يكونوا، لا هم ولا غيرهم، قادرين - في أشد اللحظات اضطراباً - على تحقيقها[11]، وحل هذه المشكلات المجتمعية بأيقونة الدين.

أحدث المتغير الطارئ على المشهد المصري والإطاحة بالرئيس المعزول محمد مرسي وإنهاء حكم الإخوان، في الثالث من يوليو (تموز) 2013[12]، هزة عنيفة دفعت إلى إعادة النظر في بعض المسلمات التي كانت تجنح نحوها القوى الإسلامية أو المتعاطفون معها أو من يشاركها الفكرة ذاتها، حيث خرجت أصوات من داخل البيت الإسلامي تقدم وجهاً مستنيراً[13]، وتنتقد بشدة مسارات الحركة الإسلامية المصرية ومنهجيتها، وجه عبد الفتاح مورو، الرجل الثاني في حركة النهضة التونسية والنائب الأول لرئيس البرلمان التونسي الحالي، صفعة بالغة الأثر صوب هذا الشعار من خلال تصريحه بأن شعار "الإسلام هو الحل" ما هو إلا شعار فارغ، وأن الإسلاميين ليسوا خياراً دائماً، ولم يدركوا أن المطلوب حالياً هو نظرة جديدة تأخذ بعين الاعتبار الواقع الراهن[14].

دعم تلك الفكرة أيضاً، وشدد عليها علي عثمان محمد طه، الأمين العام السابق للحركة الإسلامية في السودان - الذي رأى أيضاً أن الشعار لم يحقق أو يخلق برنامجاً للعدالة الاجتماعية، لأنهُ تعامل ببساطة مع قضايا المجتمع مطالباً في الوقت ذاته إعادة النظر فيه[15].

الخلافة الإسلامية

مثلت فكرة "الخلافة الإسلامية" محور تماس ونصف قطر الدائرة التي دارت حولها جل القوى الإسلامية، منذ انطلاقتها عقب سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية سنة 1922م على يد الكماليين[16]، وأضحت قاسماً مشتركاً بينهما، مع اختلاف شكل التعاطي ومركزيتها لدى كل فصيل من هذه التنظيمات والجماعات الإسلامية في المشرق الإسلامي والمغرب العربي - على حد سواء.

لم يضع لإسلام قالباً جامداً صامتاً محدداً لنظام الحكم تستحيل الحياة الإسلامية دونه، وإنما وضع أسساً ومعايير متى تحققت كان الحكم رشيداً يقرّه الإسلام

ففي حين مثلت الخلافة الحلقة الخامسة من الحلقات الست في الإستراتيجية التي وضعها الشهيد حسن البنا، للانتقال بالإخوان من مرحلة "الاستضعاف" إلى مرحلة "التمكين" التي تبدأ بالفرد، ثم الأسرة، ثم المُجتمع، ثم الدولة، ثم الخلافة الإسلاميَّة، وأخيراً "أستاذية" العالم[17]، فإنَّ حزب التحرير وضعها في مقدمة أولوياته، وظلت بمفهومها ورمزيتها الكلاسيكية، القضية الرئيسة التي قام عليها بنيان الحزب، والتي لا يزال العديد من أبناء هذا الحزب في مختلف بلدان العالم ينادون بحتمية تطبيقها، منذ الأيام الأولى لدعوة تقي الدين النبهاني، وحتى يومنا هذا. وذلك دون وضع تصور للآليات التي سينتهجها التحريريون من أجل إقامة خلافتهم تلك، فضلاً عن عدم مراعاة المعيار الزمني والتشكلات السياسية والمجتمعية الجديدة، التي تغيرت ولحقت بحجم من التطورات عبر العقود السابقة، أو على وجه الدقة خلال قرن كامل، وهنا مكمن الإشكالية، حيث جعلت هذه الخلافة أمراً اعتقادياً لا يمكن الحياة دونه[18].

يمكننا القول بأن هذا الإصرار غير المبرر على الجمع بين الخلافة والدولة، واستحالة إقامة نظام إسلامي أو حكم إلا به، كان تمهيداً لتفعيله بهذه الصورة التي دفعت لتوظيفه بشكل أكثر تطرفاً من قبل التنظيمات التي غالت في مركزية هذه الخلافة، حتى زجت به صوب التجربة الفعلية والممارسة على الأرض، فكان ما يسمى "الدولة الإسلامية في العراق والشام" أو "داعش" التي أعلنت بقيام الثالوث "الخلافة - الخليفة - الدولة"[19]، وهو ما كانت تحذر منه القوى المدنية من خطورة الدعوات الماضوية، التي تقنص مفهوم الدولة الحديثة الجامعة، وتصيب الفكرة الوطنية في مقتل، ليضحي المجتمع منقسماً بين فئتين: "المؤمنين والكفار"، على الشكل القائم الذي يجسده بكل وضوح ويتماهى معه ما يسمى بـ "الدولة الإسلامية - داعش".

في مشهد عبر عنه بدقة محمد مختار الشنقيطي في التركيز على محورية الخلافة تلك، لدى التنظيمات الإسلامية السياسية والراديكالية بقوله: "انبهار الثقافة التراثية بصورة الخليفة الراشد، غافلة المجتمع الراشد الذي أنتج ذلك الخليفة"، وهو ما يدفعنا إلى القول: إن فكرة الخلافة عند التحريريين وأنصار الفكرة من الراديكاليين، تشبه بقدر كبير نظرية الإمامة عند "الشيعة" التي تعد أصلاً ثابتاً وركناً أصيلاً لديهم من أصول الدين، لا يمكن العمل دونه.

فالإسلام كدين وشريعة، لم يضع قالباً جامداً صامتاً محدداً لنظام الحكم تستحيل الحياة الإسلامية دونه، فلا يمكن الخروج عنه، وإنما وضع أسساً ومعايير متى تحققت كان الحكم رشيداً يقرّه الإسلام، ومتى اختلّت أصاب الحكم من الخلل والاضطراب بمقدار اختلالها. ولعل العنوان الأهم لنظام أي حكم رشيد هو مدى تحقيقه لمصالح البلاد والعباد؛ فأي حكم يسعى لتحقيق مصالح البلاد والعباد في ضوء معاني العدل والمساواة والحرية المنضبطة بعيداً عن الفوضى والمحسوبية، وتقديم الولاء على الكفاءة فهو حكم رشيد معتبر[20].

فالدولة بذلك ليست كائناً غريباً عن الفرد، وليست سلطة خارجية مفروضة عليه عنوة وقسراً، بل هي تعيُّن ماهيته الإنسانية؛ أي تعيُّن إرادته الجوهرية، في القانون، الذي هو قوام الدولة، فتصير الدولة إلى كائن حي قابل للنمو والتطور والتحسن بنسبة نمو المعرفة والفكر وتطورهما، وبنسبة نمو الوعي الاجتماعي، في المجتمع المعني[21].

الخطأ الذي وقع فيه الغلاة من الإسلاميين أن الدولة الإسلامية ليست دولة دينية ثيوقراطية، إنما هي دولة مدنية تقوم على أساس الاختيار والبيعة والشورى[22] - أي بشكل انتخاب ديمقراطي بالمعنى الحديث - والدولة المسلمة كما قال العلامة أبو الحسن الندوي: هي دولة هداية لا دولة جباية؛ أي أن أكبر همها نشر دعوتها في العالمين، وتوصيل رسالتها إلى كل مكان. فهي رحمة الله إلى الناس كافة، ولا يجوز حجز رحمة الله أن تصل إلى عباد الله، هي دولة لحماية الضعفاء لا حماية مصالح الأقوياء[23].

الأقباط والأقليات الإثنية

لقد قدمت السلفية المعاصرة خاصة الجهادية منها تصوراً مشوشاً تجاه الأقليات الإثنية والعرقية، وساهمت بشكل غير مباشر في زيادة حدة "الإسلام فوبيا" من قبل الآخر، نتيجة ممارساتها، التي ظنت أنها مستمدة من التراث الإسلامي، الذي لم يكن على مدار تاريخه متسقاً مع ممارساتها المتشددة، ولم تراع تلك السلفيات اختلاف السياق الجديد والمتغير الحادث الملتف حولها. فكانت بحق سفيراً غير لائق للدين الإسلامي الذي كانت ميزته الأساسية استيعاب هذه الإقليات، التي احتضنتها على مدار تاريخها العريض، واحتواؤها. وكانوا شركاء حقيقيين لحضارتها المتجذرة في التاريخ الإنساني على مدار قرون متعاقبة. ولا يمكننا وضع السلفية بشتى تصنيفاتها وتنويعاتها جملة في سلة واحدة، إنما مقصدنا تلك التي لا زالت تردد مصطلحات، مثل "الجزية" و"الاسترقاق" و"التكفير" حتى اللحظة.

كانت الدعوة السلفية السكندرية بالقاهرة إحدى أهم السلفيات التي وقفت أدبياتها من الأقلية القبطية موقفاً معارضاً، عبرت عنها مقولات رموزها وآبائها المؤسسين بدقة؛ فالشيخ ياسر برهامي - نائب رئيس الدعوة السلفية - أكد في أكثر من موقف على أنه لا يجوز شرعاً تولي الأقباط للمناصب السيادية في الدولة، فضلاً عن عدم قبوله كرئيس للدولة، لكونه لا يقبله الشرع أو الواقع وفق تصريحات الشيخ سامح عبد الحميد، القيادي بالدعوة أيضًا[24]، وغير ذلك كثير تدور في الفلك ذاته وتدفع نحو توسيع الفجوة بين الأقباط والإسلام بفعل السلفيين.

على الضفة الأخرى الأكثر تطرفاً من داخل السلفية نفسها، ظلت مسألة تهنئة الأقلية القبطية محور جدل كبير داخل أروقة الإسلاميين، والتي كان لها واقع الأثر في اتساع الفجوة بين الأقباط، وتلك الحركات التي تتبنى الإسلام أيديولوجية منهجية، عبرت عنه بدقة تصريحاتهم وأقوالهم، والتي خرجت بعدم جواز تهنئة المسيحيين بعيد القيامة، لكونه أمراً يخالف الدين، فالمسلم بذلك يجد نفسه مقراً بعقيدة تخالف الإسلام، كما صرح أحد قياديي السلفية الجهادية المصرية مرجان سالم[25]، ودعم الفكرة ذاتها أحد قياديي ما يسمى بـ "الجبهة السلفية" خالد سعيد، الذي شدد على تحريم المشاركة في احتفالات النصارى وأعيادهم، نظراً لأن بها أموراً تخالف العقيدة الإسلامية[26].

فيما كان الحدث الجلل الذي عكس صورة سلبية أثرت سلباً في صورة الإسلام في الخارج والداخل - على حد سواء - اندفع البعض بإيعاز من قبل بعض الكيانات السلفية المتشددة في محاصرة - ومن ثم قتل - أحد الشيعة المصريين الذي عرف بانتمائه إلى الطائفة الشيعية الشيرازية، والذي عرف تطرفه، والنيل من أمهات المؤمنين، ويدعى حسن شحاتة، الذي لقى مصرعه وثلاثة آخرين في مشهد مأساوي في إحدى ضواحي مدينة الجيزة المصرية، اعتبر تحدياً صارخاً للقفز على السلطة الإدارية وتقسيماً مذهبياً واضحاً فجاً، حينما تم قتله والتمثيل بجثته، لم يراع سماحة الدين وأنموذجه المتصالح مع الخصوم[27]، فلا يمكن للعوام أن ينصبوا أنفسهم قضاة باسم الدين يكفرون هذا ويخرجون ذاك من الملة، وهو ما حدث من خلال التعبئة السلفية المتوالية ضد المذهب والآخر الذي لا ينتمي للطائفة.

ثانيا: الإسلام الراديكالي

الجهاد في سبيل الله

لقد قدم الإسلام الراديكالي لخصوم الإسلام كدين وعقيدة أكبر إدانة عرفها الإسلام في تاريخه، ولم تكفهم الحميمية للدماء وللقتل أن يقوموا بزعزعة الإسلام من داخل قلوب وعقول الأجيال الشابة التي وجدت في التطرف والمغالاة حالة للخروج من الملة بأسرها، بعد أن ضاقت بهم ذرعاً صدور هؤلاء الذين جعلوا القتل والدماء محوراً رئيساً في آليتهم وأيديولوجيتهم القائمة، ولعل تشويه "الجهاد" الذي هو ذروة سنام الإسلام، والذي تحفل سيرة النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بتاريخ حافل ومجيد لأروع الأمثلة في جهاده وأصحابه وآل بيته، هو من دفع ضريبة الاستخدام الخاطئ، والذي كان في غير محله من قبلهم، وساهم في تحول هذا المصطلح من فعل ممدوح إلى آخر مذموم.

إذ كان تعرقل الربيع العربي وتراجع قوى الإسلام السياسي إيذاناً بصعود الحالة الراديكالية وبروز نجم التنظيمات المتطرفة، ممثلة في الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، فانطلقت في مشهد دراماتيكي آخر في حملة ضد الأقلية اليزيدية في الداخل العراقي، وارتكبت مجازر في حقها داخل قرية "كوجو" بشمال العراق، وتم إعدام العشرات، ومحاصرتهم، ومطاردتهم في منطقة سنجار على الحدود الشمالية الغربية العراقية، ما دفعهم إلى اللجوء إلى الجبال يحتمون بها[28].

ولم تقف ممارسات داعش التي تصفها بـ"الجهادية" عند هذا الحد، بل اتسعت نحو تهجير العوائل المسيحية في مدينة الموصل شمالي بغداد، وقدمت داعش تبريرات لسلسلة القتل الممنهجة تلك، بأنه يأتي تأديباً لما أسموه "رؤوس النصارى" الذين لم يذعنوا لقاء داعش في موعد هم رتبوه معهم، وعرضوا على المسيحيين، للحضور مرة أخرى للتوبة لاعتناق الإسلام. فإما الإسلام، أو عهد الذمة - وهو أخذ الجزية منهم - فإن هم أبوا ذلك، فليس لهم إلا السيف[29].

لقد منع الإسلام الاعتداء على غير المسلمين "أهل الذمة"، أو شدد على عدم إجازة الاعتداء على أموالهم وأعراضهم، بل إنه، وعند نشوب خلاف بين مسلم وذمي على أمور الدنيا، مرجعهم في ذلك إلى الحاكم الإسلامي، أو من يمثله في وقتنا الحاضر، السلطة السياسية والنظم التشريعية الإسلامية، ويقول الرسول المصطفى: "من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً"، بل أوجب الإسلام الدفاع عن أهل الذمة، إذا تعرضوا لاعتداء من قبل ذمي منهم أو من عدو خارجي أو من المسلمين[30].

بل أوجب الإسلام التعامل بالحسنى مع سائر علاقاته مع كل بني البشر، وهو ما يمتد أيضاً إلى معاملة الذميين ما داموا لم يتعرضوا بالأذى، قال تعالى: "إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ"[31].

ومن العراق إلى مصر.. لم تتوان التنظيمات الراديكالية في استنساخ مشاهد العنف المنظم، من خلال "أنصار بيت المقدس" التي أعلنت في وقت سابق مبايعتها للخليفة أبي بكر البغدادي، وانطلقت سلسلة الاغتيالات والتفجيرات تحت دعوة الجهاد في سبيل الله[32].

إن النقطة الأبرز، والتي ساهم فيها "داعش" ومن قبله "القاعدة" وأخواتها، منذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2011، هي تشويه مفهوم الجهاد، ليس لدى الأوساط العربية والإسلامية وحسب، وإنما في ذهن الغرب أيضاً.

يذكر الشيخ محمد عبده في تفسيره للآية 218 من سورة البقرة "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"(..) إن الجهاد من المجاهدة، وهي من الجهد والمشقة، وليس خاصاً بالقتال؛ فالمؤمنون الذين هاجروا مع الرسول أو هاجروا إليه للقيام بنصرة الحق ومقاومة الكفار ومقاومتهم، هم الذين يرجون رحمة الله تعالى[33].

ويسوق الإمام الشاهد القرآني، ليؤكد من خلاله على أن الجهاد بالنفس بمعنى القتال والجهاد بالمال لم يشرعه الله للمسلمين إلا للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها. الأمر الذي يبطل في نظره روايات داعش والقاعدة وأخواتها، والمزاعم بأن الإسلام انتشر بالسيف. أما الاعتداء قد حرمه الإمام، مؤكداً أن تقديم الدعوة كان شرطاً لجواز القتال، وإن الدعوة كانت دائما بالحجة والبرهان، لا بالسيف والسنان، وذلك وفقًا لما جاء بالقرآن[34]. ويؤكد الإمام أن الجهاد بمعنى القتال هو فرض كفاية على المسلمين، حيث إن قيام بعضهم به يعفي الآخرين من القيام به. أما أستاذه الأفغاني، فقد ألح عليه - أي الجهاد - لمواجهة المستعمر ورد المحتل[35].

ولا يمكن إغفال البعد الآخر الذي يكمن في الممارسات الاستعلائية من بعض الأنظمة الغربية، والتبريرات الغربية لدخول دول العرب والمسلمين بحجج واهية، من أجل استرقاق البعض منهم، فأجواء الاستبداد والقهر والتطرف هي التي أنتجت مثل هذه الأشكال الممعنة في المغالاة والتشدد، والتي تنعكس في المحصلة النهائية على الإسلام كدين سماوي سمح.

إن رسالة الإسلام السامية تدعو إلى مزيد من مراجعة النفس والنقد الذاتي التي تدفع نحو تحقيق المعادلة الصعبة، والتي يمكنها أن تعقد تواؤماً وتصالحاً بين هذه المكونات الإسلامية المتباينة والمجتمع

وقد ذهب أستاذ العلوم السياسية المصري نصر عارف، إلى تصنيف هذه الجماعات الراديكالية بأنها "جماعات الجهاد الوظيفية "[36]، لكون الأصل من الاسم والصفة، وهو الجهاد، إيجابي بالأساس؛ فالجهاد كما قسمه الفقهاء، إما جهاد دفع أو جهاد طلب، والأول يحدث عندما يأتي العدو إلى ديار المسلمين ويحتلها، أو يستولي عليها وعلى خيراتها، أو يفرض قانونه عليها، وهنا يصبح الجهاد فرض عين على كل قادر على القيام به. أما الثاني والمتعلق بجهاد الطلب، ففيه خلاف كبير من حيث شرعيته واستمراريته[37].

في موازاة ذلك، يذهب الأكاديمي المصري أيضا إلى رؤية مفادها أن جهاد الطلب ما هو إلا "ظاهرة سياسية تاريخية" وليست "دينية" لنظرة الفقهاء له على أنه من فروض الكفايات، يعنى إذا قام به البعض سقط عن باقي المسلمين[38]، وعلى الرغم من حجم الجدل حول هذا الصنف من الجهاد، إلا أنه وبالمجمل لا يمكن إدراج المشهد الراديكالي الحالي والتعامل معه على كونه جهاداً إسلامياً ينتمي لأحد القسمين والصنفين، وهو ما يدفع نحو هذه الرؤية التي تذهب إلى كونه "جهادًا وظيفياً" من الدرجة الأولى، مثله في ذلك مثل حركات القرامطة والزنج والحشاشين، التي كانت تتقاسم معها الحالة الحالية في ممارسات راديكالية مماثلة، مع اختلاف أن الحالية استخدمت مصطلح الجهاد وأسبغته على ممارساتها الشرعية، بخلاف تلك الحركات التي لم تبرر ممارساتها الشائنة بغطاء ديني[39].

موجز القول.. إنه من الإجحاف إنكار دور قوى الإسلام السياسي حين انطلاقها في الحفاظ على الهوية الإسلامية، بعد محاولات العلمنة السالبة التي كانت تجتاحها فور انتفاء الحكم العثماني وأفول مملكتها، وضبطت إلى حد ما الإيقاع الديني بعد موجات الجهالات والفوضى والعشوائية التي لحقت بممارسات العامة والخاصة - على حد سواء.

بيد أن ما حاولنا تقديمه من خلال هذا العمل، إنما محاولة اجتهادية من باب النقد البناء، الذي يهدف إلى ضرورة أن تنظر تلك القوى الإسلامية إلى أدبياتها بشقيها السياسي والراديكالي، وأن تعي جيداً أن الآخر أيا كان هو دائماً ما يخلط بينها - أي تلك الحركات - والإسلام، ويحمل الدين بما ليس أهله نتيجة ممارسات خاطئة، أو أخرى جانبها الصواب، ولا يأتي من باب تصيد الأخطاء على الإطلاق.

إن رسالة الإسلام السامية تدعو إلى مزيد من مراجعة النفس والنقد الذاتي التي تدفع نحو تحقيق المعادلة الصعبة، والتي يمكنها أن تعقد تواؤماً وتصالحاً بين هذه المكونات الإسلامية المتباينة والمجتمع، الذي هو المتأثر الأول والأهم في تلك المعادلة، خاصة وأن الحديث عما بعد الإسلام السياسي أو الإسلاموية، سمّها ما شئت، إنما جاء نتيجة عكسية لتداعيات هذه التيارات الفكرية المتشحة بالإسلام، والتي كان من المفترض أن تكون امتداداً لها، كالمحاولات الإحيائية التي انطلقت عقب أفول الخلافة العثمانية، والتي كان أهم رموزها الشيخ الإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني في مصر، والسنوسية في ليبيا، والأدارسة في المغرب العربي، والدور القوي للشيخ عبد القادر الجزائري في الجزائر، وغيرهم كثير، من الذين أضافوا للفكر الإسلامي، ولم يكونوا يوماً حجر عثرة بين الآخر، الذي لا يؤمن بالإسلام عقيدة وشريعة، أو ذاك ابن الملة الذي لم يكن يرى في الإسلام حلالاً، وبين الرسالة السماوية السامية والدين الخالد.


[*] نشر هذا المقال في مجلة ذوات، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 5 .

[1] سورة المائدة، الآية [3].

[2] Muslim Brotherhood

http://almanac.afpc.org/muslim-brotherhood

[3] خالد الزعفراني.. صاحب شعار «الإسلام هو الحل»:

http://moheet.com/2014/04/29/2057062/#.VNoL5C7dVME

[4] يعد "خالد الزعفراني" من كبار مؤرخي الحركة الإسلامية، وهو أحد قيادات جيل الوسط في الحركة الإسلامية في مرحلة السبعينيات، وله مواقف ورؤى مختلفة عن ذلك الجيل، ويملك شجاعة نقد هذا الجيل، ويعبر عن طموحات الحالة الثورية الشبابية.

ولد خالد عبد الرحمن الزعفراني بمحافظة كفر الشيخ، بقرية السالمية، مركز فوة عام 1952، وحصل على بكالوريوس من معهد التعاون التجاري، وليسانس آداب لغة عربية من جامعة طنطا، بالإضافة إلى ماجستير معهد الدراسات الإسلامية بالزمالك. للمزيد الاطلاع على هذا الرابط:

http://moheet.com/2014/04/29/2057062/خالد-الزعفراني-صاحب-شعار-الإسلام-هو-ا.html#.VNoMVS7dVMG

[5] الأداء البرلماني لنواب الإخـوان في الميزان

http://www.swissinfo.ch/ara/الأداء-البرلماني-لنواب-الإخـوان-في-الميزان/4777302

[6] د. علاء بكر يكتب: الصحوة الإسلامية في مصر في السبعينيات

https://www.facebook.com/abwkbyrSalafiacall/posts/163754620440676

[7] بديع‏:‏ نشارك بشعار الإسلام هو الحل

http://www.ahram.org.eg/archive/Al-Ahram-Files/News/42806.aspx

[8] حملات انتخابية مصرية ساخنة وسجال عن دور الإسلام في السياسة

http://www.alarabiya.net/articles/2005/11/06/18354.html

[9] Freedom and Justice Party (Egypt)

http://en.wikipedia.org/wiki/Freedom_and_Justice_Party_(Egypt)

[10] Islam Is Not the Solution (or the Problem)

https://muse.jhu.edu/login?auth=0&type=summary&url=/journals/washington_quarterly/v029/29.1brumberg.html

[11] الاسلاميون وأسباب "الإخفاق" في الحكم

http://www.alquds.co.uk/?p=103847

[12] "Revolution not coup": Anti-Morsi Egyptians tell CNN

http://english.ahram.org.eg/NewsContent/1/64/75881/Egypt/Politics-/Revolution-not-coup-AntiMorsi-Egyptians-tell-CNN.aspx

[13] الشيخ عبد الفتاح مورو.. بين مطرقة الإخوة وسندان الأعداء.. رجل الوسطية

http://www.majalla.com/arb/2011/08/article2436

[14] عبدالفتاح مورو لـ"العربي الجديد": "الإسلام هو الحل" شعار فارغ

http://www.alaraby.co.uk/politics/10feeeb1-2d32-45da-9441-cac18740ab14#sthash.n3T3rMQA.dpuf

[15] دعوة علي عثمان لمراجعة شعار "الإسلام هو الحل"

http://www.sudantribune.net/دعوة-على-عثمان,9713

[16] الخلافة العثمانية، للمزيد الاطلاع على هذا الرابط:

http://ar.wikipedia.org/wiki/الدولة_العثمانية

[17] حزب التحرير والخلافة الإسلاميَّة (1-2)

http://www.sudantribune.net/حزب-التحرير,9076

[18] هانى نسيرة، أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار...قراءات في الخطاب العربي المعاصر، الفصل الثالث: أيقنة الخلافة –حزب التحرير والتفسير السياسي للإسلام.

[19] أنصار بيت المقدس ودعشنة المشهد المصري- مصطفى زهران- الجزيرة نت

http://www. aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2014/11/25/أنصار-بيت-المقدس-و-دعشنة-المشهد-المصري

[20] نظـام الحكم والمتاجرة بالخلافة، د. محمد مختار جمعة

http://www.ahram.org.eg/NewsQ/346975.aspx

[21] في ما هي الدولة الوطنية - جاد كريم الجباعي

http://www.dctcrs.org/s3803.htm

[22] د. يوسف القرضاوى، من فقه الدولة في الإسلام: مكانتها، معالمها، طبيعتها، موقفها من الديمقراطية التعددية والمرأة وغير المسلمين.

[23] المرجع السابق.

[24] هل يجني السلفيون مكاسب من الدستور الجديد على حساب الأقباط؟

http://www.mcndirect.com/showsubject_ar.aspx?id=53618#.VIttG8n1jIU

[25] قيادى بـ "السلفية الجهادية": الأزهر لا يمثل الإسلام!

http://www.masress.com/veto/318780

[26] سلفيون يهاجمون "العريان" بعد تهنئته للأقباط بعيدهم.. "الجهادية": "الإخوان" تجاملهم.. خالد سعيد: يجوز للمسلم الصلاة فى الكنيسة ولا يجوز له تهنئة المسيحيين.. و"المصرى": من يذهب للكنيسة للتهنئة "آثم":

http://www.youm7.com/story/2013/4/28/سلفيون-يهاجمون-العريان-بعد-تهنئته-للأقباط-بعيدهم-الجهادية--ا/1039623#.VNoiFi7dVMF

[27] التحالف المصرى للأقليات يستنكر حصار السلفيين لمنزل شقيق القيادى الشيعى الراحل حسن شحاتة

http://aswatmasriya.com/news/view.aspx?id=fcaea8e5-d00a-4cbd-bee9-a4d30588d209

[28] "داعش" تحاصر 300 أسرة من اليزيديين بشمال العراق وتهددد بإعدامها

http://www.futuretvnetwork.com/node/105965#sthash.wUpIvF08.dpuf

[29] العراق: داعش تُهجر المسيحيين وتنذر الشيعة

http://www.almodon.com/arabworld/ef0c9952-9549-4dce-87a7-291a57a84bcc

[30] عبدالغفار مصطفى، الإسلام والآخر تعايش لا تصادم، تقديم د. يوسف القرضاوى.

[31] سورة التوبة، 4

[32] أنصار بيت المقدس ودعشنة المشهد المصري- مصطفى زهران

http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2014/11/25/أنصار-بيت-المقدس-و-دعشنة-المشهد-المصري

[33] عبدالغفار مصطفى، الإسلام والآخر تعايش لا تصادم، تقديم د يوسف القرضاوى.

[34] م. ن.

[35] م. ن.

[36] د نصر محمد عارف، المصادر الفكرية لجمعاعات الجهاد الوظيفي، السياسة الدولية، العدد الثامن والتسعون بعد المائة، أكتوبر 2014

[37] م. ن.

[38] م. ن.

[39] م. ن.