معالم في الطريق: سيّد قطب في التأسيس الإسلاميّ الحركيّ للعنف باسم التوحيد


فئة :  قراءات في كتب

معالم في الطريق: سيّد قطب في التأسيس الإسلاميّ الحركيّ للعنف باسم التوحيد

معالم في الطريق([1]) سيّد قطب

في التأسيس الإسلاميّ الحركيّ للعنف باسم التوحيد


يُعتبر كتاب معالم في الطريق واحداً من أهمّ الكتب التي تستقي الجماعات الإسلاميَّة الجهاديَّة المتطرّفة الآراء والأفكار منها، فهذا الكتاب يُعدّ بمثابة الدليل الفكري والمرجع التنظيري الأوَّل لتلك الجماعات، لما فيه من أفكار مؤسّسة لا غنى عنها في مسار الفكر الجهادي.

وصاحب هذا الكتاب هو سيّد قطب (1906- 1966م)، وهو مفكّر وكاتب وأديب ومنظّر إسلامي مصري معروف، كان عضواً في مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين ورئيس سابق لقسم نشر الدعوة في الجماعة، ورئيس تحرير جريدة الإخوان المسلمين.

وقد خاض قطب مع جماعة الإخوان الكثير من أوجه نشاطهم السياسي الذي تمَّ استكماله مع قيام ثورة الضبّاط الأحرار منذ عام1952م إلى عام 1966م، عندما تمَّت محاكمته بتهمة التآمر على نظام الحكم وصدور الحكم بإعدامه.

وقد مرَّ سيّد قطب بمراحل عديدة في حياته، فبدأ حياته أديباً وعُرف بتأثره الشديد بالمفكّر الكبير عبّاس محمود العقاد، ثمَّ تغيَّرت بوصلته الفكريَّة بتوجُّهه الإسلامي، عندما انضمَّ إلى جماعة الإخوان المسلمين، فشارك في المجال السياسي حتى صار رائد الفكر الحركي الإسلامي أو ما يُعرف بالقطبيَّة، وهذه المرحلة هي التي يعرفه الناس بها حتّى اليوم.

مراجعة الكتاب

في بداية الكتاب يشنّ سيّد قطب هجوماً حادّاً على كلّ من الاشتراكيَّة والرأسماليَّة، حيث يؤكّد إفلاسهما وعدم قدرتهما على تقديم القيم التي تحتاجها المجتمعات البشريَّة المعاصرة.

يقول: (إنَّ قيادة الرجل الغربي للبشريَّة قد أوشكت على الزوال... لا لأنَّ الحضارة الغربيَّة قد أفلست ماديّاً أو ضعفت من ناحية القوَّة الاقتصاديَّة والعسكريَّة...، ولكن لأنَّ النظام الغربي قد انتهى دوره، لأنَّه لم يعد يملك رصيداً من القيم يسمح له بالقيادة).

ومقابل هذا الإفلاس يبشّر قطب بأنَّ الإسلام هو الوحيد المؤهَّل لامتلاك قيادة البشريَّة في المستقبل، ويعلّل ذلك بامتلاكه كلاً من القيم والمناهج المناسبة. ولأجل هذا كان عليه أن يؤكّد أنَّ الإسلام لا يتنكَّر للإبداع المادي الذي كان محور الإيديولوجيّة الغربيّة، وسبب تقدّم الغرب تقنيّاً. ولكنَّ الإبداع الماديّ في نظره يبقى مجرّد وظيفة فرعيّة، من بين وظائف الإنسان وفق المنهج الإسلامي، فأمّا وظيفة الإنسان الرئيسة فهي أنّه (خليفة لله في الأرض).

ولكن لمَّا كانت كلّ عقيدة أو إيديولوجيَّة تحتاج إلى وسط معيَّن، لتستطيع من خلاله أن تعبّر عن نفسها وتؤكّد وجودها وتفوّقها، فإنَّه من الضروري أن يتمَّ إعادة إحياء المجتمع المسلم والأمَّة المسلمة من جديد، حتّى يتمَّ تقديم نموذج إسلاميّ يصلح لأستاذيَّة العالم يثبت حقيقة تفوُّق الإيديولوجيَّة الإسلاميَّة على غيرها من الإيديولوجيَّات والأفكار الأخرى السائدة.

إنَّ النموذج الإسلاميَّ الذي يطالب به قطب لا ينحصر في قوم يدَّعون أنَّهم مسلمون، ولا في أرض جرى تعريفها بأنَّها أرض مسلمة، إنَّما هو نموذج يتمثل في اجتماع بشريّ، قوامه الإسلام في كلّ مناحي حياتهم الرّوحيَّة والماديَّة. إنَّه (جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوُّراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلّها من المنهج الإسلامي) ص6.

غير أنَّ تلك الجماعة حسب قطب قد اختفت من على مسرح الأحداث التاريخيَّة، منذ انقطع الحكم بشريعة الله. ومن هنا فإنَّ مسافة زمنيَّة تفصل بالتأكيد ما بين إعادة بعث هذه الجماعة من خلال إعادة إحياء الأمَّة الإسلاميَّة على المنهج الإسلاميّ المطلوب، وإنَّ تلك المسافة تزداد طولاً في انتظار تسلّمها لقيادة البشريَّة من جهة أخرى.

وفي شرحه للدَّور الذي يتعيَّن على هذه الجماعة أن تتولّاه في قيادة البشريَّة، يصرّح قطب بأنَّه ليس من اللّازم أن تتفوَّق الأمَّة الإسلاميَّة في ميادين العلم والمادَّة، ويفسّر ذلك بأنَّ الحضارة الغربيَّة قد سبقت المسلمين فيهما بأشواط بعيدة، ممَّا سيجعل من محاولة الاحتكام للتقدُّم المادي في سبيل إظهار التفوُّق الحضاري مجرَّد محاولة عبثيَّة ليس أكثر.

وإنَّ ما هم مطالبون به هو أن يعيدوا للإنسانيَّة ما فقدته من منهاج قادر على أن يعيد إليها عمقها الرّوحيّ المفقود. وليس هذا المنهاج غير المنهاج الإسلاميّ. إنَّ على المسلمين حينئذ أن يستندوا في إظهار تفوُّق نموذجهم إلى عقيدتهم ومنهجهم المتفرّد، الذي من شأنه أن يعيد للإنسان ما فقده من قيم وأخلاقيَّات من جهة، وأن يحافظ على مكتسبات العبقريَّة الماديَّة من جهة أخرى.

لمَ تحتاج البشريَّة إلى هذا المنهج الإسلاميّ في نظر قطب؟

إجابة عن هذا السؤال، يستعيد قطب مفهوم الجاهليَّة القرآنيّ، ليحوّله من وضعيَّة تاريخيَّة إلى حالة حضاريَّة متكرّرة كلّما استقلَّ البشر عن حكم اللّه ومنهاجه في تسيير حياتهم. وفي هذا السياق، يأتي حديثه في هذا الكتاب عن مصطلح الجاهليَّة الذي يُعدُّ أحد أهمّ المصطلحات التي عرفها خطابه الفكري في هذا الكتاب وغيره من الكتب والمؤلفات، فما مدلول هذا المصطلح في نظره؟

يتبيَّن هذا المدلول من خلال الشروحات والأقوال التالية التي تقرن هذا المصطلح بمصطلح آخر له الأهميَّة نفسها في الخطاب القطبيّ هو مصطلح الحاكميَّة. يقول قطب: إنَّ الجاهليَّة وضع للعالم أجمع من ناحية (الأصل الذي تنبثق منه مقوّمات الحياة وأنظمتها) ص8، إنَّه وضع يقوم على المعاداة الصريحة لحاكميَّة الله، وذلك عن طريق إسناد صفة الحاكميَّة للبشر من دون الله.

فالجاهليَّة إذن كلّ وضع إنسانيّ لا تكون فيه الحاكميَّة للّه، بصرف النظر عن المظاهر الخارجيَّة لهذا الخروج عن حاكميَّة اللّه. ولذا فوضع الجاهليَّة الآن ليس صورة مطابقة لوضع الجاهليَّة السابق للرسالة في مظاهره الخارجيَّة، فإذا كانت الجاهليَّة الأولى في العصور السابقة قد أعطت للبشر شكلاً من أشكال الألوهيَّة والربوبيَّة البدائيَّة الساذجة، فإنَّ جاهليَّة اليوم قد أخذت صوراً أكثر تركيباً وتعقيداً، بما منحته للبشر من حقّ في (وضع التصوُّرات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله) ص8.

بهذا التفسير، يتحمَّل مفهوم الجاهليَّة بدلالة جديدة تخرجه من مجرَّد الدلالة السلبيَّة على وضع عدم الاحتكام لشرع اللّه، إلى دلالة إضافيَّة أخطر وأعمق، إذ يصبح المفهوم ذا مدلول إيجابيّ يمثّله كلُّ احتكام لشرع غير الشرع الإلهيّ، هو شرع العقل والفكر الإنسانيّ المستقلّ بنفسه، ممَّا يسمّيه قطب تصوُّرات ماديَّة للحياة. من هذا المنظور لا إفلات من وضع الجاهليَّة في نظر قطب إلّا بالاحتكام إلى الإسلام في كلّ مناحي الحياة، فالإسلام وحده دون جميع الإيديولوجيَّات الأخرى هو المحرّر من الجاهليَّة، بما أنَّه يبشّر بعبادة الله وحده، والتلقي من الله وحده، والخضوع لله وحده. وهو بذلك متفرّد بتحرير جميع البشر من الاستعباد والخضوع لبعضهم بعضاً.

والسؤال هو: كيف تتمُّ عمليُّة الخروج من وضع الجاهليَّة؟ أي كيف يكون البعث الإسلامي؟

تظهر الأفكار الثوريَّة واضحة في كتابات سيد قطب عندما يبدأ في عرض أفكاره حول الكيفيَّة التي يخرج بها المجتمع من الحالة الجاهليَّة التي يعيش فيها، وكيف يستطيع هذا المجتمع أن يحقّق نموذجه الإسلامي المتفرّد. وفي هذا الإطار يرى أنَّه يجب أن تتوافر نخبة أو طليعة ثوريَّة تمتلك من العزيمة والبأس ما يمكّنها من أن تشقَّ طريقها في سبيل تحقيق أهدافها وسط خضمّ الجاهليَّة الضاربة في شتّى جنبات المجتمع. وهذه الطليعة التي يسمّيها قطب جيلاً قرآنيَّاً جديداً تجد نموذجها وقدوتها في الماضي الإسلاميّ القديم، حيث كان الجيل الإسلاميّ الأوَّل جيلاً فريداً ومميّزاً بكلّ ما تحتمله الجملة من معانٍ. فأمَّا عن أسباب تميُّز ذلك الجيل، فيحصرها قطب في ثلاثة عوامل مؤثرة: أوَّلها يتمثل في أنَّ الجيل الأوَّل كان جيلا قرآنيَّاً، وهو ما يعني بحسب تعبيره أنَّه كان جيلاً (خالص القلب، خالص العقل، خالص التصوُّر، خالص الشعور، خالص التكوين من أيّ مؤثر أخر غير المنهج الإلهي الذي يتضمَّنه القرآن الكريم) ص14.

ويفسّر قطب اختلاف الأجيال التالية عن الجيل الأوَّل بأنَّه، بمرور الوقت، تكاثرت الينابيع الفكريَّة التي نهل منها المسلمون، فتداخلت الثقافات الفارسيَّة والبيزنطيَّة والقبطيَّة مع الثقافة القرآنيَّة الخالصة، وأدَّى ذلك بطبيعة الحال إلى ضياع السمات والخصائص المميّزة للجيل الأوَّل.

أمَّا العامل الثاني، فإنَّه يكمن في اختلاف منهج التلقّي، فقد كان الجيل الأوَّل لا يقرأ القرآن بهدف التذوُّق أو الثقافة أو الاطلاع فحسب (إنَّما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصَّة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها).

وذلك، لأنَّ القرآن لم ينزل جملة واحدة، وإنَّما نزل وفق الحاجات المتجدّدة ووفق النمو المطّرد في الأفكار والتصوُّرات. واكتملت خصائص التلقّي في ذلك الجيل بالعامل الثالث الذي جعلهم مختلفين، وهو انخلاع أفراده من خلفياتهم الجاهليَّة التي نشأوا وتربّوا عليها.

وإذا كان صفاء ذلك الجيل للعوامل الثلاثة السابقة، فإنَّه صفاء تبع طبيعة المنهج القرآنيّ ومضمونه الذي تشبَّعوا به على التدرُّج، واهتدوا بهديه. فخلال ثلاثة وعشرين عاماً، ظلَّ القرآن يتنزَّل فيهم على الرسول ـصلى الله عليه وسلم ـ ويركّز على قضيَّة واحدة رئيسة، يعتقد قطب أنَّها لبُّ الدّين وجوهره الأعظم، ألا وهي العلاقة ما بين الألوهيَّة والعبوديَّة. فإذا كان شاغل القرآن الأوَّل في الفترة المكيَّة هو تفسير وجود الإنسان والعلاقة ما بينه وبين الله عزّ وجلّ، فإنَّ شاغله في العهد المدنيّ كان متمثلاً في تنظيم العلاقة ما بين الإنسان والإنسان عن طريق التشريعات والأوامر والتنظيمات الإلهيَّة.

إنَّ أهميَّة موضوع العلاقة بين الألوهيَّة والعبوديَّة هي التي جعلت الصراع ما بين المسلمين والمشركين منحصراً في تطبيق جملة (لا إله إلّا الله)، لأنَّ العرب قد فهموا أنَّ تلك الجملة تعني انسلاخهم بشكل كامل وتامّ من كلّ آثار الشرك والجاهليَّة المحيطة بهم.

ويرى قطب أنَّ دراسة التاريخ المبكّر للدعوة الإسلاميَّة من شأنها أن تفتح أفاقاً جديدة لفهمها واستيعابها، فلو كان المطلوب من الإسلام أن يستبدل حكم الرّوم والفرس بحكم عربي، لكان من الأنسب أن يدعو الرسول للقوميَّة العربيَّة من أوَّل أيّام الدعوة الإسلاميَّة، ولما كان تكبَّد مشقة وعناء التخاصم والحرب مع القبائل العربيَّة المختلفة، فالإسلام لم يكن يقصد استبدال الطاغوت الفارسي أو البيزنطي بآخر عربيّ، بل إنّ لبَّ الدعوة الإسلاميَّة هو: (أنَّ الأرض لله، ويجب أن تخلص لله، ولا تخلص لله إلَا أن ترتفع عليها راية لا إله إلّا الله، وليس الطريق أن يتحرَّر النّاس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو فارسي إلى طاغوت عربي، فالطاغوت كلّه طاغوت) ص24.

وكما أكَّد قطب على أنَّ الدعوة الإسلاميَّة ليست في حقيقتها دعوة قبليَّة أو قوميَّة، فإنَّه يؤكّد أيضاً على أنَّها لم تكن (دعوة اجتماعيَّة)، فالرَّسول لم يثر حرباً ضدّ الأشراف والطبقة الأرستقراطيَّة، ولم يتعصَّب للفقراء والمساكين، ولم يقم بردّ أموال الأغنياء على الفقراء. كما أنَّ الدعوة الإسلاميَّة لم تكن أيضاً دعوة إصلاح خلقي، فرغم أنَّ الكثير من الأخلاق الفاسدة كانت منتشرة في تلك الفترة التاريخيَّة، إلّا أنَّ الله ارتضى طريقاً أخرى، تكون فيها العقيدة هي الباعث على الاستقامة الأخلاقيَّة.

إنَّ مجمل هذا الاستدلال يبغي من خلاله قطب تكريس تأويليّته الخاصَّة للرّسالة، استناداً إلى المدلول الذي يريده لها. وإنَّ هذا المدلول ينطلق في نظره من تصوُّره الخاصّ لدلالة التوحيد. فليس التوحيد، وهو جوهر الرّسالة، مجرَّد ثورة في الحكم والسلوك، إنَّما هو أبعد من ذلك، ثورة في تصوُّر الوجود الإنسانيّ، تحلّ اللّه في المركز منه، وتجعل توحيده إقراراً بأنَّ الإنسان معترف بتبعيَّته المطلقة للّه. ومن ثمَّ فليس خروجه من الجاهليَّة إلّا عودة إلى ذلك الاعتراف، يعبّر عنه بتنفيذ الحاكميَّة وعياً وسلوكاً.

بقي أنَّ قطب يعتبر أنَّ هذا النموذج لا يتحقّق من تلقاء نفسه، ففضلاً عن الطليعة المؤمنة، فلا بدَّ من مراحل لتحقيق هذا النّموذج. فقطب لا يرى إمكانيَّة وضع النّموذج إلّا من خلال الشروع في العمل فيه، فعندما يبدأ العمل على النّموذج المطلوب، فسوف تنشأ تحدّيات وعراقيل ومستجدات، وسوف تتشكَّل الصياغة النهائيَّة للنموذج من خلال قوى التحدّي والاستجابة، بسبب العلاقات الجدليَّة الضروريَّة ما بين الأفكار ونقائضها.

والطريف هنا أن تظهر بعض التأثيرات الديالكتيكيَّة في فكر قطب، ويمكن ردُّ ذلك إلى تأثر قطب بالأفكار والرؤى الماركسيَّة، التي كان يعتنقها في بدايات حياته الفكريَّة، وهو الأمر الذي يجعل من أفكاره تأخذ مساراً مختلفاً وبعيداً كلَّ البعد عن المسارات الفكريَّة لغيره من المفكّرين المسلمين الذين ينزعون في تنظيراتهم لتبنّي الرؤى المثاليَّة والرّومانسيَّة التي تميل للتنظير لنماذج متخيَّلة بعيداً عن الواقع. ولعلَّ من أقواله المعبّرة عن هذا التأثير قوله: (وخطأ أيّ خطأ -بالقياس إلى الإسلام- أن تتبلور العقيدة في صورة نظريَّة مجرَّدة للدراسات الذهنيَّة) ص39.

غير أنَّ هذه الواقعيَّة الظاهرة توظّف، عنده، في سياق إيمانه بضرورة الطليعة المؤمنة، بل أيضاً بما هو أخطر من ذلك، أن يكون المجتمع في وضع عامّ تستتبُّ فيه أحكام الشريعة. فلهذا الأمر يقول: (والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريَّات، وأن يصوغ قوالب نظام، وأن يصوغ تشريعات للحياة... بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرَّر فعلاً تحكيم شريعة الله وحدها، ورفض كلّ شريعة سواها، مع تملّكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه... الذين يريدون من الإسلام هذا، لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة... كما يريد له الله) ص35. وليس معنى هذا الكلام إلّا توضيحاً للدور الأوَّل الذي على الطليعة المؤمنة إنجازه، ألا وهو القبض على السلطة والحكم. لا يصرّح قطب بذلك بوضوح ودقّة، إنَّما هو يعتبره من بديهيَّات الأمور في المنهاج الإسلاميّ. فليست مسايرة الجاهليَّة في إلزامها للإسلاميّين بتقديم تفصيلات للنظام الإسلامي النموذجي الذي يدعون إليه إلّا مجرّد (سخرية هازلة يجب أن يرتفع عليها كلّ ذي قلب يحس لهذا الدّين بحرمة)، وذلك لأنَّه يجب أن يخضع المجتمع أوَّلاً وقبل كلّ شيء لحاكميَّة الله وحده، وأن يرتضي بأن يُحكم بشريعته.

إنَّ هذه الدعوة المبطّنة لتعويض حكم الطواغيت، كما يقول، باعتبارها المدخل الأوَّل لتنفيذ النّموذج الإسلاميّ، هي التي يفسّر بها أيضاً سكوته عن وجهة التطوير الفقهيّ اللّازم لهذا المجتمع الجديد، إنَّ هذا الفقه بدوره لا يمكن الحديث عنه قبل أن يوجد المجتمع المؤمن بشريعة اللّه. ومن هنا أيضاً فإنَّ قطب يصف ما يُسمَّى بـ (تطوير الفقه الإسلامي) بالسخرية والعبث.

ولعلَّ شرح سيّد قطب لنشأة المجتمع المسلم وخصائصه سائر في هذا الاتجاه أيضاً، أي اتّجاه التأكيد على ضرورة هيمنة حكم الشريعة سياسيَّاً. ففي هذا السياق يرى سيّد قطب أنَّ هدف الدّعوة الدينيَّة على مدار التاريخ كان منحصراً في (تعريف الناس بإلههم الواحد، وربّهم الحق، وتعبيدهم لربّهم وحده ونبذ ربوبيَّة الخلق) ص46. فجميع الناس محكومون بقوانين فطريَّة لا يمكن الحياد عنها أو استبدالها، فيما يخصُّ النشأة والنموّ والصحَّة والمرض والحياة والموت، هذه قوانين فطريَّة نظريَّة وضعها اللّه فيهم، ولكن عليهم أن يعملوا على تنفيذ الشقّ الآخر من القوانين الإلهيَّة التي تختصُّ بـ(الجانب الإراديّ) في حياتهم، وذلك عن طريق تحكيم شريعة الله في جميع الأمور، فعن طريق ذلك سوف يحدث تنسيق وانضباط ما بين الجانبين (الفطريّ والإراديّ)، وهو ما سوف يؤدّي بالتبعيَّة لسعادة البشريَّة وخيرها.

والمسلمون في العالم المعاصر هم مسلمون من الناحيَّة النظريَّة فحسب، وشهادة لا إله إلّا الله نظريَّة فيهم، ولا يمكن تأكيدها إلّا بواسطة الامتثال التام والطاعة المطلقة لأوامر الله ونواهيه والاحتكام لشريعته واقعيَّاً وعمليَّاً، وما دون ذلك ليس أكثر من (هويَّة نظريَّة مجردَّة).

إنَّ ضرورة هذا التحوُّل الضروري في المجتمع المسلم تدعو إليها خاصيَّة التراكب العضوي الذي يعيشه هذا المجتمع، والذي يقصد به قطب هذا التداخل بين مكوّنات مختلفة تكوّن، بوعي/ أو بدون وعي، نظاماً جاهليَّاً يتضادّ في أهدافه وغاياته وأسسه ومرتكزاته مع النظام الإسلامي.

وخطورة هذا التعارض الحادث ما بين الهويَّة النظريَّة والتداخل العضوي القائم، أنَّه سوف يؤدّي إلى أنَّ (الأفراد المسلمين نظريَّاً سيظلّون يقومون فعلاً بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون نظريَّاًّ لإزالته، وسيظلون خلايا حيَّة في كيانه تمدّه بعناصر البقاء والامتداد) ص50. ولهذا السبب فإنَّ أوَّل أدوار الطليعة المؤمنة أن تقيم تجمُّعاً عضويَّاً حركيَّاً، يكون هو النواة الأولى التي ستتّحد حولها كلُّ القوى من أجل اكتساب القدرة الكافية على الهيمنة على المجتمع لإحلال الشريعة عمليَّاً فيه.

إذن فقطب لا يرى بُدّاً من الانخراط في نشاط الجماعات الإسلاميَّة، وهو لم يقصرها على أن تكون جماعة أو فرقة سياسيَّة أو حزبيَّة تصطبغ بالصبغة الإسلاميَّة، بل إنَّه حتَّم أن تكون تلك الجماعة تغطّي معظم الأنشطة التي تدور في المجتمع الجاهلي، وذلك حتى تكون صالحة فعلاً لأن تحلَّ بديلاً عنه.

ومن هنا نفهم أهميَّة الجماعة، ولاسيَّما جماعة الإخوان المسلمين في الفكر القطبيّ، فرغم اختلافه عن أهمّ منظّري الإخوان في العديد من الأفكار والرؤى، إلّا أنَّه كان ينظر لمفهوم (الجماعة) على كونه حجر أساس في الدعوة لتطبيق النموذج الإسلاميّ.

والجدير بالذّكر هو أنَّ قيمة الجماعة عند قطب تتعدَّى كونها الأداة العمليَّة التي تمثّل نواة المجتمع المؤمن المرجوّ تحقيقه وطليعته القياديَّة، بل هي تمثّل أيضاً نموذجه المصغّر الذي يكون رابط الإيمان هو الرَّابط الوحيد الجامع بين أفراده، بدل الروابط المصلحيَّة الأخرى أو العرضيَّة، وهي روابط العرق، واللّغة، أو روابط التاريخ والواقع المشترك.

إنَّ هذا الرَّابط وحده ليس فحسب الرَّابط المحقّق للأخوَّة الإنسانيَّة، بل هو أيضاً الرَّابط المنسجم مع فطرة الإنسان التي فطره اللّه عليها. في هذا السياق كان حديث قطب عن العقيدة بوصفها الجنسيَّة الوحيدة للإنسان، وفيه أيضاً كان تركيزه على تحقير الروابط الإنسانيَّة الأخرى، روابط (الجنس والأرض واللّون واللّغة والمصالح الأرضيَّة) ص52، فقد اعتبرها روابط حيوانيَّة. فالإسلام في نظره لا يعترف برابطة غير رابطة الدين والعقيدة، وأمَّا الروابط التي تقوم على أسس الجنسيَّة والأوطان، فما هي إلّا أنواع مختلفة من الجاهليَّة. فبرابط العقيدة يتخلَّص الإنسان من وشائج (الأرض والطين واللّحم والدّم)، ويتَّحد المسلمون جميعاً في وحدة واحدة. ويضرب قطب العديد من الأمثلة القرآنيَّة التي تبيّن أنَّ الاختلاف في العقيدة من شأنه أن يكسر روابط القرابة والصداقة والمصاهرة، من ذلك رابطة الأبوَّة في قصَّة نوح، ورابطة البنوَّة والوطن في قصَّة إبراهيم، ورابطة الزوجيَّة في قصّتي لوط وامرأة فرعون، ورابطة العشيرة والأهل في قصَّة أهل الكهف. ولتأكيد التمايز بين رابطة العقيدة والرَّوابط الأخرى الحيوانيَّة، في نظره، ضرب مثالاً للاختلاف ما بين (المجتمع الإنساني) و(المجتمع الحيواني)، عبر المقارنة بين المجتمع الإسلاميّ الأوَّل والمجتمع الرُّوماني الإمبراطوريّ. فمجتمع الإمبراطوريَّة الرُّومانية كان يضمّ أجناساً متعدّدة ولغات متباينة وأمزجة مختلفة، ولكنَّه مع ذلك كلّه لم يقم على (أساس عقائدي) يربط ما بين تلك الاختلافات ببعضها بعضاً، بل تمَّ تأسيسه على ركائز طبقيَّة بغيضة تفصل ما بين الأشراف والعبيد.

أمَّا المجتمع الإنساني الحقيقيّ، فنموذجه المجتمع الإسلاميّ الأوَّل، الذي اختلط فيه العربي مع الفارسي والبيزنطي، ولم يمنع فيه الاختلاف الطبقي من إخلاص العبادة لله الواحد.

وصرف بذلك النَّظر كليَّاً عن دور العوامل الإيديولوجيَّة والفكريَّة التي تقوم عليها المجتمعات البشريَّة وتضمن لحمتها، وكان هدفه من ذلك قصر مسألة التغيير الفكريّ على النموذج الخاصّ بالمجتمع الإسلامي وحده دون غيره.

وإذا كانت الأفكار السابقة تبيّن تصوُّر قطب للمجتمع المطلوب، وللأداة الإنسانيَّة التي يمكنها تكوينه وبعثه، فما هي الأداة العمليَّة لذلك؟

في سياق الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن ندرج حديث قطب عن الجهاد في سبيل اللّه.

ففي هذا الإطار قام قطب بتلخيص أحكام الجهاد في القرآن. وعلى الرّغم من كونه يذكّر بأنَّ القرآن يكفل للمختلف دينيَّاً حريَّة الاعتقاد، إلّا أنَّه يعتبره موضوعاً لجهاد المسلمين حتّى يستتبَّ الأمر لشريعة اللّه. وإذا كان سيد قطب يعترف بأنَّ أغلب وضعيَّات الجهاد في تاريخ الرّسالة كان دفاعيَّاً، فإنَّه يرفض قصر الجهاد على جهاد الدفع. ويعتمد هذا التأويل عنده على تبريرين على الأقلّ: الأوّل تأويليّ، إذ يلفت قطب النَّظر إلى كون النّصوص القرآنيَّة التي تتناول مسألة الجهاد لا يمكن فهمها إلّا بالنظر والإحاطة بالظرف الزمني والتاريخي الذي تنزَّلت فيه، فلا يمكن النظر إلى كلّ نص على أنَّه نصٌّ نهائي وأخير وحاكم. والتبرير الثاني عمليّ مرتبط بمفهوم الحاكميَّة بما هي إحلال لحكم شرع اللّه.

وعلى هذا الأساس هاجم هؤلاء المسلمين الذين لطالما اعتادوا على أن يردّدوا أنَّ (الإسلام لا يجاهد إلّا للدفاع)، ووصف قولهم بأنَّه استجابة سلبيَّة متردّية وانهزاميَّة لضغط الهجمة الجاهليَّة.

ثمَّ تناول موقف الإسلام من الآخر المخالف له في الدين والعقيدة، فأكّد على (أنَّه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يُكره الناس على اعتناق عقيدته... ولكنَّ الإسلام ليس مجرَّد عقيدة، إنَّ الإسلام، كما قلنا، إعلان عام لتحرير الإنسان من العبوديَّة للعباد، فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكميَّة البشر للبشر وعبوديَّة الإنسان للإنسان، ثمَّ يطلق الأفراد بعد ذلك أحراراً -بالفعل- في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم) ص63.

ويُظهر هذا المقطع أنَّ قطب قد نظر للإسلام بتقسيمه إلى مستويين رئيسيّين: المستوى الأوَّل وهو العقيدة الدينيَّة التي من حقّ أيّ إنسان أن يؤمن بها أو لا يؤمن، أمَّا المستوى الثاني، فهو الرؤيا الإيديولوجيَّة التي تقوم على مبدأ الحاكميَّة، وهي رؤيا يجب أن تسود وتحكم وتنتشر في البلاد وتتعرَّف عليها الشعوب والأجناس. وعلى هذا الأساس فإنَّ قاعدة أن يكون الدّين كلّه للّه تفرض على المسلمين جميعاً في نظر قطب أن يجاهدوا شرقاً وغرباً لتحقيق الحاكميَّة المطلقة، وبهذا يكون مدلول الدّين أوسع وأشمل من مدلول العقيدة.

ففي وسع الآخر أن يعتنق عقائد مسيحيَّة أو يهوديَّة، ولكن لا يُسمح له أن يرتضي أن يُحكم وفق دين/ إيديولوجيَّة غير تلك المنبثقة عن الدّين الإلهي القويم.

وفضلاً عن التبريرين السَّابقين لطبيعة الجهاد، كما يراها قطب، طلبيَّاً لا دفاعيَّاً فحسب، وكونيَّاً لا محليَّاً، ثمَّة تبرير ثالث يتّصل بدوره بمفهوم الحاكميَّة، إنَّ الحاكميَّة عنده هي التي تقسّم الكون كلّه، فدارها دار السلم، وما عداها دار الجاهليَّة، فهي دار الحرب، يقول قطب في هذا السياق: (إنَّ هناك داراً واحدة هي دار الإسلام، تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة، فتهيمن عليها شريعة الله، وتقام فيها حدوده، ويتولَّى المسلمون فيها بعضهم بعضاً، وما عداها فهي دار حرب، علاقة المسلم بها إمَّا القتال، وإمَّا المهادنة على عهد الأمان، ولكنَّها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين) ص137.

إنَّ هذا التبنّي للتقسيم الفقهيّ الكلاسيكيّ للعالم إلى داري الحرب والسلم، لا يتركَّب عند قطب على مجرَّد الحلم بتأسيس دولة الإسلام، إنَّ هذه الدولة، تماماً كالجهاد المطلوب لأجلها، تنبني على تصوُّر آخر للوجود الإنسانيّ، من جهة كونه وجوداً مشروطاً بتأسيس الحضارة، فدار الحرب التي ينبغي مجاهدتها هي دار الجاهليَّة الخلو من الحضارة، ودار الحاكميَّة التي ينبغي تحقيقها تمثّل عماد كلّ الحضارة.

من هذا المنظور كان حديث قطب عن علاقة الإسلام والحضارة. وقد أكَّد في معرضه على الارتباط الوثيق ما بين الإسلام، بما يشمل من نظم وقوانين وتشريعات من جهة، والحضارة من جهة أخرى.

فالمجتمع الإسلامي الذي يلتزم بضوابط الشريعة هو المجتمع المتحضر، بل إنَّ صفة الحضارة مقصورة عليه وحده دون غيره، وفي هذا يقول قطب:

(المجتمع الإسلامي -بصفته تلك- هو وحده المجتمع المتحضر، والمجتمعات الجاهليَّة -بكلّ صورها المتعددة- مجتمعات متخلّفة) ص106.

من هنا يتمُّ التأكيد مرَّة أخرى على موقع فكرة الحاكميَّة في فكر سيّد قطب، فهي ليست مجرَّد آليَّة، أو وسيلة إجرائيَّة، بل إنَّها أيضاً وسيلة للتطوُّر والتعاطي مع الزمن، فتحضُّر المجتمع يتناسب طرديَّاً مع التزامه بالخضوع لحكم الله وأوامره ونواهيه، ولا يمكن أن نُطلق على أيّ مجتمع وصف التحضُّر في حالة عدم التزامه بتلك المسألة. إنَّ الارتقاء في سلّم الحضارة يتناسب طرديَّاً مع تشبُّعه بحاكميَّة اللّه وعيشه في كنفها، بما أنَّها شرط تحرُّر الإنسان من العبوديَّة وخضوعه بشكل مطلق لسلطة الله تعالى.

ومن هنا فإنَّ المجتمع الإسلامي هو وحده (المجتمع الذي يهيمن عليه إله واحد، ويخرج فيه النّاس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وبذلك يتحرَّرون التحرُّر الحقيقي الكامل، الذي ترتكز إليه حضارة الإنسان) ص108.

وما يلاحظ هو أنَّ ربط التحضُّر بالإسلام وقصره عليه دون غيره، كان واحداً من أهم الآليَّات الدفاعيَّة التي استخدمها سيّد قطب لإثبات وجهة نظره، فبعد أن كان النموذج الذي يسعى الإسلاميُّون لتحقيقه يوصف دائماً بأنَّه غير متحضّر وبدائي ورجعيّ، فإنَّ قطب قد وحَّد ما بينه وبين الحضارة بشكل تامّ، واعتبر أنَّ مزجهما ينتج خللاً مفاهيميَّاً يصيب كلَّ من يحاول أن يهاجم ذلك النموذج بالمعايير الحضاريَّة والأخلاقَّية المتعارف عليها، وهو الأمر الذي صبَّ بعد ذلك في مصلحة التيَّارات الفكريَّة الإسلاميَّة، بأن حرَّرهم من تبعيَّة الانقياد المطلق للمصطلحات المعرفيَّة السائدة على الساحة الفكريَّة.

لكن ما الذي يجعل الحاكميَّة واقعيَّاً تساوي الحضارة؟ أي ما الذي يصيّر العقيدة متوّجاً ماديَّاً بشريَّاً، يُسمَّى تحضُّراً؟ ههنا يجيب قطب بأنَّ الحاكميَّة لا تقتصر على القوانين والشرائع، بل هي مفهوم يغطّي مساحات واسعة ومناطق متفرّقة في المجال الثقافي والمعرفي الذي يحيط بالفرد.

فالفن الذي هو رافد الثقافة الأساسيّ، يجب أن يكون خاضعاً لمركزيَّة فكرة الحاكميَّة ومنبثقاً عنها. ذلك أنَّ النشاط الفنّي كلّه، ما هو إلّا (تعبير إنسانيّ عن تصوُّرات الإنسان وانفعالاته واستجاباته، وعن صورة الوجود والحياة في نفس إنسانيَّة... وهذه كلّها يحكمها -بل ينشئها- في النفس المسلمة تصوُّرها الإسلامي بشموله لكلّ جوانب الكون والنفس والحياة، وعلاقتها ببارئ الكون والنفس والحياة) ص125.

ومن هنا يرى قطب أنَّ جميع العلوم الإنسانيَّة، مثل التاريخ والفلسفة والاجتماع والسياسة والأدب، يجب أن تعاد دراستها وفق مناهج نقديَّة تقوم على أساس حاكميَّة الله وحده، فلا يجوز أن يأخذ أولئك الطامحون في خلق المجتمع الإسلامي برؤى ونظريات فلسفيَّة أخلاقيَّة أو مفسّرة لحركة التاريخ، من تلك التي أسَّسها أصحابها من المفكرين في وسط أجواء وخلفيَّات جاهليَّة.

أمَّا العلوم التطبيقيَّة كالطب والهندسة والفيزياء، فلا يرى قطب غضاضة في أن يستعين المسلمون بها، وذلك لأنَّ جاهليَّة منشئيها لن تؤثر في منتجهم العلمي ولن تتعارض مع الثوابت العقائديَّة الإسلاميَّة.

قد توجد بعض الأمثلة الشاذّة عن تلك القاعدة، مثل نظريَّات التطوُّر لتشارلز دارون وعلم التحليل النفسي لسيجموند فرويد، فهي وإن كانت نظريَّات علميَّة بحتة، إلّا أنَّ نتائجها تتعارض بشكل واضح مع مركزيَّة الله في النموذج الإسلامي، هنا يرى قطب أنَّه يجب على المسلم أن يأخذ من تلك النظريَّات ما يعود بالفائدة على الصعيد العلمي التجريبي المجرَّد، وأن يتمَّ ترك كلّ ما يتعارض مع الخلفيَّات العقائديَّة الإسلامَّية، ويفسّر ذلك بقوله: (إنَّ لدى المسلم الكفاية من بيان ربّه الصادق عن تلك الشؤون، وفي المستوى الذي تبدو فيه محاولات البشر في هذه المجالات هزيلة ومضحكة) ص128.

نقلة بعيدة

قد يمثّل هذا الفصل قبل الأخير خير خلاصة لمجمل تفكير قطب في كتابه هذا، فهو يكرّر فكرته الجوهريَّة من كون التصوُّر الإسلاميّ للحياة هو وحده المحقّق لإنسانيَّة الإنسان، مقارنة بالمناهج الأخرى القائمة. ولعلَّ أهمَّ ما يجعله بهذه الصورة قيامه على مبدأ أساسيّ هو حاكميَّة اللّه. إنَّها المبدأ الذي يعني عبوديَّة مطلقة للّه تحقّق تحرُّر البشر من كلّ أشكال العبوديَّة الأخرى التي تجعل وضعهم خارج الحاكميَّة تكراراً لوضع الجاهليَّة. وإذا كان نموذج هذا المجتمع ماثلاً في الطليعة القرآنيَّة الأولى، فإنَّ استعادة عصر الحاكميَّة مجدَّداً لا يكون إلّا بطليعة مؤمنة جديدة تحاكي الأولى، وتكون الأداة العمليَّة لتحقيق النموذج. ولمَّا كان وضع الجاهليَّة متكرّراً في البلدان المسلمة التي لا تتجسَّد فيها الحاكميَّة، فإنَّ علاقة الجهاد التي جمعت بين المسلمين الأوائل ومن ناوأهم دعوتهم، يجب أن تتوسَّع ليصبح الجهاد مطلوباً ضدَّ كلّ جاهليَّة بما في ذلك الجاهليَّة الموجودة في ديار الإسلام الصوري.

يقول قطب: (إنَّ الناس ليسوا مسلمين -كما يدَّعون- وهم يحيون حياة الجاهليَّة، وإذا كان فيهم من يحبّ أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين، فيعتقد أنَّ الإسلام يمكن أن يستقيم مع هذه الجاهليَّة فله ذلك، ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئاً... ليس هذا إسلاماً وليس هؤلاء مسلمين، والدعوة اليوم إنّما تقوم لتردّ هؤلاء الجاهلين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد) ص158.

ويُعتبر هذا المقطع من أكثر المقاطع التي وردت في الكتاب خطورة، فقطب يقرّر فيه بوضوح أنَّ عموم المسلمين الذين لا يعيشون بفكرة الحاكميَّة، كما يراها هو تطبيقاً لشريعة اللّه، ليسوا مسلمين في الحقيقة، ولا يُقبل منهم إسلامهم الظاهري حتى يؤمنوا بالمنهج الذي يخالفونه وينفرون منه، فبهذا المنهج وحده يتحقّق شرط التوحيد فيهم. وعلى كون قطب يطلق هذا الحكم الكونيّ الخطر بتكفير كلّ المجتمعات التي لا تحكم بشريعة اللّه، بما في ذلك المجتمعات الإسلاميَّة، فإنَّه لا يتناول تلك المسألة بشكل فقهي تشريعي، فهو لا يبيّن كيفية التعامل مع هؤلاء، وهل يتمّ تطبيق حدّ الرّدة عليهم أم لا؟

وإذا كان من المفترض أن يطبق ذلك الحدّ عليهم، فمن الذي يوكل إليه تطبيقه؟

وكيف تُنظّم تلك المسألة في ظلّ أنَّ الدولة القائمة -التي لديها القوَّة والشوكة- هي بحسب نظريَّة قطب مرتدَّة من الأساس؟

كلُّ تلك الأسئلة تركها سيد قطب بلا إجابة واضحة، وهو ما فتح الباب واسعاً لجميع الحركات الجهاديَّة التي تأثّرت بسيد قطب وأفكاره، فوجدت مساحات تأويليَّة واسعة للتعاطي معها بحسب المعطيات والظروف التي أتيحت لها، وأوجدت لها من التبريرات الفقهيَّة الهامشيَّة في الغالب ما أباحت به لنفسها أشنع الأعمال.

ملامح عامة للكتاب

من الممكن أن نلاحظ عدداً من الملامح المميزة لشخصيَّة المؤلف من خلال مطالعة صفحات الكتاب، ومن أهمّ تلك الملامح:

1ـ الاستشهادات الكثيرة جدّاً بالقرآن الكريم، دون الرجوع لتفاسيره المعتمدة عند أهل السنَّة والجماعة، وهذا يبيّن محاولة قطب القفز فوق الاجتهادات التي قام بها العديد من العلماء المسلمين على مدار التاريخ الإسلامي الطويل، والولوج مباشرة إلى النّصّ القرآنيّ للاستيلاء مجدّداً على عمليَّة تأويله، وحصرها في اتّجاه التصوُّر الذي يبشّر به.

2ـ الاستشهادات القليلة بالحديث النّبوي الشريف، والاستشهادات الكثيرة إلى حدّ بعيد، بالقصص التاريخيَّة الإسلاميَّة، وهذا يشير إلى خلفيَّة الكاتب البعيدة أصلاً عن الدّراسات الإسلاميَّة، والمتشبّعة بخلفيّته الأدبيَّة النّقديَّة، والتي استغلّها في التأثير بخطابه.

3ـ إنَّ قطب يحمل تصوُّرات عموميَّة ورؤى فكريَّة شاملة، ولا يهتمّ بالخوض في التفصيلات الفقهيَّة. وهذا يثبت ما نُعت به من ضعف اطّلاعه الفقهيّ.

4ـ كثرة التكرار والإسهاب في التأكيد على بعض المعاني يبرز أهميَّة تلك المعاني ومركزيتها في فكر المؤلف.

5ـ إنَّ الماضي الفكري (الماركسي) لسيد قطب، قد ظهرت أثاره واضحة في الكثير من النقاط في الكتاب، ولا سيَّما الميل إلى تفسير بعض الظواهر بمنهجيَّة ماديَّة ديالكتيكيَّة. ولكنَّ هذه الخلفيَّة الماركسيَّة طُوّعت إلى منظوره الإسلاميّ، فلم يؤخذ منها سوى مفهومي الانقلاب والثّورة.


[1] نشر في الملف البحثي "التوحيـد بين الأصل الإسلامي والتأويل الجهادي: الأعلام والنُّصوص" بتاريخ 22 فبراير 2018، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، إشراف بسام الجمل، تقديم أنس الطريقي.