محورية العدل في الخطاب الديني الإبراهيمي


فئة :  مقالات

محورية العدل في الخطاب الديني الإبراهيمي

نقصد بالخطاب الدّينيّ الإبراهيميّ الخطاب المتعلّق بالدّيانات اليهوديّة والمسيحيّة والإسلامية، إذ تتّفق جميعها في مرجعية إبراهيم الخليل الرّوحيّة والفكرية وحبّه الخير والعدل، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ التقليد الدينيّ الإبراهيميّ اهتمّ اهتماماً مخصوصاً بالعدل، واعتبره قوام الحضارة وأساس العمران المدنيّ، به تتواصل الأفراد والجماعات، ومن خلاله يتدعّم الملك، ولم يكن من المصادفة اهتمام الكتب التوحيدية المقدّسة بالعدل، إذ أكّدت التوراة قيم العدل، وعمل الكتاب المقدّس المسيحي على ترسيخ مبدأ عدالة السماء، وجعل القرآن من العدل جوهر المنظومة الدينيّة والفكريّة التي اقترحها، ولئن تباينت المقاربات والتصوّرات فإنّ الأديان الإبراهيميّة بمختلف تياراتها ومللها حافظت على مطلب العدل، واعتبرته مطلباً محورياً لا يمكن التنازل عنه.

اقترن عدل المخلوق في التقليد اليهوديّ بعدل الخالق، إذ لا قيمة لعدالة تسبح في السماء وتحلّق في عالم المثل والفضيلة دون أن تستحيل مشروعاً حياتيّاً وسلوكاً اجتماعيّاً، لذلك اقترب الله من البشر واندمج في حياتهم الاجتماعية وشاركهم أفراحهم وأتراحهم، وكان الربّ - في التراث اليهوديّ العبرانيّ- يتجوّل في مدينة أورشليم ينتصر للمظلومين وينشر العدل بين خلقه، لذلك جاء مصطلح العدل ضداً لكلّ ظلم وجور، فالله عادل لأنّه يبغض الظالمين والمتجبّرين، ويعني عدل الله أنّه "ليس عنده ظلم ولا محاباة ولا يعوّج القضاء ولا يأخذ بالوجوه ولا يتزعزع"[1]، ويقف دائماً إلى صفّ المقهورين والبائسين واليتامى والمساكين[2] والعبيد والأرامل[3]، وأصبح من علامات الإيمان نشر العدل والدفاع عنه، فالظلم كفر بلطف الله ورحمته، ولا خير في عدل لا يستحيل سلوكاً يعتمد في المعاملات والقضاء، وفي هذا السّياق يتنزّل قول الربّ "لا ترتكبوا جوراً في القضاء، لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل، ميزان حق ووزنات حق وأيفة حق وهين حق تكون لكم"[4]، ولا فرق بين إسرائيليّ وغريب[5] أمام القاضي، فالجميع أمام العدالة سواء "لا تحرّف القضاء ولا تنظر إلى الوجوه ولا تأخذ رشوة.. العدل العدل تتبّع"[6]، و"بدون العدل، يصبح لا قيمة للذبائح والسبوت وسائر الواجبات الدينية"[7]، وهكذا نلاحظ أنّ العدل تبوّأ مكانة مخصوصة في التراث اليهوديّ، وارتبط بالإيمان والعبادة، وأصبح العدل من تمام الإيمان.

وتواصل هذا الاهتمام بالعدل في التقليد المسيحي كما تجلّى أساساً في أدبيّات العهد الجديد، وأكّد بولس الرّسول أنّ "اللهَ لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَظْهَرْتُمُوهَا ...."[8]، ولذلك دعا الربّ بكلّ صرامة: "أيّها السّادة قدّموا للعبيد العدل والمساواة عالمين أنّ لكم أنتم أيضاً سيداً في السموات"[9]، وكان يسوع المسيح يتجوّل بين القرى "يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض.."[10]، وينتصر للمظلومين ويكرّس عدالة الربّ عند البشر مناديّاً: "عادل أنت أيّها الربّ، وجميع أحكامك مستقيمة وطرقك كلّها رحمة وحق وحكم"[11]، وعلى البشر أن يتّبعوا هذا النداء وأن يشيّدوا بيوتاً قوامها العدل والبرّ، إذ "ويلٌ لمن يبني بيته بغير عدل وعلاليه بغير حق، الذي يستخدم صاحبه مجاناً ولا يعطيه أجرته"[12]، وليس من اليسير استخراج معاني العدل وسياقاته من أسفار الكتاب المقدّس، فالحديث عن العدالة كثير ومتعدد الوجوه ومتنوّع الدلالات.

ونلاحظ ممّا سبق أنّ الكتاب المقدّس بعهديه القديم والحديث ركّز على قيم العدل، وجعل من العدالة جوهر الفكر الديني ومنشود العقيدة، فلا جدوى من دين لا يحقق العدل بين الناس ولا يحارب المظالم والاستغلال، وحافظ القرآن على المسار ذاته، فأكّد قيم العدل وجعل منها قوام الأعمال وأساس كلّ بناء حضاريّ، ويقوم مبدأ العدل في القرآن على فرضية قوامها أنّ الناس سواسية لا فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصّالح، فلا تفاضل بين الخلق من حيث الجنس والعشيرة والدين والمذهب، فكلّ البشر ينتسبون إلى آدم، وآدم من تراب، وكان الخلق في البدء من نفس واحدة "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ"[13]، وعلى هذا الأساس لا بدّ أن يعامل البشر المعاملة ذاتها من منطلق الإنصاف، ويصبح العدل من منظور القرآن واجباً لا مردّ عنه وشرطاً لا تقوم الحضارة إلا به، ولذلك كان العدل أمراً مقضياً: "إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"[14]، وذهب المفسرون في تأويل هذه الآية مذاهب شتّى تؤكّد كلّها محورية العدل في التقليد الديني الإسلاميّ، وذهب محمد الطاهر بن عاشور إلى أبعد من ذلك، واعتبر هذه الآية موجزاً مختزلاً لأهداف الدين "فهذه الآية جمعت أصول الشّريعة"[15]، فالعدل منشود الشرائع ومبتغى الحكمة"، وهو الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي من الحقوق الذاتية وحقوق المُعاملات، إذ المسلم مأمور بالعدل في ذاته... ومأمور بالعدل في المعاملة، وهي معاملة مع خالقه بالاعتراف له بصفاته وبأداء حقوقه، ومعاملة مع المخلوقات من أصول المعاشرة العائلية والمخالطة الاجتماعية وذلك في الأقوال والأفعال"[16]، واعتبر ابن عاشور العدل الكلمة المفتاح في الثقافة الإسلاميّة "فالعدل هنا كلمة مُجملة جامعة فهي بإجمالها مناسبة إلى أحوال المسلمين حين كانوا بمكّة، فيصار فيها إلى ما هو مقرّر بين الناس في أصول الشرائع وإلى ما رسمته الشريعة من البيان في مواضع الخفاء، فحقوق المسلمين بعضهم على بعض من الأخوّة والتناصح قد أصبحت من العدل بوضع الشريعة الإسلامية". ونتبيّن من خلال تعريف الشيخ ابن عاشور للعدل أنّ العدالة ليست مسألة لاهوتية كلامية فحسب، بل هي مطلب اجتماعيّ روحي يمسّ الأفراد والجماعات وكلّ ما ينجزه الإنسان في حياته "من آداب وحقوق وأقضية وشهادات ومعاملة مع الأمم"[17]، وعلى هذا الأساس دعا القرآن إلى العدل في القول "وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ"[18]، فالكلام العادل يريح النفوس ويزيل الأحقاد ويهوّن من الشكوك، وآية ذلك أنّه كلام لا يجامل ولا يعادي، يعطي لكلّ ذي حقّ حقّه دون أن يهوّل أو ينقص، وما أحوجنا في حوار الأديان إلى هذا المنهج في الكلام! إذ لا تواصل بين الأديان والثقافات دون توفّر حدّ أدنى من العدل في الخطاب: عدل يحرّرنا من وهم امتلاك الحقيقة وسطوة الإقصاء والتعصّب، ويتكامل العدل في الكلام مع العدل في الأفعال، فلا خير في كلام لا يستحيل سلوكاً وأعمالاً، ولا فائدة من عدل لا يتجاوز حدود الخطاب والكلام، وعلى هذا الأساس أكّد القرآن ضرورة اعتماد العدل في الأفعال والأحكام "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"[19].

ونلاحظ من خلال قراءة ابن عاشور أنّ العدل مطلب متعدّد الوجوه ومتفرّع المسالك، وعبّر القشيري عن هذا التعدّد بقوله: "أمر اللَّهُ الإنسانَ بالعدل فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين الخَلْق؛ فالعدلُ الذي بينه وبين نفسه مَنْعُها عمّا فيه هلاكُها، والعدلُ الذي بينه وبين ربِّه إيثارُ حقِّه تعالى على حظِّ نفسه، وتقديمُ رضا مولاه على ما سواه، والتجرد عن جميع المزاجر، وملازمة جميع الأوامر، والعدل الذي بينه وبين الخَلْق يكون ببذل النصيحة وترك الخيانة فيما قلّ أو كثر، والإنصاف بكل وجه، وألا تَشِيَ إلى أحد بالقول أو بالفعل، ولا بِالهَمِّ أو العزم"[20].

ولئن اقترن العدل في مواضع مختلفة من الكتاب المقدّس المسيحيّ بالبرّ[21] فإنّه ارتبط في السياق القرآنيّ بالإحسان والتقوى، فالله يأمر بالعدل والإحسان، والإحسان يكون إلى الناس[22] دون تفضيل بعضهم على بعض، و"الإحسان معاملة بالحسنى ممّن لا يلزمه إلى من هو أهلها، ثم الإحسان في المعاملة فيما زاد على العدل الواجب، وهو يدخل في جميع الأقوال والأفعال ومع سائر الأصناف"[23]، والإحسان مقترن بالتقوى اقترانه بالعدل، فالإحسان أساس التقوى، وهو أن تعبد الله كأنّك تراه، وإذا علمنا أنّ العبادة تشمل حياة الإنسان كلّها أدركنا أنّ الإحسان عنوان كلّ عمل صادق يهدف إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد، ولذلك اقترن العدل بالتقوى في قوله تعالى: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"[24]، ولا يجرمنّكم شنآن قوم يعني "لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا"[25]، فالمسلم الحقيقيّ لا يضعف أمام نفسه ولا ينحاز إلى طرف دون آخر، وصاحب الحق يظفر بحقوقه مهما كانت ديانته أو مذهبه أو وضعه الاجتماعي، وإذا تصفّحنا سيرة الرسول محمّد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ[26] وسيرة من جاء بعده من الصّحابة والعلماء سنلاحظ مدى تشبّثهم بقيم العدل.

ولأنّ الأمور تعرف بأضدادها حاول القرآن تعريف العدل وأبعاده من خلال أضداده، فنهى عن "ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ" باعتبارها مفاسد تخلّ بالعمران البشري وتقوّضه، "فأما الفحشاء: فاسم جامع لكل عمل أو قول تستفظعه النفوس لفساده من الآثام التي تفسد نفس المرء: من اعتقاد باطل أو عمل مفسد للخلق، والتي تضرّ بأفراد الناس بحيث تلقي فيهم الفساد من قتل أو سرقة أو قذف أو غصب مال، أو تضرّ بحال المجتمع وتدخل عليه الاضطراب من حرابة أو زنى أو تقامر أو شرب خمر. فدخل في الفحشاء كلّ ما يوجب اختلال المناسب الضروري، وقد سمّاها الله الفواحش"[27]، "وأمّا المنكر فهو ما تستنكره النفوس المعتدلة وتكرهه الشريعة من فعل أو قول"[28]، ويتميّز البغي بأنّه "الاعتداء في المعاملة"[29]، ولئن كان العدل أساس العمران وسبب الاستقرار والازدهار، فإنّ البغي أساس الخراب وسبب الاضطراب والتخلّف، ولنا في ثورات الرّبيع العربيّ خير مثال على ذلك، إذ ندّد الثائرون بالظّلم والظّالمين، وطالبوا بسقوط كلّ أشكال الاستبداد والاستغلال والسرقات، ونادوا بسيادة العدل على كلّ المستويات، فقد أثقل جور القرون الخوالي كاهلهم، وتنفّسوا الصّعداء عندما تهاوت ممالك الطواغيت، واهتزّت من تحت أقدامهم صروح من الطاغوت ما كان أحد ينتظر اهتزازها.

ولا نبالغ إذا قلنا إنّ الإسلام ركّز في أدبياته المختلفة على العدالة الاجتماعيّة، واعتبر النشاط الاجتماعيّ الفضاء الطبيعي لترسيخ العدل وقيمه، وتعني العدالة الاجتماعية في أبسط مفاهيمها إعطاء الأفراد والمجموعات حقوقها كاملة دون مجاملة أو تفضيل، فكلّ فرد من أفراد المجتمع من حقّه أن يتمتّع بالفرص نفسها والامتيازات ذاتها التي تتاح لغيره، ومن غير العدل أن يحرم المرء من خدمة أو مصلحة أو عمل بسبب دينه أو مذهبه أو طبقته أو قبيلته، ولذلك اعتبر الإسلام إقامة القسط واجباً شرعياً وهدفاً أساسيّاً عملت الرسالات السماويّة كلّها على تحقيقه: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ"[30]، وفي هذا السياق تتنزّل دعوة القرآن المؤمنين "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ .."[31]، وذهب الزمخشري إلى القول إنّ "قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ" تعني "مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا"[32]، ونفهم من حديث الزمخشري عن الاجتهاد في إقامة العدل أنّ العدل ليس أمراً هيّناً أو مطلباً سهل المنال، بل هو منشود وعر المسالك يتطلّب بذل جهد وتضحيات ويحتاج مقاومة للنفس"[33]، ونفهم من كلام الزمخشري أنّ الإسلام تعامل مع مسألة العدل تعاملاً واقعيّاً، فالنفسّ الأمّارة بالسّوء لا تستسيغ العدل وتميل دائماً إلى التفضيل والتبجيل وتصنيف الخلق ضمن دوائر وطبقات، فتجعل المرء يحنّ إلى أبناء دينه أو مذهبه أو طائفته أو جنسه أو عشيرته أو مدينته أو حيّه، وربّما عاملهم معاملة مخصوصة دون بقية البشر، وعلى هذا الأساس يتطلّب تحقيق العدل مجاهدة النفس والمكابدة والتحرّر من قيود الانتماءات الضيّقة واكتساب روح إنسانيّة تشمل الإنسان المطلق، ونظراً إلى صعوبة مقارعة النفس الأمّارة واعتماد النزاهة والعدالة اقترن العدل في القرآن بالتقوى: "اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى"[34]، وترتبط التقوى بالإيمان والإحسان والعبادة، فهي أساس الدّين وركنه المتين، ولا نستغرب إذا وجدنا أهل العدل في التقليد الإسلاميّ من العلّيين الفائزين بالمقامات السّامية: "إنّ المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا"[35]، و"أحبّ الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغضهم إليه إمام جائر".[36]

ومن دلالات العدل في القرآن محاربة الظّلم بكلّ أشكاله ومستوياته، وآية ذلك "ٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ"[37]، ورفض الظّلم يعكس تنافراً على مستوى الطبيعة والماهية، فالله عادل بالضرورة والعدل اسم من أسمائه الحسنى، ولذلك رفض الجور ومنع المظالم وألحقت مفاسد الظلم بأعمال الشيطان وتدبيره، ويعبّر الله تعالى عن هذه القيم في حديث قدسيّ، نصّه: "يا عبادي إنّي حرّمت الظلم على نفسي وجعلته محرّماً بينكم فلا تظالموا"، فالعدل نور وإشراق و"الظلم ظلمات"[38]، ولقد وجد علماء الكلام والفلاسفة في العدل مسألة نظرية خلافيّة، فتباينوا في تعريف العدل وطبيعة علاقته بالذّات الإلهيّة، وغالوا أحياناً في طرح القضايا النظرية الكلامية حتى أصبح العدل مبحثاً لاهوتياّ لا يعكس هموم الواقع ومشاغل النّاس بقدر ما يتناول قضايا ذهنيّة مجرّدة، ونجد في تاريخ الثقافة الإسلامية من جعل من العدل عنواناً له وشعاراً لفكره وخطابه، ولنا في جماعة العدل والتوحيد خير مثال على ذلك، فقد جعلت المعتزلة من العدل أصلاً من أصول الاعتزال[39]، ووصلوا بين هذا المبحث وقضايا الحرية والجبر والاختيار والتدخّل الإلهي في أفعال العباد، ويعني العدل في عرفهم أنّ الله بريء من كل سيئة نهى عنها، وأنّه لا يحبُّ الفساد ولا يخلق أفعال العباد، ونجد من الفلاسفة من جعل من العدل جوهر الفكر ومحدّد التصوّر الدّيني، واعتماداً على مبدأ العدل جدّد أبو بكر الرّازي النظر في النبوّة والوحي، [40] وجعل من العدالة الإلهيّة أصل الأصول.

نتبيّن من خلال دراسة الأدبيات الإسلامية الكلاميّة والفلسفية المتعلّقة بالعدل أنّ العدالة لا يمكن فصلها عن الحرية والمسؤوليّة، فعدالة السّماء حينما تنزل إلى الأرض وتتخذ لها سياقات تاريخيّة مخصوصة ترتبط بمجموعة من الاعتبارات والضوابط تتصل بالعرف والمخيال والذاكرة الثقافيّة، وتدخل الحرية أحياناً في صراع مع العدل، فقد تتطلّب دواعي العدالة الحدّ من بعض الحرّيات، ومن هذا المنطلق برّر المستبدّون استبدادهم، ويقوم هذا الموقف على فرضية تقول إنّ "الشيء الوحيد الذي يمكنه تقييد الحرية وله الصلاحيّة لرسم حدودها هو مفهوم (العدالة)، فلا يوجد أيّ مفهوم أو حقيقة تقف في مقابل الحريّة إلا أن يكون ذلك المفهوم أهمّ وأعظم وأوسع دائرة وأبعد آفاقاً، وهذا مفهوم (العدالة)"[41]، ولحلّ هذه المشكلة اقترح عبد الكريم سروش مفهوماً جديداً أسماه "الحرية العادلة"، واعتبره بمثابة "الدّواء الشافي لأمراض مجتمعنا وتطلّعات شبابنا، وبإمكانه أن يفي بالغرض المطلوب من الحرية ومن العدالة على السّواء"[42]، ويقصد بالحرية العادلة الحرية التي تراعي حاجيات العدل، فلا يمكن التفكير في مجالات الحريّة دون ضبط محاور العدالة المتعلّقة بها، ونظراً إلى صعوبة الفصل بين المشغلين اقترح سروش نظريّة في العدل أسماها "زيادة العدالة"، ولا ندري إن كان المترجم قد وفّق في تعريبها عن اللغة الفارسيّة، ولكنّ هذه النظريّة تعني "أنّ العدالة لا تعتبر فضيلة إلى جانب الفضائل الأخرى ومستقلّة عنها، بل هي عين الفضائل الأخلاقيّة"[43]، فالعدل جوهر المنظومة الأخلاقية التي أرساها الإسلام، وهو روح تسري في جسد الثقافة الإسلاميّة بكلّ فروعها، ولا يمكن بحال عزل العدل والتعامل معه باعتباره مطلباً مستقلاً بنفسه يمكن التركيز عليه في مقابل المساس بقيم إنسانية أخرى من قبيل الحرية والكرامة، و"لا يمكننا سحق الفضائل الأخرى باسم العدالة.. فلا ينبغي أن تقول: إنّني ومن أجل تحقيق العدالة أتعامل مع الآخرين من موقع الكذب والتزوير والغشّ"[44]، ولا يمكن من منطلق نظريّة "زيادة العدالة" أن ننسف الفضائل كلّها باسم تحقيق العدالة، و"إذا تحرّك الإنسان بعيداً عن خطّ الفضائل الأخلاقيّة ولم يهتمّ بمراعاتها في سلوكيّاته وأفعاله، فهو إنسان غير عادل"[45].

يتّضح لنا من خلال ما سبق أنّ العدل كان مطلباً أساسياً في الديانات الإبراهيمية، على تباينها واختلافها، فالتجارب الدّينية الإبراهيميّة على اختلافها أكدت أهمية العدل وحاولت ترسيخه في كلّ المجالات، واستطاع مطلب العدل أن يصبح مع تطوّر المعارف الدينية مسألة نظرية تستدعي البحث والاستدلال.


[1]ـ الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر التثنية، 10: 17

[2]ـ سفر أشعياء 20: 16

[3]ـ المزامير 106: 3

"انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة"، أشعياء: 1/ 17

[4]ـ سفر التثنية 13: 25

[5]ـ يدلّ مصطلح غريب (מוזר) في التراث الدينيّ اليهوديّ على كلّ من هو ليس يهوديّاً مهما كانت جنسيته أو دينه.

[6]ـ سفر التثنية 18: 16

[7]ـ سفر أشعياء 11: 1

[8]ـ رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين 6: 12

[9]ـ رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إلَى أهْلِ كُولُوسِّي 1: 4

[10]ـ أشعياء 4: 11

[11]ـ سفر طوبيا 3 2:

[12]ـ إرميا 13: 22

[13]ـ سورة النساء: 1

[14]ـ سورة النحل: 90

[15]ـ محمد الطاهر بن العاشور تفسير "التحرير والتنوير"، http: //www.altafsir.com تفسير الآية 1 من سورة النساء

[16]ـ محمد الطاهر بن العاشور تفسير "التحرير والتنوير"، http: //www.altafsir.com تفسير الآية 1 من سورة النساء

[17]ـ محمد الطاهر بن العاشور تفسير "التحرير والتنوير"، http: //www.altafsir.com

[18]ـ سورة الأنعام: 152

[19]ـ سورة النساء: 58

[20]ـ أبو القاسم عبد الكريم القشيري تفسير "لطائف الإشارات" http: //www.altafsir.com

[21]ـ نذكر على سبيل المثال: "وَالإِنْسَانُ الَّذِي كَـانَ بَارّاً وَفَعَلَ حَقّاً وَعَدْلاً"، حزقيال 18: 5

[22]ـ تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) http: //www.altafsir.com

[23]ـ محمد الطاهر بن العاشور تفسير "التحرير والتنوير"، http: //www.altafsir.com

[24]ـ سورة المائدة 8

[25]ـ تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) http: //www.altafsir.com

[26]ـ نذكر على سبيل المثال الأحاديث التالية:

* عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم شيئاً، أقبل رجل فأكبّ عليه، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون ـ وهو عود نخل - كان معه، فخرج الرجل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تعال اقتصّ مني)، فقال الرجل: قد عفوت يا رسول الله). رواه النسائي.

* عن أنس بن مالك قال: "أهدت بعض أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم - إليه طعاماً في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم ـ: (طعام بطعام، وإناء بإناء) رواه الترمذي، وأصله في البخاري .

* في قصّة المرأة المخزومية التي سرقت، استعان أهلها بأسامة بن زيد كي يشفع لهم عند رسول الله، فلم يقبل شفاعته، وقال كلمة خلّدها التاريخ): أيها الناس، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، متفق عليه.

[27]ـ محمد الطاهر بن العاشور تفسير "التحرير والتنوير"، http: //www.altafsir.com

[28]ـ محمد الطاهر بن العاشور تفسير "التحرير والتنوير"، http: //www.altafsir.com

[29]ـ محمد الطاهر بن العاشور تفسير "التحرير والتنوير"، http: //www.altafsir.com

[30]ـ سورة الحديد: 25

[31]ـ سورة النساء: 135

[32]ـ تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)

[33]ـ تفسير الكشاف/ الزمخشري http: //www.altafsir.com

[34]ـ سورة المائدة: 8

[35]ـ صحيح مسلم 3 / 1458)

[36]ـ مسند أحمد

[37]ـ سورة آل عمران: 57

[38]ـ حديث

[39]ـ للتعمق في هذه المسألة انظر:

* هاشم إبراهيم يوسف، أصل العدل عند المعتزلة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1993

[40]ـ أنكر أبو بكر الرّازي (الفيلسوف/الطبيب) النبوّة والإمامة حفاظاً منه على مبدأ "العدل الإلهي"، فالله عادل بالضّرورة لا يميّز بين خلقه، ويساوي بينهم في فرص الحياة والخلاص. لمزيد التعمّق انظر:

* أبو بكر محمّد بن زكريّا الرّازي، رسائل فلسفيّة مضاف إليها قطع من كتبه المفقودة، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط5، 1982، ص ص 294-295

[41]ـ عبد الكريم سروش، السياسة والتديّن، الانتشار العربي، بيروت، 2009، ص 255

[42]ـ المرجع نفسه.

[43]ـ عبد الكريم سروش، المرجع نفسه، ص 153

[44]ـ عبد الكريم سروش، المرجع نفسه، ص 154

[45]ـ عبد الكريم سروش، المرجع نفسه، ص 155