مَسْألَةُ اَلْخَيْرِ وَالشَّرِ
فئة : ترجمات
مَسْألَةُ اَلْخَيْرِ وَالشَّرِ
تقديم:
على الرّغم من أنَّ بُولْ كارُوس Paul Carus (1852-1919)، الفيلسوف الأمريكي الجنسية، الألماني الأصل، كانَ من المفكرين القلائل الَّذين أغنوا الثَّقافة الأمريكية بالإسهامات، فإنَّه لم ينل حظَّه من الصِّيت والشُّهرة. إنَّه من الشَّخصيات الموسوعية، الَّتي خاضت في مجالاتٍ معرفيةٍ شتَّى: في الفلسفة، والرياضيات، المنطق، والسياسة، والدين، والترجمة، والتاريخ، والعلوم الاجتماعية...وهذه المجالات حاضرة في مؤلفاته، الَّتي بلغت في مجملها خمسة وسبعين كتابا، وألف وخمسمائة مقالة.
فيما يخصُ الجانب الفلسفي عنده، فقد رفض كلِّ الثُّنائيات الفلسفية القديمة، سواء كانت قائمة بين المحسوسات والمعقولات عند أفلاطون، أو بين الصُّورة والمادة عند أرسطو، أو بين الرُّوح والبدن عند اللاهوتيين، أو بين العقل والجسد عند ديكارت وأتباعه. وتبنى في مُقابل ذلك نظرية وحدة الوجود بالمفهوم الَّذي وضعَه سبينوزا، لكنَّه أضفى عليها طابعاً لاهوتياً، يصبحُ بمقتضاها الله حالا في الطبيعة، وتصبح الطبيعة بما فيها كلا في الكل، وتجليا من تجليات الله، ومعيارًا للسلوك، بما فيها من تناقضات، ولا شيء فيها يوجد بذاته، أو لأجل ذاته، أو مستقل عنها، وإنما الكون بما فيه واحد متناغم، وكل شيء فيه محصور في الكل الواحد كجزء من أجزائه التي تشكل الكل، ولا يوجد شيء معزول، فكل الأشياء مترابطة، والكون ينظمه قانون (الله)، يؤثر في أجزائه، ولا مجال فيه للألغاز، بل هو قابل للفهم، من طرف الإنسان، وبإمكان الإنسان فهم طبيعته، والتكيف معها. كل حقائق التجربة وحي، والله هو المرجع الأسمى للسلوك؛ والعلم البشري بمقدوره فك النصوص الدينية الرمزية، وشرح الأمثال انطلاقا من الزيادة في التقدم، ولهذا، فقد تجسدت الحقيقة في القواعد الأخلاقية الكونية قبل أن يتمكن العلم من استنباطها وتفسيرها.
نجدُ في هذه المقالة، الَّتي تُشبه إلى حد ما مقالة المتكلمين، دعوةً صريحةً للعلم والدِّين معا، وبعبارة مُوجزةٍ، فهي دعوة إلى دين العلم. لقد حلَّل كاروس في هذه المقالة مفهومي الخير والشَّر، وانتقد كلّ المواقف الذاتية؛ أيْ تلك المواقف الَّتي تبنى الحُكم على ما هو خير أو ما هو شر انطلاقا ممَّا هو ذاتي، وتطال الذاتية عنده مذهب اللذة، ومذهب المتعة، والمذهب الحدسي، والمذاهب الأخلاقية التي تؤسس الأخلاق على مفهوم الضمير. وتَبنَّى في المقابل تصورًا موضوعيًّا، جمعَ فيه ما قد لا يُتصور أن يجتمع: نظرية وحدة الوجود عند سبينوزا، ونظرية الحُلول عند الصوفية إلى حد ما، ونظرية التَّطور عند داروين، مع نظرة علمية موضوعية للكون؛ واعتبر الخَير والشَّر حُكمان مُستقلان عن ذاتية الإنسان، ولهما ارتباط بقوانين الطَّبيعة، وبنواميس الكون، وأقر بأهمية وجود الشَّر، لوُجود الخير؛ وبأهميةِ وجود الشَّيطان، لوجود الله؛ وفي الوقت الَّذي دافع فيه عن فكرة الله في أقصى حدودها اللغوية والأنطولوجية، أنصفَ الشَّيطان من خلال ما ورد عنه من قبل خصومه، ومن خلال ما ورد في الأساطير، وفي الأشعار، وفي الثَّقافة الغربية، وحتَّى ما ورد عنه عند بعض اللاهوتيين. وبما أنه ممثل للشر، فهو شرط ضروري لوجود الخير، وهو المحفز على كل نمو وتقدم.
نلمسُ في المقالة منهجاً جدليّاً واضحاً، يتم من خلاله، الجَمع بين الأضداد، بين الخير والشر، وبين الله والشَّيطان، بين الروح والمادة، وهو ما أضفى عليها طابعاً سجاليا وحِجاجيا. وعلى الرّغم من أنَّ صاحبها ألمانيُّ الأصل، وأمريكي الإقامة، إلا أنَّ أسلوبَه في اللُّغة الإنجليزية راقٍ، ويمتازُ بالأناقة والإيجازِ، واختيار الألفاظ المُعبِّرة بدقة عن المَقصود. فهو يذكرنا بأسلوب المتكلمين من حيث النظر والحجاج، ويذكرنا بأسلوب المتصوفة من حيث التعبير، ولا يخلو مضمون أفكاره من أثر فلسفي عميق، وروح للعلمية.
إذا لمْ يكنْ هذا الفيلسوف، واللاهوتي كما يُسمِّي نفسه، قد نالَ حظه من الشُّهرة، رغم ما خلَّفه من مؤلفات، فإنَّنا بترجمَتنا لهذه المقالة المُمْتعة، نكونُ قد ردَدْنا لهُ جزءً ضئيلاً جدا من الجَميل.
نص المقالة المترجمة
1. الْمَرْحَلَةُ الذَّاتِيَّةُ
[1] إنَّ أهمَّ مَسْألةٍ مطروحة على نطاق واسعٍ في البحثِ الفلسفي، والبحثِ الدِّيني، والبحث الأخلاقي هي مسألة طبيعة الشَّر. فبما أنَّ وجود المُعاناة هو السِّمة الجَوهرية الأكثر وضوحًا، وبما أنَّ المعاناة هي الَّتي تحدِّد طبيعة الوجود دائماً، فإنَّها تُقدمُ في نفسِ الوقت مَصدراً لأهمِّ النِّعم الَّتي تجعلُ الحَياةَ تستحِقُ أنْ تُعاش. إنَّ الألم هو الَّذي يدفعُ الفكر إلى التَّفكير: وفي المقابل، تجعل حالُ السَّعادة المُطمئنة التَّأمل، والتَّساؤل، والإبداع أمورا زائدةً عن الحَاجة. إنَّ المَوت هو الَّذي يولِّد التَّطلُّع إلى الحفاظ على النَّفس بعد الدَّفن. فبدونِ الموت لنْ يكون هناك دينٌ. والمَعصية هي الَّتي تجعلُ الفضيلةَ ضرورة. ولو لمْ يكنِ الضلال، لما كان البحث عن الهدى، ولمَا كانَ فضلٌ في الخير. ولا كانَ للذَّمِ أو المَدح معنى. وفي غيابِ الحَاجة، والنَّقص، وكلِّ أنواع العِللِ، فلنْ يكون هناك أيُّ مبتغى، ولا تقدُّم، ولا تطورُّ نحو أهداف سامية.
[2] وبما أنَّ الأساطير كانتْ على الدَّوام هي الميتافيزيقيا الشَّائعة، فمن الطَّبيعي أنْ تتجسَّد فكرةُ الشَّر بين كلِّ الأمم. ولاَ يُوجد دينٌ في الكونِ إلاَّ ولهُ روحاً شريرةً تمثلُ الألمَ، والبُؤسَ، والدَّمار؛ فالبوذيون يطلقُون على الشَّر اسم مارا، [1] الغاوي، وأبو الشَّهوة والخطيئة، وحامل الموت. ويُسمِّيه الفرسُ أنغرا ماينيو أو أهريمان، [2] شيطان الظَّلام والفساد، ويُسمِّيه اليهود الشيطان، [3] ويُسمِّيه المسيحيون الأوائل، الشِّرير، [4] أي القذّاف؛ لأنَّه اتهَم الإنسانَ في قصة النَّبي أيوب، وكانت اتهاماته باطلة. وأطلقَ عليه الجرمان والنَّرويجيون القدامى اسم لَوْكي.[5] وربما تكون الشَّياطين اليابانية، والصِّينية أكثر من الشَّياطين الَّتي لنا.
[3] إنَّ تطوُّر فكرةِ الشَّر بوصفها شخصنة، هو أحدُ أكثر الفُصول إثارةً للاهتمام في التَّاريخ، وسيكونُ من المُضحك لو لمْ تكن جلُّ صفحَات هذا التَّاريخ كئيبة للغاية (وبالخصوص تلك الصَّفحات الَّتي تتحدَّث عن المحاكمات). إنَّ أصلَ الشَّر أقدَمُ من أقدمِ الأرستقراطيات الأوروبية، وأقدَم من العائلات الملكية؛ فهو يسبقُ الكتابَ المُقدَّس، وهو أقدم حتَّى من الأهرامات. لقد تناولنا فصولاً من هذا التَّاريخ على نحو مُوجز في موضعٍ آخر، [6] ولنْ نحاولَ إعادةِ تلخيصِها، وإنَّما سنقتصرُ على التَّأمل الفلسفيِّ في فكرة الشَّر؛ وهنا نواجهُ في البداية، وقبلَ كلِّ شيءٍ، مُشكل الوُجود المَوضوعي للشر.
[4] إنَّ السُّؤال الَّذي يطرحُ نفسَه هو: أليسَ الشَّر نتاجاً للوهمِ؟ أليسَ الشَّر لفظا نسبيًا، ينبغي التَّخلي عنه باعتباره تصوُّرًا أحادي الجانب للأشياء؟ أليسَ الشَّرُ موجودًا، لأنَّنا ننظرُ إلى الحياة من منظور ذاتي، ألا يجبُ أنْ يختفي الشَّر لمَّا نتعلُّمُ فهم العالم في حقيقته المَوضوعية؟ إنَّ النُّزوع نحو اعتبار الشَّر لفظاً سلبيًا خالصاً، هو أمرٌ شائعٌ جدًا في الوقت الحاضر؛ لأنَّه يتناسبُ مع روح العصر، وهو أحدُ المفاهيم الأكثر شيوعًا في يومنا هذا.
[5] لقدْ كان الإنسانُ في العصور القديمة معتادًا على إضفاء الطَّابع الموضوعي على التَّطلعات، وعلى الدَّوافع المختلفة لروحه. ومن أجلِ فهمِ الجَمال، أبدعَ العقلُ اليوناني مثال أفروديث، وظهرتِ السُّلطة الأخلاقية للصلاح اليهودي في يهْوا الرَّب، [7] مُشرّعُ جبلِ سيناء. وتحقَّقت التَّطلعات الدِّينية في الكنيسة بواسطة المؤسسات الإكليريكية الشَّعائرية.
[6] لكن تغيَّرت الأمورُ مع بداية تلك المَرحلة (المعروفة عادة بالمرحلة الحديثة) من تطور البشرية، والَّتي تم التَّمهيد لها باختراع البارود، والبوصلة، والمطبعة؛ وقد بدأتْ في نهاية القرن الخامس عشر مع اكتشاف أمريكا، وظهورِ حركة الإصلاح الدِّيني. وكُلمَا اتسَع أفقُ العالم المعروف، أصبحَ الإنسانُ أكثر إدراكاً لأهميةِ ذاتيَتِه. إنَّ اتجاهَ الفلسفةِ منذ ديكارت، واتجاه الدِّين منذ لوثر، هو تركيز كلِّ شيءٍ في الوعيِّ الفرديِّ للإنسان. وهذا وحدَه يجب أنْ يكونَ ذا قيمة أصبحتْ جزءًا من رُوحِ الإنسان. لقد أصبحَ وعيُ الإنسانِ هو عالمُه، وأصبح الضَّمير في الدِّين هو الأساس النِّهائي للسلوك. لقد شعرَ النَّاسُ أنَّ الدِّين لا ينبغي أنْ يكونَ عاملًا نابعاً من الخَارج، وإنَّما ينبغي أنْ يكونَ عاملًا نابعاً من الدَّاخل. لقد أصبح التَّسامُح مطلبًا كونيًا، وأصبحتِ الذَّاتية حجَر الزَّاوية في الحياة العامة والخاصة. وهكذا، برزَ عصر الإصلاح الدِّيني كحركةٍ ثوريةٍ، إذ تم إعلان فيها عن الحق في الفردانية والذاتية، وتمت الإطاحَة بالسُّلطة التَّقليدية للموضوعية الخَارجية.
[7] ولمْ يكن مُؤسسو هذه الحركة يهدفون إلى التَّخلص من كلِّ سلطة موضوعية مفروضة من الخارج، ولكن روح النَّزعة الاسمية الَّتي سيطرت عليهم سادت على حركتهم في تقدمها اللاحق. إنَّ النتائج الأخيرة لمبدأ الذَّاتية، الَّذي بدأ بالافتراضِ الشَّهير "أنا أفكر إذن أنا أوجد"[8]، لم يكن يتوقعها ديكارت؛ لأنَّه افترضَ بعفويةٍ وجودًا موضوعيًا، بناءً على واحدة من أكثر الحُجج تفاهة. ولم يكن مارتن لوثر بتعليمه الخاص، وضيق أفقه العنيد، الَّذين لمْ يعبِّرا بأيِّ حالٍ من الأحوال عن أيِّ تناقض في عظمَته، ليؤيد دائما النَّظريات اللاَّحقة المبنية على الجانب الذَّاتي الخالص للضمير؛ ولكن الحقيقة تتجلى في أنَّ النَّتيجة الأخيرة للاعتراف بسيادة المبدأ الذاتي، هي إنكار أيِّ سلطة موضوعية في الفلسفة، وفي السِّياسة، وفي الدِّين، وفي الأخلاق، ممَّا يؤدي في السِّياسة إلى الفوضى؛ أيْ الفردانية المدفوعة إلى أقصى حد؛ ويؤدي في الفلسفة إلى اللاأدرية؛ أيْ إنكار أيِّ موضوعية يمكنُ إدراكها، والَّتي تم العمل عليها بشكل نسقي للغاية في المثالية النَّقدية عند كانط.[9] ويؤدي في الأخلاق إلى رفض الاعتراف بأيِّ سلطة موضوعية؛ ويؤدي كذلك أخلاقيًّا عند بنثام، [10] إمَّا إلى الأنانية ومذهب اللَّذة، أو إلى النَّزعة الحدسية.
[8] إنَّ حضارتنا الحالية قائمةٌ على النَّموذج البروتستانتي للفردانية، ولا يمكنُ لأيِّ شخصٍ يعيشُ ويتحركُ في عصرنا أنْ يتجاهلَ الفوائدَ الجَمة الَّتي نستمدُها منه. ومع ذلك، يجبُ أنْ نحذرَ من أحادية الجانب في الذَّاتية. فالموضوعيةُ ليست خاطئة تمامًا من حيث المبدأ، كما تبدو من وجهة نظر الذَّاتية الحديثة. إنَّ الأساليب الخارجية للكنيسة الرُّومانية خاطئة؛ وإنَّ استبدادَ نظامها الهرمي، الَّذي يستبدلُ سلطة الكاهنِ والبابوية المعصومة بسلطةِ الله خاطئ تمامًا؛ وكانتِ المهمة الرئيسة للبروتستانتية تتمثَّل في الاحتجاج ضد هذه السُّلطة، الَّتي، على الرغم من كاثوليكيتها المزعومة، تستند إلى سلطة بشرية؛ أيْ سلطة من البشر المعرضين للخطأ، وهي سُلطة أُسيء استعمالُها في كثير من الأحيان من خلال التَّعصب والجَهل أكثر من الحِقد والأنانية.
[9] قد يعترضُ علينا بعضُ البروتستانتيين قائلين: إنَّ البروتستانتية ليست سلبية فحسب، وإنَّما هي إيجابية أيضًا. إنَّها ليست مجرد احتجاج، وإنَّما هي تأكيد كذلك. فهذا صحيح حقًا! لكنَّ معظم التأكيدات البروتستانتية قائمة على الكاثوليكية، الَّتي قيَّدت ضمائرَ الإنسان، وشلّت قدرتَه على التَّفكير. إن المتعصبين بين البروتستانتيين ليسوا أصدقاء للحرية، وليسوا أصدقاء للبحث الحر بأيِّ حال من الأحوال؛ غير أنَّ القُوة الإيجابية، والعامل الجديد في التَّاريخ، الَّذي كانَ مقدراً له أنْ يبني حضارة جديدةً، لم يكن سوى العلم. لذلك، لم تَحسم البروتستانتية بعدُ في مسألة التَّطور الدِّيني للبشرية. ولهذا، يجبُ علينا أنْ نتطلعَ إلى أهدافٍ أسمى، وإلى وقضايا أكثر إيجابية، ولن يُحقِّقَها إصلاحٌ جديدٌ للكنيسة إلاَّ بإقراره مُجدَّدًا بأهمية الموضوعية.
[10] إنَّ البشريةَ لن تعود إلى النِّظام العقائدي للمؤسسات الهَرمية، الَّذي من شأنه أنْ يربطَ ضمير البشر بالسُّلطة الَّتي صنعَها الإنسان، ولكن يجبُ أن نُدركَ أنَّ الحقيقة ليست مفهوما ذاتيا؛ وأنَّ الحقيقة هي تصريح بالوقائع؛ وبالتالي، فإنَّها تشتمل على عنصر موضوعي، وأنَّ هذا العنصر الموضوعي هو الجزء الأساسُ من الحقيقة المُعترف بها.
[11] في المرحلة القديمة من الموضوعية، كانتِ السُّلطة النِّهائية في أيدي رجال عظماء، وأنبياء ومصلحين، وكهنة، الَّذين تجسَّدت روحُهم، بعد أنْ تم تكييفُها مع احتياجات الأقوياء، في مؤسسات الكنيسة. لكنَّ الموضوعية الجديدة تتجاهلُ كلَّ سلطةٍ بشريةٍ؛ وتعتمد في نهاية المطاف على العِلم، وهو نداءٌ للحقائق. ولمْ تعدِ الحقيقةُ هي ما تُعلّمه الكنيسة، أو ما يراهُ رجلٌ معصومٌ من الخطأ أو ما يعلنه حكيماً، ولا يبدو لي، ولا لك حقيقيا؛ وإنَّما الحقيقةُ هي ما يُثبتُ علمياً على أنَّه حقيقي موضوعياً، بحيث يجده كلُّ من يبحث عنها حقيقة.
[12] إنَّ الحقيقةَ الموضوعية، هي الحقيقةُ الَّتي يمكنُ إثباتُها بالأدلة، وهي الحقيقةُ الَّتي تكونُ قابلةً للمُراجعة، ويمكنُ ردُّها إلى لفظٍ واحدٍ، هو العلم، الَّذي يعتبرُ أسمى، وأوثق، وأثمن وحيٍّ من الله. فاللهُ يكشفُ عن نفسِه في حقائقِ الحَياة، الَّتي تطالُ آلامنا، وتجاربنا الشَّخصية، واللهُ يتحدَّث في ضميرنا، الذَي هو، كما كان، الغريزة الأخلاقية، والنتيجة لكلِّ تجاربنا الموروثة والمكتسبة، وهذا هو السَّبب في أنَّ صوتَ الضَّمير يجعلُ نفسَه مسموعًا في روحنا بتلك القُوة التِّلقائية، الَّتي تميز كلَّ ردود الفعل اللاواعية العميقة الجذور فينا، والله يظهرُ أيضًا في مشاعرنا، وفي تطلعاتِنا المثالية، وفي تقوانا، وفي آمالنا وتوقعاتنا. إنَّ كلَّ هذه التَّجليات المٌختلفة مهمة، ويجبُ أن لا نغفلَ عنها، ولكن فوقَ كلِّ ذلك توجدُ موضوعيةُ الحَقيقة التي تتحدَّث من خلال العلم.
[13] فمنَ المُستحيلِ أنْ يكونَ كلُّ النَّاس عُلماء، ولهذا، فليسَ من الضَّروري استعبادُ عقولهم، وقلوبِهم بالإيمان الأعمى. إنَّ إيمانَ كلِّ إنسانٍ يجبُ أنْ يكونَ هو الثِّقة في الحَقيقة، وليس الإيمان بالقصص الخيالية، الَّتي يجب أن نتقبلها وكأنها أمر يقيني ومسلم به، وإنَّما يجب الإيمان بالحقيقة - الَّتي تكون في خطوطها العريضة بسيطة بما يكفي لكي يفهمَها الجميع – وتلك الَّتي تؤكد على أنَّ عالمَنا هذا تناغمٌ كوني، إذا تم فيه ارتكاب أيِّ ذنب، فإنَّ ذلك يؤدي إلى عواقب شريرة في كلِّ مكان فيه.
[14] إنَّ الإيمانَ بالسُّلطة الموضوعية للحقيقة هو الخُطوة التالية في التَّطور الدِّيني للبشرية. ونحن الآن على أعتاب المَرحلة الثَّالثة، الَّتي ستكون، باختصار، عصر الموضوعية العِلمية. لقد كانَ اتجاه المرحلة الثَّانية اتجاهاً سلبيًا، وثوريًا، ونظريًا. أمَّا اتجاه المرحلة الثالثة، فسيكون إيجابيًا، وبنائيا، وعمليًا.
[15] إنَّ النَّزعة السَّلبية والنَّزعة الذاتية تبدوان من وجهة نظر الوضعية والموضوعية في الفترة الأولى على أنَّهما عمل من أعمالِ المُدمِّر، والرُّوح السَّلبية، والشَّيطان. وهذا ردُّ فعلٍ. يُفسر لم أصبحَ شيطانُ ميلتون بطلاً. لقد كانَ جون ميلتون[11] بروتستانتيًا، وثوريًّا، وذاتيًّا، ويتعاطفُ لاشعوريًا مع الشَّيطان، الذي يُعلن، بعبارات فيلسوف العصر:
"إنَّ العقلَ مكانُه الخاصُّ، وبه يُمكن بنفسه،
أن يُحوِّلَ الجَنة جحيماً، ويحوِّل الجَحيم جنة.
فأين المفر، إذا بقيتُ كما أنا؟
وماذا ينبغي أنْ أكون؟"[12]
[16] إنَّ سلبية الفترة الثَّانية ليست خطأً، وإنَّما كانت شرطًا ضروريا لتأسيس الفترة الثالثة؛ إذ أعدتْ لها آليات إيجابية أسمى وأفضل، ألاَ وهي النَّزعة النَّقدية. لكنَّ النَّزعة النَّقدية لا تكفي للبناء الإيجابي؛ وإنَّما يجبُ أنْ تكون لدينا نتائج فعلية، وعمل نسقي، وقضايا إيجابية؛ فنبيُّ القرن العشرين يرى ضرورة التأكيد مجددًا على أهمية الموضوعية.
2. هلِ الشَّرُ إيجَابيٌّ
[17] بعد هذه المُلاحظات الأولية، سنكون على استعداد لفهم السَّبب الَّذي أدى باتجاه الذَّاتية إلى اعتبار الشّر عاملا سلبياً، وليس عاملا إيجابيا. إنَّ البحثَ عن أبرز مُمثِّلٍ لهذهِ النَّظرةِ من بين أفضل كُتّاب عصرنا، نجدُ قولاً للكاتبة الشَّهيرة صاحبة رواية: "ضَعْ سلاحَك أرضاً!"، وهي بيرثا ڤون شوتنر[13]، إحدى أبرز مُناصري العدالة الكونية على كوكب الأرض. إنَّها تَعْلم، كما يَعلمُ شوبنهاور، [14] أنَّ مصائبَ الحياة إيجابية، لذلك تصفُ جميعَ أهوالِ الحرب في واقعِها المُريع. ورغم كلِّ هذ، تُخصِّص في كتابها المُبدع: "جرد الرُّوح" فصلاً كاملاً لقضية "مبدأ الشر شبح".[15] تقول فيه:
"أنا لا أؤمنُ بأشباح الشَّر، والبؤس، والموت. إنَّها مجرد ظلالٍ، وأصفار، وعدم. إنَّها نفيٌّ لأشياء حقيقية، وليست هي نفسها أشياء حقيقية... فهناك نورٌ، ولا يوجدُ ظلامٌ: فالظلامُ ليس إلاَّ عدم وجود النُّور. وهناك حياة، والموت ليست سوى توقفًا مؤقتًا لظواهر الحياة... لنسلّم بأنَّ أورمزد وأهريمان، أي الله والشَّيطان، قابلان للتصور بوصفهما ضدين، ولكن هناك أضدادٌ أخرى يبدو فيها أنَّ وجود أحدهما هو عدم وجود الآخر. فعلى سبيل المثال: الضَّجيج والصَّمت. تخيّل صمتًا قويًا يُخمد الضَّجيج... فالظَّلام ليس له درجةً، بينما للضوء درجة. هناك مزيدٌ من الضَّوء أو أقل، لكن درجات الظَّلام المختلفة قد تعني القليل من الضَّوء أو أقل من القليل. وهكذا، فالحياةُ مقدارٌ، لكن الموتَ صفر. فلا يمكنُ للشيء والعدمِ أنْ يتصارعا. فالعدم بلا سلاح، والعدم كفكرة مستقلة ليس إلاَّ إسقاطاً لنقاط ضعف البشرية... فلا بد من وجود اثنين لإحداث الصِّراع. فإذا كنتُ في الغرفة، فأنا هنا؛ وإذا غادرتُها، فلن أكون هنا. ولا يمكنُ أنْ يكونَ هناك صراعٌ بين أنا الحاضر وأنا الغائب."
[18] إنَّ هذا هو الإنكار الأكثر براعة واكتمالاً لوجود الشَّر، وهو يُقدَّم بحُجة بالغةٍ. إنَّه تعبير عن نزعة سلبيةٍ في الفلسفة امتدت من ديكارت إلى سبنسر.[16] ورغم أنَّها تبدو قائمةً على مذهب الوحدة[17] المُتسق. ومع ذلك، لا يُمكننا قَبولها.
[19] صحيح أنَّ فكرةَ الشَّيطان الشَّخصي فكرةٌ خيالية مثل الجن، أو العفاريت؛ وصحيح أيضًا أنَّه لا يُوجدُ شرٌ في ذاته، ولا يُوجدُ خيرٌ في ذاته؛ ممَّا يجعل ثنائية المانويين[18] غير قابلة للدفاع عنها. لا يمكنُ تصوُّر مبدأ الشَّر كجوهر مُستقل، أو ماهية مُستقلة، أو وجود مُستقل. ولهذا السَّبب لا يمكننا غض الطَّرف عن وجودِه الحقيقيِّ والإيجابيِّ. صحيحٌ أنَّ الصَّمت هو غيابُ الضَّجيج، إلاَّ أنَّ الضَّجيجَ ليس خيرًا، والصَّمتَ ليس شرًا. وفي الوقت الَّذي أكون فيه أفكرُ أو أكتب، أرى الضَّجيج شرًّا، بينما يصبحُ الصَّمتُ نعمة. فالصَّمت، حيث يُتوقع أو يُحتاج إلى كلمة مُبهجة، قد يكونُ شرًّا إيجابيًا للغاية، والكذبُ ليس مجرد غيابِ الصِّدق. وغيابُ الطعام مجرد نفي، ولكن إذا نظرنا إليه في علاقته بمحيطه كخواء المعدة، فهو جوعٌ؛ والجوعُ عامل إيجابي في عالمنا هذا. يمكنُ اعتبار المرض مجرد غيابٍ للصحة، ولكنه إمَّا أن يكون ناتجًا عن خللٍ في الأجهزة، أو ناتجا عن وجود مؤثرات ضارة، وكلاهما إيجابي بلا شك. إنَّ الدَّيْن سلبيٌّ في دفتر المَدين، ولكنْ ما هو سلبي للمَدين إيجابي للدائن.
[20] إذا كانتِ الأفكار السَّلبية "مجرد إسقاط لنقاط ضعف البشرية"، كما تزعم بيرثا ڤون شوتنر، فكيفَ يمكن لعلماء الرِّياضيات استعمال علامة السَّلب؟ وإذا كانت فكرة الشَّر خرافةً فارغة، فكيف أمكن لتأثيرها على البشرية أنْ يكون بهذا القدر من الاستمرارية؟ فمن جهة، صحيح أنَّ كلَّ وجود إيجابي، ولكن من جهة أخرى، يجب أنْ نعلم أنَّ الوجود فيما هو مجرد ليس خيرًا ولا شرًا؛ فالخير والشَّر يقومان على العلاقات بين مختلف الموجودات. وقد تكونُ هذه العلاقات خيرًا، وقد تكون شرًّا. وقد يدمِّر وجود وجودات أخرى. فالبكتيريا مُدمرة للحياة البشرية، والتِّرياقات تُدمرها. وفي كلِّ مكان تعيش طفيليات على حياة أخرى، وما هو إيجابي أو مُحافظ على الحياة لأحدهما، سلبي ومُدمر لحياة الآخر، وكلُّ نفي من هذا القبيل واقع، وفعاليته تُبطل مفعول واقع آخر.
[21] إنَّ فكرةَ الخير بمعنى ما تعادلُ الوجود، وفكرةُ الشَّر تعادل العدم. والوجودُ هو الواقعُ، إنَّه الكلُّ غير القابل للانقسام، وهو الواحد والكلُّ. أمَّا الخيرُ والشَّر فهما وجهتا نظرٍ من منظور معين، ومن هذا المنظور، فإنَّ الخير والشَّر سمتان تشكلان تضاداً، لكنَّهما في ذاتهما حقيقتان؛ فلا أحدهما ولا الآخر مجرد عدم. إن السَّؤال الَّذي يطرح هو ما إذا كان لدينا الحقُ في اعتبار وجهة نظرنا الخاصة بوصفها الموقف الإيجابي الَّذي يُمثل ما هو خير، وكلُّ القوى الَّتي تعوق الحياة البشرية بوصفها سلبية أو شريرة.
[22] يبدو أنَّ الإجابة عن هذا السُّؤال هي أنَّ كلَّ شخص سوف ينظر بطبيعة الحال إلى وجهة نظره الخاصة بوصفها حقيقة إيجابية، وكلُّ عامل يُدمِّرها هو سلبي؛ ويبدو له أنَّ متعته هي معيارُ الخير.
[23] إنَّنا نسلّم بأنَّ لكلِّ شخص الحق في اتخاذ هذا الموقف، وأنَّ الذاتية تُشكّل بطبيعة الحال المرحلة الأولى من كلِّ تقييم أخلاقي. لكنْ لا يمكننا الاكتفاء بمبدأ الاستقلال الذَّاتي كحلٍّ لمشكلة الخير والشَّر.
[24] لو افترضنا أنَّ الخيرَ ببساطة هو ما يُسعدني أو يُحسّن حياتي، وأنَّ الشَّر هو ما يُسبِّب الألم أو يُهدِّد بتدميرها، لكان معيارُ الخير والشَّر ذاتيًا خالصا. لقد كان زعيم القبيلة المُتوحش الشَّهير، الَّذي اقتبس عنه تايلور، [19] واقتبس سبنسر عنه فيما بعد، ليُدرك إشكالية الخير والشَّر لمَّا أعلن أنَّ: "الشَّر هو أنْ يغتصبَ أحدٌ زوجتَّه. أمَّا إذا اغتصبَ زوجةَ غيره، فهذا خير". سيكونُ الخير هو ما يُرضيني؛ ولن يكون الخير كواقع موضوعي موجودًا. وسيكون هناك خير لي، وخير لك، وخير للكثيرين غيري، لكن ما قد يكون خيرًا لي، قد يكون شرًا لك. وسيكون الخير والشر صفتان ذاتيتان خالصتان دون أن تكون لهما أي قيمة موضوعية تذكر.
[25] إنَّ وجهة النَّظر الَّتي تبني الأخلاق على مراعاة المُتعة والألم، وتعرِّف الخير بأنَّه ما يوفر أكبر قدر من المشاعر المُمتعة، تسمى مذهب اللذة.[20] والصُّورة المُبالغُ فيها للذة (كما يُمثلها بنثام) تجعلُ متعةَ الفردِ أسمى؛ فهو يُؤسسُ أخلاقياتِه على الأنانية، ولا يرى في الإيثارِ إلاَّ أنانيةً مُكرَّرةً. ويُقالُ إنَّ المُوثر لا يُحبُّ إلاَّ نفسه في الآخرين.
[26] دعوني أضيفُ هنا أنَّ الحدسي الَّذي يؤسِّس الأخلاق على صوتِ ضميره هو أيضًا، إذا نظرنا إليه عن كثب، فهو من أصحاب اللَّذة، أو على الأقل هو شخصٌ ذاتي؛ لأنَّه يجد السُّلطة النهائية للسلوك في نفسه، أي في متعةِ تلك الأفكار الحركية الَّتي يسمِّيها ضميره: فما يسعدهُ يعتبره أخلاقيًا، ويعتقد أنَّه أخلاقي. إنَّ معياره الأخلاقي هو ذاتية قناعاته الَّتي يعجز عن تحليلها أو تتبع أصولها. فهو يختلف عن مذهب اللذة الأخلاقية عند بنثام في أنَّ أنانية الأخلاق فقط هي الَّتي تطغى على متعة ضميره، وعلى متعةِ الحواس الدُّنيا.
[27] إنَّ النَّفعية الحديثة، كما يمثلها سبنسر، تظلُ أخلاقية ذاتية خالصة، لأنَّها تجعل أعظم سعادة لأكبر عدد من النَّاس مبدأ الأخلاقِ. وبذلك، فإنَّها لا تقدِّم أيَّ مبدأ موضوعي، وإنَّما تقترح ببساطة استبدال كلَّ ذاتية على حدة بمجموع كلِّ الذاتيات؛ والمبادئ الأخلاقية الذَّاتية ليست أخلاقية حقًا؛ فهي تظل على مستوى مفهوم العالم جزء من أخلاق المُتوحش عند تايلور.
[28] كلُّ النَّظريات الأخلاقية الذاتية تغفلُ عن جوهر الأخلاق، لأنَّ جوهرَها موضوعي. فإذا لمْ تكن هناك مرجعية موضوعية للسلوك الأخلاقي، فمن الأفضل أنْ نعلنَ صراحةً أنَّ الأخلاق وهمٌ، وأنَّ ما نسمِّيه أخلاقًا ليس إلاَّ عملية حسابية تُقارن فيها المَلذات بالآلام، وأنَّ الأخلاق في أحسن الأحوال ليست سوى غذاء للروح. في الواقع، ومن يفتح عينيه يرى أنَّ هناك مرجعية موضوعية للسلوك في الحياة. فالحياةُ وعواملها ليست ما نصنعُه نحن. فإذا كنا نخوض سباقًا، فمسار الفرد، ومسار البشرية، ومسار كل الكائنات الحية، مُحددٌ بدقةٍ لا لبس فيها، على غرار ما اعتدنا على تسميته منذ داروين بالتَّطور. علينا أنْ نتعلمَ إدراك ضرورة التَّقدم الَّذي يقودنا إلى الهدى. من يطيعون قوانين التَّقدم طوعًا، يسيرون على هذا الطَّريق المستقيم بفرح وسرور، رغم أشواكه. أمَّا المترددون، فيُدفعون إلى الأمام، ويشعرون بوخزة سوط الطَّبيعة، ومن يرفض بعنادٍ الخُضوع لقوانين النِّظام الكوني، يُلقى في الهاوية.
[29] لا تُراعي الطَّبيعة مشاعرنا، سواءً أ كانت ملذات أم آلامًا. من يتلذذ بالتَّصرف وفقًا لقوانينها، فهو سعيد. أما من يسعى وراء ملذات أخرى، فهو هالك. انظر إلى الوضع من أيِّ زاوية تراها، فمعيار الصَّواب والخطأ، ومعيارُ الخير والشَّر، ومعيار الصِّدق والكذب، لا يكمن في كثرة أو قلة اللذة والألم، وإنَّما يكمن في توافق أفعالنا مع النِّظام الكوني، والأخلاقُ هي ما يتوافق مع قانون التَّطور. تُعلّمنا الأخلاق أنْ نفعلَ طواعيةً ما يجب علينا فعلُه، سواءً رضينا أم أبينا.
[30] ومجملُ القول، فلا يمكنُ تصوُّر الأخلاق بدون واجبٍ، والعنصرُ الأساس للواجبِ يتجلى في واقعيتِه الموضوعية، وفي صرامته الَّتي لا تتزعزع، وفي سلطته الصَّارمة.
[31] إنَّنا نقول لصاحب اللذة: إنَّ فعل الخير ليس أخلاقيًا، لأنَّه يمنح المتعة، وإنَّما هو خير؛ لأنَّه يتفق مع الواجب؛ ويجبُ أنْ لا نبحثَ عمَّا يمنحنا المُتعة، وإنَّما يجب أن نسعى جاهدين للعثور على أعلى درجاتِ المُتعة في القيامِ بما يطلبُه منا القانون الكوني (أو، من النَّاحية الدِّينية، ما يطلبه منا الله).
[32] إنَّ الذين ينكرون وجود أيِّ قاعدة موضوعية للصَّواب والخطأ في الكون، يميلون إلى الادعاء كما ادعى ألدوس هكسلي[21]، بأنَّ الإنسانَ لمْ ينجُ بسببِ أخلاقه، وإنَّما على العكس من ذلك، نجا بسببِ عدم أخلاقِه. قيل: إنَّ الإنسان أكثر جشعًا، وأكثر أنانية، وأكثر انحلالًا أخلاقيًّا من الوحوش. ودون أنْ نُنكر أنَّ الإنسان غير الأخلاقي، فقد يبدو أحيانًا أكثر وحشية من الوحوش، ولا نستطيعُ أنْ نرى أن الإنسان لا يقل انحلالًا عن الوحوش، أو حتى أكثر انحلالًا منها. لأنَّ هذه القضية جديرة بالتأمل.
[33] يقولُ الذِّئب في حكاية إيسوپ: "لمَ يكون من الصَّواب أنْ تأكل الحملَ، بينما بالنسبة إلي يعدّ أكله خطأ؟" أليس الإنسان في نفس مأزق الذئب، ألا تذبحُ البشريةُ حيوانات أكثر ممَّا افترستَه كلُّ ذئاب العالم على الإطلاق؟
[34] إذا سلّمنا بصحةِ حُجج الذئب، نلاحظ أنَّ الإنسانَ حيّ، بينما الذئاب تُباد، وهو ما يبدو دليلاً قوياً على أنَّ الإنسانَ أكثر انسجاماً مع قوانين الكون. ومع ذلك، تبدو أفعال كليهما، الذئب والإنسان، متطابقة؛ أو بالأحرى، لو كانَ ظلمُ الجريمة يعتمدُ على القياس الكمي بالجمع، لوجبَ علينا الحكم لصالح الذئاب؛ لأنَّ الإنسان في الوقت الحاضر يقتلُ من الأغنام، والخنازير وغيرها من الحيوانات في عام واحد أكثر ممَّا تستطيع الذئاب افتراسه في قرن. فما مبرر الذَّبح في الحالة الأولى، وما إدانته في الحالة الثَّانية؟
[35] للإجابة عن هذا السُّؤال، فإننا لنْ نُصوّر نمط عيش الإنسان في اقتياته على لحوم إخوانه من المخلوقات على أنَّه مثالي؛ إذ يبدو من النَّاحية الأخلاقية أنَّه من الأفضل استمرار الحياة دون ذبح الحملان، والعجول، والدواجن، والأسماك. ولا يجب النظر إلى القضية من منظور تجريدي أو مثالي، وإنَّما يجبُ التَّعامل معها ببساطة كمقارنةٍ بين سلوك الذِّئب وسلوك الإنسان؛ ونجد أنَّه كلَّما أكل الإنسان من الخراف، زادَ ما يُربيه منها. والذئبُ يأكلُ الخراف دون أن يربيها. فالذئبُ يفترس الحمل. ومع ذلك، فإنَّ ذبح الحملِ على يد الإنسان ليس بالأمر الهيّن؛ لأنه يُنمّي النُّفوس البشرية، ويُحافظ عليها، ونفوس البشر تمتلكُ مزيدًا من الحقيقة، وتمتلك بصيرة أسمى في الطَّبيعة. يموتُ الحمل فِديةً على مذبح الإنسانية، وهذه الذَّبيحة حقٌّ وخيرٌ إذا، وبقدر ما، تُبدّل حياةً أسمى بحياةٍ أدنى. ومن النَّاحية الذاتية، فلذئاب الحقُ نفسه الَّذي للإنسان في قتلِ الحمل؛ وكذلكَ الحق نفسه الَّذي للحمل في قتل الذِّئاب أو البشر. إنَّ الفرق بين تصرفاتِ الإنسان والذِّئب يظهر فقط لما نأخذ في الاعتبار الظُّروف الموضوعية لتفوُّق الإنسان، ممَّا يمنحه نطاقًا أوسع من السُّلطة تمكنه من الحفاظ على نفسه، لأنَّ روحَه تعكسُ الحقيقة بشكلٍ أفضل من مفهوم الذئب.
[36] يجبُ أنْ نُصرّ هنا على أنَّ بلوغَ حياة أسمى، والمتمثِّل في فهمٍ أعمق للحقيقة، واكتسابِ قوةٍ أكبر، هو من أهمّ مُتطلبات الأخلاق. فالأخلاقُ ليست صِفةً سلبيةً، وإنَّما هي مسعى إيجابي للغاية. ويجبُ أنْ نتخلى عن النَّظرة السَّلبية القَديمة القائلة إنَّ الخير يكمنُ في الامتناع عن بعض المُحرمات. إنَّ الخيرَ الحقيقي يكمن في الجُرأة والفِعل، وفي فعل الصَّواب. إنَّ فضيلةً واحدة حقيقية وإيجابية تُكفّر عن كثير من الرَّذائل الَّتي تتمثَّل في التَّقصير. فليس الحملُ أكثر أخلاقاً من الذئب (كما يُزعم). صحيح أنَّ الذئبَ شريرٌ، لكنَّه على الأقلِ شجاعٌ وذكيٌ. أمَّا الحملُ، فجبان، ومع كلِّ جُبنه، فهو غبيٌّ. لقد حانَ الوقت لنبذِ المَثل الأخلاقي للحَمل، ونُشيدُ بكلِ نقص في الطاقة والإنجازات، بوصفها أسمى أنواع الخير. فما نحتاجُه هو مفهومٌ إيجابيٌ للفضيلة، يكون قائماً على دراسةٍ متأنيةٍ لمُتطلبات الحياة.
[37] لا يُمكنُ اعتبارُ التَّمييز بين الحياة الأسمى والحياة الأدنى تمييزًا تعسفيًا. إنَّه أمرٌ ذاتي خالص، ولكن يُمكن تعريفُه وفقًا لمعيارٍ موضوعي. فالخيرُ بالنِّسبة إلى المُتوحش هو ما يُرضيه، والشَّر هو ما يُؤذيه. والخير، بالنِّسبة إلى من فكّ لغزَ الكونِ الدِّيني، وفَهم طبيعةَ اللهِ، هو ما يُنتج حياةً أسمى، والشَّر هو ما يَعوقها، أو يُفسدها، أو يُدمِّرها.
3. فِكْرَةُ اللهِ
[38] اللهُ لفظٌ دينيٌّ، وكثيراً ما يُزعم أنَّ معرفةَ اللهِ لا تقعُ ضمنَ نطاقِ العلمِ، ويُزعم أنَّ فكرةَ اللهِ وكلَّ الألفاظ الدِّينية الأخرى توجدُ خارجَ نطاقِ العلم. إذن، هناك طرفانِ، كلاهما تحت تأثيرِ الذاتية الاسمية: اللاأدريون المُتديِّنون، واللاأدريون الكافرون. فإيمانُ الفريقِ الأول لا عقلاني مَثَلُه مَثَلُ كفرِ الفريق الثاني. فإذا وُجدَت سلطةٌ موضوعيةٌ للسلوك، فلا بد أنْ نكونَ قادرين على معرفتِها؛ ولا يمكننا طاعتها إلاَّ بقدر ما نعرفه عنها. وتُعلّمُنا التَّجربةُ أنَّ هناك سلطةً للسلوك، ونظريةُ التَّطور تَعِد بإثباتها بأدلة قاطعة. يُطلقُ على هذه السُّلطة السُّلوكية في لغة الدِّين اسم "الله". يُصوغُ علماؤنا تحت اسم "قوانين الطبيعة" ما هو ثابتٌ في الظَّواهر المتعدِّدة، وما هو كليٌّ في تنوعِ الأحداث، وما هو أبديٌّ في الزَّوال، وكلُّ قانونٍ من قوانين الطَّبيعة يوجدُ في نطاقِه سلطةٌ سلوكيةٌ دينية، وهي بهذا المعنى، فهو جزءٌ لا يتجزأ من كينونة الله.
[39] إنَّ أهم قوانين الطَّبيعة في المجال الأخلاقي هي تلك القوانين الَّتي تنظِّم كلَّ العلاقاتِ المتعدِّدةِ والحسَّاسة أحيانًا بين الإنسان والإنسان، والَّتي تتداخلُ مع مصائرنا، وتضعُ الرُّوح إلى الرُّوح في استجابة تتحقَّق فيها المُساعدة المتبادلة.
[40] إنَّ الوجودَ كلٌّ واحدٌّ متناغمٌ؛ ولا يوجدُ شيءٌ في العالم إلاَّ وهو محصورٌ في الكلِّ كجزءٍ من الكلِّ. والواحدُ والكلُّ شرطٌ لوجود كلِّ مخلوقاتِ الوجود. إنَّه نفَسُ أنفاسنا، وإحساسُ مشاعرنا، وقوةُ قوتنا. ولا شيءَ موجودٌ بذاته أو لذاته، فكلُّ الأشياء مُترابطةٌ؛ وكما أنَّ كلَّ الكُتلِ مترابطةٌ بجاذبيتها في انجذابٍ متبادلٍ، فكذلك يكمنُ في أعماقِ كلِّ شعور شوقٌ غامضٌ، وتوقٌ إلى اكتمالِ الكلِّ، وعاطفةٌ شاملةٌ تجدُ تعبيرًا قويًّا في مزاميرِ كلِّ الأديانِ على الأرضِ. ولا يوجدُ مخلوقٌ معزولٌ، لأنَّ الوجودَ كلَّه يؤثرُ في أصغر أجزائِه؛ وبهذا المعنى، فإنَّ القولَ المأثور: "الله محبة" حقيقةٌ يمكنُ إثباتُها بالعلم الطَّبيعي.
[41] يُثبت العلمُ أنَّ الوجودَ كلَّه يُنظّمُه قانونٌ؛ وأنَّه ليس فوضى، ولا لغزًا مُبهمًا، بل هو كونٌ =cosmos. وبصفتِه كونًا، فهو قابل للفهم، ويمكنُ للكائناتِ الواعيةِ أنْ تتعلمَ فهمَ طبيعتِه، والتَّكيُّف معها. إنَّ الله هو تلك الصُّورة في العالم، الَّتي تُشكّل العقلَ وتُنتجُه؛ والعقلُ ليس إلاَّ انعكاسًا للنظام العالم. إنَّ النِّظامَ الكونيِّ للوجود، وتناغُم قوانينِه، وانتظامه النَّسقي، يجعلُ الفهم مُمكنًا، وستتطوَّر الكائناتُ الواعيةُ على نحو تلقائيٍّ إلى عقول. فاللهُ هو الَّذي يُحوّل الأفرادَ إلى أشخاصٍ؛ لأنَّ العقل والإرادة العقلانية هما السِّمة الجوهرية للشخصية.
[42] إنَّ اتخاذَ هذا الأساس، يعني القول (من أجل تبسيط اللَّفظ الدِّيني "الله"): إنَّ تلك الموجودات الخيِّرة صورٌ لله.
[43] إنَّ طبيعةَ التَّقدم ليست (كما يقول السيد سبنسر) زيادةً في التَّنوع، وإنَّما هي نموٌ للروح. إنَّ التَّطوُّر ليس تكيُّفاً مع البيئة المحيطة، وإنَّما هو تجسيدٌ للحقيقة يزدادُ كمالًا يومًا بعد يوم. أمَّا التَّكيُّفُ مع البيئة، من وجهة نظر أخلاقية، فهو نعمةٌ عرضيةٌ فقط للقوة الَّتي يمنحها السُّلوك القويم.[22]
[44] إنَّ كلَّ وقائعَ التَّجربة وحيٌّ، ولكن تلك الوقائع هي الَّتي تخدُم جوهر المفهوم الأقدم عن الله، وتقبلُ في نفس الوقت كلَّ ما هو حقيقي في وحدةِ الوُجودِ.[23]
[45] لطالما كانَ اللهُ فكرةً ذات أهمية أخلاقية. لقدَ كانَ اللهُ، وسيبقى (ما دامت الكلمة باقية)، هو المرجعُ الأسمى للسلوك. فبما أنَّ نظامَ العالم في أعمِّ سماتِه ضرورةٌ جوهريةٌ، ممَّا يعني أنَّه لا يمكن تصوُّره على خلاف ذلك تحت أيِّ ظرف من الظُّروف، فإنَّ اللهَ هو علةُ الوجود، [24] ليس فقط كما هو موجودٌ بالفعل، وإنَّما لوجود أيِّ عالمٍ ممكنٍ؛ وبهذا المعنى، يُعلّم الحلول أنَّ اللهَ فوقَ الطَّبيعة. قد تكونُ فكرةُ خوارق الطَّبيعة غير مقبولة كما فهمَها المتعصبون، إلاَّ أنَّ هناك حقيقةً في خوارقِ الطَّبيعة ستبقى حقيقة إلى الأبد.
[46] إنَّ أولئكَ الذين يرونَ في حقائق الطَّبيعة المادة المتحركة فقط، سوفَ يفاجأون بطبيعة الحالِ بحقيقة أنَّ الكونَ يمكنُ أنْ تتطوَّر منهُ موجودات متطلعة أخلاقياً. ويكشفُ لنا التَّعمق في أحوال الطَّبيعةِ أنَّ العالمَ كونٌ مُنظَّمٌ على نحو جيد، وله قوانينُه الثَّابتة والمحدَّدة، وهذه القوانين حقائق بقدر ما هي أشياء مادية. إنَّها ليست موجوداتٍ ملموسة، لكنها واقعية، وهي في الواقع ذاتُ أهميةٍ أكبر من وجود الأشياء المُدرَكة حسّيًا. إنَّ الكونَ ليسَ كتلةً هائلةً من الذرات والجزيئات الَّتي لا تعدٌ ولا تُحصى، وليس كتلاً من الشُّموس والنُّجوم، وإنَّما يظهر في نسيجِه الدَّقيق، وفي أدقِ تفاصيله، كلاَّ نسقياً وبديعا، ومُفعماً بالحياة والاتساق، ويتمتع بطابعٍ صريحٍ وقابل للفهم. إنَّ العالمَ يمتلكُ موضوعيةً، أي أنَّه واقعٌ مستقلٌّ عمَّا نعتقدُ أنَّه يكون. إنَّ العالمَ ليس كما نعتقدُ أنَّه يكون، وإنَّما يجب أنْ نفكرَ فيه كما يكونُ، وواجبُنا هو التَّصرف وفق قوانينه.
[47] فهذه هي الحقائق العلمية الواضحة، الَّتي يجبُ أنْ ينتبه إليها حتَّى من لا يملكُ أدنى فكرةٍ عنها. فالمَخلوقات هي وحدها الَّتي تتصرَف وفقًا للحقيقة، على المدى البعيد، وتستطيعُ البقاءَ على قيدِ الحياة في ظل التَّطور. لذلك، تجسّدت الحقيقةُ في قواعد أخلاقية، حتَّى قبل أنْ يتمكَّن العلمُ من استنباطِها أو تفسيرها. إنَّ الدِّينَ وحيٌّ بقدر مَا هو استباقٌ لحقائقَ معينة، لم تكن مفهومةً في وقت اختراعها. لذلك، كانَ على الأفكار الدِّينية أنْ تكونَ رموزًا، ولا يمكنُ إيصالُها إلاَّ بالأمثال. وعليه، فكلما تقدَّم العلمُ، ازدادَ فهمُنا لمعنى هذه الأمثالِ.
[48] إنَّ اللهَ موجودٌ في كلِّ الأشياءِ، لكنَّه يتجلى على نحوٍ أفضلٍ في الإنسان، وخاصةً في الإنسانِ الطَّموح أخلاقياً، وهذا هو معنى المثل الأعلى للإله الإنسانِ، أو المسيح، المُخلص، الَّذي تكونُ تعاليمُه هي الطَّريق المُستقيم، وهي الحق، وهي الحياة.
[49] لقد كانَ يسوع النَّاصري، وفقًا لأحدثِ وأعمقِ الدِّراسات التَّاريخية، شخصيةً تاريخيةً حقيقية، ولمْ يكن مجرد أسطورةٍ شعريةٍ دينيةٍ، وإنَّما كان مُزيّنًا بنفس الزِّينة الأسطورية البَراقة، الَّتي زُيّن بها أعظم مُعلمي البشرية، مثل زرادشت وبوذا. ومع ذلك، فإنَّ كون يسوع شخصية تاريخية أم لا أمرٌ لا يُعتد به؛ فالسُّؤال المطروح ليس هو ما إذا كانَ يسوع النَّاصري قد عاش قبل ألفي عام أم لا، وإنَّما ما إذا كان المسيح، الَّذي يُعتبر مثالاً للإله المتجسّد، ودافعا للطموحات الأخلاقية، حاضرًا الآن. فهناك مسيحيون، تُعتبر مسيحيتُهم مجردُ عقيدةٍ يسوعيةٍ. ويجبُ على المسيحيين التَّمييز بين يسوع والمسيح. فيسوعُ يعلِّم الطَّريق المستقيم، ويعلِّمُ الحق، ويعلِّم الحياة كما فهمها هو؛ أمَّا المسيح، فهو الطريقُ المُستقيم، وهو الحق، وهو الحياة؛ إنَّه مثال للخير وللتطلعات الأخلاقية، وللصداقة والمَحبة كما تجسّدت في الإنسان. ومنْ يؤمنُ بيسوع النَّاصري لم يتحرَّر بعد من الوثنية. وإنَّه مازالَ يعتنقُ ديانة العرَّاف البشري، وهي الإيمان بالقُوة السِّحرية للطواطم المسيحية. أمَّا منْ يؤمنُ بالمسيح، ويحيا على مثاله، فقد اعتنقَ المسيحية - أي المسيحية المثالية الخالية من أيِّ دلالاتٍ وثنية.
4. الشِّرِيرُ
[50] يبدو الشرّ المُشخَّصُ للوهلة الأولى مُقزّزًا. لكنْ كلَّما تعمقْنا في دراسةِ شخصيةِ الشَّيطان، ازدادتْ جاذبيتُه. فالشرّيرُ في بداية وجودِه تجسيدُ لكلّ ما هو بغيض، وتجسيد لكلّ ما هو سيء، وشر، وغير أخلاقي. إنَّه الكراهية، والدَّمار، والفناء، وبالتالي، فهو عدوُ الوجودِ، وعدو الخالق، وعدو الله. فالشَّيطان متمرد على الكون، وهو المُستقلُ في إمبراطورية الطَّاغية، ومعارضُ الاطرادِ، وهو التَّنافر في التَّناغم الكوني، وهو الاستثناءُ من القاعدة، وهو الخاصُ في الكوني، وهو الصُّدفة غير المُتوقعة، الَّتي تخرقُ القانون؛ إنَّه النَّزوع الفردي، وهو السَّعي للأصالة، التي تُزعزعُ جسديًا قواعدَ اللهِ، الَّتي تفرضُ نوعًا محدَّدًا من السُّلوك؛ إنه يقلب الرتابة التي من شأنها أن تتخلل المجالات الكونية إذا اتبعت كل ذرة في اللاوعي والطاعة التقية مسارًا محددًا على نحو عام.
[51] إنَّ السُّؤال السَّاذج المتجلي في: "لمَ لا يقتلُ اللهُ الشَّيطان؟" مُضحكٌ بما فيه الكفاية؛ لأنَّنا نشعرُ غريزيًا باستحالة ذلك. إنَّني أعرفُ امرأةً عجوزًا طيبةً، كانت تدعو يوميًا بحرارةٍ وتقوىٍ عظيمةٍ أنْ يرحمَ اللهَ الشَّيطان وينقذَه. تأملوا الأمر جيّدًا، وستجدون هذا الموقف مؤثرًا! كمْ من اللاهوتيين العظماء ناقشوا بجديةٍ مسألة إمكانية خلاص الشَّيطان. فعلى غرار تلك المرأة العجوز الطَّيبة، انغمسوا في الإيمانِ التَّقليدي بأساطيرهم لدرجة أنَّهم لمْ يروا أنَّ المُشكلة تنطوي على تناقض. فاللهُ والشَّيطان لفظان مرتبطان، فالله سيفقدُ كونه إلهًا بدون وجود الشَّيطان.
[52] إذا كانَ الكونُ على هذا النَّحو، فلا يمكنُ لتطور حياة أسمى إلاَّ من خلالِ جهد عظيم. إنَّ تطور دفء الرُّوح من طين الأرض البارد، وتطلعاتها الأخلاقية من الكراهية الشَّديدة التي تُشعلُ صراعَ البقاء، وذكائها وفكرها وتدبيرها من عدم الاهتمام الفظّ بذلك الشَّيء غير العاقل الَّذي نسمِّيه المادة المتحركة، كلُّ ذلك يعود إلى جهود استثنائية. إنَّه نتاج عملٍ بُذل بجهدٍ هائل، وجهودٍ دؤوبةٍ لا تتطلبُ سوى الحفاظ على المكاسب التي حققت. إنَّ الصُّعوبات الَّتي يجب التَّغلب عليها تسمَّى في اصطلاحات الميكانيكا "قوة المُقاومة"، وهذه القوة المقاومة، إذا نظرنا إليها عن كثب، فهي عاملٌ جوهري ومفيد في تشكُّل الكون.
[53] إذا لمْ تكن قوةُ مقاومة، وإذا لم تكن حاجةٌ إلى أيِّ جهود للوصولِ إلى أيِّ غاية مرغوبة، وإذا كانَ العالم مليئًا بالمُتعة والخير في كلِّ مكان، فلنْ يكونَ لدينا أيُّ تطور، ولا تقدم، ولا مُثُل عليا؛ لأنَّ كلَّ مجالات الوجود سوف تطفو في محيط كوني واحد من فيض النِّعم، وسوف تكونُ كلُّ الأشياء في حالةِ ثمالة من بهجة الجنة.
[54] إنَّ الألم يُولّد الرَّغبة في الأفضل، والنَّقائص تُثير الرَّغبة في التَّحسُّن. ولو أُشبعت كلُّ رغبات الإنسانِ الحسية دون عناء إضافي، لمَا خرج من عبودية الوجود البهيمي، ولعاش في خُمول، ولما اهتم بالاختراعات الجديدة أو بالتَّقدم أو بأيِّ تحسين، ولعاش ببساطة في نعيم لا يُفكّر فيه. ولما كانت حاجةٌ لبذل أي جهد، ولا لبذلَ أيَّ مقاومة للشرور، ولا كانت فضيلة، ولا كان بذلُ الجهد للخلاص. ولن يكون هناك شرٌ، ولن يكون هناك خيرٌ أيضًا. وسيغرقُ الوجودُ كلُّه في اللامبالاة الأخلاقية.
[55] وإذا كانَ الخير هو الخير، لوجود الشَّر، فإنَّ اللهَ هو الله، لوجود الشَّيطان.
[56] وكما أنَّ الشَّر ليس عدماً، فكذلك صورة الشَّيطان في الدِّين ليست خيالاً فارغاً. يقول غوته:
لا أستطيعُ إقناعَ نفسي.
لا تستهينوا بالشَّيطان:
فبما أنَّ الجميع يكرهونه،
فلا بُدَّ أنَّه شخصٌ مُميَّز![25]
[57] والآن دعونا ننظرُ إلى الشَّخصية الأسطورية للشيطان كما تم تمثُّلها في اللاَّهوت، والفولكلور، والشِّعر. هل هو مثير للاهتمام حقا؟ في الواقع، وعلى الرَّغم من كونه ممثلاً لجميع أنواع الجرائم، إلاَّ أنَّه يمتلكُ العديد من السِّمات الحميدة الَّتي تجعلُه عظيماً ونبيلاً. فحسب الرِّواية الواردة في الإصحاح الثَّاني من سفر التَّكوين، فالشَّيطان هو أبو العلم، لأنَّه حث حواء لجعل آدم يتذوقُ ثمرة المعرفة، وقد كانَ الأورفيون، وهم طائفةٌ غنوصية، يعبدون الحية لهذا السَّبب. إنَّ الشيطان يُثير الاضطرابات في المُجتمع، والَّتي، رغم كل الإزعاج الذي تحدثه، تُمكّن العالم من التَّقدم والتَّطوُّر؛ فهو راعي التَّقدُّم، والبحث، والاختراع. ألا ترى أنَّ جيوردانو برونو[26] وغاليليو[27] وغيرهما من رجال العلم اعتبروا من نسل الشَّيطان، واضطهدتهما الكنيسة بسببه. ولمَّا نُلقي نظرة على سجلاتِ عقود الشَّيطان، نتعلمُ احترام الشَّيخ الوقور. إنَّ شيطان ميلتون شخصية عظيمة، متمرد، ونبيل الرُّوح، يتحمل عذابًا أبديًا بدلاً من أن يُعاني الإذلال.
[58] تأمّلْ في حقيقة الشَّيطان، إذا وقفنا عندَ أقوالِ خصومه فقط، فإنَّنا نجده أوثقُ إنسانٍ في الوجودِ. لقدْ خدعَه عددٌ لا يُحصى من العُصاة، والقديسين، والملائكة، وحتَّى الرَّب نفسه (وفقًا لأساطير كنسية قديمة)؛ ومع ذلك لم يُقصّر قط في الوفاء بجميع وعودِه حرفيًا وبدقة؛ وكلُّ التَّجارب السَّيئة التي مرّ بها، على مرّ آلاف السِّنين، لم تُضعفْ من شأنِه إطلاقًا. فكلمتُه تُحترم كأقدس قسمٍ، أو كأفضل توقيع مُوثّق بالأختام وبالشُّهود الشَّرعيين. ونادرًا ما يُطلب منه، ممَّن يجرون معه الصَّفقات، توقيعَ عقدٍ، أو تقديم تعهدٍ، أو إثبات صدقِه؛ فلمْ يشك أحدٌ قط في صدقِه. واعلموا أنَّ الشَّيطان ليس هو من يتفاخَر بنزاهتِه، وإنَّما هذا هو الاستنتاج الَّذي توصلنا إليه من خلال الأدلةِ التي ساقَها أعداؤُه.
[59] إنَّ تعاطُفنا يزدادُ مع هذا الشَّهيد الأمين، المخدوع من الله والبشر، لمَّا نتأملُ في طبيعتنا وعلاقتنا بجلاله الشَّيطاني. ألا يجبُ علينا، ونحنُ نضع أيدينا على قلوبنا، أنْ نعترفَ بأنَّ كلَّ واحد منا، على الرَّغم من تشابهه مع الله، له سمة أو أخرى تجعله قريبًا من الشَّيطان؟ ولا أقصد هنا الإشارة إلى الخطيئة الفعلية، أو التَّجاوزات الجسيمة، وإنَّما أقصد الأمور الَّتي لا نفكر في التَّوبة منها. ألمْ نتهكم قط على جارنا في ساعة من الفكاهة؟ ألمْ نمزح قط على حساب شخص آخر؟ ألمْ نسحق أو نضايق أو نثير أعز أصدقائنا؟ ألمْ نستمتع قط بالموقف المُحرج الَّذي وقع فيه شخصٌ بريءٌ مسكين؟ ولم لا نفعل ذلك؟ فلو نزعنا من الحياةِ سخريتَها، ونكاتها، و"شياطينها" الأخرى، فستفقدُ جزءًا من أزكى نُكهتها، وإذا صنعنا إنسانًا من الفضائلِ فقط، ألنْ يكون هذا الشخص أكثر شخص مُمل في العالم، ويكونَ مُرهِقًا على نحو لا يُوصف؟ لأنَّ نثر الرَّذائل التَّافهة هو ما يجعل حتَّى الرَّجلَ العظيمَ إنسانًا. ولو كانَ آلةً أخلاقية، فلن يكون جذاباً، ولن يثير تعاطفَنا.
[60] الشَّيطانُ هو أبو كلِّ عبقرية يُساء فهمُها. وهو من يدفعُنا لتجربة دروب جديدة، ويُولّد أصالة الفكر والعَمل فينا. ويُغرينا بالمغامرة بجرأةٍ في بحارٍ مجهولةٍ لاكتشاف طرائق جديدة لثروات الهند البعيدة. ويُثيرُ فينا الحُلمَ، والأملَ بمزيد من الرَّخاء والسَّعادة، وهو روحُ السُّخط الَّتي تُغيظ قلوبنا، لكنَّها غالبًا ما تُفضي في النِّهاية إلى ترتيب أفضل للظروف. وفي الحقيقة، فهو خادمٌ نافعٌ لله القدير، وتختفي كلُّ سماته الشَّنيعة لمَّا نُدرك أنه ضروريٌّ في تدبير الطَّبيعة، كمُحفّزٍ سليمٍ للعمل، وكقوة مُقاومةٍ، تُحفّز أنبلَ جُهود الكائنات الحية. وفي الحقيقة، فالشَّيطان هو المُعين الأوفى والأهم لله. فحتى وجودُه، بتعبيرٍ باطنيٍّ، يمتلئ بحضورِ الله.
[61] إنَّ اللهَ، كونُه الكلَّ في الكلِّ، وهو المرجع الأسمى للسلوك، ليس هو الشَّرُ نفسه، ولا هو الخيرُ نفسه؛ ومع ذلك، فهو يوجدُ في الخير، ويوجدُ في الشر. إنَّه يحيطُ بالخير، ويحيطُ بالشَّر. فالله يوجدُ في النُّمو، وفي التَّدهور؛ ويكشفُ عن نفسه في الحياة، ويكشفُ عن نفسه في الموت. يُوجد في العاصفة، ويُوجدُ في الهدوء. يحيا في تطلعات طيبة، وفي النَّعيم المرتكز على المساعي الأخلاقية؛ لكنَّه يحيا كذلك في الزِّيارات الَّتي تتبع الأفعال الشِّريرة. إنَّ صوتَه هو الَّذي يتحدَّث في ضمير المذنب، وهو أيضًا في مسار الخطيئة، وبهذا المعنى، فهو حاضرٌ حتَّى في الشَّر نفسه. وحتَّى الشَّر، والإغراء، والخطيئة تُثيرُ الخير: إنَّها تُعلّم الإنسانَ. ومن له عينان ليرى بهما، وأذنان ليسمع بهما، وعقلُ ليدركَ به، سيتعلمُ درسًاً من وجود الشَّر نفسه، سيتعلم درسًا، على الرَّغم من الأهوالِ الَّتي يثيرُها، والتي ليست أقل إثارة للإعجاب، ولا أقل إلهية من سموِ الحياة المُقدَّسة.
مَصْدَرُ الْمَقَالَةِ
Carus, Paul., « The Problem of Good and Evil », The Monist, July, 1896, Vol. 6, No. 4, Oxford University Press, pp. 580-599
[1] - اللفظ الوارد في المقالة هو: Mâra. هو إلهة الموت في الديانة الهندوسية. (المترجم).
[2] - اللفظ الوارد في المقالة هو: Angra Mainyu or Ahriman، بلغة الأفستا، وهو الشر المناقض للخير أهورا مازدا في الديانة الزرادشتية. (المترجم).
[3] - اللفظ الوارد في المقالة هو: Satan. هو أصل الشر، وعدو الله في الاعتقاد اليهودي. (المترجم).
[4] - اللفظ الوارد المقالة هو: Devil المشتق من اللفظ اليوناني ديابولوس، وهو روح الشريرة في الاعتقاد المسيحي. (المترجم).
[5] - اللفظ الوارد في المقالة هو: Loki. لقد قتل لوكي في الأسطورة النرويجية والألمانية أخاه ثور وسيطر على مدينة أسكارد. وقتل جيش المنتقمين وسيطر على الأرض بأكملها، وانتقم لموت فريجا. (المترجم).
[6] - انظر منشورات مجلة الفضاء المفتوح "The Open Court"، الأعداد: 421-422-424-426-428-430-449-450-453-456-460. (المؤلف). لا ننسى أن كاتب هذه المقالة له عمل ضخم في هذه الموضوع، سماه: "تاريخ الشيطان وفكرة الشر"، انظر:
Carus, Paul., The History of the Devil and the Idea of Evil: From the Earliest Times to the Present Day, The Open Court Publishing Company, Chicago, 1900
[7] - اللفظ المستعمل هو: Javeh. (المترجم).
[8] - ورد بالعبارة اللاتينية المشهورة: "cogito ergo sum". (المترجم).
[9] - المقصود هنا المثالية المتعالية عند كانط، التي أثبت من خلالها أن ما يستطيع العقل البشري معرفته هو الظواهر. أما الأشياء في ذاتها، والجواهر (الميتافيزيقا)، فليس بمقدوره معرفتها، هذا وارد في كتاب: "نقد العقل الخالص"، وقد أثبت في نفس الكتاب نقد العقلانية، والنزعة التجريبية، من خلال قوله: "الحدوس الحسية بدون مفاهيم تظل عمياء، والمفاهيم بدون حدوس حسية تبقى جوفاء"، وهذا فيه حاجة الحدس الحسي للنشاط العقلي، وحاجة العقل للحدس الحسي. لكن الميتافيزيقا، رغم عدم معرفتها، يمكن الإيمان بها من أجل تأسيس الأخلاق، وقد حدَّدها كانط في: وجود الله، والحرية، وخلود النفس، وهذا وارد في كتاب: "نقد العقل العملي". بهذا ينجلي الاستغراب الذي عبر عنه في كنايته المشهورة: "شيئان أثارا استغرابي ودهشتي، السماء المرصعة بالنجوم من فوقي، والقانون الأخلاقي من تحتي"، فالسماء المرصعة بالنجوم كناية عن العقل الخالص، والقانون الأخلاقي كناية عن العقل العملي. (المترجم)
[10] - جيرمي بنثام Jermy Bentham (1748-1832)، فيلسوف إنجليزي من دعاة النفعية، والأنانية الذاتية، ويدعو إلى قهر الألم باللذة. (المترجم).
[11] - John Milton (1608-1674)، من أبرز الشعراء الإنجليز، اشتهر بملحمته الشعرية "الفردوس المفقود"، التي حكى فيها قصة إغواء الشيطان لآدم وحواء، وإخراجهما من الجنة. غير أن شيطان ميلتون، حسب القصيدة كان: "بطلاً؛ فهو يُصوَّر كحامل نور جذاب، وملاك الله المُفضَّل. ويبدو أن ميلتون يدعو عمداً إلى تشبيه الشيطان بأبطال الدراما اليونانية المأساوية. فقد وهب الله الشيطان قدراتٍ عظيمة، تعكس قدرات أبطال الملاحم الكلاسيكية العظماء.". انظر الموقع الإلكتروني: https: //www.coretexts.org
[12] - هذه الأبيات الشعرية مقتبسة من الرواية الشعرية: "الفردوس المفقود"، لجون ميلتون، وقد ترجمت إلى العربية، وجاءت ترجمتها كالآتي:
"فالعقل هو مكان ذاته الخاص، وفيه يمكن للنفس
لا يهمني المكان، إن أنا بقيت كما أنا في ذاتي،
أو ما أنا يجب أن أكونه.". ميلتون، جون، الفردوس المفقود، ترجمة حنا عبود، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، سورية، 2001، ص.67
[13] - البارونة بيرثا سوفيا فيليسيتاس ڤون شوتنر Baroness Bertha Sophie Felicitas Von Suttner (1843-1914)، روائية تشيكية من أصول نمساوية، كانت من الطبقة النبيلة، حصلت على جائزة نوبل للسلام سنة 1905. (المترجم).
[14] - فشوبنهاور لم يقف عند هذا الحد، بل اعتبر حتى إيجابي مع تعريفه للمعاناة، يُعرّف المعاناة بأنها: "القوة الإيجابية لا السلبية. فالمعاناة أو الشر ليسا غياب الخير، وإنما قوة إيجابية بحد ذاتها. ويؤكد شوبنهاور أن الألم والمعاناة البشرية يفوقان اللذة والفرح. ومع ذلك، يُشير إلى أن للمعاناة فوائدها.https: //philarchive.org
[15] - نقلا عن كتاب جرد الروح "Inventarium einer Seele"، الفصل الخامس عشر. (المؤلف).
[16] - Herbert Spencer (1820-1903)، فيلسوف بريطاني، من المدافعين عن نظرية التطور، كما اتخذ موقفا لا أدريا في الدين.
[17] - Monism، هو كل مذهب يعتقد أن كل شيء مردود إلى أصل واحد، سواء من حيث الجوهر، أو من حيث القوانين: المنطقية، أو الطبيعية، أو الاجتماعية، أو النفسية، أو الأدبية... (انظر: صليبا، جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، منشورات ذوي القربى، 1385 ه، ص.548.).
[18] - تؤمن المانوية (نسبة إلى ماني المصلح الديني القديم) بأصلين للعالم: هناك النور، وهناك الظلمات.
[19] - Sir Edward Burnett Tylor (1832-1917)، أنثروبولوجي إنجليزي، عرف بدفاعه عن النظرية التطورية في الثقافة، إذ اعتبر أن كل ثقافة مرت من ثلاث مراحل: مرحلة التوحش، والمرحلة البربرية، ومرحلة التحضر.
[20] - Hedonism، هو المذهب الذي يعتقد أصحابه أنَّ اللذة أو المتعة هي الخير الأسمى، سواء كان بالمعنى الأبيقوري القديم، الذي اعتبر اللذة هي بداية الحياة السعيدة وغايتها، أو تعلق الأمر بدعاة المتعة المحدثين، الذي يناقشهم صاحب المقالة.
[21] - Aldous Huxley (1894-1963)، فيلسوف وأديب إنجليزي، عرف بنزعته اللاأدرية في الدين.
[22] - نقلا عن مجلة عظات في العلم Homilies of Science، انظر مقالة: "اختبار التقدم" "The Test of Progress"، ص 36، وانظر مقالة: "أخلاقيات التطور" "The Ethics of Evolution"، ص 41. (المؤلف).
[23] - الحلول Entheism: هي عقيدة ترى أن الله حال في كل مكان في العالم. وحدة الوجود Pantheism: تُعرّف الله بالكل. وعقيدة النواميس Nomotheism: هي العقيدة التي تعتبر أن قوانين الطبيعة ليست قوانين وضعها الله كما يُصدر المُشرّعون المراسيم، وإنما هي تجليات لله، وبالتالي فهي أجزاء من الألوهية. أما عقيدة التوحيد Monotheism: فهي تقر بوجود إله واحد، ويُفهم التوحيد عمومًا على أنه يعني أن هذا الإله الواحد كائنٌ ذاتي. (المؤلف).
[24] - العبارة الدلالة على "علة الوجود" في المقالة، وردت بالفرنسية كالآتي: raison d’être.
[25] - هذه الأبيات للشاعر الألماني غوته، وهي مقتبسة من مسرحيته الشهيرة "فاوست" على الغالب، لأن كاروس (صاحب المقالة) لم يشر إلى مصدرها، وربما ذلك آت من شهرتها عند القراء. ونشير إلى أن هذه الأبيات نفسها وضعها كاروس مدخلا في الصفحة الأولى من كتابه الضخم، والقيم في بابه المسمى "تاريخ الشيطان وفكرة الشر: من العصور الأقدم إلى أيامنا هذه"، صدر سنة 1900
[26] - Giordano Bruno (1548-1600)، فيلسوف، ومنجم، وخيميائي، وشاعر إيطالي، أُعدِم حرقا من طرف الكنيسة الكاثوليكية بسبب آرائه الفلسفية والعلمية المخالفة لتعاليم الكنيسة، وبالخصوص أطروحته حول لانهائية الكون.
[27] - Galileo Galilei (1564-1642)، فيزيائي، وفلكي، ومهندس إيطالي، أدين من طرف الكنيسة الكاثوليكية لقوله بحركة الأرض، ودورانها حول الشمس مما يثبت أن نظرية كوبيرنيك صحيحة. لكن تدخلات أصدقائه، وتراجعه الظاهري على تلك الآراء جعل الكنيسة تسجنه لفترة، وبعد ذلك عاش فيما يشبه الإقامة الجبرية حتى مماته.