مستقبل الظاهرة الإرهابية


فئة :  مقالات

مستقبل الظاهرة الإرهابية

يلاحظ الخبراء أنه في ظل حالة التدافع بين الجماعات الإرهابية وعلى الأخص "القاعدة" و"داعش" وحليفاتهما، وسياسات المواجهة العالمية والوطنية، هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل الظاهرة الإرهابية[1]:

السيناريو الأول: تلاشي الجماعات الإرهابية والنجاح في محاصرتها ثم القضاء عليها، وهو سيناريو مرتبط بقدرة المنظومة الدولية على التوافق على استراتيجية شاملة لمحاربة الإرهاب تستأصل الأسباب التي تخلق البيئة المناسبة للجماعات الإرهابية، أهمها: انتهاء الصراعات والأزمات التي تعصف بالدول التي تشكل بؤراً لهذه الجماعات، وإيقاف الدعم الإيراني للمليشيات الشيعية. إلا أنّ تحقق هذا الشرط غير متوقع في المدى القصير؛ فحالات الإخفاق والعجز لبعض الدول الوطنية، وتعقّد الصراعات والحروب فيها، يظلّ يمدّ التنظيمات الإرهابية بأسباب البقاء.

السيناريو الثاني: تفكك التنظيمات الإرهابية الكبرى إلى مجموعات أصغر؛ فبفعل الضربات الجوية التي توجهها دول التحالف والقوى الكبرى إلى هذه التنظيمات في العراق وسورية واليمن وليبيا، المترافقة مع مقتل قياداتها في الصف الأولّ، قد تتذرر التنظيمات الكبرى إلى مجموعات إرهابية أصغر. وهذه السيناريو قد يحصل في المدى القصير، وقد وقع مثله سابقاً مع تنظيم "القاعدة" في أفغانستان والعراق وفي شمال أفريقيا.

السيناريو الثالث: تمدد الجماعات الإرهابية بوساطة التحالفات الإقليمية؛ وهذا السيناريو تحقق، بشكل جزئي، عبر استراتيجية "الدولة الإسلامية" (داعش) في إقامة تحالفات مع الجماعات الإرهابية الأخرى بهدف توسيع دولة الخلافة الإسلامية المزعومة، ومن خططها السعي إلى جعل شمال أقريقيا ثاني مركز لها بعد العراق والشام، بل يبدو أنه مع اشتداد الضغط والحصار لهذه الجماعات الإرهابية في العراق والشام فإنها تتحرك نحو شمال أفريقيا. وثمة تحرك دولي وإقليمي مضاد للحيلولة دون توطينها هناك أو تمددها في ليبيا وجوارها وإيجاد تواصل جغرافي يصل مالي والنيجر. وهذا السيناريو قد يتحقق في سرت الليبية وقد يستمر في حال تلكؤ القوى الإقليمية والدولية عن الإسراع في مواجهة الجماعات الإرهابية، ما يعني أنّ ثمة ضرورة لتطوير سياسات مضادة للإرهاب على الصعد الوطنية والإقليمية والدولية.

وتلفت دراسة صادرة عن مركز الإمارات للسياسات إلى أن تمدد الظاهرة الإرهابية في السنوات القليلة الماضية ارتبط بدول تعاني الهشاشة أو الفشل، ولذا فإنه لا مناص في سبيل القضاء على هذه الظاهرة من تعزيز قوة الدول الوطنية في المنطقة، وترسيخ الأمن والاستقرار فيها، من خلال إنهاء الاحتراب الأهلي، وتسوية الانقسامات السياسية، وتكريس الإصلاحات السياسية والمشاركة الديمقراطية والمواطنة؛ فهناك تناسب عكسي بين قوة الدولة واستقرارها وبين قوة الإرهاب وترسّخه. والحل العسكري والأمني لن يضمن القضاء على الجماعات الإرهابية ما دامت الظروف السياسية التي أنتجت تلك الجماعات لم يجرِ تغييرها.[2]

ومن الجدير الانتباه في هذا المقام إلى أنّ إعطاء الأولوية في تشخيص الخطر الإرهابي إلى العوامل الداخلية لا يعني بالتأكيد حجب مسؤوليّة الحكومات الغربيّة عمّا جرى ويجري. يكفي القول إنّ أكثريّة الذين ينضمّون إلى "داعش" والذين يتورّطون في أعمال إرهابيّة في الغرب ليسوا من أبناء الهجرة الحديثة، بل هم ممّن ولدوا في الغرب لآباء أو أجداد سبق أن هاجروا إليه. وهؤلاء، بالتالي، نشأوا وتعلّموا في البلدان الغربيّة، فتأثّروا بما يجري فيها كما بالقيم التي تتداولها.[3]

هذا الأمر قد بدا جلياً في أحداث باريس الإرهابية التي نفذها تنظيم "داعش" الإرهابي في نوفمبر الماضي، وفي هذه الحدود، كما يرى مراقبون، تكمن مسؤوليّة الحكومات الغربية، الآخذة باقتصادات نيو ليبراليّة، في أنّها لم تستوعب هؤلاء الشبّان فلفظتهم إلى البطالة أو الجنح، وفي جميع الحالات إلى الهامش المُستبعَد. وهذا ما يفسّر أنّ الفترة التي عرفت نموّ الاقتصادات المنتجة والمستوعبة لليد العاملة في الغرب لم تشهد ظاهرات كهذه، الأمر الذي يصحّ في حركة الهجرة ما بين أواخر الخمسينات وأواخر السبعينات. بيد أنّ الحديث عن مسؤوليّة الحكومات الغربيّة يبقى نصف الحقيقة، لأنّ نصفها الثاني يتعلّق بالمجتمعات الإسلاميّة وثقافاتها السائدة. ذاك أنّ أثر الاقتصادات النيو ليبراليّة على الجماعات المهاجرة الأخرى، كالهندوس والسيخ والمسيحيّين واليهود وسواهم، ليس كأثرها على الجماعات المسلمة التي تفرز الحالات الإرهابيّة، كما يقول الكاتب والمحلل اللبناني حازم صاغية، وإذا صحّ، برأيه، أنّ الإرهابيّين هؤلاء إنّما ترعرعوا في مجتمعات غربيّة، فالصحيح أيضاً أنّهم ترعرعوا في بيوت وعائلات جعلتها أزمة الهويّة وزمن العولمة تنكفئ على مواريثها وتعيد إنتاجها جيلاً بعد جيل. ولا يؤتى اليوم بأيّ جديد حين يقال إنّ الهجرة غدت، مع العولمة، مجرّد انتقال مكانيّ لا يصحبه أيّ تغيّر يطرأ على الأفكار والسلوك. فالأسرة المسلمة المقيمة في ألمانيا أو بريطانيا تستطيع أن تشاهد "الجزيرة" و"العربيّة"، وأن تقرأ "الحياة" و"الشرق الأوسط"، وأن تتناول الأطعمة نفسها التي كانت تتناولها في البلد الأصليّ. وهذا كلّه فضلاً عن سهولة الانتقال والسفر في أيّامنا، أكانت زيارةً للبلد الأصليّ، أو استقبالاً لأقارب وأصدقاء وافدين منه.[4]

هذا يؤكد ارتهان مستقبل الظاهرة الإرهابية لعوامل داخلية وخارجية، سياسية وثقافية، وهذا يعني ضرورة المقاربات الشاملة للقضاء على الظاهرة الإرهابية من جذورها وليس التعامل مع أعراضها والاكتفاء بالحلول العسكرية والأمنية فقط، على أهميتها الكبيرة للغاية، ومن هنا تأتي دوماً أهمية التركيز على أنّ إصرار مناهج التعليم والمساقات الدراسية في مدارسنا وجامعاتنا على أهمية الفكر النقدي في التعاطي مع الثقافة الدينية سيلعب دوراً في إدراك الأجيال الناشئة والصاعدة أن "الفكر العادي يقبل بوجود تناقضات بين المعتقدات المتعايشة داخل عقولنا أو في مجتمعنا، بينما الفكر المتطرّف لا يقبل بها وينبذها، ويبني بالمقابل عقيدة متماسكة "نقيّة"، متجانسة ومانويّة. فبالنسبة للفكر المتطرّف، فإنّه لا مجال لحلول وسطى أو لأيّ توافق".[5] هذا نقص كبير من المهم الإعداد لملئه في مناهجنا ووسائل إعلامنا والتوجيه التربوي وصناعة المعرفة وبناء العقول في بلداننا.

وعوضاً عن غرس الوعي المدني ومبادئ المواطنة وقيم التضامن الاجتماعي والقبول بالآخر والتركيز على المهارات التحليلية الضرورية والتفكير النقدي، اعتمدت مناهج التعليم المدرسية والجامعية في العالم العربي على الأساليب التلقينية لا التفاعلية، وعلى التقبّل غير النقدي لفكرة السلطة الهرمية من دون مسائلة. وقد عزّزت مناهج التاريخ والتربية الدينية عقلية "نحن" في مواجهة "هم"، على أسس عرقية وإيديولوجية وطائفية، ماجعل الشباب عرضة إلى تأثيرات شتّى وساهم في تغيّر المشهد الثقافي العربي بشكلٍ جذري، وسهّل انتشار الإيديولوجيات المتشدّدة والتلقين العقائدي المبكر للأطفال والشباب.[6]

إنّ مستقبل الظاهرة الإرهابية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مرهون، بشكل أساسي، بمستقبل التعليم والإصلاح السياسي والتنوير ودولة القانون والمؤسسات ونماذج التنمية في بلداننا، إلى جانب التعاون الإقليمي والدولي على تسوية النزاعات في غير دولة عربية بطريقة عادلة ومتوازنة تكفل الاستقرار والاستدامة.


[1] "القتل باسم الله": الجماعات الإرهابية: البنية والمسارات والمآلات/ مركز الإمارات للسياسات، ابوظبي، 2015

[2] المصدر السابق.

[3] حازم صاغية، الإرهاب بين مسؤوليّتهم ومسؤوليّتنا، موقع 24، أبوظبي، (4/6/2015)، رابط:

http://24.ae/article/163298/الإرهاب-بين-مسؤوليّتهم-ومسؤوليّتنا.aspx

[4] المصدر السابق.

[5] محمد الحاج سالم، الفكر المتطرّف؛ كيف يصبح الناس العاديّون متعصّبين، موقع مؤمنون بلا حدود، (24/3/2015) رابط:

http://www.mominoun.com/articles/الفكر-المتطرف-كيف-يصبح-الناس-العاديون-متعصبين-2621

[6] Maha Yahya, The Ultimate Fatal Attraction: 5 Reasons People Join ISIS ,The national Interest November 7, 2014, link:

http://nationalinterest.org/feature/the-ultimate-fatal-attraction-5-reasons-people-join-isis-11625?page=2