الاعتدال والكراهية بما هما يعكسان الفجوة بين الموارد وبين التشكلات الاجتماعية والثقافية


فئة :  مقالات

الاعتدال والكراهية بما هما يعكسان الفجوة بين الموارد وبين التشكلات الاجتماعية والثقافية

الاعتدال والكراهية بما هما يعكسان الفجوة

بين الموارد وبين التشكلات الاجتماعية والثقافية

"الفكرة الرئيسة لهذه المقالة أن الثقافة والفنون تلهم بالجمال الأفراد والمجتمعات للاتجاه نحو السلام والازدهار وتجنب الكراهية والخواء والتطرف؛ ففي غياب "الجمال" يكون الخواء ليس مجرد أزمة نفسية، ولكن ذلك يفسر أيضا الكراهية والانحياز ضد التقدم بما هو انحياز ضد الذات بلا وعي".

يبث في شهر رمضان من كل عام ما لا يقل عن مائتي عمل درامي جديد، أنتجت لأجل أن تبث في شهر الصيام!، نتحدث عن حوالي بليون دولار يجري إنفاقها على الدراما كل عام، ورغم ذلك فإنها أعمال يغلب عليها أنها لا ترقى إلى التعبير عن متطلبات المدن وحياتها وتشكلاتها، وهذا هو السؤال الملح عند النظر في حال تشكلات المدن والمجتمعات العربية، لماذا لا تتشكل حياة ثقافية ملائمة، على رغم الإنفاق الهائل، تلائم الوعي المطلوب للذات؟ لماذا تظل التشكلات الثقافية كما هي قبل عقود من دون ملاحظة التحولات الكبرى التي دخلت فيها المدن والمجتمعات؟ لماذا لا تشدنا إليها بالمعنى الذي يضيف إلينا شيئاً جميلاً جديداً أو تحسن حياتنا؟

هذا الخواء أو الفجوة بين المدن والأعمال والموارد وبين التشكلات الاجتماعية والثقافية حولها ربما يلخص أزمة الطبقات الوسطى وأزمة الإصلاح أيضاً في الدول والمجتمعات العربية؛ ففي غياب هذا الوعي لما تريده المجتمعات وللفرق بين واقعها وبين ما تريده يسود الخواء، وتفقد المجتمعات وجهتها في مطالبها وما تسعى إليه وما تريد أن تحققه، بل لا تميز في سعيها ومطالبها بين ما هو متحقق بالفعل وبين ما تريد تحقيقه.

نشأت الرواية والمسرحيات والأعمال الموسيقية والفنون التشكيلية والسينما والدراما، باعتبارها تشكيلاً اجتماعياً وثقافياً اقتضته عمليات التمدن ونشوء المدن وتطورها، وعلى مدى التاريخ؛ وفي جميع الحضارات كانت مجالس المدن الخاصة والعامة، المتواضعة والأرستقراطية تقوم على الحوارات والبرامج الأدبية والفنية والسياسية؛ ذلك أن المدن تقوم على طبقات من المهنيين والمثقفين وأصحاب الأعمال وقادة الحكم والإدارة والمؤسسات العامة والتجارية، وتتشكل علاقاتهم الاجتماعية بناء على الأعمال والقيم والأفكار والمصالح المشتركة؛ ففي الأندية والمقاهي والبيوت تكون الثقافة والآداب والفنون والموسيقى والسياسة هي المجال المشترك للأصدقاء والجيران والزملاء الذين لا تربطهم ببعض روابط القرابة، وتنتمي معرفتهم ببعض إلى الحياة المدينية والعملية المشتركة، وفي الفضاء المشترك والمزدحم يتشكل السكون والخصوصية والثراء الروحي والاجتماعي بالفردانية؛ ففي هذه «الفردانية» يحمي أهل المدن أنفسهم من الخواء الروحي والاجتماعي ويتشاركون في الأسواق والأندية والمرافق والخدمات العامة والمسابح والشواطئ، وفي الوقت نفسه ينشئون أنماطاً من السلوك والقيم تجعل كل واحد منهم يشعر أن الفضاء له وحده بسبب منظومة السلوك والإشارات والرموز التي تحمي الإنسان، وهو في الفضاء العام، وهنا يفترض أن تختفي إلى درجة الانقراض الأخبار والقصص الشخصية والعائلية والنميمة؛ لأنها تنتهك الفردية والخصوصية، فتكون تسلية الناس في القراءة والموسيقى والفنون والذهاب إلى المسرح والسينما والأمسيات الثقافية والفنية، وتكون المجالس واللقاءات أيضاً قائمة على هذا التشكيل الاجتماعي والثقافي ومستمدة منه.

خطورة عدم التحول الثقافي والاجتماعي في المدينة بما يتفق مع هذا المسار المفترض أنه يحول حياة المدن وعلاقاتها إلى حالة من القلق والفراغ والخواء الشديد؛ ففي الأرياف والجيرة القائمة على القرابة والحياة الزراعية المشتركة تتشكل على نحو تلقائي مادة للتسلية والأخبار والمواضيع والاهتمامات، وفي قصص النميمة أيضاً والخلافات والعلاقات العائلية والأزمات العشائرية ثمة بيئة واسعة تشكلها من معرفة الناس ببعضهم وتداخلهم القربي والتاريخي معاً، والحياة المشتركة كعائلة واحدة لقرون من الزمان، فتكون بذاتها ولذاتها مصدراً للتضامن والتسلية وتطوير الحياة والموارد أيضاً، ولكن لا يمكن نقل هذه الأدوات إلى المدينة؛ لأنها لا تصلح بدون شبكة من العلاقات وأنماط محددة من الإنتاج والعمل والحماية، والتاريخ الممتد والراسخ أيضاً.

البديل الذي تشكل بسبب الإصرار على التريّف أو عدم القدرة أو عدم الرغبة في مغادرته كان المسلسلات التلفزيونية؛ ففي أخبار الصبايا والشباب والآباء والأبناء والأبطال والأسلاف والأغنياء والفقراء، وفي الجمال والوسامة مجال وفرصة لإعادة إنتاج الريف نفسه على نحو أكثر سهولة ومشاركة، فجميع الناس يعرفون الأبطال والممثلين ويتحولون إلى أشخاص حقيقيين أو رمزيين مشتركين لذاكرتنا البدائية وندائها العذب الذي يصعب التخلي عنه، ... الدراما العربية والمدبلجة عربياً اليوم تعبر عن هذا التشكل الريفي، ولا تتجاوز النميمة وقصص الآباء والأجداد.

ولكن الحياة الثقافية والاجتماعية ليست مجرد ترفيه وتسلية أو تمضية للوقت، وفي حالة انفصالها عن مقتضيات الحياة وأساليبها المفترضة، فإن حلقة في سلسلة الحياة تضيع، وبضياعها تتعرض السلسلة نفسها للانهيار، مثل سبحة ينفرط عقدها، ذلك أن الناس في التسلية والترفيه والنشاط الاجتماعي والثقافي والرياضي وتمضية الوقت والزيارات يعيدون تشكيل أنفسهم وحياتهم وأعمالهم، لتكون أفضل، ولتتغير احتياجاتهم نحو الأفضل أيضاً، وهكذا فإن الحياة الثقافية والفنية المزدهرة في المدن في البيوت والمقاهي والمسارح والأسواق تؤشر على قدرة على تطوير الأعمال وتحسين حياة الناس ومرافقهم، وقدرتهم على جعل أسلوب حياتهم وأعمالهم يؤدي إلى مزيد من التقدم، كيف تكون البيوت والأطعمة والملابس أجمل وأكثر ملاءمة للحياة، وأقل تكلفة من غير ثقافة وأسلوب حياة ينقدها ويراجعها ويجعلها جزءا من حياة الناس اليومية مجالسهم وثقافتهم وأفكارهم؟

لنتخيل تداعيات الحالة التي نتحدث عنها، والتي لا يعكسها فقط هبوط الدراما، وإنما يمكن ملاحظتها في كل ألوان الخطاب الثقافي والاجتماعي لدينا، وهي «الخواء». ما هي الثقافة المفترض تشكلها اليوم لاقتصاد المعرفة والمهن والأعمال القائمة اليوم في مجتمعاتنا وبلادنا؟

يمكن النظر إلى الدراما العربية، باعتبارها الأكثر انتشارا وإقبالا اليوم، حيث تتراجع السينما وينحسر المسرح، وتبدو الموسيقى والغناء حتى اليوم بعيدة عن الشغل بقضايا التطرف والتسامح، .. وهذه مسألة محيرة تحتاج إلى معالجة وتذكير. وقد شهدت الدراما في مرحلة سابقة اهتماما بالإرهاب، ويمكن الإشارة بشكل خاص إلى أفلام من بطولة عادل إمام، مثل الإرهابي وطيور الظلام والإرهاب والكباب، ومسلسلات درامية مثل الحور العين والطريق الوعر، ودعاة على أبواب جهنم...

ويلاحظ بشكل عام مع عدم إغفال كثير من ايجابيات وجماليات هذه الأعمال أنها تعاملت مع التطرف والإرهاب بتبسيط لا يتفق مع طبيعة الظاهرة وتعقيدها، كما أنها شأن الدراما العربية بعامة تعاملت مع الإرهاب بشيطنته ومع أعدائه كأنهم ملائكة، وهذا يفقد العمل كثيرا من صدقيته وقدرته على التأثير، بخلاف الأعمال الهوليودية عن الإرهاب مثل فيلم بابل على سبيل المثال، حيث كانت تتضمن قصصا إنسانية وواقعية جميلة ومؤثرة تجعل للعمل الفني تأثيرا أكبر...

تقديم الإرهاب على هذا النحو المبسط، يبعد العمل الإعلامي والثقافي عن أهدافه المفترضة ولا يخدم أيضا ضرورات فهم العنف والتطرف في سياقات العولمة والبيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية المحيطة بالظواهر والأحداث على الساحات العربية والإسلامية والعالمية، كما أن المخاطبة الدعائية للجمهور والجارية في الدراما العربية لا تخرج عن أسلوب الأصوليين أنفسهم، فكلاهما رؤية أحادية لا تريد رؤية المشكلة وفق الأسئلة الحقيقية المكونة لها، ولا تناقش وترجح الإجابات الكثيرة المعقدة والمتفاعلة.

وفي المقابل، يمكن الإشارة إلى ثلاثة أمثلة من نماذج كثيرة متعددة في الغرب، وهي "بابل" و"اسمي خان ولست إرهابيا" و"أفاتار" وكيف استطاعت هذه الأفلام التأكيد على قيم وارتباطات عالمية وربطها باحتياجات وتطلعات وخصوصيات ثقافية، كما استطاعت الانتشار والتأثير، وأن تحقق أيضا إيرادات مالية كبيرة.

في قصة طويلة ومؤثرة ومشحونة بالرموز والأحداث غير المتسلسلة والمرتبطة ببعضها على نحو يشبه الحياة نفسها، وسلسلة من المشاهد البصرية الجميلة والممتعة وتقنيات متقدمة في التصوير والإخراج، مصحوبة أيضا بموجة شبيهة من الأفلام يطل علينا فيلم "اسمي خان ولست إرهابيا"، مرجحا أن العالم بقيادة الولايات المتحدة يدخل في مرحلة جديدة من الأفكار.

نعلم أن السينما العالمية التي تقودها هوليوود كانت رديفا للسياسات العالمية نفسها وبخاصة الرؤية الأمريكية، ويمكن ملاحظة ذلك ببساطة في المقارنة بين مسار السينما ومسار السياسة العالمية والصراعات نفسها، الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي والشيوعية، فيتنام، واليهود، اليابان، والإرهاب، والعراق، وهذا يشجع على الاستنتاج بأن فيلم "اسمي خان ولست إرهابيا" يعبر عن وجهة عالمية جديدة في بناء تعايش وحوار إسلامي عالمي.

يهاجر شيرزاد خان، الشاب المسلم الهندي، والمصاب بمرض "إسبرجر" إحدى فئات مرض التوحد إلى الولايات المتحدة ليعيش ويعمل مع أخيه الذي سبقه إلى هناك، وأقام أعمالا ناجحة، ويتعرف خان على فتاة هندوسية مهاجرة إلى الولايات المتحدة، وتعيش مع ابنها الطفل "سمير" بعد أن هاجر أبوه إلى أستراليا، وتركهما يواجهان مصيرهما، ويحبان بعضهما، وبخاصة بعد أن تنشأ علاقة صداقة وتفاهم عجيبة ومؤثرة بين خان وسمير، ولكن أحداث الحادي عشر من أيلول تغير كل شيء تقريبا، فيواجه خان مصاعب وأحزانا كبيرة عندما يقتل صديقه الأمريكي في أفغانستان، ويبدأ سمير يواجه حالة عدائية من قبل أصدقائه في المدرسة لا يفهم سببها، وبخاصة أنه غير مسلم، وقد نشأ في الولايات المتحدة ولا يعرف عالما له سواها، ولكن الأطفال المراهقين في مدرسته يتجمعون ويضربونه حتى الموت، فتصاب أمه بنوبة هستيرية وردة فعل متشنجة، وتمضي بقية حياتها تبكي، وتشعر أنها تسببت بقتل ابنها عندما تزوجت من مسلم، وتقول في إحدى نوباتها العصبية لزوجها كيف يعرف الأمريكان أنك لست إرهابيا؟ اذهب إلى الرئيس الأمريكي، وقل له: "اسمي خان ولست إرهابيا"، وبسبب حبه الكبير لزوجته وفهمه الحرفي للمسائل يمضي في محاولات وجولات أسطورية في الولايات المتحدة مؤملا أن يلتقي الرئيس بوش ليخبره بالرسالة "اسمي خان ولست إرهابيا"، ولكنه يفشل في مقابلة بوش. وفي تحول رمزي مقصود في الفيلم عندما يصل أوباما إلى الرئاسة يلتقي الرئيس بخان، ويستمع إلى رسالته، ويجيبه أوباما: بالطبع أنت لست إرهابيا.

وفي مجال الأعمال التاريخية، ظهرت أعمال كثيرة ولاقت اهتماما من الجمهور، بعدما كانت الأعمال التاريخية معزولة ومحدودة، وهذا إنجاز جيد يحسب للدراما لعربية، وتظل العبرة في هذه الأعمال بالجهد المعرفي ودقة المعلومات وصحتها بالإضافة بالطبع إلى جمال الدراما والسرد واللغة في العمل التاريخي، لقد نجحت الدراما العربية نسبيا في جعل التاريخ مصدرا لأجمل الأعمال الدرامية وأهمها، ونقل الأعمال التاريخية من الحالة النمطية والارتجالية وتقعر اللغة وضعف المعلومات وتناقضها، والعيوب التي شابت معظم الأعمال التاريخية.

وهنا يمكن أن نقترح أن تقوم الأعمال التاريخية على بحث تاريخي ومراجع مناسبة وكافية، وأن تعكس بجمالية ودقة العمل البيئة التي ينتمي إليها ويعالجها، من اللغة والأمكنة والعمارة، والمهن والملابس والأطعمة، والسلاح والأدوات والأحداث التاريخية والعلاقات الاجتماعية السياسية السائدة والاقتصاد والتجارة، وغير ذلك...، وأن يستخدم اللغة المناسبة وفي الوقت نفسه المحافظة على عفوية اللغة وجمالها وبساطتها أيضا، حيث تكون مفهومة للمشاهد دون تخلٍّ عن اقترابها من واقع الحدث التاريخي الذي تعرضه أو تعالجه.

وقد انتشرت أيضا الأعمال الدرامية البدوية والقائمة على التراث البدوي والقصص البدوية والبيئة البدوية، ثم ظهرت أعمال يمكن تسميتها بالبدوية التاريخية، والتي تعرض سيرة أشخاص وأحداثا تاريخية معروفة ومهمة ولكن في إطار ولهجة بدوية، وهي وإن كانت تسمى بدوية فإنها تندرج في إطار الأعمال التاريخية وتنطبق عليها شروطها ومواصفاتها، ويجب أن تتوقف حالة التزوير والارتجال والاستغفال التي يمارسها كتاب ومنتجون في هذه الأعمال، فالبداوة ليست مجالا مستباحا للتخيل غير المبني على التاريخ وفهم الوقائع والأحداث والتراث والعادات والتقاليد.

وبالطبع، فإن الأعمال المعاصرة والاجتماعية هي الجزء الأكثر أهمية وحضورا في الدراما العربية، وهي تستند غالبا إلى رواية أدبية، أو معالجة لأحداث تاريخية وسياسية معاصرة أو قضايا اجتماعية قائمة، وهذه تكاد المهمة الأساسية المفترضة للدراما.

يعتمد النص "المعاصر" بشكل رئيس على رواية أو مجموعة خطوط روائية تشكل البنية الأساسية للعمل الدرامي، وستكون أهمية العمل وقيمته بمقدار أهمية النص والرواية وقيمتها الإبداعية والجمالية وملاءمتها للدراما ومعالجته للقضايا الاجتماعية والسياسية بذكاء وواقعية وإبداع، ولذلك فإن تقييم النص المكتوب يكون أكثر خطورة وأهمية؛ ففي حين يعتمد العمل التاريخي على الأحداث والتراث المعرفي والتاريخي، فإن العمل المعاصر والأدبي يعتمد على النص وما يتضمنه من إبداع وإضافة.

وفي غمرة التحولات الكبرى سياسيا واقتصاديا واجتماعيا التي اجتاحت العالم ومنه بطبيعة الحال الوطن العربي؛ فقد غلب على النصوص الأدبية والدرامية المعاصرة البعد والغياب الكبير عن الواقع الجديد المتشكل، وهذا يدعو للبحث عن أفكار وشروط يجب استحضارها مسبقا للتخطيط للأعمال الدرامية ذات المحتوى المعاصر وتقييمها، فيجب أن تقوم على نص روائي جميل ومبدع يصلح للنجاح بذاته لو نشر في كتاب، ويفضل أن يقوم على أعمال روائية نجحت بالفعل.

ويفضل/ يجب أن يكون المسرح الرئيس للعمل هو المدينة، فالأعمال الروائية من هذا القبيل تنشأ وتتشكل في بيئة مدنية، وليس في الريف والبادية، كما تساعد بيئة المدينة على إنشاء مشاهد غنية ومعقدة ومتداخلة، يمكن أيضا بناء مجموعة من الشخصيات الرمزية دون مسؤولية قانونية.

ويفضل/ يجب تسمية الأماكن باسمها، وأن تعكس المشاهد والأحداث بيئة المكان (مدينة، حي، شارع، مدرسة، جامعة، مقهى، شركة، ...) بدقة وواقعية، وأن يوضح النص بدقة الفترة الزمنية التي يكتب عنها، ويعكسها بأمانة وتفصيل وذكاء (العمارة، اللباس، الأثاث، الموضات، الأحداث، اللغة، العلاقات، الأفكار السائدة)

ويجب أن يتمتع النص ببنية سردية وعلاقات منطقية وواقعية، وتتم مراجعته وتقييمه على أساس انسجامه مع الواقع القائم الذي يتحدث عنه، ومع القواعد المنطقية للأحداث والعلاقات والحبكات الروائية والتداخلات بين المشاهد ومسار الأحداث والخطوط الدرامية.

يمكن عرض (على سبيل المثال) بعض القضايا والأفكار النمطية التي لم تعد موجودة، ولم يعد ملائما معالجتها لأنه أصبحت تاريخية، أو القضايا والأفكار الجديدة بفعل تطور المعلوماتية والاتصالات:

الريف والبدو (بمعنى نمط الإنتاج وأسلوب الحياة) لم يعد لهما وجود إلا بنسبة ضئيلة جدا، فالتحضر يكاد يشمل جميع الناس اليوم في الدول العربية، الأعمال، أسلوب الحياة، انتشار التعليم والكهرباء والاتصالات والإنترنت والفضائيات والموبايلات، والعلاقات الاجتماعية، المساواة بين الذكور والإناث، سن الزواج بالنسبة إلى الفتاة والشاب، اختيار شريك الحياة، والمهنة، والتخصص الدراسي، المواصلات والطرق والتواصل مع العالم.

والزراعة لم تعد قائمة بالمفهوم التاريخي الاجتماعي لها، فهي اليوم مشروعات استثمارية تشبه المؤسسات والمشروعات التجارية والاستثمارية، وتقوم على رأس مال وعمالة مستأجرة، وتسويق، واحتراف مهني وعلاقات تجارية، ولم يعد ثمة وجود إلا بنسبة ضئيلة للزراعة العائلية القائمة على المجهود الشخصي والمشاركة العائلية والقرابية أو لأغراض المعيشة اليومية، فالمزارع لم يعد يزرع ليأكل وإنما ليبيع ويشتري طعامه من السوق، تماما مثل أهل المدينة.

والفارق بين القرية والمدينة لم يعد كبيرا، بل لم يعد موجودا، ومن ثم فإن الحالة التاريخية عن تطلع أهل الريف إلى المدنية وانبهارهم بها لم تعد موجودة، كما أن تطور الطرق والمواصلات جعل الدول العربية معظمها إن لم يكن جميعها وكأنها مدينة واحدة، وأعمال الناس ومواردها متشابهة ومتطابقة في المدن والبلدات.

ونشأت قضايا اجتماعية ومعيشية جديدة كثيرة ومعقدة بسبب تطور التقنية والموارد والعولمة، مثل العمل والعلاقات عبر الإنترنت، نشوء مهن جديدة، انقراض وتراجع مهن كثيرة، وتطورات جذرية في طبيعة الأعمال وفي العلاقات الاجتماعية وأسلوب الإدارة والعمل.

وبناء على هذه الرؤية، فإننا تتطلع إلى أعمال درامية تطرح قضايا وأفكارا جديدة، والتحولات والتطورات القائمة، وتخلو من التكرار، وتتجنب الحديث عن الحالات والقضايا التي لم يعد لها وجود، وتكون على مستوى متقدم من الجودة والأصالة والإبداع.

إن المحصلة النهائية لفكرة المنتجات الفنية والثقافية أن تلهم بالجمال الأفراد والمجتمعات نحو السلام والازدهار وتجنب الكراهية والخواء والتطرف، ففي غياب "الجمال" يكون الخواء ليس مجرد أزمة نفسية، ولكن ذلك يجيب لماذا بقينا على مدى قرن من الزمان أسرى الكراهية والتطرف والتخلف والحركات الشعبوية، ولم تستهونا الأفكار والرؤى الإصلاحية والتقدمية.