معنى المنفى من منظور إدوارد سعيد


فئة :  مقالات

معنى المنفى من منظور إدوارد سعيد

معنى المنفى من منظور إدوارد سعيد[1]

فخري صالح*

عندما نفكّر في أثر المنفى في الآداب العالميَّة المعاصرة، سندهش لغزارة عمليَّات الانتقال والهجرة والنزوح والارتحال، الطوعي أو القسري، إلى أصقاع الأرض المختلفة، غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، من قبل أفراد أو جماعات ثقافيَّة أو عرقيَّة، أو شعوب بكاملها. وقد جرت هذه الهجرات الجماعيَّة لأسباب سياسيَّة في بعضها، اقتصاديَّة في بعضها الآخر، وبتأثير الحملات الاستعماريَّة في القرون الثلاثة الأخيرة، حيث انتقلت الجيوش المستعمِرة إلى البلدان التي غزتها، فيما توجَّهت قطاعات واسعة، أحياناً، من الشعوب التي تعرَّضت للغزو إلى الغرب نفياً أو بحثاً عن الرزق، وهروباً من بطش القوى الاستعماريَّة. وهكذا، بالإمكان النظر إلى المنفى في اتجاهين مختلفين، كما يرى منظّرو ما بعد الكولونياليَّة؛ (أي أولئك الباحثون الذين يقرؤون أثر الاستعمار على المستعمِر والمستعمَر كذلك)، فثمَّة منفى مفروض على الجماعات الثقافيَّة والعرقيَّة التي غذت الخطا باتجاه الغرب بتأثير استعمار بلادها، كما أنَّ ثمَّة انتقالاً لأعداد كبيرة من الجنود وموظفي الإدارات الاستعماريَّة وعائلاتهم، إضافة إلى بعض المغامرين والرحَّالة الذين دفعتهم تجربة الاستعمار لاستكشاف الأراضي الجديدة والكتابة عنها، ودراسة طبائع الشعوب الشرقيَّة، وتقديم فقه مقارن للّغات، وغيرها من المهمَّات التي خوَّلها المستعمرون لأنفسهم في البلاد المستعمَرة.

إنَّ مفهوم المنفى ذو طبيعة معقدة؛ إنَّه مفروض ومرغوب، يجري السعي إليه وتفضيل الإقامة فيه، وكذلك ذمّه بوصفه حالة من الإبعاد والاغتراب الذي يدفع المرء إليه أو يجبر على عناقه. ولذلك يبدو تعريف الناقد الأسترالي بيل أشكروفت وزملائه، في كتابهم (المفاهيم الأساسيَّة لدراسات ما بعد الاستعمار) (1998)، للمنفى بأنَّه يقابل «فكرة الانفصال والابتعاد عن الوطن الأمّ، أو عن الأصل الثقافي أو العرقي»؛ يبدو نوعاً من ضغط المفهوم وحصره، وتضييق حدوده. صحيح أنَّهم يشيرون إلى تمييز بعض نقاد ما بعد الاستعمار بين المنفى والاغتراب، فالأوَّل مفروض، حيث لا يستطيع المنفيّ العودة إلى وطنه الأمّ، حتى لو رغب في ذلك. أمَّا الثاني، فهو مختار نشأ نتيجة رغبة المرء في مغادرة وطنه لأيّ سبب من الأسباب. لكنَّ هذا التمييز ليس دقيقاً تماماً، فثمَّة تداخل ومساحات رماديَّة تصل ما بين هذين المفهومين، كما تندرج حالتا الوجود الخاصَّتان بالمنفى والاغتراب في تشابهات تجعل من الصعب التمييز بين المنفيِّ والمغترب. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى التجربة الفلسطينيَّة التي تتضمَّن أنواعاً عديدة من الابتعاد القسري، والنفي العنيف، والإبعاد، وأحياناً الاغتراب عن الوطن؛ لأنَّ الشروط السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة دفعت الفلسطينيين إلى خارج الوطن الأمّ في ظروف شديدة التعقيد خلال رحلة الشتات الفلسطينيَّة المستمرَّة. وعلى الرغم من أنَّ الفلسطيني يُعدُّ «المنفيَّ بامتياز»، تحيط بالتجربة الفلسطينيَّة ظلالٌ لا حصر لها، وسياقات نفي عديدة. يصدق هذا الوضع كذلك على عدد كبير من مجتمعات الشتات الناشئة (نتيجة ظروف سياسيَّة أو اقتصاديَّة بعينها) الممتدة إلى معظم أصقاع العالم في أزمنة الحداثة، ما يفضي إلى تعقيد مفهوم المنفى وضرورة النظر إليه من جوانب مختلفة، وعدم الاكتفاء بالمعنى اللغوي ذي الدلالات السلبيَّة للمنفى.

لكن من الصعب أن نحدّد بوضوح، في أحيان كثيرة، أين هو «الوطن» بالنسبة إلى هذه المجموعات التي ارتحلت عن أوطانها، أو نُفيت منها، أو جرى تهجيرها بالتهديد والقسر عنها، أو اضطرت بسبب القهر والاضطهاد السياسيين، أو الفقر والفاقة، إلى الهجرة إلى بلدان أخرى والاستقرار على هوامش مجتمعات تلك البلدان على الأغلب، منتجة آداباً تستذكر في العادة الأوطان الأصليَّة، وتقيم صلات نسب مع الثقافات التي تنتمي إليها. فهل الوطن في هذه الحالة هو مكان الولادة، أم هل هو المجتمع الثقافي المرتحل الذي وُلد فيه المرء، أم هل هو الدولة القوميَّة التي وُلد فيها الشخص المنفي؟

يستحيل، إذن، أن نرسم شبكة لمعنى المنفى وأدب المنفى ضمن هذه الظروف المعقَّدة من عمليات النزوح والشتات والاغتراب والاقتلاع والتشريد والنفي والرحيل الطوعي أو الهجرة بحثاً عن الحريَّة أو الرغبة في تحسين الأوضاع المعيشيَّة؛ فبينما كان الارتحال فرديَّاً في العصور السابقة، أو أنَّه يتضمَّن مجموعات صغيرة، صار هناك مجتمعات شتات كاملة تبتعد، طوعاً أو كرهاً، عن أوطانها الأصليَّة. وبعض مجتمعات الشتات هذه أُجبِرت ليس على ترك أوطانها فحسب، بل أجبرت على التخلي عن لغتها الأمّ وثقافاتها الأصليَّة لتصبح جزءاً مزاحاً من المجتمعات والثقافات الجديدة، مثل الأفارقة الذين يعيشون في فرنسا، والهنود والباكستانيين الذين يعيشون في بريطانيا. وهؤلاء ينتجون آداباً مهجَّنة، لكنَّهم يتخذون من الفرنسيَّة أو الإنجليزيَّة لغة يعبّرون بها عن أنفسهم، بما يتضمَّنه ذلك من مصاعب في التعبير عن الذات وانشقاقات في الهويَّة.

في هذا السياق نفسه، يجد الفلسطينيون أنفسهم بعد دفعهم إلى الهجرة من بلادهم، بعد اغتصاب فلسطين، وشنّ حرب صهيونيَّة لا هوادة فيها لإفراغ الوطن الفلسطيني من سكَّانه العرب. فقد دُفع الفلسطينيون إلى الإقامة في مجتمعات الشتات، سواء داخل الوطن العربي أم خارجه، وداخل الوطن الفلسطيني بوصفهم «منفيين في الداخل»، أو كجزء من كيانات دول أخرى أصبحوا بمرور الوقت يقيمون على هامش سكَّانها الأصليين.

في كتابه (بعد السماء الأخيرة) (1986) يستعيد إدوارد سعيد وضعيَّته كونه منفيَّاً بالمعنيين السياسي والثقافي، ويشرح لقارئه كيف أصبح هو وعائلته منفيين من الوطن، ويوضح هذا الوضع بالنسبة إليه وإلى باقي الفلسطينيين قائلاً: «لقد تبخَّر من حياتي وحياة الفلسطينيين جميعاً ثبات الجغرافيا وامتداد الأرض. وحتى لو لم يقم أحدهم بإيقافنا على الحدود أو سوقنا إلى مخيمات جديدة أو منعنا من الدخول أو الإقامة أو السفر من مكان إلى آخر، فإنَّ أراضينا يجري احتلالها، ويتدخَّل الآخرون في حياة كلٍّ منا بصورة اعتباطيَّة، وتُمنع أصواتنا من الوصول إلى بعضنا بعضاً؛ إنَّ هويتنا تُقيَّد وتُحبَس وتُحاصَر في جزر صغيرة خائفة، ضمن محيط غير مضياف، تحكمه قوَّة عسكريَّة عليا، تستخدم رطانة إدارة حكوميَّة تؤمن بالطهارة [العرقيَّة] الخالصة».

إنَّ الإشارة إلى المنفى كتقييد للهويَّة ومحوٍ لها من بين السمات الدالَّة على آداب المنفى، و«الموتيفات» التي تتكرَّر في النصوص، التي تدور حول هذه التجربة الوجوديَّة المعقَّدة، هي جزء من هذه الطبيعة المعقَّدة لأدب المنفى. ولعلَّ الأدب الفلسطيني يكون من بين أكثر الآداب العالميَّة التي تكوَّنت وتطوَّرت داخل بوتقة المنفى، وعلى حوافّه؛ فلا يمكن النظر إلى الأدب الفلسطيني إلا بوصفه أدب منفى واغتراب ومحاولة للحفاظ على الهويَّة المهدَّدة.

في قصيدة «عاشق من فلسطين» يقول محمود درويش، الذي يمكن النظر إلى مجموع شعره بوصفه مجازاً للمنفى:

ولكنّي أنا المنفي خلف السور والباب

خذيني تحت عينيك

خذيني، أينما كنت

خذيني، كيفما كنت

أردّ إليَّ لون الوجه والبدن

وضوء القلب والعين

وملح الخبز واللحن

وطعم الأرض والوطن!

وعلى الرغم من أنَّ القصيدة السابقة مكتوبة في فترة مبكرة من تجربة محمود درويش الشعريَّة؛ أي في المرحلة التي سبقت خروجه من فلسطين ملتحقاً بالمنفيين من شعبه، يجعل درويش من صوت المتكلم في قصيدته جزءاً من «كورس» أصوات المنفيين الفلسطينيين جميعاً. إنَّه يكتب شعره داخل الوطن بوعي المنفي الأبدي، مدركاً، في الآن نفسه، أنَّ وجوده على أرض الوطن لا يعفيه من شعور المنفى؛ لأنَّه مقتلع ومشرَّد على أرضه. وفي ذلك ما يشير إلى هويَّة أدب المنفى المعقَّدة، وإمكانيَّة أن ينتج المقيمون أدب منفى؛ لأنَّ تهديد الهويَّة، الوطنيَّة أو القوميَّة أو العرقيَّة، والصراع على الهويَّات الثقافيَّة عامَّة، هو الذي يحدّد في النهاية معنى أدب المنفى.

ثمَّة تعالق في أدبيات المنفى، خصوصاً في اللغة العربيَّة، بين الغربة والمنفى. وهذا ما نعثر عليه في كتابات الفلسطينيين؛ ففي «سرير الغريبة» لمحمود درويش تشدّد قصائد الحبّ جميعاً على فكرة الغريب الذي يبحث عن غريبة تشفيه من جراح غربته ومنفاه، من شعوره بالوحشة في ديار الآخرين. ثمَّة غربة وشعور بعدم ثبات الأرض تحت القدمين، وإدمان على المنفى، وتعريف للذات بالاستناد إلى المنفى دون غيره من صيغ الوجود. ولذلك لا يستطيع الحبُّ ولا أيُّ شيء غيره أن يشفي المنفيَّ من جرح منفاه الأبدي. لا قدرة لدى المنفيّ على عكس مسار منفاه، فحتى لو عاد إلى الوطن فإنَّه يظلُّ مقيماً في غربته ورحيله عن أرضه. «من أنا دون منفى؟» يسأل درويش، معرّفاً هويَّة الغريب الأبدي الذي أدمن العيش في هويَّته التي أصابها جرح نازف مقيم. غريب على ضفة النهر، كالنهر... يربطني

باسمك الماء. لا شيء يرجعني من بعيدي

إلى نخلتي: لا السلام ولا الحرب.

لا شيء يدخلني في كتاب الأناجيل.

لا شيء... لا شيء يومض من ساحل الجزر

والمدّ ما بين دجلة والنيل.

لا شيء ينزلني من مراكب فرعون.

لا شيء يحملني أو يحمّلني فكرة: لا الحنين

ولا الوعد. ماذا سأفعل؟

ماذا سأفعل من دون منفى، وليل طويل

يحدق في الماء؟

يلخص الكلام السابق جوهر الإحساس بالمنفى، ويقين المنفي بأنَّ رحلة الغريب وتيهه قد طبعت حياته. إنَّ هويَّته هي المنفى، وتجربة الوجود بالنسبة إليه قد تشكَّلت حول تلك البؤرة الشاذة الغريبة من الرحيل والهجرة، والإقامة على هامش مجتمع الغربة، والابتعاد والفقد الذي يستحيل عكس مساره ورأب صدعه بالوعد والحنين أو الحب.

في سياق يفسّر رؤية درويش الشعريَّة للمنفى يذكّرنا إدوارد سعيد، في حوار أُجرِي معه عام (1986)، بأنَّ الناقد الإنجليزي ماثيو أرنولد يستخدم كلمة «غريب» ليصف الناقد الذي هو «شخص ليس ثابتاً في طبقة محدَّدة، بل هو على الأصح يسير على غير هدى». وينطلق سعيد من هذا الوصف ليحدّد معنى المنفى الفردي والجماعي، العام الكوني والشخصي الخاص به كونه فلسطينيَّاً مهجَّراً من وطنه، غريباً في بلاد الآخرين. يقول سعيد: «بالنسبة إليَّ صورة المنفى شديدة الأهميَّة؛ لأنَّك تدرك في لحظة من اللحظات أنَّه لا يمكن أن تعكس مسار المنفى. إذا فكَّرت به بهذه الطريقة، فإنَّه يصبح صورة شديدة القوَّة في الحقيقة، لكن إذا فكرت بأنَّ المنفي يمكن أن يعود، ويجد بيتاً، فهذا ما لا أقصده في هذا السياق. إذا فكَّرت بالمنفى كحالة دائمة، بالمعنيين الحرفي والثقافي، فإنَّ الأمر سيبدو واعداً، رغم صعوبته. إنَّك تتحدَّث هنا عن الحركة، عن التشرُّد...».

يحدّد إدوارد سعيد في كلامه السابق السياق الوجودي للمنفى؛ إنَّه حالة دائمة من الغربة والابتعاد والإقامة في الهامش، هجرة مستمرَّة لا يمكن عكسها، وهو، من ثَمَّ، صيغة من صيغ الوجود تولد شعوراً متواصلاً بالانشقاق عن السياق، والحنين الدائم إلى ماضٍ وأرض وثقافة لم تعد كلها موجودة في المنفى وثقافته وحالته الوجوديَّة.

بالمعنى السابق، إنَّ المنفى، على الرغم من كونه نتاج شرط تاريخي محدَّد وأثراً لتجربة عميقة من الفقد وصدع الهويَّة، يتحوَّل إلى مجاز للفقد والخسارة، إلى تعبير عن السقوط المستمرّ في بئر اللاعودة، ما يذكّرنا بشعريَّات المنفى التي نرتطم بها بصورة متواصلة في تجربة محمود درويش. المنفى انقطاع عن الأرض الصلبة التي كانت توفر للمرء الهويَّة وصلابة الإحساس بالأمن والطمأنينة. في كتابه (تمثيلات المثقف) يصف إدوارد سعيد المنفى بأنَّه «من أكثر المصائر إثارة للحزن»، مقارناً بين المنفى في الأزمنة ما قبل الحديثة والمنفى في الزمان الحديث، قائلاً: «إنَّ النفي والطرد في التاريخ القديم كان عقاباً مروّعاً للشخص المنفي؛ لأنَّه كان يعني سنوات من التشرُّد الذي لا هدف له، بعيداً عن العائلة والأمكنة التي ألفها المرء. كما أنَّه كان يعني نوعاً من النبذ وعدم الشعور بالاستقرار في المكان. وحين يقارن معنى المنفى في الحاضر بمعناه في الماضي، يشير إلى تحوُّل المنفى من تجربة شخصيَّة إلى تجربة جماعيَّة أصابت شعوباً وأعراقاً بكاملها، ممثلاً على ذلك بهجرة الفلسطينيين والأرمن من بلادهم عبر الاقتلاع والتشريد والنفي القسري». بذلك يجمع المنفي المعاصر بين تجربة المنفى الشخصيَّة ما قبل الحديثة، وتجربة الاقتلاع التي جلبها الاستعمار الحديث لشعوب بكاملها. لكنَّ سعيداً، على الرغم من تحديده الفروق في مفهوم المنفى بين الحضارات القديمة والعصر الحديث، ينتقل انتقالاً مفاجئاً غير متوقع. إنَّه يشدّد على ما يسمّيه «المنفى المجازي»، في مقابل المنفى الجسدي أو الجغرافي أو الابتعاد القسري عن الوطن، فالمعنى المجازي يمكن أن يكون صفة المثقف الذي يعيش في وطنه عضواً في مجتمع بعينه، لكنَّه، على الرغم من ذلك، يستطيع أن يكون لا منتمياً، منبتَّاً عن السياق التقليدي، يصعب إغواؤه من قبل السلطة أو استتباعه. ويقيم سعيد صلات نسب بين المثقف اللَّامنتمي والمثقف المنفي الذي يجد صعوبة بالغة في التأقلم والإحساس بالألفة مع المحيط، وهي الأحاسيس التي تميّز المواطنين وأبناء المجتمعات الأصليَّة، أولئك المستقرّين الذين تربَّوا في أحضان الوطن والثقافة. إنَّ سعيداً يفضّل هذا النوع من المثقفين الذين لا يحسُّون بالراحة أو الطمأنينة، بل إنَّهم يحسُّون بعدم الاستقرار، ويشعرون بضرورة الحركة الدائمة مسببين عدم الراحة للآخرين كذلك. ويضرب سعيد أمثلة على ذلك بجوناثان سويفت، وثيودور أدورنو، وف. س. نايبول. ومن ثمَّ، إنَّه يرى أنَّ المثقف المثال بالنسبة إليه هو ذلك «المرتحل، والضيف المؤقت». إنَّ المثقف المنفي، واقعاً ومجازاً، يرى الأشياء بوصفها «عارضة، لا بوصفها أمراً لا مناص منه، وينظر إليها بوصفها سلسلة من الاختيارات التاريخيَّة للرجال والنساء، بوصفها وقائع اجتماعيَّة صنعها البشر لا بوصفها أشياء طبيعيَّة». ويضرب على هذا النوع من المثقفين مثال الفيلسوف الإيطالي ابن القرن الثامن عشر جيامباتيستا فيكو، الذي طالما احتفل به إدوارد سعيد، وأشار إلى تأثير كتابه (العلم الجديد) في عمله النقدي.

إنَّ سعيداً يفضّل ذلك النوع من المثقفين اللَّامنتمين، الذين يقيمون على الحدود، المثقفين الهامشيين؛ لأنَّ هذا النوع من المثقفين المنفيين يخالفون السائد والسائر، ويتَّصفون بالجرأة، ويمثلون التغيير، ويستمرُّون في الحركة في هذا العالم المتغير. يتلوَّن معنى المنفى، في هذا السياق، بالمجازيَّة. إنَّه يبتعد عن كونه شرطاً تاريخياً سياسياً أو اقتصادياً محدداً ناشئاً عن الهجرة القسريَّة أو الطرد المبرمج من الوطن، أو الإبعاد العنيف لجماعات محدَّدة، أو شعوب بكاملها، ليدخل في تعريف الهويَّة المنشقَّة، والذات المشروخة لأسباب تتَّصل بالتجربة الخاصَّة للشعوب المستعمَرة في القرون الثلاثة الأخيرة. انطلاقاً ممَّا سبق، يمكن القول: إنَّ محاولة فهم الآداب الحديثة تستلزم إلماماً بتحوُّلات المفهوم، ومغادرته دائرة الفهم القاموسي الضيّق إلى أفق النظريَّة الأدبيَّة.

[1] - مجلة يتفكرون العدد11