مفارقات التعدّديَّة الليبراليَّة


فئة :  مقالات

مفارقات التعدّديَّة الليبراليَّة

مفارقات التعدّديَّة الليبراليَّة:

أو كيف يكون التعايش ممكناً في وضعيات التفاوت؟

مصطفى بن تمسك

المُقدِّمـَة

بقدر ما كان انتقال الإنسانية إلى مرحلة التعدُّديَّة السياسية والثقافية والعرقية والدينية، تحرُّراً تاريخياً من براديغمات الواحد والمثال والجوهر والماهية والأرخي (الأصل) والأيقوني، بقدر ما ولجت إلى إشكاليات مستحدثة رافقت صيرورة تشكُّل الفسيفساء التعدُّديَّة للمجتمعات الديمقراطية الحديثة.

لقد حملت التعدُّديات المشار إليها مشكلات جديدة، لعل أهمَّها على الإطلاق هو كيفية الملائمة وخلق التوازنات الضرورية بين كلِّ هذه الأطياف والاختلافات، وتجنب نزعات الإقصاء والتفاضل والتمييز بكلِّ أشكاله، حتى يكون العيش المشترك ممكناً ودائماً بين الفرقاء المختلفين المتواجدين في فضاء مشترك.

تلكم هي الإشكالية الكبرى التي ما تزال المجتمعات المنخرطة في الأفق الديمقراطي تبحث لها عن مخارج وحلول تشريعية ومؤسَّستية وسياسية، تختلف حتماً من بلد إلى آخر. وبإمكاننا رصد أبرز المخارج التي أجمعت عليها المجتمعات الديمقراطية الغربية، وتتمثل في الإقرار بمبدأ المساواة بين كلِّ الأطياف الاجتماعية وعدم التفرقة بين المواطنين على خلفيات لونية أو مذهبية أو دينية أو سياسية (فكلُّ المواطنين يولدون أحراراً بطبعهم)، ما يسمح بتساوي حظوظهم اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. فيصبح، مبدأ التداول على السلطة حقاً دستورياً متاحاً للجميع. وفضلاً عن إقرار قيم المواطنة بما تعنيه من تساوي الحقوق والواجبات، تلتزم أجهزة الدولة بالحياد المطلق عن الصراعات والميولات الفردية والجماعية، فلا تتدخل لنصرة طرف على آخر، أو إيديولوجيا على أخرى، بل تسهر على تأمين حسن إنفاذ القوانين وحماية الحريات الفردية في حدود القانون وردع المخالفين.

تلكم هي شروط استمرار التعايش السلمي بين المواطنين الأحرار في مجتمع ديمقراطي. ولكن هل تحقق هذا المنوال بالشكل المثالي الذي وصفناه؟ وبعبارة أوضح: هل تحققت «الجَنَّة» التعدُّدية والديمقراطية بالشكل الذي يجعل فعلاً من الدولة كياناً فوق جميع الطبقات؟ ويجعل المواطن كائناً حرَّاً ينعم بكلِّ حقوقه ويقوم بكلِّ واجباته تجاه الدولة والمجتمع؟ ألمْ تتحوَّل التعدُّديَّة في تطبيقاتها إلى مجرَّد آليات وإجراءات شكليَّة توهم بالديمقراطية، بينما تستبطن ضرباً خفيَّاً ومستتراً من «الهيمنة الناعمة» على مقدرات المجتمع وقواه الحيَّة؟

- في البدء كان التعدُّد

لم يكن التعدُّد (Pluralité) مأثرة الإنسان، بل «قانون الأرض»[1]، كما تقول حنا أرنت. إنَّه التنوع والتكاثر والتناسل وكلُّ البدايات المتجددة للكائنات. ليس الإنسان سوى إحدى تعبيراته وتجلياته. إنَّ التعدُّد الذي يخصنا هو هذا الظهور والاحتجاب، وهذا الكون والفساد المتعاقبان بلا هوادة ولا انقطاع. إنَّه إذاً ماهيَّة هذا العالَم الذي يحتضننا.

وُجد هذا العالَم باستقلال عن إرادة الإنسان، وهو يعمل منذ الأزل بمقتضى قوانين مادته الداخلية وحتمياته المنتظمة والمتكرِّرة. تكمن أهمية العالَم بالنسبة إلينا في كونه فضاءً زمنياً وجغرافياً تحقق فيه «الوضع» الطبيعي للكائن. لم يكن الإنسان خارج لوغوس التعدُّد أو قبله، بل هو «الموجود في العالم» و«بمعيته» (La co-existence) [2]. إنَّه إذن الوجود في الكثرة ومعها، ولا يمكن بأيِّ حال فصل الماهيَّة الجزئية عن الماهيَّة الكُليَّة.

إنَّ كيفية انغراس الإنسان في العالم تجعلنا نقرُّ على إثر مرلوبونتي بأنَّه «لحم العالم». إنَّ هذا العالم الذي فيه نوجد ونتجسَّد وننخرط ونقصد ليس محايداً، وليس مجرَّد مادة ممتدَّة وعاطلة منزوعة الغرابة (ديكارت)، وليس مجرَّد كتابٍ رياضي (قاليلي)، بل هو ذواتنا وأجسادنا الملتحمة به.

إنَّ القول بحياديته ولا مبالاته يُكرِّس منطق الاثنينية الديكارتي الذي فصل المادة الممتدَّة عن الجوهر المفكر، وهو فصل يُؤسِّس لتفاضلية أخلاقية ماهويَّة متأصِّلة في المثاليات الفلسفية القديمة.

تنتهي بنا فينومينولوجيا «الوجود كما هو موجود» (بلغة القدامى) إلى مجاوزة الثنائيات الميتافيزيقية والإقرار باتحاد الجسد بالعالم، المعقول بالمحسوس والمنظور باللا- منظور، لكون بنيتنا الجسدية مُعدَّة بكيفية تجعلها في وفاق مع المنظومات المورفولوجية المختلفة للعالم.

بيد أنَّ واقعة التعدُّد التي تناسل منها الإنسان ذاته، ستصطدم بمقتضيات المعرفة من حيث هي إدراك أو قلْ استنباط للكُليَّات، حيث «لا علم إلا بالكُّلي» (أرسطو)، لكنَّ الجزئي وحده هو الموجود. سوف تقع التضحية بالجزئيات (المحسوسات) لفائدة معقولات كُليَّة تمنح الفيلسوف سلطة رمزية على عالم الحركة المتمرد.

لقد شكَّل التعدُّد في معنى التكثُّر والتنوُّع تحدياً معرفياً ضخماً بالنسبة إلى الفلاسفة الأول. كانت وقائع الحركة الموضوعية عنوان الفوضى والاضطراب ومجال انتعاش الريبية السوفسطائية والعامية: فبما أنَّه لا شيء يمكث على حاله، فكلُّ ما يظهر هو حقيقة جزئية سرعان ما تزول، ولا يمكن بالتالي قيام مرجعيات موضوعية تقويمية. اقترن التعدُّد إذن بالفوضى وباللَّانمطية؛ أي بالصخب والهيجان و«التمرُّد الديونيزوسي» (نيتشه). وكأنَّ نظام الطبيعة وقوانينها القائمة على توازنات الجزئيات المتناهية الصغر والمتعاظمة الكبر لا تتلاءم ونظام المدينة الذي نروم تأسيسه وفق نواميس النظام والتصنيف والترتيب والثبات والنهائيَّة. من هنا، انبثقت أولى المواجهات بين نظام الطبيعة القائم على التعدُّد المعطى ونظام المدينة القائم على التجانس والوحدة والطاعة.

ما يزال هذا التحويل لوجهة الكثرة الطبيعية من مجالها الحيوي إلى مجال التفكُّر والتدبُّر أسلوباً للالتواء على قوانين الحياة، ومن ثمَّة عدم الاعتراف بالحقيقة حين تقع في محل الجزئي والفردي، أو حين نريد أن نبرزها على السطح بدل العمق، في الفينومين بدل النومِين، في المواطن بدل القوة والسيادة، أو في المجنون بدل العاقل. أليس إنكار واقع التعدُّديات كما تبدو ماثلة في أنظمة الكون وطبقات الوجود هو بداية الشروع في تنميط أنظمة الحياة المشتركة بالشكل الذي يجعل من الذاتية مرجعية التشريع المطلقة؟ ألا يُعدُّ إفراغ الكون من واقعية التنوع والتكثر كما تمليه علينا مقتضيات الحقيقة العلمية وكما تمليه شروط إمكان القول العلمي استعاضة عن الحقائق اللامتناهية بـ«الحقيقة» المنمَّطة والمنمذجة، تلك التي تسمح بتداولها وتوثيقها وتعليمها؟ أليست التعدُّديَّة قبل أن يباشرها العقل اختزالاً وتصنيفاً وتنميطاً هي هذه الحركة المتدفقة للأشياء، المستعصية عن الإمساك، المتمردة على سلطان الخطاب؟ أليست التعدُّديَّة هي في أصلها هذا التعدُّد وهذا التكثر الطبيعيان قبل أن تتدخل فيهما آليات الاختزال والإنشاء والتنميط؟ هل يمكن القول إنَّ نظام المدينة يتخلى نهائياً عن واقعة التعدُّد الطبيعي الموصوفة بالفوضى والحركية السالبة لصالح تعدُّديَّة إنشائية تدافع عن الثبات والتوازن وتقاطع المصالح والطبقات؟

- من التعدُّد الطبيعي إلى التعدُّديَّة الاصطناعيَّة

إذا كان التعدُّد معطى، فإنَّ التعدُّديَّة مستحدثة. إنَّ وجه التباين بينهما هو ذلك الذي يفصل بالتحديد مجال الطبيعة عن مجال الثقافة؛ أي الحق الطبيعي عن الحق الوضعي. تمدُّنا الأنثروبولوجيا التاريخية بمفتاح تفسير النقلة النوعية الضخمة من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية، وبمختلف صيغ الحكم والتصرُّف في السلطة.

التعدُّديَّة في مفتتح دلالاتها هي مفهوم جديد للسلطة وللمشروعية السياسية. لا تستمدُّ هذه المشروعية نفوذها من التقاليد أو من مبدأ الحق الطبيعي أو الحق الإلهي، بل من الوفاق والحق المدنيين. إنَّها لا تُفهم إلا في علاقتها العضوية بالسلطة وبمختلف التحولات التاريخية الجذرية التي طرأت عليها. لا تنفصل الحداثة السياسية عن التفكير التعدُّدي الذي اقترن بانهيار الجماعات المغلقة والتراتبيات الأنطولوجية (نظرية الطبائع الثابتة) الجاهزة والقبلية وأشكال الحكم الفردية النزوية المطلقة، وكلّ أنماط السلطة الشمولية والكليانية المستمدَّة إيديولوجياً، سواء من وَهْمٍ عرقي أو ديني أو قومي. وفي مقابل أفول العالم القديم بكلِّ أثقاله وأوزاره، ستشهد الحداثة عموماً نقلات ضخمة في كلِّ نواحي الحياة، ولا سيَّما في تصوُّر الذات الحرَّة والذاتية المعتدَّة بنفسها، كما رسمتها لنا نماذج الكوجيتو المختلفة.

ويتبين حينئذ أنَّ حصر التفكير التعدُّدي في إجرائيات توزيع السلطات وتقاطع المصالح وتوازن هيئات المجتمع. إنَّما يطمس الرهان الأوَّل الثاوي خلف هذه الآليَّات، ونعني به تأمين حرية المجتمع المدني المتكون من أفراد وجماعات وجمعيات ومنتديات ونزعات وتلوينات، من تعدِّيات ونزوات السلطة الشمولية. إنَّ «واقع التعدُّديَّة» (ونحن نستعير هنا المصطلح الرولزي المعروف) ليس مذهباً قائم الذات، بل هو «تصوُّر واقعي لنظام سياسي وحقوقي يُكرِّس تنوُّع الآراء والمصالح والجماعات في مجتمع مدني، ويجعل من التعدُّد الشرط الضامن للحريَّة»[3].

تُبشِّر فلسفة التعدُّديَّة بنهاية عصور «الوحدنة» (Monisme) و«الشملنة» (Holisme)، وبالتالي تشظِّي الحقائق وتبعثر الفرديات و«أفول الأصنام» (نيتشه). وبالضرورة نهاية المقادير المُسلَّطة على البشر والأيادي الخفية التي تعمل خلف ظهورهم (أفلاطون). إنَّها الحاكمية وقد استردَّها الإنسان ليضفي عليها إنسانيته اقتساماً ومشورة ونقاشاً يُحدِّد على إثرها معايير أخرى للحق والحق المضاد.

نلج مع التعددية عالم الإنسان بامتياز، وتتعطل بذلك الامتدادات والتبريرات الأسطورية والطبيعانية للسلطة، بل تفقد السلطة بريقها الأسطوري والإمبراطوري، و«يتطاول» عليها من شاءها باسم الحق والمساواة فيه. وهكذا فحين تسقط الأصنام وتنكشف التبريرات الإيديولوجية للحكم وتستقرُّ فكرة المساواة والاستقلالية الفردية في الأذهان، تتحرَّر الإرادات الفردية من جحيم «اللفياثان» الكلياني، وبالتالي تتحيَّد الدولة عن التدخل في تحديد مفاهيم «الحياة الطيِّبة» (La Vie bonne). بهذا المعنى ترتدُّ التعدُّدية إلى فلسفة الاختلاف وحقِّ الاختلاف. ويستقرُّ هذا الحق في مدلول واسع للمواطنة يطلق عليه البعض «المواطنة الاختلافية» (Citoyenneté différenciée)[4]، حيث تتلاشى منه الولاءات ما قبل المدنية وكلُّ أشكال التمييز العنصري والديني بين البشر، ولا يمكث في مجتمع تعددي-حقوقي سوى مفهوم صوري وكلي لمواطن شريك يكون تارة حاكماً وطوراً محكوماً. إنَّ التعدُّدية هي الاختلاف الذي يشرِّع التداول على الحكم وتفتيته ومراقبته و«معارضة السلطة بالأخرى»، كما بيَّن ذلك مونتسكيو في روح القوانين[5].

إنَّ رهان التعدُّديَّة هو إلغاء الأصول والمركزيَّات الماورائية للسلطة الوضعية وتوزيعها على مختلف الهيئات المدنية بالتساوي وبالتداول في مسعى لتأمين سيولة الحريات الفردية من خلال إرساء إتيقا تفاوضية وحوارية لطرائق مستحدثة للعيش المشترك.

- التعدّديَّة الليبراليَّة وإدارة العيش المشترك

اقتضت وضعنة السلطة السياسية ومركزة الإنسان في الكون بدل الوجود تغييرات جذرية في توزيعية مراكز النفوذ والقرار. باتت السلطة تداولاً بين أفراد أحرار يتنافسون ديمقراطياً على الاستئمان عليها، واستعمالها كأداة للعدالة والإنصاف بين أطياف المجتمع الديمقراطي.

اقترنت التعدُّديَّة منذ البدء بتصور جماعي وديمقراطي للسلطة، كفَّت فيه أن تكون حكراً على طبقة أو حاكم فردي مطلق النزوات، بعد أن اقترنت بالتحرُّر الفردي والحقوق الفرديَّة. لقد أضحى الحق السياسي في التداول على السلطة لدى عموم المواطنين من أبرز الحقوق التي بشَّرت بها الحداثة السياسية.

تشكلت السلطة السياسية على صورة الفرد المتحرِّر من كلِّ الوصايا، حتى غدت متشظية ومتكثرة ومرنة وغير ثابتة ونسبية مثله.

لم تعد هذه السلطة مصدراً للخوف والرهبة، بعد أن فقدت مصادراتها الماورائية والمتعالية، وأصبحت بمقتضى العقد الاجتماعي الجديد شأناً عامَّاً يشترك فيه الجميع على قدر المساواة في إدارة مرافقها العامَّة.

أضحى العيش المشترك ممكناً في كنف التعدُّدية الفكرية والعقائدية والسياسية والعرقية واللغوية، واتفق القوم المختلفون على قبول اختلافاتهم والإبقاء عليها، وعدم التنازل عنها لفائدة دولة قوية أو حاكم مستبد، بل فقط الإبقاء عليها ضمن الفضاءات الخاصة على غرار العائلة والجماعة الخصوصية والمعابد والأحياء، ونعني بها الأقليات العرقية سواء منها أقليات أرض الوطن أو تلكم القادمة بطريق الهجرة على غرار الأقليات العربية المسلمة أو الآسيوية أو الإفريقية إلى الغرب الأوروبي والأمريكي.

وفي مقابل الاعتراف بالخصوصيات الثقافية وحماية وجودها داخل أفضيتها الخاصة، وضمان عدم إقصائها من الفضاء العام، أو استئصالها لأسباب إيديولوجية أو دينية، بات يتعين على الهويَّات الخصوصية المتواجدة في الفضاء التعدُّدي الغربي الأوروبي والأمريكي تحديداً، الانخراط في قيم المواطنة، باعتبارها الضامنة لشروط العيش المشترك ولمعايير الإنصاف الاجتماعي؛ ذلك أنَّ فضاء المواطنة هو الكفيل بالتخلي «مؤقتاً» عن الانتماءات ما قبل المدنية أو ما قبل- المواطنية، والاكتفاء بممارستها في الأفضية الخاصة التي تؤمِّنها الدولة، أمَّا الوجود المواطني المشترك فقد بات يتطلب من الجميع، بما في ذلك مواطنو الدولة- الأمَّة، التجرُّد عن الولاءات الهوويَّة المحرِّضة على الانغلاق والتعصُّب وكره الآخر-المختلف.

إنَّ ما يجمع كلَّ هذه الأطياف الهوويَّة هو فقط انتماؤها لقيم المواطنة، بما تعنيه من مساواة أمام القانون الذي لا يميز مواطن عن آخر على خلفية الانتماء الديني أو العرقي أو القومي، بل فقط على خلفية احترام القانون ومؤسسات الدولة أو التعدي عليهما. وبهذا لم تعد الانتماءات الرمزية معياراً للحكم على المواطنين في الفضاء المشترك. وما يعزِّز هذا المكسب هو تحييد أجهزة الدولة عن ولاءات الأفراد وميولاتهم الفكرية. وبموجب ذلك، تصبح الدولة هيئة محايدة لا يسمح لها بالتدخل لمناصرة رؤية إيديولوجية أو قومية أو دينية أو تربوية ما، مكتفية بتحديد قواعد العدالة الشكلية وتأمين سيلانها دون الانحراف بها إلى «حرب الآلهة». يقول جون رولز: «لا تقوم الجماعة على تصوُّر للخير كالذي كان فيما مضى يُستمدُّ من الدين أو من مذهب فلسفي شائع، بل تقوم على مفهوم مشترك للعدالة في صلتها بالتصور الذي يتمثل المواطنين داخل دولة ديمقراطية ما كأشخاص أحرار ومتساوين»[6].

حققت التعدُّدية الليبرالية ضرباً من الإنصاف - الذي يختلف جوهرياً عن العدالة رغم تناسله منها- وسنبين ذلك: لمَّا كانت العدالة قيمة مطلقة ومفهوماً كُليَّاً غائماً وفضفاضاً، فهي تظلُّ إلى الأبد غير قابلة للتحقق، وربَّما تحيلنا تطبيقاتها المعيارية إلى السجل الديني، حيث تبشِّرنا كلُّ الأديان بأنَّ «العدالة المطلقة» غير ممكنة على الأرض، بل ستكون في السماء؛ لأنَّها شأن إلهي بامتياز. وربما ندرك الآن لماذا ظلت العدالة على مَرِّ تاريخ الإنسانية في عداد المُثل المنشودة على غرار الحريَّة والسعادة والمساواة، ... إلخ، ولم يسعها أن تتجسَّد إلا في اليوتوبيات الشهيرة: المدن الفاضلة (أفلاطون، الفارابي) والمجتمع الشيوعي المنشود (ماركس، لينين). وتلكم هي أقصى ما حققته المخيلة البشرية، وهي تُحوِّل حلم العدالة المطلقة من السجل الماورائي إلى السجل الأرضي.

لأمر كهذا، نعتقد أنَّ هناك جزءاً من الإنسانية أدرك أخيراً استحالة المواصلة في التضليل بعدالة معيارية لا يمكنها أن تتجسَّد في ظلِّ الاختلافات المعطاة، والتي ليست فقط من طبيعة طبقية، بل أيضاً ثقافية وحضارية ورمزية. لهذا تمكَّنت من اختراع فكرة «الإنصاف» (Equité)[7] الذي يعني في مضمار التعدُّديَّة السياسية تمكين الطبقات الأقل حظاً في المجتمع الليبرالي من تمثيلية «مشرفة» في مؤسسات الدولة، وهو ما يُعرَف «بالتمثيل النسبي». ويعني في مضمار التعدُّديَّة الثقافية الاعتراف بالاختلافات الهوويَّة وتأمينها داخل الأفضية الخاصة لكلِّ جماعة، مع السعي إلى الاندماج والفاعلية داخل الفضاء المواطني المشترك، عندما يتصلُّ الأمر بالشأن العام.

لا يدَّعي براديغم الإنصاف القضاء على كلِّ أشكال التفاوت بين البشر، بل التخفيف منها؛ لأنَّ البشر حسب رولز ليسوا مسؤولين عن وضعية التفاوت الطبقي والاختلاف الرمزي والثقافي التي يجدون أنفسهم عليها، لكن في المقابل عليهم ألَّا يستسلموا لهذه القدرية، وأن يعملوا معاً ضمن مجتمع المواطنين الأحرار على حلحلة هذه الأقدار وتغيير المواقع الطبقية في إطار ما توفره مبادئ العدالة كإنصاف من فرص للمنافسة بينهم من أجل تنمية حقوقهم في «الحياة الطيبة»[8].

- حدود التعدُّديَّة الليبراليَّة من المنظور الجماعتي

النسبوية الفردية ونهاية المشتركات الجماعية

على الرغم من وجاهة المخارج التي اقترحها جون رولز لإنقاذ الليبرالية الكلاسيكية من مآزقها التي تردَّت فيها، تعرَّضت أطروحته إلى نقد رهط جديد من الفلاسفة عُرفوا لدى خصومهم بالجماعتيين (Communautariens)، ومن أبرزهم تشارلز تايلور ومايكل ساندال ومايكل فالزر وماك أنتاير، وينتمي كلُّ هؤلاء إلى المدرسة الأنغلوسكسونية. تتحدَّد مظاهر الخصومة بين الفريقين في اعتبار أيّهما الأسبق في الوجود الاجتماعي: الفرد أم المجتمع؟ فإذا أجبنا: الفرد واعتبرناه، كما يقول رولز، «سابقاً لكُلِّ غاية»[9]، فنحن رولزيُّون أو «نيو- ليبراليُّون». وإذا ما اخترنا أولوية الجماعة واعتبرنا «المدينة سابقة على الفرد»[10] فنحن أرسطيُّون جدد؛ أي إنَّنا جماعتيُّون بالضرورة.

تتمحور المطارحات النظرية في العالم الأنغلوسكسوني حول طريقة تمثل الفرد في المجتمعات الليبرالية، فالليبراليون الجدد يؤكِّدون على مبدأ الحريات الفردية وحيادية المؤسسات، ولا سيَّما مؤسسة الدولة، عن التدخل في تحديد نموذج «الحياة الطيبة» كما يرتئيها كلُّ فرد لنفسه. وبناء عليه لا يعيرون أهمية للانتماءات الاجتماعية والدينية والثقافية واللغوية المحددة لهويَّة الفرد، لأنَّها قد تتصادم مع قيم المواطنة والمجتمع المدني القائمة أساساً على الحيادية والصورية والإجرائية والبرغماتية.

أمَّا الجماعتيُّون فيعتبرون أنَّ الإقرار بهذه الانتماءات هو شرط ضروري من شأنه أن يوطِّن الحريات الفردية داخل أفق الدلالات المشتركة، حيث لن ترتد إلى ضرب من النسبوية والتقوقع حول مفهوم أحادي وفردي للخير؛ فالتصوُّرات الفردية للخير مطالبة بأن تنحو صوب التصوُّر الجماعي وتتماهى به، والجزء مطالب بأن يتناغم مع الكل، وهذا هو شرط استقرار الحياة السياسية الجماعية.

يعتبر الجماعتيُّون أنَّ التعدُّدية الرولزية بُنيت على مبدأ إطلاق الحريات الفردية وتحريرها من كلِّ تبعية للولاءات الجماعية، وهو ما من شأنه أن يجعل من كلِّ فرد مقياس ذاته، وبالتالي لا يتقاطع الأفراد حول دلالات مشتركة من شأنها أن توحِّد المواطنين حول مشتركات جماعية. وبالنتيجة تزدهر «النسبوية الناعمة» (Relativisme doux)[11].

تفيد «النسبوية الناعمة» أنَّ كلَّ الأفراد، بموجب احترام الحق في الاختلاف وتعزيز مجال الحقوق الفردية واستقلالية الإرادة، غير ملزمين أو مكرهين على الاعتقاد في ثقافة «الحس المشترك»، أو حتى إظهار الانتماء إلى الثقافة الجماعية، بما في ذلك الأخلاقيات العامة أو المعتقدات الدينية والتقليدية للمجتمع.

في المجتمعات التعدُّديَّة يتخلى المجتمع عن دوره الأبوي، باعتباره مصدر هويَّة الأفراد، حيث يمنحهم منسوباً عالياً من الحريَّات يصل إلى درجة تحميل كلِّ فرد مسؤولية نحت هويته الفرديَّة بمقدراته الذاتيَّة. يندرج هذا التمشِّي ضمن صيرورة تحرريَّة طويلة، تعتبر أنَّ ما يُسمَّى بولاء الأفراد للأطر المرجعية الكبرى (المجتمع، التاريخ، الألوهية، الدولة) هي تعبيرات سلطة تخفي في طياتها إرادة قوة مسلَّطة بالإكراه على المجتمع ومعيقة لتحرُّر الأفراد، وهي الأطروحة التي كان قد صاغها نيتشه، ثم أفاض في بيانها النيتشيون الجدد (فوكو- دلوز- دريدا).

لم يعد غريباً في المجتمعات التعدُّديَّة أن يتحرَّر الأفراد من ولاءاتهم للمجتمع وللدولة الأبوية وللمعتقدات الدينية، لكونها تعبيرات تسلُّطية مارست عليهم عنفاً مادياً ورمزياً أعاق طويلاً عقولهم وأجسادهم، لكنَّ الخطورة تكمن هنا في تشظِّي الحقائق وتكثرها بحسب كلِّ فرد، وهو ما يذكِّرنا بالمشهد اليوناني حين كان السفسطائي بروتاغوراس يتباهى بذاتية الحقيقة وارتباطها بقائلها، وبعدم قدرة الآخر صاحب الحقيقة الذاتية المغايرة بدوره على دحضها أو نفيها، باعتبار أنَّ كلَّ الحقائق متساوية في الصلاحية والوجود. في حين كان أفلاطون وأرسطو ينافحان عن الوجود «الموضوعي» للحقيقة، سواء أكانت جاهزة ومتعالية ومثالية (أفلاطون) أو تأليفية ولسانية ومفهومية (أرسطو). وفي كلتا الحالتين لا بُدَّ من الإقرار بوجود «موضوعي» للحقائق باعتبارها كُليَّات إنشائية بالمنطوق الأرسطي، تيسِّر التواصل اللغوي واللساني وأيضاً تُمكِّن من تأسيس المعرفة بالأشياء السائلة والمتكثرة والعرضية. ويفيدنا الدرس الإغريقي الذي تستعيده الذاتية الليبرالية اليوم بشكل آخر، أنَّ تكثُّر الحقائق بحسب إرادة كلِّ فرد، إنَّما يُعطِّل قيام معرفة مشتركة وموضوعية بالعالم، كما يعطِّل التواصل بشأنه، والنتيجة أن يتيه كلُّ فرد في «عتمات قلبه الخاص» كما يقول توكفيل، لا سيَّما بعد أن فقد كلَّ السندات الهوويَّة الحاضنة.

لكنَّ التداعيات الخطيرة لا تقف عند حدود العطالة المعرفية والتواصلية والتيه الفردي في عالم أصبح «مرعباً» من شدَّة انفتاحه على اللا-متناهي كما وصفه باسكال منذ القرن السابع عشر، بل نراها تمتدُّ إلى سيكولوجيا الأفراد «الأحرار»، هؤلاء الذين تُحوُّلهم «الحرية السلبية» (إسحق برلين) إلى مجرد «زبائن» للدولة ومؤسساتها (هابرماس)، يدفعون الضرائب ويُدْعَون إلى الاقتراع، وفي المقابل يحصلون على بعض المغانم، ويتعاطون مع الكلِّ تعاطياً أداتياً ونفعياً صرفاً. وإذ يكتفون بهذه الأدوار يكون في وسع الحكومات أن تنفرد بمراكز السلطة والقرار وتضعها تحت تصرف النخب التكنوقراطية المعزولة عن مشاغل الشعب. وتزداد الهوَّة اتساعاً عندما يصاب المواطنون بخيبة أمل في سياسيِّيهم وقادتهم، فينسحبون أفراداً وجماعات من الشأن العام إلى الأفضية الخاصَّة، حيث ينغمسون في إشباع الرغبات الاستهلاكية والأيروسية (ماركيوز). ومن شأن مثل هذا الوضع أن يُفقد الدولة والوطن ولاءات المواطنين، فيضمُر الإحساس بالوطنية والانتماء، ويُستعاض عن المواطنين بالمرتزقة حين يتعلق الأمر بالدفاع عن مناعة الوطن ضدَّ الأعداء (تايلور، ماك أنتاير)، وهو، لعمري، أخطر ما تؤول إليه «ديمقراطيات النخب» الحاكمة.

- نزوع التعدديَّة إلى الواحديَّة والنمذجة

بقدر ما تكون فكرة التعدُّد والتعدديَّة جذابة على المستوى النظري، وعلامة من علامات التحرُّر الاجتماعي والسياسي والثقافي، بقدر ما تكون على صعيد التطبيق غير قابلة للسيطرة والإخضاع. فالتشريعات القانونية والمناهج العلمية والعلوم السياسية وعلوم الإحصاء وغيرها إنَّما تشتغل بطريقة النمذجة العلمية والصورية للوقائع، وتقوم هذه الإجرائية على اختزال الكثرة الظواهرية في نموذج أو نماذج اختصارية وتقريبية من شأنها أن تختزل «السيلان الأبدي» للظواهر في بعض المعادلات الرياضية البسيطة (وهو ما أنجزه على سبيل المثال نيوتن في مجال الفيزياء الرياضية حين وحَّد قوانين الأرض والسماء، أو ريمان ولوباتشفسكي في مجال الهندسة الخيالية، ... إلخ). ظلت الكثرة والتعدُّد منذ الخصومة السفسطائية-الأفلاطونية مقضَّة للمعرفة وغير قابلة للتواصل، وتحتاج إلى ترويض واستنباط عقليين. فكانت حيلة اختراع الكُليَّات مع أرسطو مخرجاً ومدخلاً في الوقت نفسه إلى الاختزال الذي سيمنح العقل الاستنباطي سلطة غير محدودة على الوقائع. هذه السلطة سيترجمها كانط في القرن الثامن عشر في مجاز القاضي والتلميذ؛ فالأوَّل هو الذات الحديثة المتحررة لتوِّها، والتي باتت في موقع «القاضي» الذي يطرح السؤال على الطبيعة ويرغمها على الإجابة عن أسئلته، والثاني الطبيعة وقد باتت في منزلة «التلميذ» الذي يستجيب لإرادة المعلم، فيتقبَّل منه المعرفة تقبُّلاً سلبياً.[12]

- مغالطات التجانس السياسي والطبقي

على الرغم من المغانم التي حقَّقها منهج الاختزال والتوحيد في مجال العلوم الرياضية والتجريبية، إلا أنَّه لم يكن مجدياً حيال تنوُّع الظواهر الإنسانية واختلافها المذهل.

انتهت رهانات التوحيد التعسُّفي في تطبيقاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية إلى الدخول في تناقض داخلي مع الرهانات التعدُّديَّة كما بشَّرت بها البرجوازية الصاعدة في بداياتها. إذ كيف يمكن التوفيق من جهة بين مطلب «الخضوع المتدبّر» والعقلاني لسلطة قوانين ومؤسسات صورية تزعم التعاطي مع رعاياها بمطلق المساواة التي يضمنها الدستور، ومن جهة أخرى تَحمُّل أعباء التفاوت الطبقي؛ أي اللامساواة الاقتصادية وقبولها باعتبارها «قدراً كتب تحت ستار جهلنا به» وفي غفلة منَّا (وفق نظرية ستار الجهل الرولزية)، أي قبل أن نوجد في هذا العالم؟ بعبارة أخرى: كيف تتلازم المساواة السياسية واللامساواة الاقتصادية؟ أيّ دستور بإمكانه أن يبرِّر المساواة واللا مساواة معاً؟

لا يُحَلُّ هذا التناقض إلا إذا أزحنا وَهْمَ «المساواة السياسية» التي تزعمها الليبرالية لتخفي من ورائها تفاوتات اقتصادية وطبقية مذهلة. وفي هذه الحالة، علينا أن نقبل أنَّ دستور الدولة الليبرالية ومؤسساتها لا يمثل كلَّ فئات المجتمع، بل نخبه.

إنَّ مضامين هذا الدستور الذي يدَّعي ضمان «المساواة» إنَّما يعكس بالأساس مصالح النخب المالية والتكنوقراطية والسياسية التي صنعته على قياسها. ولنفترض وجود هذا الدستور المزعوم، لسائل أن يسأل متى اتفقت الجماعات الكبرى والموسعة (لا أقصد الجماعات أو الأحزاب السياسية الضيقة التي تزعم بدورها أنَّها تمثل المجتمع ككل) على صياغة دستور يستجيب بالفعل لتنوع كياناتها وتقاليدها، ولا يرغمها على الخضوع القسري لسلطة الأغلبية المزعومة؟ هل يكون هذا الاتفاق افتراضياً فحسب على شاكلة العقد الاجتماعي المتخيَّل؟ أليست الافتراضات شكلاً من أشكال التبرير الإيديولوجي، ولا سيَّما عندما يتعلق الأمر بالخيارات السياسية؟ وإلى أيِّ مدى يصحُّ أن نُرسِّخ قواعد اللعبة الديمقراطية على خلفية بعض الافتراضات الخيالية من قبيل «العقد الاجتماعي» و«الوضعية البدئية» و«ستار الجهل»؟

إنَّ التعدُّدية التي تُشرِّع لها الأنظمة الديمقراطية تبدو غير ممكنة عملياً لانخرام التوازن الاقتصادي بين الأفراد والجماعات، إذ كيف يمكن أن تنجح التعدُّديَّة الديمقراطية في إطار من التفاوتات الاقتصادية الصارخة؟ وهل بإمكان الجائعين والعراة والمهمّشين أن ينخرطوا في لعبة التعدُّديَّة الليبراليَّة؟ ألمْ يعد العمل السياسي وقفاً على تقنيي المال والسياسة؟

يبدو إذن أنَّ التعدُّديَّة الليبرالية العاجزة بنيوياً عن محو الفوارق الاقتصادية بشكل جذري، إنَّما تمارس تعدُّديَّة ألوانها، وتصنع من تناقضاتها الداخلية تنوُّعاً، توهمنا بأنَّه تناقض واختلاف، في حين تعمل باسم حق «الاختلاف» نفسه على طمس التعدُّديَّات الحقيقية التي من شأنها ليس فقط أن تفتح آفاقنا على الزخم التكويني المترسِّب في أعماق الجماعات المكوِّنة للنسيج الاجتماعي، بل أيضاً تُحرِّر العملية الإنتاجية والاستهلاكية من هشاشتهما وتمنحهما آفاقاً أرحب.

من الواضح أنَّ الفتح العلمي الذي جسَّدته حركة التوحيد الكبرى لمختلف فروع العلوم المتنافرة فيما مضى، ولا سيَّما العلوم الرياضية والتجريبية، والذي نتج عنه توحيد المادة الأرضية بالمادة السماوية، وتجاوز نظرية الانشطار الأرسطي إلى عالمين متفاضلين بالقيمة وبالماهية، قد غيَّر جذرياً رؤية الإنسان الحديث لنفسه وللكون. فالثنائيات المتفاضلة والجامدة في سلالم قيمية وأنطولوجية ثابتة رُدَّت بفضل بعض المهارات الاختزالية المنطقية إلى العلم ليقولها بلغته الرمزية في بعض السلاسل الرياضية، واقتحمت بالتالي مجال البداهة والوضوح الذهنيين. استهدفت هذه الحركة التوحيدية والاختزالية للبنية التكوينية للكون تحييد الطبيعة عن مشاعر الإنسان وصفاته (نقد النزعة الأنثروبومورفية)، وبالتالي تبرير سلطانه المرتقب عليها، لكونها لم تعد مستودع أسراره ومشاعره، بل مجرَّد مادة ممتدَّة، عاطلة ودون أعماق، أي أصبحت موضوعاً للاستثمار والتأليه وحسب.

سيترتَّب عن رهانَي التوحيد والتحييد الطبيعيين هذا توحيدات وتحييدات أخرى في المستويات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية: فالتوحيد في المستوى الأول عبَّر عنه بالدعوة إلى تجاوز جميع أشكال الولاءات ما قبل المدنية، والدخول في منظومة المواطنة التي تتوحَّد تحت رايتها العلاقات الدموية والعرقية والدينية. وهنا سيضطلع التوحيد بدور التحييد، بمعنى أنَّ العلاقات الدموية لن تتدخل من هنا فصاعداً في فضاء المواطنة.

أمَّا في المستوى الثاني، فالتوحيد يتمثل في الدعوات الليبرالية إلى التخلي عن «حرب المعاني» وصراع الإيديولوجيات لفسح المجال لإيديولوجيا أحادية من شأنها أن تقود المجتمع إلى التجانس «المعاشي» والأخلاقي الذي «ستقفل» به الليبرالية الغربية والأمريكية التاريخ حسب زعم فرانسيس فوكوياما.[13]

أمَّا التحييد، فقد تحقق بالفعل على أرض الواقع من خلال نظرية «حيادية الدولة» عن التدخل في الاختيارات الفردية لنمط الحياة الجيدة. يتمثل التوحيد والتحييد في المستوى الاقتصادي أخيراً في المركزة العالية والقطبية والتكتل التي شهدتها حركيَّة الأموال والأرباح والمصالح. إنَّ نتيجة ردِّ كُلِّ العقول والمعقولات إلى العقل الحسابي وإلغاء ما عداه، هو مركزة المال والنفوذ بيد النخبة المالية والتكنوقراطية.

تعمل هذه النخب على صبغ ألوان المجتمع الذي تديره بلونها الأحادي الذي تلخِّصه ثنائية الإنتاج والاستهلاك، كما لا تفتأ في التبشير بأنَّ عهد السعادة الجماعية والرفاهية الدائمة قد حلَّ بحلول قيم مجتمع العمل والاستهلاك. في هذا المستوى حقق العقل الذاتوي تفرُّده بتعميم الاقتصادي – كنشاط - على جميع الطبقات ووقف السياسي ـ كنشاط - على النخب التقنية والقانونية. ومن ثمَّة إلغاء التراتب القديم بين حياة العمل وحياة الدير والتأمُّل.

تجانست الطبقات الاجتماعية في الحياة الاقتصادية، ولم تتجانس في مستوى الحياة السياسية، بل ظلَّ احتكار آليات الحكم ومركزة دواليبه في الأنظمة الديمقراطية كما في الأنظمة الاستبدادية واقعة لم تتغير إلا أشكالها. وقد أطلق علماء الاجتماع السياسي على هذه الظاهرة اصطلاح «المثلنة» الاستهلاكية. ويعني هذا أنَّ أسباب الرفاهية المادية لم تعد حكراً على الطبقات الأرستقراطية البائدة، بل أضحت إمكانات متوفرة للجميع دون تمييز طبقي أو عرقي أو ديني أو عنصري، شريطة أن يعمل كلُّ واحد، وأن يسعى بمفرده ويبتكر الحلول التي تمكنه من استجلاب هذه الرفاهية.

يبدو إذن، أنَّ الشكل «الكتلوي» (Massive) للتعايش الاجتماعي في ظاهره عنوان الوحدة والتماسك الاجتماعيين بامتياز. لكنَّ الغريب أنَّ شكل الرفاهية الكتلوي هذا يخفي في مضامينه الواقعية نزعة فردانية موغلة في فردانيتها: كيف نُفسِّر هذه المفارقة؟

تضرب هذه المفارقة بجذورها في عمق الفلسفة الليبرالية، وبالتحديد في تمثلها لصورة الفرد ولمختلف ارتباطاته بالجسم الاجتماعي والتاريخي والسياسي. لا تكمن هذه المفارقة البنيوية كما يذهب إلى ذلك التحليل الماركسي في التناقض المميت بين الطابع الفردي للملكية والطابع الاجتماعي للإنتاج ـ وإن كان هذا العامل حاسماً في مستوى التشخيص الاقتصادي، بل وبشكل أكثر عمومية في نكران التعدُّديَّة الطبيعية - التكوينية للحياة، والتعاطي معها بشكل انتقائي ونفعي وفردي.

تعاني الفلسفة الليبرالية من أزمة بنيوية عميقة، تتصل ليس فقط بالجوانب الاقتصادية والسياسية، بل تضرب بجذورها في الاختيارات الأنطولوجية. لكن ألسنا هنا على شفير تناقض غير مستساغ بين «الليبرالية» «والأنطولوجيا»؟ أليست الليبرالية تمرُّداً على كُلِّ الأنطولوجيات الجاهزة، تلك التي تُفرض على المجتمعات بوصفها رؤية ثابتة وفي بعض الأحيان مقدَّسة للعالم؟ بلى، قد يكون هذا التسويغ في عدم شرعية الوصل بين هاتين الرؤيتين للعالم وجيهاً من منظور وضعي صرف، لكنَّه قد يحظى بمعقولية معينة حين نعلم أنَّ الليبرالية تستبطن بوعي أو بغير وعي تصوراً أنطولوجياً وضعياً بمعنى غير متعالٍ وغير ملزم للإنسان الوضعي. لكنَّ مفكريها يخشون الخوض مجدداً في هذه الأرضية، ويفضلون «تعليق الحكم» حول هذا المبحث الموغل في الميتافيزيقا.

وعليه ندرك أنَّ الروح الوضعية هي التي تتحكم في مناهج البحث الليبرالي، وهي التي تُحدِّد مجالات الاهتمام في علاقاتها بما هو قابل للتقوُّل والتعبير والتكميم. وبما أنَّ مباحث الأنطولوجيا والميتافيزيقا أضحت موضوعات كيفية ومتعالية ومحلَّ خلاف دائم، فهي لن تجد لها موطأ قدم في الصرح الفكري الليبرالي.

لهذا، لا يجد جون رولز حرجاً في الاشتغال على مصادرات جاهزة من قبيل «ستار الجهل» (Voile d`ignorance) و«الوضعية البدئية» (Position originelle) و«العقد الاجتماعي»[14]، من أجل تسويغ وضعيات التفاوت التي رُسمت لنا في العالم «اللامرئي».

- طغيان النزعة «الصوريّة»

تولي «النزعة الصوريّة» المطبَّقة، سواء في مجال المعرفة أو الإتيقا أو فقه القضاء كلَّ الأهميَّة للقواعد العامَّة وللمعايير وللقوانين التي بإمكانها أن تمتصَّ أكثر ما يمكن من الحالات القابلة لأن تكون تحت طائلة هذه القاعدة أو ذلك القانون أو ذلك المعيار. وتبعاً لذلك، لا تهتمُّ بمضمون كلِّ حالة على حدة؛ لأنَّها تقوم على الكُليَّة والشمولية.

تطمس هذه الطريقة الاستدلالية القائمة على العمومية والتجريد التنوُّع والتعدُّد وتنتصر للشكلانية دون المضمون. تنتهي النزعة المفرطة في «النزعة الصورية» إلى تكريس المثلنة، ولا سيَّما في المجال الإتيقي والاقتصادي والسياسي.

«النزعة الصورية» (Procéduralisme)[15] بالتعريف هي طريقة استدلال عقلية صرف، أسَّسها ديكارت، تقوم أساساً على العناية بطريقة التفكير وشكله بقطع النظر عن مضامينه.

يُعتبر البراديغم التشريعي الأخلاقي الكانطي المثال الذي استوحت منه الليبرالية المعاصرة، ولاسيَّما هابرماس ورولز طرائقهما الصوريَّة. لقد مثلت القواعد الشرطية والكُليَّة الحلَّ الأمثل لحرب المعاني التي كانت تغذيها أخلاقيات السعادة المتناحرة، حيث لم تعد مهمَّة المشرِّع تحديد نمط أخلاقي جماعي ملزم للسعادة كما كان يفعل من قبل، بل اقتصر دوره على وضع تشريعات وقواعد عامَّة تتعالى على الزمان والمكان وعلى الميولات الفردية الظرفية. باتت الأخلاق المعاصرة دليلاً غير ملزم للعمل. وبقدر ما اقتربت من النمط التشريعي الحقوقي وعاضدته، بقدر ما تناءت عن أسلوب التشريع الديني والفلسفي الموسوم بالنسقية والإلزامية، والذي منه استقت الأنظمة الأوتوقراطية والكليانية إيديولوجياتها الهيمنية.

من الواضح أنَّ الطريقة التي تعمل وفقها النزعة الصوريَّة السياسية والإتيقية بمنحها الإجراء سلطة القانون الكلي الذي تخضع تحت طائلته كلُّ الجزئيات وفي كلِّ الأوضاع، هي ذاتها الطريقة المتوخاة في مختلف العقلانيات التجريبية والرياضية. وتُعرف هذه الطريقة بـ«الأكسمة»، وهي تفيد هنا منح بعض البديهيات والمصادرات الرياضية المتفق عليها دون حجاج سلطة منهجية على مختلف مراحل التمشي الحجاجي. يكشف هذا كما بيَّنا سابقاً أنَّ العلوم السياسية والإتيقية لم تفلت بدورها من تأثيرات العلوم الطبيعية، ولا سيَّما في مستوى الإجرائيات الإبستمولوجية. وكما نلاحظ، فإنَّ الإجرائيات الإبستمولوجية المتوخاة في العلوم الطبيعية وأعني بها: التعميميَّة والاختزاليَّة والنزعة الصوريَّة والأكسيوميَّة، هي بذاتها المطبَّقة على العلوم السياسيَّة، وخاصة الأنغلوسكسونيَّة (حالة الولايات المتحدة وكندا)، حيث تهيمن المدارس الوظيفية والسلوكية والإحصائية والتحليلية على مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية.

من أبرز تداعيات هذه الهيمنة هو التفكك الذي تعاني منه النظرية الليبرالية بين الشكل والمضمون. وهو تفكك يمنح بموجبه الشكل أي الإجراء مطلق النفوذ على المضمون. وحيث إنَّ المضمون المتنازع عليه لا يخرج عن إطار ما هو إتيقي وسياسي، فقد بات تحييد هذين المبحثين، بل وفصلهما عن بعضهما بعضاً، من مستلزمات الطريقة الصوريَّة. ويفهم من هذا أنَّ الرِّهان الليبرالي بات منصبَّاً على إفراغ السياسي والإتيقي من دلالتهما التحريضية والثورية بحجة وضع حدٍّ «لحرب الآلهة». وقد طُبِّق هذا الرهان على مرحلتين: تعلقت همَّة الأولى بفصل الإتيقي عن السياسي، وتعلقت الثانية بفك رباط السياسي عن الاقتصادي وما أعقبه من تحرُّر مطلق لقوانين السوق وهيمنة قيم الإنتاج والاستهلاك، وما ترتَّب عنه من تراجع السياسي وأفول المجال العمومي للمناقشة.

لم تترك إمبريالية الاقتصادي على الحياة العامَّة والخاصَّة أيَّ مجال للإتيقي والسياسي. لذلك، انسحب الأول إلى داخلية كل قلب على حدة. ونطلق على هذا الانسحاب «التذييت الإتيقي». أمَّا مصير السياسي، فهو ليس أفضل حالاً؛ لأنَّه سقط بأيدي النخب التكنوقراطية، فتحوَّلت القرارات السياسية بموجب ذلك إلى تشريعات فوقية لا تفتأ في تعزيز الحرية الفوضوية لقوانين السوق الرأسمالية. وكأنِّي بالسياسي (الرجل) لم يعد له من دور سوى أن يكون الخادم الوفي لسيِّده وولي نعمته الاقتصادي (أي من يمتلك المال)، ونطلق على هذا السقوط «التقننة» السياسية.

الخاتمـة

منذ قيامها ما تزال الليبرالية الكلاسيكية والجديدة تعاني من تناقضات بنيوية لا يمكنها الخلاص منها سوى بإلغاء ذاتها وإعلان موتها الطوعي. ولكنْ أيُّ بديل مجتمعي قادر على إدارة التنوع والاختلاف اللامتناهي لشعوب الأرض؟ هل البراديغم الليبرالي قَدَرٌ لا يمكننا الخلاص منه، بل فقط تعديله وتجديده في أقصى الحالات حتى يتلاءم مع صيرورات الحركة العالمية؟ هل يمكننا أن نصدِّق أنَّ تاريخ الإنسانية سيقُفل مع التشكيلة الليبرالية الراهنة مثلما زعم هيغل ثم فوكوياما؟

لا شكَّ أنَّ الإنسانية قادرة على تجاوز هذا العقم النظري والسياسي والاقتصادي الذي تردَّت فيه بفعل الانبعاثات المتكررة للنظام الرأسمالي من رماده، وفي المقابل «موت» منافسيه وأفول وعودهم في تحقيق مجتمع اشتراكي ثم شيوعي أكثر عدلاً وإنسانية.

لقد نجحت الرأسمالية بكلِّ مراحلها في الوصول بالبشرية إلى لحظة اكتمالها، وبدأت في إنهاء ذاتها بذاتها، بعد أن تفرَّدت منذ بداية تسعينيات القرن الماضي بإدارة العالم تحت مُسمَّى «العولمة» أو «النظام العالمي الجديد». لكنَّ هذا لن يكون انبعاثاً لطائر الفنيق من رماده، بل هو استكمال الوجود والخروج من التاريخ إلى متحف العاديات، وعلى عكس ما يُروِّج له دعاة الليبرالية الجديدة أو العولمة، لن ينتهي تاريخ الإنسانية عند هذه العتبة؛ لأنَّ الإنسانية المتضامنة هي التي ستنُهي هذا النظام الجائر بالعبور إلى براديغم تعاوني وتضامني أكثر إنصافاً بين شعوب الأرض المضطهدة.

[1] . Hannah Arendt, La vie d`esprit: la pensée, PUF, Paris, 1981, p.34

[2] . Jean-Luc Nancy, Être singulier pluriel, Paris, Galilée, 1995, p.48- 51

[3] . P.Bo, "Pluralisme", in Dictionnaire constitutionnelle, PUF, 1992, pp. 756-759.

[4] . Genevieve Nootens, "Multiculturalsime et tolérance: penser le pluralisme culturel", in Paul Dumouchel et Bjarne Melkevik, Tolérance, Pluralisme et Histoire, Harmattan, 1998, p.153

[5] . Montesquieu, De l’esprit des lois, vol 1, Garnier-Flamarion, 1979, p.294 et 293

[6] . John Rawls, "Les libertés de base et leur priorité", in André Berten, Pablo Da Silveira et Hervé Pourtois, Libéraux et communautariens, Paris, PUF1997, p. 185

[7] . Rawls ,"La structure de base comme objet", in Justice et démocratie, Trad.fr. Catherine Audard, Paris, Seuil 1993, p.37- 38

[8] . Rawls, "La structure de base comme objet", in Justice et démocratie, op.cit., p. 52

[9] . Rawls, Théorie de Justice, tr, Catherine Audard, Paris, Seuil, 1987, p.560

[10] . Aristote, Politique, 1253 à 18.

[11] . Charles Taylor, Malaise de la modernité, Edition du Cerf, Paris1994, p. 46

[12] ـ يقول كانط: « ينبغي أن يتقدَّم العقل إلى الطبيعة، ماسكاً بيد مبادئه التي تستطيع هي وحدها أن تمنح الظواهر المتطابقة سلطة القوانين، وباليد الأخرى التجريب الذي تخيله وفق تلك المبادئ، حتى يتعلم من الطبيعة لا محالة، لكن لا كتلميذ يدع المعلم يقول كلَّ ما يحلو له قوله، بل على العكس من ذلك كالقاضي يجلس للقضاء، فيحمل الشهود على الإجابة عمَّا يُطرح عليهم من الأسئلة».

Kant, Critique de la Raison Pure, Paris, PUF, 1968, pp.17- 78

[13] . Fukuyama, Francis, La fin de l'histoire et le dernier homme, Flammarion, Paris, 1992

[14] - John Rawls, "La structure de base comme objet", in Justice et démocratie, o.cit. p. 55 et J. 18. Rawls, Théorie de la justice, Trad.fr. Catherine Audard, Paris, Seuil, 1987, p. 38

[15] . Charles Taylor, Les Sources du moi, la formation de l›identité moderne, par Charlotte Melançon, Paris, Seuil1998. p.121