مفهوم الجهاد في مخاض ثنائية الديني والسياسي


فئة :  قراءات في كتب

مفهوم الجهاد في مخاض ثنائية الديني والسياسي

مفهوم الجهاد في مخاض ثنائية الديني والسياسي([1])

قراءة في كتاب "الجهاد في سبيل الله"

لـ: "أبي الأعلى المودودي" و"حسن البنا" و"سيد قطب"


تقديم

تستمد الكتابة في مسألة الجهاد أهميتها اليوم من عدة عوامل، نوجزها كالتالي:

أولاً: تنامي الحديث عن مشروعية الجهاد في ظلّ انتشار الحركات الإرهابية في العالم، وقد استندت في مشروعية وجودها ومقولاتها أساساً على ذلك الارتباط بين الإسلام والدعوة إلى الجهاد حدّ التماهي.

ثانياً: أنّ مفهوم الجهاد على انتمائه المتأصل إلى المجال الديني لم يبتعد عن التوظيف في خطابات متعددة في خلفياتها وتلويناتها الإيديولوجية والثقافية إلى حدّ الإرباك المعرفي والأخلاقي أحياناً، خاصة أمام سؤال مشروعية مقولة الجهاد في الخطابات الأكثر علمانية ودعوة للتحرر الوطني والانتصار للقضايا العادلة...إلخ. فالجهاد كما استندت إليه الحركات الإسلامية الأكثر إرهاباً ودموية استندت إليه وما تزال أهم التيارات والحركات التي تنتصر للقضية الفلسطينية وكلّ الحروب التاريخية ضدّ إسرائيل. بل إنه سبق ووُظّف من قبل نظام صدام حسين في حرب الخليج الثانية. ولا ننسى كم لعبت مقولات الجهاد والشهيد من دور في مقاومة الاستعمار وحركات التحرر الوطني في العالم العربي.

لكنني أرى وجود عامل ثالث على غاية من الأهمية لا بدّ من أخذه بعين الاعتبار، وهو أنّ القرآن لم يحسم موقفه من مسألة القتال، إلى حدّ أنّ من رأوا فيه الدعوة إلى ذلك جعلوا من آيات السلم منسوخة بالآيات الداعية للقتال. وأكتفي في هذا السياق بالإشارة إلى أنّ لفظ الجهاد في القرآن ذكر باشتقاقات مختلفة (41) مرّة في سور مختلفة، وجاء في غالبه إمّا مرتبطاً بالمعنى اللغوي: بذل الجهد والطاقة (في 10 مواقع)، أو في ارتباط بسبيل الله (13) مرّة، أو في سياق القتال.

والجهاد وإن أعطى خصوصية وشرعية ما للقتال في الإسلام، فإنه يظل أقلّ ذكراً مقارنة به. إذ تعرّض القرآن للفظ القتال (178) مرّة، وذلك باشتقاقات وسياقات مختلفة، تنهى عنه أحياناً، وتحفز عليه أحياناً، وتكتفي بالتعرّض له أحياناً أخرى، مثل التعرّض له في القصص القرآني. وهذه الكثافة كمّاً ونوعاً قد نفهم منها تجذّر عقلية وواقع القتال في واقع تلك المجتمعات. وربما تحمل هذه الكثرة أيضاً خلفية ما لإعادة تنظيمه تنظيماً يخرج عن السائد لكن لا يقطع معه، خصوصاً إذا نحن اعتبرنا بالمقابل رمزية وجود مفردة السلم باشتقاقاتها المختلفة (140) مرّة في مواضع مختلفة من القرآن.

والعامل الرابع هو أنّ الجهاد منذ أحداث الفتنة الكبرى حضر في الحروب التي خاضها المسلمون مع أعداء الخارج والداخل، في "الفتوحات" كما في "إخماد الفتن". فكان التوظيف السياسي ملتبساً بالديني إلى أقصى حد في قلب كلّ المعارك الدموية التي خاضها المسلمون هجوماً أو دفاعاً. ولعل ما نعيشه اليوم في ظلّ عودة ما يُسمّى بتنظيم الدولة الإسلامية بعد أحداث الربيع العربي وصعود نجم الإسلام السياسي يعطي أهمية كبيرة لهذا الكتاب([2]) الذي قرّرنا تقديمه. إذ يمثّل من حيث كتّابه ومسألته مرجعية هامة مازالت الحركات الجهادية في علاقة وطيدة معه.

كتاب الجهاد في سبيل الله عبارة عن ثلاث رسائل صغيرة الحجم لثلاثة كتّاب، أول ما يجمعهم أثرهم الفكري والسياسي التنظيمي في حركات الإسلام السياسي في التاريخ المعاصر في العالم الإسلامي. وسنعرض في هذا المقال لقراءة للكتاب حافظنا فيها على ترتيب هذه الرسائل.

كتاب الجهاد في سبيل الله عبارة عن ثلاث رسائل لـثلاثة كتّاب مختلفين هم على التوالي: "أبو الأعلى المودودي، وحسن البنا، وسيد قطب".

وهو كتيّب من الحجم الصغير، يحتوي على 152 صفحة.

لم يحتو الكتاب على مقدمة، كما لم ينص عن مصدر أو جهة تجميع الرسائل الثلاث. طبع أكثر من مرّة في دور نشر مختلفة. من طبعاته ما نُشر سنة 1991 في دار عمان للنشر والتوزيع.

مفهوم الجهاد عند أبي الأعلى المودودي: من تنقية المفهوم نحو استعادة الشرعية:

لم تخصّص صفحة مستقلة لعنوان الرسالة مثلما سيحصل للرسالتين التاليتين، رغم ورود اسم الكاتب: أبي الأعلى "المودودي" في الصفحة الأولى للكتاب مع بقية المؤلفين. قد لا نجد تفسيراً لذلك غير السهو أو اعتبارها رسالة تأطيرية للرسالتين السابقتين تعطي للرجل قيمته الفكرية والتاريخية باعتباره مرجعاً هامّاً في أدبيات الإسلام السياسي وحركات الإخوان المسلمين.

يعرض "المودودي" منذ المقدمة سبب إقباله على التأليف في مسألة الجهاد. ويعود ذلك أولاً إلى ما لحق المفهوم من مغالطة وتشويه وتمويه عند الإفرنج، وثانياً إلى استيراد هذا المفهوم الخاطئ والتفاعل معه من قبل المسلمين. بمعنى أنّ الهدف من هذه الرسالة هو العمل على تنقية المفهوم ممّا ناله من مغالطة وتشويه، "وقد كانت كلمة الجهاد عندهم عبارة عن شراسة الطبع والخلق والهمجية وسفك الدماء"([3])، بكل نتائجها، وأهمّها حمل الناس بالسيف على الاختيار بين حياتهم أو النطق بالشهادتين. وهي صورة يسوّقها الغرب عن المسلمين للتشريع لكلّ ما ارتكبوه من جرائم في حركات الاستعمار. وسيتخذ "المودودي" من الربط بين الجهاد وشرعية الاحتلال عند الإفرنج مدخلاً يشرّع به وبشكل معكوس للجهاد من جديد. خصوصاً إذا ما بدا لنا الفرق بعيداً بين الاستعمار كما مارسه الإفرنج، والجهاد كما دعا إليه الإسلام ومارسه المسلمون([4]).

لا يقتصر الكاتب على منح الجهاد شرعيته التاريخية كما مارسها الأوائل، بل أيضاً شرعيته الواقعية التي لا توحي بالفصل بين الإسلام: الرسالة والدعوة، والإسلام: التاريخ والممارسة. فقد نجح الغرب في أن يسوّق لنا ذاك الشعور بالدونية والنقص وحملنا على الخجل والاعتذار، وكون الجهاد هو المظهر الأوفى لذلك، فالجهاد في قلب مشكلة الهويّة بالنسبة إلى "المودودي": "فما الجهاد اليوم إلا مواصلة الجهود باللسان والقلم، وليس لنا إلا أن نلعب بمرهفات الألسنة وأسنّة الأقلام. أمّا المدافع والدبابات والرشاشات وغيرها من آلات الحرب واستخدامها فأنتم أحق بها وأهلها([5]). هذا المفهوم هو ما سيعمل الكاتب على دحضه طيلة الكتاب لصالح مفهوم آخر سيعمل على تثبيت شرعيته.

رغم أنّ ما ذهب إليه الإفرنج في التسويق لمفهوم الجهاد كما مارسه المسلمون باعتباره من باب مكايدهم السياسية، فإنّ "المودودي" في تقييمه "العلمي" - والعبارة له - للمفهوم يرجع خطأهم إلى سببين:

الأول إلى اعتبارهم الإسلام نحلة، والثاني إلى اعتبارهم المسلمين أمّة. ويبدو أنّ وجه اعتراض "المودودي" على المفردتين هو مساواة الإسلام بباقي الأديان والمسلمين بباقي الأمم([6]). لذلك فالإسلام ليس مسألة شخصية لا علاقة له بالسيف والقتال. إذن القول إنّ الإسلام مسألة عامة هو شرط أساسي يجعله في علاقة بالسيف والقتال وبالتالي في ارتباط بمسألة الجهاد كما يراها "المودودي". وكذلك فالمسلمون ليسوا طائفة لا تلجأ للجهاد إلا دفاعاً أو اعتداء. هاتان النقطتان هما ما سيبني عليهما "المودودي" مفهومه للجهاد، أو ما أسماه: حقيقة الجهاد دفعاً لكلّ مفهوم مغلوط آخر. يرتبط مفهوم الجهاد عند "المودودي" بحقيقة الدين أو الإسلام نفسه. إذ هو"فكرة انقلابية ومنهاج انقلابي يريد أن يهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره ويأتي بنيانه من القواعد، ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكرته ومنهاجه العملي"([7]). هذا المفهوم هو الذي سيؤسّس لوظيفة الجهاد ويشرّع له باعتباره ذلك "الكفاح الانقلابي عن تلك الحركة الدائبة المستمرة التي يقام بها للوصول إلى هذه الغاية وإدراك هذا المبتغى"([8]). بل إنّ الجهاد هو ميزة الإسلام التي تجعله مختلفاً عن كلّ الديانات، كما يختلف بها عن أي نوع من القتال أو سائر الحروب الأخرى.

إنّ التأكيد بهذا الشكل على الترابط بين الدين والجهاد يعطيه بُعداً سياسياً باعتباره سلطة بالأساس، لا يمكن أن نتصوره خارجه. ويستنجد الكاتب بمعجمية سياسية تحيل على الحاضر أكثر من الماضي رغم ما أشعرنا به دائماً من احتراز. فيرى أنّ "كلّ حكومة مؤسسة على فكرة غير هذه الفكرة ومنهاج غير هذا المنهاج يقاومها الإسلام ويريد أن يقضي عليها قضاء مبرماً"([9]). وهي فكرة لا يحدّها مكان ولا زمان. وكلّ رافض للجهاد هو رافض للدين، ولا بدّ من مقاومته بالجهاد. هكذا يتداخل الدين بالجهاد تداخلاً كبيراً، يستمد شرعيته منه.

إنّ الدين كما يراه "المودودي" لا يمكن أن يحقق أهدافه إلا بالجهاد. والجهاد فكرة جامعة تشمل كلّ أنواع المقاومة وتتسع لها بالقلم واللسان والسيف. وقد لا نفهم لماذا كلّ هذا التمسك من "المودودي" باستعمال "حدّ السيوف" إلا على نحو المزيد من الاستثارة وتحريك الأنفس للجهاد، كما ورد في النصوص الدينية الداعية إليه قرآناً وسنّة، في مقابل استعماله مثلاً لمفردة الحكومة بالمنطق السياسي. وهو تذبذب بين راهنية الواقع وسطوة شرعية الماضي، قد يصعب أن نستشف انسجاماً بينهما. ورغم أنّ "المودودي" يحرص على عدم إقصاء كلّ المعاني الحافة بالجهاد، إلا أنّ فكرة الانقلاب واستعمال السيف تبقى الأصل والجوهر، وهو ما سوف تتأسس عليه جملة من الاستعمالات والمترادفات المرتبطة بالجهاد.

1- في سبيل الله

ويماهي فيه "المودودي" بين الجهاد وغايته من أجل إعطائه أقصى ما يمكن من الشرعية. إذ يرى أنّ سبيل الله ينفي عنه إكراه الناس على عقيدة الإسلام وربطه بغاية تحقيق المصالح العامة وسعادة المجتمع، ويتحقق ذلك بـ"القضاء على النظم البالية والباطلة وتكوين نظام جديد حسب الفكرة الإسلامية. وإنّ "سبيل الله" ينفي عن الجهاد أيّ غرض أو هوى أو نزعة شخصية. وهي أسباب قامت عليها الأنظمة المخالفة للنظام "الإسلامي" أو الجماعة قبل أن تقوم عليها فكرة الجهاد. واحتاج "المودودي" من أجل تأصيل فكرة الجهاد وغايته معاً (سبيل الله) إلى الاستدلال بالقرآن. وهي آيات تربط الجهاد بغاية "سبيل الله". وإذا كان الكاتب لا يعترف ضمنياً بأسباب نزول تلك الآيات، فإنه عمل بالمقابل على توظيف السياق التاريخي الراهن ـ الجغرافي والسياسي ـ لجعل الآيات شهادة على كفر كلّ من يعتبر بالأغراض النفسية والطائفية والقومية. بل إنّ سبيل الله تحمل تمييزاً بين الإنسان والحيوان، بمعنى أنّ الجهاد يحقق إنسانية الإنسان التي لا يراها "المودودي" خارج الإسلام نظاماً انقلابياً بالأساس([10]). هذا المفهوم الانقلابي كان بالنسبة إلى "المودودي" حاجة أكيدة يتفرد هو بمعرفتها، إذ قلما يتفطن له الناس في هذا العصر([11]). تبقى مفردة "في سبيل الله" يشوبها الكثير من الغموض، يتداخل عندها المجاهد بالشهيد والقاتل بالمقتول، تماماً مثلما يتداخل القتال مع "في سبيل الله".

2- دعوة الإسلام الانقلابية

أقام "المودودي" مبررات الجهاد على الدعوة الانقلابية للإسلام. وتبدأ الدعوة الانقلابية عنده من الدعوة إلى التوحيد نفسها.

يجعل الكاتب الآية 21 من سورة البقرة([12]) منطلقاً للربط بين الإسلام والتوحيد. فتوجه الخطاب إلى الناس كافة كما جاء في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (21 من سورة البقرة) يؤدي إلى أنّ التوحيد اعتقاداً وممارسة بدأ مع الإسلام. والانتقال بالآية من التوحيد إلى الجهاد هو عمق المعركة التأويلية. والربط على هذا النحو بين التعبدي والسياسي سيحمل "المودودي" على الاستدلال له بآيات كثيرة، ربما تشرع للجهاد الداخلي والانقلاب على الحكام أكثر من أي شيء آخر.

ويستدلّ بآيات كثيرة يسقط عنها كلّ أسباب النزول للاستدلال بها مجردة في مقابل الإصرار على الربط بينها لتفيد مقصداً واحداً: الحاكم، مهما اختلفت المفردات وتنوعت: المسرف ـ من أغفل قلبه عن ذكر الله ـ الظالم – الرب - الملوك.... ([13]). وهي كلها جعلت من شرعية الجهاد تنبني أساساً على الانقلاب على الحاكم وإسقاطه. بمعنى أنّ "المودودي" اعتمد قطعاً مزدوجاً: قطع الآيات عن أسباب نزولها، وقطع الجهاد عن سياقه التاريخي، حتى يوجّهه كليّاً إلى الداخل النصي والمجتمعي في آن واحد.

الرسالة الثانية: الجهاد في سبيل الله لـ"حسن البنا"

يبدأ هذا القسم من الكتاب من الصفحة 59 حتى الصفحة 93. ويضم الرسالة الثانية في الجهاد لـ"حسن البنا". (1906- 1946)

يعلن الكاتب عن موقفه من مسألة الجهاد منذ الجمل الأولى للرسالة. وذلك عندما يقدّم الرسول وهو يصلي عليه باعتباره أفضل المجاهدين، ويربط بين الجهاد والشريعة ربطاً يمتدّ إلى يوم الدين. وهذا التأصيل التاريخي والديني الشرعي لمسألة الجهاد ستمثل مقدّمة مهمة لما سيبني عليه "حسن البنا" رؤيته للمسألة، وتقوم على جملة من النقاط:

1- الجهاد فريضة على كل مسلم

يعود الكاتب بالجهاد إلى القرآن باعتباره المصدر الأول للتشريع، ويبين أنّ هذه الفرضية هي شيء محسوم لا يقبل النقاش، ويعطي بعض الأمثلة لصور الجهاد في القرآن دون تعرض لهذه الآيات، ويبني موقف القرآن من الجهاد ودعوته إليه على ثنائية الترغيب والترهيب والثواب والعقاب.

يستدلّ "حسن البنا" على فصاحة ووضوح الدعوة إلى الجهاد بجملة من الآيات والأحاديث النبوية. ورغم أنه يعلن أنّ الآيات لا تحتاج في بيانها إلى شرح وتوضيح، فإنه يتعهد بهذا الشرح وتبيين المقصود. وبالتالي الجمع في الاستدلال بين رمزية النصوص علامة على الوضوح: المقياس الأوفى للاستدلال، واكتفاء النص بنفسه، دون اعتماد على النصوص المحايثة مثل علوم القرآن أو حتى الحديث أو تفسير الفقهاء. وبالتالي قطع النصوص عن أي مرجعية سوى سياق الكاتب ونظرته للمسألة، هكذا وجهاً لوجه مع النص نفسه قرآناً وسنّة. والنصوص كما أوردها الكاتب هي على سبيل التمثيل لا الحصر، بمعنى وجود نصوص كثيرة غيرها. و"الكم" يشهد طبعاً ويسند هذه الدعوة للجهاد بكل خصائصها. تماماً مثلما تشهد لها جزالة اللفظ وبيانه ووضوحه، ووضوح المعنى وقوة الروحانية([14]).

تحت عنوان: بعض آيات الجهاد في كتاب الله، يسرد الكاتب جملة من الآيات نكتفي أمامها بالتعليق التالي: يوحي العنوان بوجود آيات أخرى غير التي سيقع سردها، كما أنّ لفظة الجهاد في ورودها معرفة تحيل على عظمة المسألة. خصوصاً ولفظ الآية كما يحيل على الجملة القرآنية، يحيل أيضاً على الدليل الذي يستغرق المسألة.

لقد تمّ من خلال انتقاء الآيات التأكيد في معنى الجهاد على الخير والحكمة الإلهية والأمر الإلهي، ربما بهدف إعطاء المسألة طابع الحسم غير القابل للنقاش أو الشك، فهي مسألة منتهية بالنسبة إلى المسلم. ربما لهذا سيعتمد "حسن البنا" على القرآن نفسه لتفسير فعل كتب في الآية 216 من سورة البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال، فيستشهد بكتابة الصيام (سورة البقرة 183) للتأكيد على أنّ الجهاد فرض وعبادة. لكنّ هذا التقليد لم يعتمد في تفسير كلّ الآيات، بل نرى الكاتب يتدخل أحياناً ليعطي تفسيراً للمفردات لا للجمل دون الإحالة على مرجع بعينه. إذ يفسر مثلاً "إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ" من آية 156 من سورة آل عمران بـ"خرجوا فيها مجاهدين"، دون أن يعلل لنا وجاهة هذا الاختيار، ولو بالعودة إلى أسباب النزول أو التراث التفسيري. وهي جرأة أو مغامرة لا بدّ أن تقرأ في سياقها. ولا بدّ أن نلاحظ أنّ الاستناد على السياق الخارجي في التفسير يكاد لا يأخذ حظه مطلقاً مقارنة بالسياق الداخلي. فعندما يستدل الكاتب بالآيات المعروفة في الاستشهاد وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) من المقطع: (آل عمران 169-175)، يدعو إلى ضرورة الاحتكام إلى تمامها في المصحف من سورة النساء (71- 78) دون أن يخبرنا وفق أيّ مقياس اختار هذه الآيات لتكون تتمة للأولى. فالذين "قتلوا في سبيل الله" يتطابقون تماماً مع "فليقاتل في سبيل الله" في قوله: "فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا". ولا يجمع بين الآيتين سوى "سبيل الله"، وإلا ففرق بين فاعل القتل ومن وقع عليه الفعل. وعليه قد نتساءل عن الفرق بين المجاهد والشهيد. وهو فرق قد لا يعني كثيراً "حسن البنا".

يستند الكاتب إلى ارتباط الجهاد بسياقات من قبيل: توبيخ القاعدين واستثارة الهمم وربط القتال بالصلاة والصوم ووجود سور برمّتها تحث على القتال (الأنفال - التوبة - الفتح)، وبالتالي الاستفادة من العلاقات الداخلية القريبة والبعيدة للنصوص وقطعها عن سياقاتها الخارجية. وهذا يسقط الاعتبار بأنّ المعنيّ بالنص/المتلقي ليس هو نفسه في أزمنة مختلفة، وأنّ التعامل بهذا الشكل مع النص الديني لا يعني أنّ المفسر لم يتغير فعلاً، حتى وإن أراد أن يثبت غير ذلك ولو على سبيل الادّعاء.

ورغم توسعه في التعليق على الآيات، فإننا نرى الكاتب في "نماذج الأحاديث النبوية في الجهاد" يكتفي بسردها وشرح بعض المفردات بشكل مقتضب. في مقابل الحرص الشديد على ذكر مصدر إخراج الحديث، ويعتمد أساساً على البخاري ومسلم في إخراج كلّ الأحاديث الحاثة على القتال دون التعرض إلى الأحاديث الحاثة على السلم. فالمسألة تتعلق بصحة الحديث ودعمه للقرآن بعيداً عن المعاني والدلالات.

2- حكم الجهاد عند فقهاء الأمة([15])

يتحول الجهاد في هذا المستوى من الطرح من النص قرآناً وسنّة إلى حكم وشرع وفتوى. وبالتالي إلى قراءة فقهية للنصوص سبق ونبّه "حسن البنا" إلى وجوب الاكتفاء بظاهرها لوضوحها في تناول المسألة. فلماذا رأى الحاجة إلى البحث فيها من منطلق شرعي؟

إنّ الاعتماد على مرجعية ثالثة هي دون المرجعية الأولى والثانية، لكنها قارئة لها ومفسرة، ولن تكون خارج دعم الموقف المبدئي من الجهاد. وكلّ المرجعيات الفقهية التي يستشهد بها الكاتب لن تكون ذات علاقة بزمنه. وكأنّ الرجل يكتفي باتخاذ نفسه مرجعاً فقهياً في المسألة، أو ينفي عامل الاختلاف الزمني تماماً.

وقد عمد وهو يعرض لرأي الفقهاء أن ينوّع في المدارس الفقهية: المالكية والشافعية والأحناف والحنابلة. وهو تنويع يأتي ضمن التأكيد على الإجماع في الموقف من الجهاد([16]). والمسألة لم تتعلق فقط بشرعية الجهاد بل أيضاً بارتباطه بالقتل أولاً، ثم كونه فرض عين يتساوى شرعياً مع باقي العبادات ثانياً. وبالتالي فرفضه، على هذا النحو وبهذا المفهوم، هو كفر. ولا يتعلق الجهاد بالخارجين على الدين من الكفار بل يشمل أيضاً المرتدين، حتى وإن لم يبادروا بالقتال. وفي هذا السياق يحضر الواقع الذي يعيشه الكاتب باعتباره مؤسساً لحركة الإخوان، يرى في الجهاد ضرورة يفرضها الواقع السياسي والعالمي. يقول: "والمسلمون الآن كما تعلم مستذلون لغيرهم محكومون بالكفار، قد ديست أرضهم وانتهكت حرماتهم وتحكم في شؤونهم خصومهم وتعطلت شعائر دينهم في ديارهم، فضلاً عن عجزهم عن نشر دعوتهم"([17]). هذا يستبطن أنّ المشكلة مع الآخرين تتعلق فقط بالدين بإيماننا وإسلامنا مقابل كفرهم. وهو ما يشرّع لضرورة الجهاد وفرضيته. ويبدو أنّ الجهاد موجّه إلى المستعمر أساساً لا علاقة له بتغيير الأنظمة القائمة كما هو الشأن عند "المودودي". وهي فكرة تلتقي عندها مع الكثير من حركات الدعوة إلى التحرر الوطني. ولا ننسى أنّ مقولة الجهاد قد وقع توظيفها من أكثر الأنظمة تعلمناً. فالدفاع كان عن فكرة وشرعية الجهاد أكثر من أيّ شيء آخر.

لكنّ الجهاد وإن توجّه إلى الخارج فقد ارتبط بالدعوة إلى الدين. وهذا يحيل على مرجعية بأكملها، بل إنّ الجهاد لم ينقطع عن ممارسة المسلمين في أيّ مرحلة من تاريخهم، مهما كانت فرقهم وتوجهاتهم والتباكي على المحن عند غيابه. فالجهاد هو السبيل الوحيد لإعادة المجد المسلوب لهذه الأمّة الإسلامية([18]).

3- لماذا يقاتل المسلم؟

ما عرضناه من خلال ما سبق كان تمهيداً للإجابة عن الجهاد في الحاضر وأهدافه. ويبني الإجابة في البداية على ثنائية القتال والسلم. ويستدل على ذلك من القرآن وممارسات الصحابة زمن الرسول. فغاية القتال علويّة كلمة الله التي يجعل منها ذات أولوية على الغنيمة([19]).

يخوض الكاتب في معنى سبيل الله ويحصرها في كونها "إرشاد الخلق إلى الحق حتى تكون كلمة الله هي العليا"([20]). ويستحضر لتفسيرها جملة من الوقائع عن تاريخ الصحابة في الجهاد. ويستدلّ بها على عزوفهم عن المطامع والأهواء. وهي فكرة تحمل محاولة لدحض فكرة أنّ الجهاد هو الاستبداد والحصول على الأرزاق. وهي فكرة دافع عنها المستشرقون. وقد خاض فيها "المودودي" بأكثر توسع وانفعالية. وقد نفسر هذا الهدوء في خطاب "حسن البنا" - مقارنة بالمودودي- بزعامته لحركة في ظرف سياسي يجعل الجهاد يتوجه إلى الخارج لا إلى الداخل.

4- الرحمة في الجهاد الإسلامي

يخوض "حسن البنا" في ارتباط بغايات الجهاد: النبل في مسألة الوسائل والآداب وأساسها عدم الاعتداء. ويستدلّ على ذلك بالقرآن: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) المائدة 8. ويسرد جملة من الآداب للجهاد. "فهم في حربهم خير محاربين كما أنهم في سلمهم أفضل مسالمين"،([21]) ويعطي أمثلة على هذه الآداب (اجتناب الغلو والغدر والتمثيل...) دون أن يجيبنا بدقة عن مسائل الغنيمة وسبايا وأسرى الحرب.

وانطلاقاً من الحديث النبوي في آداب الحروب كما روي في صحيح مسلم([22])، يخوض الكاتب مطولاً في آداب الحروب عند المسلمين ليقارنها بـ"غارات المتمدنين الخانقة وفظائعهم الشنيعة"([23]). وقد احتاج "حسن البنا" في تأكيد هذه الصورة للجهاد إلى ردّ بعض الشبهات التي التبست بهذا المفهوم، وهو ما فعله "المودودي" في بداية نصّه.

5- ما يلحق الجهاد

هل ردّ الشبهات في مفهوم الجهاد يخصّ المستشرقين أم المسلمين أنفسهم؟

يجيبنا البنّا في بداية النص أنّ المسألة تتعلق بما "شاع بين كثيرين من المسلمين"([24]). وهو نفسي بالأساس: جهاد القلب والنفس.

ويرى "البنا" أنّه لا معنى للجهاد خارج القتال في سبيل الله. وينتهي من ذلك إلى أنّ "الجهاد حسن صناعة الموت"([25]) باعتباره طريقاً للحياة.

6- الخطاب حول الجهاد

ينهي "حسن البنا" نصّه بالدعوة إلى الجهاد وتدبّر مفهومه، باعتباره قتالاً له جملة من الأهداف والمزايا والدفاع عن شرعيته من داخل النص الديني قرآناً وسنّة وأحكاماً فقهية. لكنّ هذا النص هو دعوة إلى الجهاد موجّهة ضدّ غير المسلم: مقاومة الاستعمار من أجل التحرر في مطابقة شبه تامة بين لحظة نزول النص واللحظة الراهنة في غياب للاعتبار بالتغير التاريخي بدءاً باستعمال المفردات. والدعوة إلى الجهاد على هذا النحو، كونه بديلاً جاهزاً وممكناً وحيداً للتفوق التاريخي، أسقط منه كلّ اعتبار واقعي وتاريخي المتلقي المعني بالجهاد، كذلك الذي سيجاهد ضدّه. من هنا تأخذ مقولة الجهاد تعبيرها الأكثر طوباوية على الإطلاق.

"سيد قطب" وانبلاج المفهوم من الديني إلى السياسي

رغم أننا لم نعثر على أيّة معلومة دقيقة تخصّ من سهر على جمع هذه الرسائل الثلاث في الجهاد، إلا أننا نرجح أن يكون "سيد قطب" وراء ذلك، خصوصاً وقد تتلمذ علمياً وسياسياً على الرجلين: "المودودي" و"البنا". وسيكون توقفنا عند الرسالة الثالثة مدفوعاً بعض الشيء بهذا الترجيح. خصوصاً وقد اخترنا نهج المقارنة بين هذه الرسائل من جهة، واستقراء مدى تأثر "سيد قطب" (1906-1966) بالرسالتين السابقتين من جهة ثانية.

يفتتح "سيد قطب" رسالته بتلخيص الإمام ابن القيم([26]) لسياق الجهاد في الإسلام. ويتمثل في آيات متتالية نزلت على الرسول تعدّ للدعوة للجهاد. وهو نص مطول سيكون منطلقاً لينتقد الكاتب طريقة التعامل مع الآيات بقطعها عن سياقها في تأويل مضاد. فـ"الذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد على منهج هذا الدين في الجهاد يراعون هذه السمة فيه ولا يدرون طبيعة المراحل التي مرّ بها هذا المنهج وعلاقة النصوص المختلفة بكلّ مرحلة منها، ويحمّلون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية"([27]). لكنّ هذا يتمّ لفائدة مفهوم الجهاد المتنوع والمتطور الحركي وضدّ القول "إنّ الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع". إذ "يحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً، لا يقهرهم على اعتناق عقيدته، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها"، ويرتبط ذلك بقاعدة إخلاص العبودية لله، وهي قاعدة لا تقبل المساومة ولا اللين([28]).

وتتأتى ضرورة الجهاد بالمعنى المادي من عدم كفاية الجهاد الدعوي من أجل تحقيق حاكمية الشريعة وقيام مملكة الله في الأرض وإزالة مملكة البشر وانتزاع السلطات من أيدي مغتصبيها من العباد وردها إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها، وإلغاء القوانين البشرية"، وهذا لا ينفع معه التبليغ والبيان.

ويستمد الجهاد مفهومه الحركي من ارتباطه بأهدافه، والتي يراها "سيد قطب" رغم غلافها الديني (إقامة شرع الله) سياسية بالأساس. وتكاد مسألة العقيدة تأفل أمام الطابع السياسي للجهاد. فالإسلام ليس القصد منه إكراه الناس على اعتناق عقيدته، ولكن الإسلام ليس مجرد عقيدة.

والبدء بإزالة الأنظمة وترك الأفراد أحراراً في عقيدتهم لا يعني بالنسبة إلى سيد قطب "أن يجعلوا إلههم هواهم، أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيداً للعباد وأن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، لايعني ذلك أنّ النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده، وذلك بتلقي الشرائع منه وحده، ثم ليعتنق كلّ فرد في ظلّ هذا النظام العام ما يعتنقه من عقيدة، وبهذا يكون الدين كله لله"([29]). فالأولوية دائماً هي للخضوع والاستكانة للنظام السياسي الذي يحكم الجميع مهما تنوعت هذه الجماعات واعتنقت أو لم تعتنق عقيدة الإسلام.

يظهر مفهوم جدّية النصوص بمثابة ملجأ للاستدلال على ذلك المفهوم للجهاد الذي يقطع مع الدفاع أو الانهزامية، كما يلحقها به الواقع الحاضر والهجوم الاستشراقي. ودون أن يفهمنا تماماً معنى الجدّية التي اختار أن يصف بها هذه النصوص، هل وجدت نصوص دينية تتحدث عن الجهاد غير جدّية، شأن دائم أصيل في طبيعة، أم أنّ أيّ نص يخرج عن النص الديني قرآناً وسنّة لا يعتدّ به بالنسبة إلى "سيد قطب"؟

تبدو فكرة أنّ الأمر بالقتال هو الأصل في الإسلام وما دونه عارض مسألة أصيلة وأصلية. والقرآن بالنسبة إلى "سيد قطب" هو الذي سيدعم هذه الفكرة ويؤصلها. ومن الآيات التي تشهد على ديمومة وأصالة القتال في الإسلام([30]): "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ"، (الحج39). ويبرر سياق هذا الاستشهاد أنّ الحق لا يتعايش مع الباطل، وأنّ الإعلان العام للإسلام سيؤدي إلى عدم مسالمته، وبالتالي إلى جنوحه إلى "التدمير". وهي مبررات احتاجت من "سيد قطب" إلى مبررات مقابلة يجيب فيها عن هذا "العارض" الذي لم يجنح فيه الإسلام إلى القتال. وهي مرحلة يعتبرها طارئة في تاريخ المسلمين. فالكفّ عن القتال في مكة أوفي المدينة كانت له مبرراته الجيو سياسية والاجتماعية والتربوية. مثل التركيبة الاجتماعية وغياب العوائق أمام الدعوة([31])...إلخ. ويطنب "سيد قطب" في تحليل هذه المبررات، وينتهي منها إلى أنّ "رؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع لا تدع مجالاً للقول إنّ الدفاع بمفهومه الضيق كان هو قاعدة الحركة الإسلامية، كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر"([32]).

قد نتساءل في هذا السياق ما الذي يبرر إطلاق نص الدعوة إلى الجهاد في العصر الحاضر دون أن تسحب عليه مبررات الكف عن القتال؟ خصوصاً وهو لم يستوقفنا في الاستدلال بآية عند عبارة "بأنهم ظلموا" باعتبارها السبب الأول القادح للإذن ـ لا للأمرـ بالقتال؟

يعتمد "سيد قطب" على مقطع قرآني طويل من سورة النساء (74-76) والأنفال (38-40) والتوبة (29-32)، وتتساوى في هذه الآيات مبررات الدعوة إلى القتال - وهي مبررات داخل النص لا خارجه - بـ"مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض، بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك"([33]). وهي مبررات تنفي أيّ مبرر آخر مثل ردّ عدوان خارجي أو الدفاع عن الوطن. فوحدها إقامة حكم الله في الأرض تعطي مبرراً للجهاد وديمومته معاً. تماماً مثلما يبدو تحرير الإنسان من العبودية هو الحقيقة والمبرر الذي يتجاوز دفاع الإسلام عن وجوده. قد نفهم بهذا تجاوز مفهوم الجهاد كلّ محدودية زمنية ومكانية معاً تبدو معه فكرة الوطن غريبة ومستحدثة هجينة. "فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحسّ الإسلامي"([34]).

يمنح الجهاد الإسلام مبررات انطلاقه وعالميته وتكسير حدوده وعنصريته، على أساس من كونه منهج الله وليس منهج الإنسان. فالإسلام نظام عالمي عليه أن يكسر كلّ الحواجز السياسية والاجتماعية من أجل ذلك. لهذا لا يمكن أن يكون موقفه دفاعياً، و"من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء"([35])، لا يهاجم الأفراد بل الأنظمة. وينتقد "سيد قطب" بشدة ذلك التصور المستورد من الغرب الذي يجعل من الدين مجرد عقيدة يفرضها الإسلام بالسيف على الضمير. وهو مفهوم لا يعنيه من جانبين: أولاً قوله بحرية الضمير، وثانياً أنّ الدين تجاوز العقدي إلى ما هو سياسي، وهو ما يفرضه الجهاد بحد السيف.

ولا ندري كيف يمكن أن نفصل مع "سيد قطب" بين حرية العقيدة وحرية العبادة، فلا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته، لكن من حقه أن يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؟ كيف يمكن التوفيق بين قهر العقيدة وقهر النظام؟

قد لا يتسنى لنا في رأيي حلّ هذه المفارقة إلا على نحو أنّ المقوم الأول للنظام الإسلامي عند "سيد قطب" هو التشريع، بما هو نظام للحكم يخضع له الجميع بقطع النظر عن عقائدهم. وهو نظام يتطلب الادعاء والاعتراف. وكلّ خروج عن هذا النظام يستدعي التكفير. بهذا يتجاوز الإسلام العقيدة - بل لا يأبه بها أصلاً ـ إلى ما هو نظام. وبهذا أيضاً يجد الجهاد شرعيته في شكل دولة كليانية ثيوقراطية يطغى فيها السياسي، ويبتلع كلّ شيء.

هل معنى هذا أنه يكفي للمسلم الخضوع للنظام الإسلامي ليكون مسلماً حتى لو لم يكن مؤمناً بالله؟ إنّه سؤال لا يجيبنا عنه "سيد قطب"، ربما لأنّ إقرار العقيدة أمر تأتي به سلطة النظام على مراحل أو مع الوقت. قد نستدل على ذلك باعتقاده أنّ سلمية الجهاد هي دلالة مرحلية لا بدّ أن تخضع للدلالة العامة لخط الحركة. والجهاد في الدلالة العامة لا يخرج عن القتال وفرض النظام ليس دفاعاً فقط بل ابتداء. وهذا هو خط الحركة الإسلامية الثابت والطويل([36]). ألا يتطلب هذا الثابت والمتحول في آيات الجهاد تحديداً لمقاييس هذه التحولات التي لا نرى أحداً أباحها غير العقل البشري نفسه: العقل المشرع للجهاد؟

استنتاجات عامة: توقفات نقدية

يلتقي الكتّاب الثلاثة عند رؤية للجهاد ترى فيه المنقذ لمجد المسلمين، به كان مجدهم وبه فقط يمكن أن يستعاد. والعلاقة بين الإسلام والجهاد هي علاقة تخرج عن حركة الزمن السائرة نحو الأسوأ لتعيد ترتيب الزمن على نحو تتحول فيه تلك العهود الأولى هي الأصل والمرجع الذي يستغرق كلّ شيء. فقط الوعي بلحظة تلك العهود الأولى كما تلقاها أو كما يفترض أنّه تلقاها الأوائل وفهموها هي الحرية بالاستعادة. لهذا لا مجال مثلاً للحديث عن التوفيق بين مظاهر التطور العلمي والتكنولوجي كما ينبئ به واقع الغرب وتعاليم الدين المطلق الذي يعلو على أي وعي تاريخي ممكن. ولا مدخل غير الجهاد للانتصار والسيطرة واستعادة مجد الإسلام. وهي فكرة أساسية في الرسائل الثلاث حملت كتّابها على إقامة رؤيتهم على الدفاع عن شرعية الجهاد في الإسلام عموماً وربطه بالقتال على وجه الخصوص، ولو بصفة متفاوتة وطرق مختلفة.

يلتقي "سيد قطب" مع "المودودي" في تلك الرؤية الانقلابية التي ترى الجهاد في إسقاط النظام وأسلمته لكنّ "المودودي" في ظلّ الاستعمار البريطاني للهند وتواجد المسلمين أقلية من الأقليات، وعدم الاستقرار السياسي والنفسي الذي عاشه، كان معنياً بنظام أوسع من نظام دولة بعينها أو حكومة بعينها، الجهاد هو طريق للدفاع عن الهويّة المسلوبة، ولا يمكن أن يتمّ ذلك دون أسلمة المجتمع. لكنّ سيد قطب الذي عانى من السجن والتعذيب في عهد عبد الناصر كان الجهاد لإسقاط النظام ذا أولوية مطلقة تسبق كلّ الأولويات. و"المودودي" هو المرجع والمدرسة الأولى التي استلهم منها سيد قطب مفهومه للحاكمية التي من أجلها استمات في الدفاع عن الجهاد قتالاً. إلا أنّ الانفعالية التي طبعت خطاب الرجلين في مسألة الجهاد سنراها تخبو مع "حسن البنا" مؤسس حركة الإخوان المسلمين. فإذا كنا رأيناه يدافع عن الجهاد في ضيقه واتساعه، فإنه من أجل الإقناع والترويج الدعوي حتى يوجهه ضد المستعمر الإنجليزي أولاً وقبل كلّ شيء، فوحده الغرب كافر يستحق الجهاد ضده، ووحدها فكرة أخلاقيات الجهاد في الإسلام كان يراها تسويقاً جيداً له.

استندت النصوص الثلاثة في استدلالها على شرعية الجهاد و"حقيقته" إلى النص الديني قرآناً وسنّة، وإن ركزت عملها على القرآن. وهي استدلالات التقت في قطع تفسير الآيات عن أسباب نزولها وإخضاعها لعملية انتقاء مقصودة في الآيات والأحاديث معاً. لكنها تفاوتت من حيث كمّ النصوص وطولها بين الرسائل الثلاث، كما اختلفت أيضاً من حيث منهج التعامل مع هذه النصوص، تبعاً لما سبق وشرحناه من أهداف وسياقات مختلفة. فـ"حسن البنا" مثلاً بدا أكثر حرفية وهو يربط بين الآيات ويتدخل في أكثر من موضع ليضفي شرعية عقلية ويعتمد منهجاً متماسكاً في التعامل مع الآيات وتوظيف علاقاتها الداخلية. وهو ما بدا باهتاً مع "المودودي"، ربما لأنّ الجانب الدعوي كان رهاناً يحتاج لرؤية أكثر إقناعاً. لكنّ سيد قطب اختلفت رهاناته وخرجت عن مجرد رفض الجهاد في المطلق أو اتخاذه أداة لتشويه الإسلام، إلى صوت آخر يرى فيه مجاهدة من أجل التحرر الوطني وبناء الدولة القومية المستقلة، ولجوء نظام عبد الناصر لتوظيف هذا الخطاب ضدّ خطاب الإخوان المسلمين. فكان عليه أن يجيب عن تلك الفترات التي تخلى فيها المسلمون عن القتال ليؤكد أنها الطارئ والاستثناء وليست الأصل. ويبقى مع ذلك التعامل اللاتاريخي نقطة قوة تحتكم إليها الرؤى الثلاث في الجهاد، رغم ما وقفنا عليه من التعامل مع النص الديني لم يكن سالباً بقدر ما كان يؤسس لتاريخية ما، أهمّ واجهاتها هذه الظروف السياسية التي حتمت العودة اللاتاريخية إلى الجهاد في واجهته السياسية وإن بتوظيف ديني.

لم يتسع المجال لرؤية نقدية أكثر عمقاً لتعامل الكتّاب الثلاثة مع النص القرآني، لكننا نكتفي بالتنبيه إلى هذه الحركية المتناهية في توظيف النص مقابل افتراض صورة للمتلقي جامدة ولا تاريخية، لا يمكن أن نبررها إلا بهذه الوصاية السياسية بغلاف ديني. فلم يستطع الكتّاب الثلاثة أن يتخلصوا ممّا أوقعتهم فيه براغماتيتهم السياسية من إرباك فكري وحتى سياسي ومن مآزق أراها دينية بالأساس. فماذا لو تحوّلت هذه الدعوة إلى الجهاد إلى دعوة معولمة تستند في دعوتها إلى كلّ الوسائل وكلّ المرجعيات، لا لتضفي شرعية على مقولاتها فهذا أمر حسمته مع منظريها الأوائل، بل لتكون قوة أكثر عنفاً ودموية وشراسة ونجاعة في الانتشار والسيطرة كما يحصل اليوم؟


([1]نشر في ملف بحثي بعنون "الجهاد، الشهادة، الشهيد"، بتاريخ 24 نونبر 2015، إشراف بسام الجمل، تقديم أنس الطريقي.

[2]- كتاب "الجهاد في سبيل الله" اشترك في كتابته: "أبو الأعلى المودودي"، "حسن البنا"، "سيد قطب"، صدر عن دار الراية للنشر، 1401-1981، د. ط، ص 5

[3]- المرجع السابق، ص 5

[4]- المرجع السابق، ص 7   

[5]- المرجع السابق، ص 9

[6]- المرجع السابق، ص 10

[7]- المرجع السابق، ص 13

[8]- المرجع السابق، ص 13

[9]- المرجع السابق، ص 15

[10]- المرجع السابق، ص 21

[11]- المرجع السابق، ص 21

[12]- المرجع السابق، ص 21

[13]- المرجع السابق، ص 26

[14]- المرجع السابق، ص 61

[15]- المرجع السابق، ص 80

[16]- المرجع السابق، ص ص 80-81

[17]- المرجع السابق، ص 84

[18]- المرجع السابق، ص 85

[19]- المرجع السابق، ص 87

[20]- المرجع السابق، ص 88

[21]- المرجع السابق، ص 88

[22]- المرجع السابق، ص 89

[23]- المرجع السابق، ص 90

[24]- المرجع السابق، ص 84

[25]- المرجع السابق، ص 91

[26]- هو ابن القيم الجوزية(691 هـ - 751 هـ / 1292م - 1349م) من فقهاء المدرسة السلفية في القرن الثامن الهجري وصاحب المؤلفات العديدة، عاش في دمشق، ودرس على يد ابن تيمية الدمشقي.

[27]- كتاب الجهاد، مرجع سابق، ص 101

[28]- المرجع السابق، ص 106

[29]- المرجع السابق، ص 110

[30]- المرجع السابق، ص 115

[31]- المرجع السابق، ص ص 115-116

[32]- المرجع السابق، ص 122

[33]- المرجع السابق، ص 125

[34]- المرجع السابق، ص 127

[35]- المرجع السابق، ص 132

[36]- المرجع السابق، ص 135