مفهوم العلمانيّة في الفكر العربي


فئة :  مقالات

مفهوم العلمانيّة في الفكر العربي

مفهوم العلمانيّة في الفكر العربي

مثّلت العلمانيّة العنوان الكبير لمشروع النهضة والتحديث منذ القرن التاسع عشر، تاريخ بداية وعي الأمّة العربيّة بمدى اتّساع المسافة التي تفصلها عن التحضّر الذي بلغته الأمم الأوروبيّة. لم تكن العلمانيّة إيديولوجيا مفروضة أو مذهباً فكريّاً محدّد الملامح أُريد له أن ينتشر في المجتمعات التقليديّة المكوّنة للإمبراطوريّة العثمانيّة الآيلة إلى التفكّك آنذاك، بل كانت عبارة عن أفق جديد انفتح أمام أمّة لا تزال ترى نفسها في الماضي. مع ظهور الكيانات السياسيّة الأولى المستقلّة جزئيّاً عن السلطة العثمانيّة بدأ يتشكّل ما سُمّي بــــ«دولة التنظيمات» بفعل الاتّصال والتعرّف إلى المجتمعات والثقافات الأوروبيّة[1]. من بين الأفكار الجديدة، التي اصطدمت بها الذهنيّة العربيّة، نجد فكرة العلمانيّة، وإن كانت دخلت «مجال التداول بالإشارة إلى معناها المتداوَل اليوم»[2]، من دون استعمال عبارة «علمانيّة» أو «لائيكيّة».

لقد أدّى الاختلاف في فهم معنى العلمانيّة وفي قراءة سياقاتها التاريخيّة إلى اختلاف آراء الكتّاب العرب المعاصرين في ما يتعلّق بالكلمة التي يجب استعمالها، فذهب البعض إلى استعمال كلمة عَلمانيّة (من العالَم) للتأكيد أنّ العَلمانيّة تقطع مع التصوّرات اللّاهوتيّة والغيبيّة، وخاصّة مع فكرة تحديد الديني للسياسي. وفضّل آخرون كلمة عِلمانيّة (من العِلم)، مشدّدين بذلك على أنّ العلمانيّة تنتمي إلى الفكر الوضعي أو الفكر الغربي في صيغته الوضعيّة، التي تستبعد الأسطورة والميتافيزيقا والدين من دائرة المعرفة الموضوعيّة ومن الحقيقة العقلانيّة[3]. اختلفت مواقف الكتّاب العرب من العَلمانيّة، ويمكن التمييز بين موقف المدافعين عنها الداعين إلى ترسيخها في الفكر والممارسة السياسيين، وموقف الرافضين لها، وهم الكتّاب والإيديولوجيّون الإسلاميّون. وهناك موقف ثالث يدعو أصحابه إلى الأخذ بالعلمانيّة بعد مراجعتها وإعادة تأويلها، حتى تصبح غير متناقضة مع العقائد الإسلاميّة وقابلة للتطبيق تماماً مثل مفاهيم العقلنة والتنظيم الإداري والديمقراطيّة وغيرها. وقد وجد هذا الفريق في مفهوم «ما بعد العلمانيّة» وسيلة للدفاع عن رفضه حياد الدولة العقائدي.

يرى أصحاب الموقف الأوّل أنّ العلمانيّة من أسوأ المفاهيم التي أنتجها الفكر الغربي المادّي التاريخي المعادي للكنيسة سلطةً وللمسيحيّة ديناً، وهم يرون أيضاً أنّه يجب رفض العلمانيّة مفهوماً سياسياً وتصوّراً شاملاً للمجتمع والدولة؛ وذلك في إطار مواجهة الثقافة الغربيّة أو ما يسمّونه التغريب. عبّر عن هذا الموقف كثير من الكتّاب الإسلاميين من منطلق تمييز مبدئي بين نحن وهُمْ، بين المسلمين والغرب، بين الهويّة والغيريّة. لم يتمّ تناول مفهوم العلمانيّة، في أغلب الأحيان، في إطار التوضيح أو بهدف التحليل المفهومي، بل في إطار المعارضة والتحقير. الفكرة الأساسيّة، التي يمكن استخلاصها من مؤلّفات الكتّاب الإسلاميّين، هي أنّ «العلمانيّة» مفهوم خطير: تمثل العلمانيّة تهديداً لوعي الأمّة بذاتها وتاريخها، كما تهدّد جوهر هويّتها؛ أي الدين، فالدين هو أساس كيان الأمّة (المقصود هو الأمّة الإسلاميّة)، وكلّ تشكيك في مصدره أو قداسته أو ثوابته وكلّ إقرار بتاريخيّته (النصوص الأساسيّة، الأحكام، التفاسير، التأويلات)، هو إنكار لمصدره اللّاهوتي. يجب أن ترفض العلمانيّة؛ لأنّها لا تعترف بالمبدأ المتعالي للدين. الدين إلهي، وهو صلة بين الإنسان والكائن الأسمى مصدر الوجود والمعرفة. من البديهي، إذن، ألّا تقبل الذهنيّة الدينيّة بتساوي قيمة الأشكال المختلفة للروحانيّة، وهو ما يمثّل مبدأ أساسياً في التصوّر العلماني.

بعد أن أشار إلى سياق ظهورها وتطوّرها وعلاقتها بالإصلاح الديني والتنوير الأوروبّي والعقلانيّة العلميّة، يعرّف محمّد عمارة العلمانيّة بأنّها «عزل السماء عن الأرض، والدين عن الدنيا، وإحلال الإنسان في تدبير العمران البشري محلّ الله»[4]. هكذا، الله، في نظر هذا الكاتب، كما في نظر كثير من الكتّاب الإسلاميين، هو الذي يُدبّر العمران البشري، ولا شأن للإنسان بتدبير وجوده وعالمه، حسبه أن يطبّق الشريعة (المنسوبة إلى الله بصورة غير مباشرة). إنّ مثل هذا الفهم اللّاتاريخي للدين يكمن وراء الأحكام المسبقة والآراء والتصوّرات التي يحملها أولئك الكتّاب، وكذلك عامّة الناس عن العلمانيّة. هم يرون أنّ العلمانيّة مذهب يستبعد الدين من التشريع، ويحلّ محله التشريع الوضعي، ولأنّ الشرع تضمّن، في نظرهم، كلّ الحلول لكلّ المشكلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة والمعرفيّة، التي يمكن أن تواجه البشر في أيّ مرحلة من تاريخهم، لا ينبغي إحلال تصوّر إنساني (أي علماني) محل الشريعة. لا يتعلّق الأمر بتصوّر يمكن اعتباره امتداداً للتصوّرات الكلاميّة التقليديّة، بل بموقف أصولي يلغي كلّ إمكانيّة للتفكير في الدين وفي علاقته بالمجتمع والتاريخ. «هكذا يقطع التصوّر الإسلامي لنطاق عمل الذات الإلهيّة الطريق على العلمانيّة، فمحالٌ أن يجتمع ويتوافق في قلب المسلم تصوّر الله مدبّراً لكلّ شيء وراعياً لكلّ أمر، مع تصوّر عزل السماء عن الأرض وتحرير العمران الإنساني من ضوابط وحدود تدبير الله»[5]. كيف يدبّر الله العالم، وبأيّ طريقة يدبّر شؤون الوجود الإنساني؟ لا نجد إجابة عن السؤال لدى عمارة. إنّ موقفه مبنيٌّ على تأويل سطحي لمعنى التدبير، وهو لا يرقى إلى تصوّر ابن رشد، الذي أقرّ بأنّ العلم الإنساني لا يحيط بالعلم الإلهي وبتهافت قاعدة قياس الغائب على الشاهد[6]. لا يدلّ هذا الموقف من العلمانيّة على إنكار وتجاهل المبادئ التي تقوم عليها فحسب، بل يدلّ أيضاً على موقف تأويلي خاص: الله يحكم العالم، ولذلك لا يجب استبعاد شريعته وتعويضها بالقانون الوضعي. بأيّ معنى نفهم التشريع الإلهي؟ ما مضمون شريعته؟ ما دور البشر (المسلمين) في استنباط الأحكام من الشرع؟ ما علاقة النصّ الديني بالعقل؟ وما علاقة الشريعة بالتاريخ؟ كيف يكون المطلق محدّداً للتاريخي؟ هذه الأسئلة وغيرها لا تطرح لدى من يطلق عليهم كتّاب الصحوة الإسلاميّة. إنّهم يدافعون عن رؤية أصوليّة للدين تقوم على فكرة الأصل وقداسة السلف، وتستهجن التفكير النقدي بحجّة أنّ الشريعة إلهية المصدر[7] ولا يجوز، تبعاً لذلك، التفكير في ثوابت الدين.

يخلط الكتّاب الإسلاميّون بين الإيمان الديني والتنظيم السياسي، ويجعلون من الانتماء إلى الإسلام شرطاً للتنظيم السياسي ولإقامة الحكم «العادل»، كما أنّهم يخلطون بين مفاهيم فقهيّة لها دلالات خاصّة، والمفاهيم السياسيّة الحديثة كمفاهيم العقد الاجتماعي والدستور والدولة والتنظيم السياسي. يقول محمّد عمارة: «شرط تحقّق واكتمال الإيمان الديني، بالله واليوم الآخر، أن تكون مرجعيّة هذا التعاقد الدستوري هي الكتاب والسنّة، وإلّا كان هذا الإيمان زعماً وادّعاء؛ لأنّه إن لم تكن المرجعيّة في الدولة لله والرسول، فهي للطاغوت. هكذا حكم القرآن المرجعيّة الإسلاميّة للدولة الإسلاميّة»[8]. يتّفق الكتّاب الإسلاميّون على أنّ الإسلام لا ينفصل عن السياسة، وأنّ الانتماء إلى الإسلام لا يكون تامّاً إلّا عندما تُترجم أحكامه في الواقع الاجتماعي والسياسي (السياسة الشرعيّة). لا يصحّ الإيمان إلّا إذا انتمى المؤمن إلى جماعة سياسية-دينيّة. من البديهي أنّ هذا التصوّر اللّاهوتي-السياسي لا يقبل بحريّة الضمير واستقلاليّة الحكم والحقّ في الاختلاف العقدي، وهي مبادئ أساسيّة في التصوّر العلماني.

يميّز محمّد عمارة، في الكتيّب الذي خصّصه لتوضيح حقيقة العلمانيّة من وجهة نظر الإسلام، بين أصناف مختلفة من الدول التي عرفتها البشريّة خلال تاريخها: «دول الاستبداد، ودول الكهانة الدينيّة والحكم الإلهي، ودول السياسة العقلانيّة، ومنها الدول العلمانيّة التي ينوب فيها الحكّام عن الأمّة، وتُستبعد الشريعة الإلهيّة من مرجعيّة السياسة والتدبير، والدولة الإسلاميّة التي تبرأ من سلبيّات دول الكهانة الدينيّة والدول العلمانيّة جميعاً»[9]. الدولة «الفاضلة» هي الدولة الإسلاميّة التي تُطبَّق فيها شريعة الله. هكذا، ما دام الأمر يتعلّق بحكم يستند إلى الشرع، فهو بالضرورة حكم فاضل وعادل، ليس لنا هنا أن نبيّن أنّ تاريخ البشريّة السياسي يكذّب هذا الادعاء. لقد وجدت أنظمة الحكم الاستبدادي في الأديان منبعاً لا ينضب للتبرير الإيديولوجي.

يعبّر طه عبد الرحمن، المفكّر الإسلامي الذي يدعو إلى تجديد علم الكلام[10]، عن موقف أصولي من العلمانيّة مفاده أنّ تطبيق مبدأ الفصل بين السياسة والدين يؤدّي إلى تضييق «نطاق الدين ونطاق السياسة معاً»[11]، فالدين يشتمل على العالم المرئي والعالم الغيبي، الدنيوي والأخروي. يرفض عبد الرحمن ما يُسمّيه الدعوى العلمانيّة: «لا تدبير في الدين ولا تعبّد في السياسة»[12]، ويرى أنّ الدين يشتمل على كلّ جوانب الحياة الإنسانيّة، ولا يمكن حصر فاعليته في نطاق الحياة الشخصيّة، واعتباره تجربة روحانيّة خاصّة. يقول في هذا الصدد: «لا يخفى على ذي بصيرة أنّ اختزال الدين في الروحانيّات أسوأ من اختزاله في العباديّات؛ إذ حصر الدين في الشعور الإيماني الباطن أشدّ تضييقاً على الوجود الإنساني من حصره في السلوك التعبُّدي الظاهر»[13]. في هذا السياق يستحضر عبد الرحمن مواقف بعض المفكّرين العلمانيين مثل: هنري بينا- رويز وأندري كونتسبنفيل[14] بطريقة لا تخلو من تهكّم، فهم في رأيه «يهرّفون بما لا يعرفون»[15].

إنّ الإسلاميين، سواء كانوا دعاةً سلفيين رافضين لانحراف المجتمع وتغرّبه وابتعاده عن الأصول (القرآن والسنّة والتراث الفقهي)، أم سياسيين شعارهم «الإسلام دين ودولة»، أم كتّاباً ملتزمين يراهنون على إحياء روح الأمّة الإسلاميّة في عالم تهيمن عليه الماديّة والإلحاد، وعندما يرفضون العلمانيّة فهم يرفضون الحداثة التي يعدونها غربيّة، وماديّة، وإلحاديّة. إنّهم يتوقّفون عند فكرة الفصل بين الدولة والدين، ويرون أنّ الفصل، في حدّ ذاته، كافٍ لرفض العلمانيّة لأنّها تحصر الدين ضمن مجال الحياة الشخصيّة فحسب. لا يناقش الكتّاب الإسلاميّون المبادئ الفلسفيّة والأسس النظريّة للعلمانيّة. إنّ الإقرار العلماني بحياد الدولة وبالقيمة المتساوية للاختيارات الروحيّة هو أمر مرفوض عندهم بصورة قطعيّة.

تُعدُّ مساهمة عبد الوهاب المسيري مساهمة مهمّة من جهة توضيح مفهوم العلمانيّة وبيان حدود فكرة الفصل بين الدولة والدين، التي اقترنت بها لدى الكتّاب الإسلاميين. يميّز هذا الكاتب بين ما يسمّيه «العلمانيّة الجزئيّة» و«العلمانيّة الشاملة»؛ تقوم الأولى على فكرة الفصل بين الدين والدولة، ويمكن اعتبارها علمانيّة أخلاقيّة أو إنسانيّة. أمّا الثانية، فهي تتمثل في «فصل القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة والدينيّة عن الحياة في جانبيها الخاص والعام»[16]. يذهب المسيري إلى أنّ فهم العلمانيّة على أنّها الفصل بين الدين والدولة وعدم التدخّل في حياة الإنسان الخاصّة واحترام الدين والقيم الموجودة في المجتمع (العلمانيّة الجزئيّة) هو فهم محدود وقاصر عن الإلمام باتّساع حركة العلمنة الشاملة[17]. كان لا بدّ إذن من إعادة تحديد المفهوم، أو بالأحرى صياغة مفهوم جديد للعلمانيّة هو «العلمانيّة الشاملة»؛ العلمانية الشاملة التي تميّز الحضارة الغربيّة فكراً وثقافة ومنتجات ماديّة خالية من كلّ نزعة روحانيّة، وهي تقيم فصلاً بين الإنسان والطبيعة، بين الجسد والروح، وتختزل الوجود الإنساني في وجوده المادّي، وتعرّف الكائن الإنساني بالرغبة والاستهلاك، ولا تعطي أهميّة للقيم الكونيّة والمعايير الأخلاقيّة. ليست العلمانيّة، في نظر هذا الباحث، مجرّد إجراء لتنظيم العلاقة بين السياسي والديني، بل هي «رؤية شاملة للكون، في مستوياته ومجالاته كلّها، لا تفصل، فقط، الدين عن الدولة، وعن بعض جوانب الحياة العامّة، وإنّما تفصل القيم الدينيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة كلّها عن جوانب الحياة العامّة كلّها، في بادئ الأمر، ثمّ جوانب الحياة الخاصّة كلّها في نهايته»[18].

السؤال الذي يجب طرحه هنا هو: إلى أيّ حدّ يعبّر هذا التعريف عن حقيقة العلمانيّة؟ تقوم العلمانيّة، كما رأينا، على مبادئ أخلاقيّة قابلة للتحقّق في مجال التنظيم السياسي للمجتمع: حريّة الضمير، المساواة، الكونيّة، الاعتراف باختلاف وتنوّع المرجعيّات الروحيّة. من الإجحاف إذن القول إنّ العلمانيّة تتمثل في استبعاد البُعد الروحاني من الوجود الإنساني. ينطبق موقف المسيري على شكل خاص من العلمانيّة يمكن أن تكون الوضعيّة المنطقيّة أساسه النظري. يمكن القول إنّ مفهوم «العلمانيّة الشاملة» المقترح يخلط بين «العلمنة» و«العصرنة»، بين مسار استقلال الدولة عن الدين والتقليل من تأثير الدين في الحياة الفرديّة والمجتمع، حيث يصبح مرجعيّة معياريّة متاحة ضمن التعدّديّة الأخلاقيّة. وإذا قبلنا بالصلاحيّة الإجرائيّة لمفهوم «العلمانيّة الشاملة»، فالسؤال الذي يجب أن يُطرح هنا هو: هل وجدت العلمانيّة الشاملة بالفعل؟ إذا كانت الإجابة موجبة، فذلك يعني أنّ الدين فقد كلّ تأثير في حياة البشر، وهو ما لا يتطابق مع الواقع.

يشترك الكتّاب الإسلاميّون، الذين تناولوا مسألة العلمانيّة، في رفضها واعتبارها خطراً على الدين، فهي، في نظرهم، تمثل جزءاً من مخطّط لتدمير المقوّمات العقائديّة والاجتماعيّة للأمّة، ولذلك يجب مواجهة دعاتها من المفكّرين والسياسيين العرب. إنّهم ينطلقون من الاعتقاد بأنّ الإسلام يرتبط بالسياسة على نحو ضروري. وإذا كانت العلمانيّة مثلت في الغرب حلّاً للتخلّص من الاستبداد السياسي المبرَّر دينيّاً (تحالف الكنيسة والمَلكيّة)، فإنّ الإسلام لم يعرف ذلك الانحراف، وهو دين شامل لكلّ شؤون الحياة وخاصّة السياسيّة منها. تكمن المشكلة إذن في كيفيّة تأويل النصّ الديني وفي كيفيّة قراءة التاريخ: أَيُقرأ بطريقة عقلانيّة نقديّة فاحصة أم بطريقة تبريريّة وتقديسيّة؟ تكمن المشكلة في «ادّعاء منظّري الحركات الإسلاميّة، من جهة، أنّ العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام ليست مجرّد علاقة تاريخيّة أو موضوعيّة، بل إنّها، قبل كلّ شيء، علاقة منطقيّة، وادّعاؤهم، من جهة ثانية، أنّ هذه العلاقة، من حيث كونها علاقة منطقيّة، هي علاقة خاصّة بالإسلام دون غيره من سائر الديانات. إنّ هذين الادّعاءين-لا شكّ- لا يبدوان متماسكين منطقيّاً في ضوء افتراضنا أنّ النواة العقديّة للمسلم لا تختلف في شيء عن النواة العقديّة للمسيحي مثلاً»[19].

إنّ رفض العلمانيّة هو رفض للحريّة والاستقلاليّة الفرديّة وخاصة حريّة الضمير والتفكير؛ وهو أيضاً رفض لنموذج السلطة السياسية الحديثة القائم على المساواة القانونيّة بين المواطنين وعدم التمييز بينهم على أساس العقيدة. من منظور علماني لا تتبنّى الدولة وأجهزتها ديناً أو مذهباً أو معتقداً معيّناً؛ ذلك هو معنى حياد الدولة العقائدي؛ فالدولة العلمانيّة لا تُعادي الدين أو الانتماء الديني بقدر ما تعادي نزوع دين أو مذهب معيّن إلى الهيمنة على المجتمع عبر استعمال وسائل وأجهزة السلطة العامّة.

يستند الرافضون للعلمانيّة إلى تصوّر لا تاريخي للتاريخ؛ أي إنّهم ينطلقون في فهمهم للواقع الاجتماعي والسياسي الراهن من صورة متخيّلة عن الماضي، وتحديداً عن الدولة الإسلاميّة العادلة والفاضلة (دولة الخلافة) التي ينبغي إعادة بنائها على الرغم من تواطؤ الأعداء على منع قيامها في الحاضر، ولكنّ السؤال الذي لا يطرحه هؤلاء هو: هل وُجِدت تلك الدولة كواقع تاريخي؟ يذهب وائل حلّاق إلى القول إنّ «الدولة الإسلاميّة» لم توجد قط، «فالدولة شيء حديث [...]، ولذلك فإنّ اللجوء إلى عبارات مثل 'الدولة الإسلاميّة' ككيان وُجد في التاريخ ليس انخراطاً في تفكير ينطوي على مفارقة تاريخيّة فحسب، بل ينطوي كذلك على سوء فهم للاختلافات البنيويّة والنوعيّة بين الدولة الحديثة و'أسلافها'، خصوصاً ما سمّيته 'الحكم الإسلامي»[20].

إنّ معارضة الفكرة العلمانيّة في العالم العربي اليوم ليست أمراً جديداً، فقد اعترض عليها، في بداية القرن العشرين، الزعماء الدينيّون والفقهاء المدعومون في أحيان كثيرة من الدولة الليبراليّة ومؤسّساتها التي اعتبرت أكثر خطراً على الإسلام والمسلمين، ولكنّ معارضة العلمانيّة لم تتمثل فحسب في رفض المفهوم والتشنيع على الكتّاب العقلانيين[21]، الذين عُدّوا متغرّبين وموالين لأعداء الأمّة المتربّصين بها، بل تمثلت أيضاً في رفض التفكير العلمي العقلاني، وإنكار تطبيقه العملي في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع. هل نجح الدينيّون في التصدّي لانتشار العلمانيّة حتى بالمعنى الذي يفهمونه منها؛ أي الفصل بين الدين والدولة؟ لا يمكن أن يكون الجواب عن هذا السؤال إيجابيّاً؛ لأنّ الدولة العلمانيّة، بأجهزتها التشريعيّة وأدواتها التنفيذيّة ووسائلها الإيديولوجيّة، واقع قائم في العالم العربي لا يمكن إنكاره. «قامت العلمانيّة أساساً لتنظيم الدولة وثقافتها التي نشرتها بوتائر مختلفة وبنجاح متفاوت في مجمل فئات الرعايا والمواطنين. فأتت هذه العلمانيّة أساساً عمليّاً للحياة الاجتماعيّة والعقليّة في العواصم والمدن الكبرى، وتحديداً في الفئات الوظيفيّة والاجتماعيّة-الاقتصاديّة العليا»[22].

من نافل القول إنّ العلمانيّة لم تترسّخ في الذهنيّة العربيّة، ولم تصبح بعدُ مبدأ متفقاً عليه للتفكير حيث ينعكس على الممارسة الاجتماعيّة والسياسيّة. فقد ظلّ الدين محدّداً أساسيّاً للتصوّرات والقيم المعياريّة. من هذا المنظور لا يمكن أن نتحدّث عن تلازم بين العلمنة وحركة «الخروج من الدين» التي تحدّث عنها مارسيل غوشيه، والتي تنطبق بصورة جزئيّة على مسار العلمنة في أوروبّا.

إذا فهمنا العلمانيّة بوصفها طريقة للحوكمة قائمة على قيم أخلاقيّة، فلا معنى للقول إنّها معادية للدين التقليدي، أو إنّها تطرح نفسها بديلاً له. يرى بعض الباحثين أنّ العلمنة مسار تاريخي تقدّمي، وأنّ كلّ اعتراض عليها من منظور أصولي لا تاريخي هو أمر لا يُعتدّ به ولا أهميّة له. «إنّ مسيرة التاريخ الكوني آيلة إلى العلمانيّة، وإنّ مسيرة التاريخ الاجتماعي والثقافي العربي محكومة بهذا المسار، على الرغم من الصراعات الطبيعيّة التي تستثيرها هذه المسيرة مع القوى المحافظة التي أضحى الدين علماً عليها»[23]. قد يُعترض على هذا الموقف بالقول: إنّ مقاربة العلمانيّة من منظور تاريخي، مساراً أو ظاهرةً، لا يمكن أن تفسّر، أو أن تساعد على فهم؛ حضور الدين وفاعليته في المجتمع وتأثيره في السياسة.

[1] - انظر: حوراني، ألبرت، الفكر العربي في عصر النهضة (1798-1939)، ترجمة كريم عزقول، دار النهار، بيروت.

[2] - العظمة، عزيز، العلمانيّة من منظور مختلف، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 1992، ص17

[3] - يتبنّى الباحث عزيز العظمة هذا المعنى للعلمانيّة في كتابه: العلمانيّة من منظور مختلف، مرجع سابق، ص18

[4] - عمارة، محمّد، العلمانيّة بين الغرب والإسلام، دار الدعوة، الكويت، 1996، ص9

[5] - المرجع نفسه، ص 19

[6] - ابن رشد، كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، دار المشرق، بيروت، 1986، ص39

[7] - عمارة، محمّد، العلمانيّة بين الغرب والإسلام، مرجع سابق، ص20

[8] - المرجع نفسه، ص23

[9] - المرجع نفسه، ص24

[10] - عبد الرحمن، طه، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2000

[11] - عبد الرحمن، طه، روح الدين: من ضيق العلمانيّة إلى سعة الائتمانيّة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2012، ص204

[12] - المرجع نفسه، ص217

[13] - المرجع نفسه، ص206

[14] - Henri-Pena Ruiz, Qu'est-ce que la laïcité?, Paris,Gallimard, Coll. «Folio actuel»,2003 ;Dieu et Mariane,Quadrige/Puf, Paris, 1999 ; André Comte-Sponville, L'esprit de l'Athéisme, Paris, Le Livre du Poche, 2008

[15] - عبد الرحمن، طه، روح الدين: من ضيق العلمانيّة إلى سعة الائتمانيّة، مرجع سابق، ص206

[16] - المسيري، عبد الوهاب، العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشاملة، المجلد الأوّل، دار الشروق، القاهرة، 2002، ص6

[17] - المرجع نفسه، ص39

[18] - المسيري، عبد الوهاب، العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشاملة، المجلّد الثاني، مرجع سابق، ص472

[19] - ضاهر، عادل، الأسس الفلسفيّة للعلمانيّة، دار الساقي، بيروت، ط 3، 2015، ص353

[20] - حلاق، وائل، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2013، ص105

[21] - من المعروف أنّ شخصيات دينية من المشتغلين بالدعوة والإفتاء هاجموا الكتّاب والمفكّرين المسلمين المجدّدين، ووصل الأمر إلى اتّهامهم بالكفر والإلحاد وتأليب الحكّام وعامّة الناس عليهم. وما حملة التشويه والتشنيع التي تعرّض لها طه حسين بعد صدور كتابه (في الشعر الجاهلي)، والتهجم على الشيخ علي عبد الرازق مؤلّف (الإسلام وأصول الحكم)، واغتيال فرج فودة، ومحاكمة نصر حامد أبو زيد، إلا أمثلة على شراسة الهجوم على كلّ محاولة للتفكير العقلاني المجدّد. انظر: العظمة، عزيز، العلمانيّة من منظور مختلف، ص243. أبو زيد، نصر حامد، التفكير في زمن التكفير: ضد الجهل والزيف والخرافة، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة 2، 1995

[22] - العظمة، عزيز، العلمانيّة من منظور مختلف، مرجع سابق، ص193

[23] - المرجع نفسه، ص197