من سطوح النص التأويلي إلى خطابه الفلسفي (معرفةُ المعروف..) لفتحي إنقزّو


فئة :  قراءات في كتب

من سطوح النص التأويلي إلى خطابه الفلسفي (معرفةُ المعروف..) لفتحي إنقزّو

 منذ سنوات طويلة أمضاها الدكتور فتحي إنقزّو كأستاذ للفلسفة في (جامعة المنار) التونسية، وكمفكِّر في الشأن الفلسفي، ومترجم لأمّهات المتون الفلسفية الأوروبية الحديثة والمعاصرة، يعود في هذا العام إلى فلسفة التأويليات ضمن مشروع يحمل العنوان ذاته (التأويليات) تتبنّاه "مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" في الرباط وتونس، عبر كتابه الجديد (معرفةُ المعروف.. تحوّلات التأويليّة من شلايرماخر إلى ديلتاي)، الصادر في سنة 2017 عن المؤسسة إيّاها ضمن سلسلة كتب (التِأويليات).

قد يوحي عنوان الكتاب بشعريّة مُتبناة، رغم إيحاءاته الإبستمولوجية أو المعارفيّة، لكن إنقزّو سيحسم الأمر في مقدِّمته التي عنونها "معرفة المعروف أو في الحاجة إلى التأويل"، ليؤصِّل عنوان كتابه قابساً إيّاه من تجربة الفيلولوجي الألماني أوغست بوك الذي استخدم تعبير "معرفةُ المعروف" في موسوعته التي نُشرت في سنة 1877، والذي اعتقدَ فيها بأن "مَهمة الفيلولوجيا - في المقام الأول - إنما هي الإحاطة بإنشاءات العقل؛ أي بمعرفةِ المعروف" (ص 17). ولا يكتفي إنقزّو بذلك، بل يعود بنا إلى فريدريش آست 1778 - 1841 الذي قال في سنة 1808 بأن "فهم أثرٍ ما، وتفسيره، إنما هو إعادة تشكيل لما تشكَّل من ذي قبل" (ص 18)، وهو تكريس لما سيُقبل عليه بوك من بعده.

لقد أراد إنقزّو بعنوان كتابه، ووفق التأصيل الذي ابتناه لنفسه، أن نذهب إلى صميم الحراك المعرفي في القرن التاسع عشر - وما قبله - الذي كان أرضيّة خصبة لكُل التأويليات التي ظهرت خلاله والقرن الذي تلاه حتى يومنا هذا.

يبدو لي، أن ما يريده إنقزّو، وهو يصطفي هكذا عنوان أن يقول إنه يضع جانباً كُل ما هو مُفارق منتصراً إلى العالَم المُحايث "المعروف" المنتج لصولات "المعرفة" أو التأويل. وهذا وضوح رؤيوي بقدر ما هو منهجي يتحفنا به مؤلُف الكتاب عندما يهمُّ في "المقدِّمة" بكشف حراك الواقع الفكري الخاص بتوليد الرؤى التأويلية قيد الدرس، لكن الأمر ليس بهذه البساطة؛ فإذا كان يعدّ الهرمسيّة متاهة للمعنى نلاحظ أنه ينتقل من صناعة التأويل إلى فلسفة الفهم، وهنا يطلع علينا مارتن هيدغر (ت 1976) الذي ربط بين الوجود والهرمينوطيقا والتأويل ليتجاوز بذلك مجرد أن يكون التأويل "فهم" لأن ديلتاي استبصر حالة التأويل في ثلاث لحظات هي: فن الفهم، وفن التأويل، وفن التطبيق، ليفتح أفقاً بين التأويل نفسه والقول في شروط هذا الأخير، ويخلص إنقزّو إلى أن "أيّة قراءة لتأريخ التأويلية - منذ ديلتاي - إنما هي موقف مُضمر أو صريح من هذه المداولة بين المعنيين الصناعي والأنطولوجي للمُشكل التأويلي" (ص 27). وهذا التخريج/ الحُكم يجعلنا نأمن المنطلق لندخل إلى الباب الأول من الكتاب والمخصَّص لشلايرماخر بتوطئته وفصوله الثلاثة.

تجربة شلايرماخر

نحن في سنة 2017، ولا كتاب لفريدريش شلايرماخر أخذ طريقه إلى العربية حتى الآن، وهذا عجز مُخجل يتحمّل وزره بعض المترجمين العرب. ولعلّ فضيلة إنقزّو في هذا الكتاب هي رجوعه إلى متون شلايرماخر التي تناول فيها مسائل التأويل كالمقالات والمحاضرات وبقية مدوَّناته في هذا الشأن.

ولذلك، أفرد إنقزّو الباب الأول من كتابه (37 - 109) لانشغالات هذا الرومنطيقي الألماني العنيد واللاهوتي القلِق، ليضعنا عند الأرضية المتنامية في ألمانيا التي أنتجت شلايرماخر ليدلو بدلوه في خطْب التأويل، وفلسفة الدِّين، والفن، والعقل، والجدل، والأخلاق، فضلاً عن انصرافه إلى الترجمة التي كانت تُفهم كـ "حدث روحي" (ص 46) في زمانه، منتصراً للكتابات الدِّينية الذي اشتهر بها شلايرماخر نفسه منذ سنة 1799.

سيأخذنا إنقزّو إلى تفاصيل تكوين شلايرماخر الفكري، وقبله إلى تكوينه المعرفي والتربوي، وفي خلال ذلك تحوّلاته بين الدِّين والفلسفة والحركة الرومنطيقية (الرومانتيكية) والتنوير والتقوى في ظل انحيازه إلى الانخراط في العالَم الذي يعيشه من دون التحليق في أتون المفارق.

إلّا أن مؤلِّف كتاب (معرفة المعروف...)، ورغم شتات كتابات شلايرماخر عن التأويلية وانحسارها إلى مجرد خطاطات ودفاتر بقيت تحت النشر حتى رحيله؛ فإنه لم يتردَّد بالإلماع إلى كانطية وأفلاطونية ورومنطيقية هذا الفيلسوف الذي تُمثل أعماله "صورة لحياة رجل لم يحسم أمره كبعض معاصريه من الفلاسفة" (ص 48)، لكن إنقزّو سيحفر عميقاً في المتاح من كتابات شلايرماخر حول التأويلية التي أسست تأريخاً لها بفضل هذا اللاهوتي نابه الفهم الذي "جَمع بين مهارتي التحليل الفيلولوجي والمَلَكَة الفلسفية الأصيلة" (ص 29).

في الفصل التالي "في تأريخ التأويلية.. المسائل والقراءات"، سيسعى إنقزّو إلى وضع شلايرماخر في سياق تأريخ الـتأويل الألماني ليذهب إلى عُمق التحوّلات الفكرية والجمالية والفلسفية التي جرت في القرن الثامن عشر والقرن الذي تلاه، رغم تعقُّد حالة شلايرماخر من حيث انتماؤه إلى قطاع معرفي مُعين، ونأيه عن كُل ما هو نسْقي في عصر الأنظمة الفلسفية النسْقية الكبرى الشائعة في عصره، خصوصاً أن إنقزّو سيتفيأ بقول ديلتاي الذي نوّه بضرورة "الاحتياط من إدراج النسْق الهرمينوطيقي لشلايرماخر ضمن النسْق الفلسفي لشلايرماخر نفسه" (ص 55)؛ ولذلك يعتقد إنقزّو قائلاً، إن المُشكل يكمن في "مقام شلايرماخر نفسه من الإشكال في تأريخ التأويلية" (ص 51)، لكنّه سيحسم الأمر عندما يعتبر "منزلة شلايرماخر في تأريخ التأويلية هي من منزلة هذا التأريخ نفسه وحكمه الفلسفي ووجاهته" (ص 51)، وأن كُل ما سيقوم به إنقزّو في كتابه (معرفة المعروف..) إنما هو "استفسار عن الدور الذي اضطلعَ به صاحب هذه الفلسفة في تأريخ التأويلية الحديثة، هل هو مؤسِّس هذا التأريخ ونقطة انطلاقه الفعليّة أم هو أقصى حدٍّ بلغه؟" (ص 52). وسط ذلك، وبكل حذر، يعلن إنقزّو أنه لا يريد قراءة نصوص شلايرماخر من حيث هي "وثائق موضوعية دالة على قول مثبت أو على قول مثبت فحسب" (ص 56)، إنما يريد التوغل إلى ما ورائها، ففعل ذلك باحترافية عالية.

من الموضوع إلى الذات

هذا التوجُّه لم يكن يمنعه من موْضَعَة شلايرماخر بإزاء الفلسفة من حوله؛ فإذا كان إمانويل كانط قلب المسار بالذهاب من الموضوع إلى الذات، فإن شلايرماخر "يعود من الموضوع إلى نشاط الروح الذي يؤسس وحدة التأويلات المختلفة" (ص 57). وبهذا تمثل تجربة شلايرماخر "اللحظة الثانية" في تأريخ التأويل الذي بدأ لحظته الأولى منذ القديم حتى عصر النهضة. أما اللحظة الثالثة، فيمثلها ديلتاي وأتباعه، وهي لحظة قائمة على نظرية جامعة بين الأثر التنظيري لشلايرماخر والعمل الفعلي للعِلم التاريخي" (ص 58). إنها موْضَعَة تبدو لي تُنصف شلايرماخر من ناحية موقعه التأريخي. فهل يكتفي إنقزّو بذلك؟

بالطبع كلا، إذ نرى عنده ملاحقة إبستمولوجية لاجتهادات أخرى لا ترى في حشر شلايرماخر بلحظة ثانية منصفاً، فهناك من يرى أن "إشكالية شلايرماخر حاصلة عن أسلافه" (ص 60)، ولا بد من "فصله عن كُل ربط تأريخي" (ص 60)، وهو ما جعل إنقزّو يناقش مقالة بيتر سوندي "تأويلية شلايرماخر" (ص 60)؛ بل ومناقشة كتاب جورج غوسدورف (أصول التأويليّة)، الذي نسف اتصالية العلاقة بين قبل وبعد لصالح الرجوع بشلايرماخر إلى "المناخ الروحي الذي تشكَّلت منه فلسفته في التأويل، لا سيما برافديه الرومنطيقي واللاهوتي" (ص 62).

مع طرافه هذه الرؤى، بقي إنقزّو مصراً على تاريخانيّة اتصالية تسم تجربة شلايرماخر التأويلية، فهي تجربة "مرسومة في الأصل ضمن منطق إشكاليته التأويلية وروحها من ديلتاي إلى غدامر" (ص 62)، فشلايرماخر "صاحب مقام فلسفي مُقارن لمقام كبار الفلاسفة، معاصراً لهم ولنا وليس مجرد مُفكِّر هامشي أو لاهوتي مغمور من عصر التنوير أو من مدرسة الرومنطيقية ذات المنزع الجمالي الأدبي؛ بل أصبحت نظريته في التأويل مثل موشور لمقاربة فلسفته كُلها، وتوجيه الفلسفة المعاصرة توجيهاً حاسماً نجو قضايا مبتكرة" (ص 63). وهذا يعني أن إنقزّو ينتصر لوحدة الخطاب عند شلايرماخر، وينفي عنه تصدّعات التفرقة بين خطابه الفلسفي وانشغالاته التأويلية.

لذلك، سينحاز فتحي إنقزّو إلى ديلتاي بوصف هذا الأخير "حاملاً للواء شلايرماخر" (ص 65)، وأنه من "أكبر العارفين بميراث شلايرماخر بلا منازع" (ص 64)، وبالمرة إقبال ديلتاي على "استخراج البُعد النسْقي في فلسفة شلايرماخر؛ النسْق الفلسفي والنسْق اللاهوتي" (ص 64)، فضلاً عن أهمية التأريخ السيري لحياة شلايرماخر من جانب ديلتاي التي أخرجت تأويليته - تأويلية شلايرماخر - من كونها مغمورة إلى واضحة النهار. أما مارتن هيدغر، فلا يرى إنقزّو في تجربته سوى النأي عن شلايرماخر وديلتاي؛ ذلك أن رؤية فيلسوف الغابة السوداء تميل إلى "سنخ حدثيَّة الوجود" التي تعزز "البُعد الأنطولوجي الناطق عن تجربة الوجود" (ص + ص 71)، وتلك مسألة أخرى.

ضحالة الطارئ

في الفصل الثاني أو "بدايات الفلسفة وتجارب الفكر الأفلاطونية والحداثة"، سيعود فتحي إنقزّو إلى جذور اشتغالات شلايرماخر التأويلية وسط اعتقاده بأن المُشكل التأويلي عند هذا الفيلسوف ليس عرضياً أو طارئاً، بل هو "حاصل نماء متدرِّج لهذا الفكر في الزمان" (ص 74)، ليستنتج - في ضوء ذلك - صنافة دالة على وجود ضربين لهذا الفيلسوف اجتهد في بنائهما؛ وهما: "ضرب تكويني وضرب نسْقي" (ص 74). وفيهما استجلي أهمية فعل الترجمة لمتون أفلاطون على يد شلايرماخر نفسه، فهذا الأخير "ترجمان فذ" (ص 75) من دون التغافل عن أهميّة التأثير الأفلاطوني في فكره، لكن إنقزّو سيذهب إلى ما قبل نسْقية هذا الرجل ليؤكِّد بأن "حياة شلايرماخر هي المدخل الرئيس لفكره" (ص 76)، كما أن ما كتبه (في قيمة الحياة) يمثل متناً مُعبراً عن "الطابع الشخصي" وعن "تجربته الأولى في الحدْس بمعنى الحياة" (ص + ص 80)، وهي تجربة تستجلي "توحُّد الرغبة بالمعرفة" (ص 80)، وتلك تجربة رائقة تشبه كثيراً ما يُمكن تسميته بـ "القلق الوجودي" (ص 80).

ووسط شكه بأن تكون الكانطية أساساً لفلسفة شلايرماخر، يعتقد إنقزّو بأن علاقة هذا الفيلسوف بكانط تبقى "مُعقَّدة" (ص 81)، بينما علاقته بأفلاطون هو ما سيعزز إنقزّو وجودها في ظلِّ ميول شلايرماخر إلى الرومنطيقية المعروفة عنه، حتى ليذهب إلى أن "فهم شلايرماخر المخصوص لأفلاطون هو الذي يؤسِّس التأويلية بوصفها جزء من النسْق" (ص 84)، لا سيما بعد أن راقت له فكرة الجدليّة التي أخذت تستولي على تفكيره قبيل سنة 1811، لكنه سيفهم هذه الفكرة بنحو يختلف عمّا فهمه فلاسفة المثالية الألمانية لها، رغم اعتراف شلايرماخر بأهمية أفلاطون في حياته الفلسفية والتأويلية والروحية في غير موضع.

هذا ما جعل إنقزّو يأخذنا إلى تجربة شلايرماخر الدِّينية المؤسَّسة على قيمة "الحدْس" وفضل هذا الأخير في بناء التجربة الروحية، وعندما نقول: "الحدْس" فإننا نلمح بنية عقلية وليست فقط إيمانية صوفية مباشرة، لكن إنقزّو لم يتوغَّل كثيراً في المسألة الدِّينية عند شلايرماخر علماً أنه أشار إلى متون هذا المتديِّن القلق وكتاباته عن الدِّين، حتى ليقول عنها بأنها "تعبير بأسلوب شخصي عن تجربة الإيمان الدِّيني بوصفها تجربة داخلية شعورية" (ص 91)، لينتهي إلى حُكمهِ قائلاً: "إن مقام شلايرماخر هو مقام التخوم والأقاصي؛ حيث الجوار والقُربى بين النبوءة والعقل؛ بين التصوُّف والحداثة، بين الحدْس والفكر" (ص 92)، وهو تخريج مُفعم بشعريّة القول ربما كان ينتظره شلايرماخر ذاته من أحفاده الأفارقة في تونس؟

المدونة التأويلية

مع الفصل الخامس "الحدس والتعبير.. فن الفهم وفن التأويل"، سيدخل إنقزّو إلى صميم مدوّنة شلايرماخر التأويلية، ومنها كتابه (التأويلية) الذي كان مدوّنة تحتية؛ فصاحبها "لم يقصد نشرها أصلاً" (ص 94), ولهذا يسرد إنقزّو مراحل المدوّنات، وهي: (درس سداسي 1804 – 1805)، و(المخطّط الأول للتأويلية لسنة 1805)، و(درس التأويلية العامة لسنة 1909 – 1810)، وفي كُل ذلك بدا منحاه الفلسفي صريحاً مقارنة بالاتجاه اللاهوتي، ثم (مُختصر الهرمينوطيقا) لسنة 1819 إلى جانب (ملحوظات) سنة 1828، وبالتالي خطابه (في مفهوم الهرمينوطيقا) لسنة 1829، وكذلك خطابه (في مفهوم النقد الفيلولوجي وتقسيمه) يوم 20 آذار/ مارس 1830، وأخيراً الملحوظات التي تعود إلى السنوات الأخيرة من حياته، وهي تضم (المبادئ العامّة للهرمينوطيقا والنقد وتطبيقها على العهد الجديد لسنتي 1832 – 1833). (ص 95 - 96)، وكنتُ أنتظر من إنقزّو توضيحاً بشأن مصطلح "التأويل" مقارنة بـ "الهرمينوطيقا" التي عنون بها شلايرماخر كتاباته أعلاه!

هذا إذن هو المنتوج الكتابي لهذا الفيلسوف في التأويل، وكُل هذه النصوص/ المدوّنات لم تُترجم إلى العربية حتى الآن! لكن إنقزّو سيرعى القارئ المحروم من قراءتها بالحرف العربي عبر الدخول إلى جوهر التأويلية لدى شلايرماخر ضمن مفاصل التأويل واللغة والحدْس؛ فمبتغى شلايرماخر هو بناء "تأويلية عامّة ذات صلاحية كُلية ومعقوله تفوق الميادين الجزئيّة التي كانت تنطبق عليها صناعة التأويل" (ص 96)، وها هنا ميل إلى ما هو نسْقي، يفوق انفراد التأويل لمجرد قراءة النص الدِّيني.

مع ذلك، سيستخرج إنقزّو نصين قصيرين أو قل شذرتين كثيفتين من المدوَّنة، يقول شلايرماخر: "ثمَّة تأويليّة حيث يكون سوء الفهم"، وكذلك قوله: "فهم المؤلِّف كفهمه لنفسه أو أفضل منه" (ص + ص 97)، وبذلك يضعنا شلايرماخر في صميم فلسفته للتأويل؛ حيث يمثل الفهم وسوء الفهم مُنطلقاً للفهم في كُل مرّة، على أن اللافهم هو دافعيّة السبيل للبحث عن المعنى، لتأتي أهمية اللغة بوازع رومنطيقي، حتى ليقول شلايرماخر إن "اللغة هي الأمر الوحيد الذي ينبغي افتراضه في التأويلية" (ص 98)، لكونها؛ أي اللغة "عينها تقف في تكوينها على الحدْس" (ص 99)، لكنّ شلايرماخر "يعطي اللغة بُعداً شخصياً" (ص 99)، ما يعني أن اللغة ليست مجرد بنية صورية، إنما هي تاريخانية أيضاً لطالما كان يقف خلفها شخص يعيش اللحظة اسمه كذا..، ولذلك قال شلايرماخر إن اللغة هي "جزء من الذوات والأفراد الذين يستعملونها" (ص 99 - 100)، وهذا كُله تمهيد للفصل المرحلي الذي لجأ إليه شلايرماخر بين "التأويل الفني" و"التأويل النفسي"؛ فلا لغة مُمكنة من دون الذات والنفس، ولا تأويل مُمكن من دون الكلام واللغة، بالأحرى "ليس ثمَّ تأويل قبل الكلام والحديث والكتابة" (ص 100), ما يعني أن فعل التأويل هو الفعل التالي على الخطاب البشري؛ فلا مُسبقات أولية قبْليّة ولا سابقيّات على غرار ما انتهجه مارتن هيدغر من الناحية الأنطولوجيّة تاليا.

من العفوية إلى النظرية

وفي الوقت الذي يحتفي فيه إنقزّو بمصطلح شلايرماخر "الواقعة Factum"، نراه لا يتغافل عن رؤية هذا الفيلسوف، وهو يرتقي بالعفوي إلى مستوى النظرية بقوله: "إن التأويلية نفسها جَهد وعمل دؤوب وسعي إلى النظرية" (ص 103)، ليزيل عن تجربة شلايرماخر أن تكون تأويلياته مجرد مدوَّنات لبنات خاطر لم يسع إلى نشرها شلايرماخر حتى يقرأها الناس؛ بل هي تجربة شخصية مُنغلقة على نفسها، بدلاً من ذلك سينزل إنقزّو إلى عمق التجربة وفق تصنيف كان واضحاً لدى فاهمة شلايرماخر نفسه عندما حسم أمره، ومنذ سنة 1805، ليقول بوجود "فهم داخل اللغة، وفهم الذي يتكلَّم، أي بين تأويلين أو وجهين تأويليين؛ وجه لساني ووجه فني؛ الأول هو فن العثور على المعنى المحدَّد لخطاب مأخوذ انطلاقاً من اللغة واستعانةً بها" (ص 104)، بينما ينصرفُ الثاني إلى "الذات المتكلِّمة الفعليّة من حيث هي ذات شخصية مفردة" (ص 105)، الأول يتصفُ بالموضوعية. أما الثاني، فهو ذاتي المنحى، لكن إنقزّو سيبدو متأثراً بكتابة ديلتاي لسيرة سلفه شلايرماخر؛ فهذا الأخير لا يني يؤكِّد بأن التأويل هو عملية إعادة بناء لا نهائية حتى نبلغ فهم المؤلِّف أكثر من فهمه لنفسه، وهي الصيغة التي كان كانط أو القائلين بها" (ص 105). وموئل القصد إنما هو عبارة "فهم الفيلسوف أكثر من فهمه لنفسه"، والتي وردت بالفعل في (نقد العقل المحض، ص 194 بترجمة الراحل موسى وهبه. وكان الدكتور محمد محجوب قد أشار إليها في معرض ترجمته لكتاب بول ريكور النفيس مقالات ومحاضرات في التأويلية، ص 94، هامش 1، ما يتعلَّق بالفهم الأحسن). وبالطبع، كان كانط يتحدَّث عن قصور الفيلسوف في التعبير عن أفكاره، عندما "لم يُعيِّن بشكل وافٍ أفهومه" (كانط: ص 194)، وهو تكريس لسوء الفهم الذي يحتفي به شلايرماخر.

يتحدَّث إنقزّو عن الوجاهة الفلسفية كما دعا إليها شلايرماخر في سنة 1819؛ وذلك عندما قال هذا الأخير: "إن فن الحديث وفن الفهم متناظران، وحيث لا يكون القول شيئاً غير الوجه الخارجي للفكر، فإن التأويلية تتعلَّق بفن الفكر، ولذلك هي فلسفية" (ص 106). ليختم إنقزّو قوله عن شلايرماخر بشأن عبارة "الدور التأويلي"، وهو عبارة دالة على جِماع خطاب هذا الرجل الذي افترض - وبحسب مدوَّنة 1805، ومدوَّنة 1819 ومدوَّنة 1829 - وجود "المنهج المقارن" و"المنهج الشهودي" الذي يكتمل عندما يقوم على أربع ركائز، هي إلى جانب الشهودي والتاريخي، الموضوعي والذاتي، حتى يصح لنا القول إن هذا الفصل يقدِّم لنا فرشة لرؤية شلايرماخر في التأويل، والأمل أن يعكف الدكتور فتحي إنقزّو على ترجمة متون هذا الفيلسوف ليقف القارئ العربي على تراثه وجه لوجه.

تجربة ديلتاي

يبقى إنقزّو في القرن التاسع عشر، ليأخذنا صوب مساهمة الفيلسوف الألماني فلهلم ديلتاي (1883 - 1911) الذي يضع دارسو التأويل له مقاماً في الحديث عن تأريخ هذه المعرفة المثيرة للجدل. ولذلك، يُخصِّص الباب الثاني من كتابه (معرفةُ المعروف) لهذا الفيلسوف بفصوله الثلاثة (ص 114 - 234) التي خصَّصها لفكر هذا الرجل، لا سيما رؤيته في التأويلية، ليستعرض - إنقزّو - أمّهات الكتب التي أُلفت بشأنه خلال القرن العشرين، كاشفاً في الوقت نفسه المنحى التاريخي الذي هيمن على خطابه استناداً إلى النصوص التي كتبها حتى يقول إنقزّو: "بين ميراث هيغل وشلايرماخر من جهة، وآفاق فلسفة الحياة والفينومينولوجيا الناشئة من جهة ثانية، بقي ديلتاي يتردَّد حاملاً وزر التاريخ والتراث الروحي لأمته" (ث 122). وتجدر الإشارة ههنا أن إنقزّو نفسه كان قد ترجم - لأولِّ مرة - إلى العربية كتاب ديلتاي (إقامة العالَم التاريخ في علوم الروح) وصدر عن المركز الوطني للترجمة في تونس سنة 2015.

ولهذا، سيكرس إنقزّو الفصل الأول لدراسة علاقة ديلتاي بعصره من خلال "نقد الوضعية ومَهمة الفلسفة"، و سيؤكد على عدم نسْقية فلسفة ديلتاي، رغم أن الطابع العام للفلسفة في عصره كان نظامياً في مساراتها العامة، مثل فلسفة هيجل وفخته وشلنج، كما درسناه منهجياً في كتابنا (الحضور والتمركز...) الصادر سنة 2000 في بيروت. يقول إنقزّو: "إن فلسفة ديلتاي هي جُماع عصر، وخلاصة فكر..، ولا تنشغل ببناء نسْق فكرياً مُكتمل كما هو عند عموم المُحدثين..، وفكره أقرب إلى التراكم والتدرُّج والتشتُّت، فهو مبثوث في نصوص متفرقة، ومكتوب على شاكلة تتردّد بين ترتيب المصنّفات والرسائل، وإيقاع عفوي هو وليد الحدْس والفكرة والتجربة المباشرة، ولذلك غلب على هذه الفلسفة عدم الاكتمال في كُل طور من أطوارها، وكأنها تواجه - في كُل مرة - مشروعاً كبيراً لا قبل لها به" (ص 125 - 126)، ليستعرض، بعد ذلك، جُماع مكتوباته الفلسفية متواترة الصدور. لكن إنقزّو يرى بأن "انتظام القول الفلسفي لديلتاي لا يخضع لضغط المطالب النسْقية المتقدمة على المشكلات الفعليّة، إنما يسبقها، ويضع شروطها، لكونه يعبَّر عن فكرٍ راجع إلى التجربة ومصادرها، متصل بالواقع والأحداث" (ص 127).

المفرد والكُلي

ثم ينساب إنقزّو مع فكرة التأريخية التي هيمنت على ديلتاي - بحسب اعترافات وخطابات ونصوص غير منشورة عنه بالعربية - يقول ديلتاي في هذا الشأن: "إن الرؤية التاريخية للعالَم إنما شأنها أن تحرّر الروح البشري من القيد الأخير الذي لم تكسره بعد علوم الطبيعة والفلسفة" (ص 130). ولهذا، سيدافع إنقزّو عن هذه الرؤية ضد منتقدي ديلتاي الذين يبخسون حقه الفلسفي، فيقول: لقد تجاوز ديلتاي "الدلالة الفلسفية الكُلية للواقع التاريخي دون ميتافيزيقا، ودون نظرية سابقة تتضمّنه" (ص 130). ولذلك، يُذكِّر بخطاب الانتساب إلى أكاديمية العلوم الذي ألقاه ديلتاي سنة 1887، ليخلص إلى أن مسارات هذا الفيلسوف كانت "تتردّد بين عبقرية المفرد وموضوعيّة الكُلي، بين السيرة والنظرية، بين الشعر والتاريخ" (ص 131).

وفي هذا السياق، ينتصر ديلتاي إلى الشِّعر، ويعتبر "عالَم الشعراء الباطني ليس غريباً عن حركة المجتمع والأمة التي تستمدُّ منه طاقتها وعنفوانها الروحي" (ص 133)، وعلى عكس غموض شلايرماخر سنرى احتفاء ديلتاي بكانط، فيقول: "الثبات على السُّنة النقديّة لكانط، وتأسيس عِلم تجريبي بالروح البشري" (ص 135)، وهذا الإيمان بالمنحى الكانطي هو ما دعا إنقزّو إلى مُعاينة اهتمام ديلتاي بفيلسوف (نقد العقل المحض)، لكنه سيؤكِّد رؤية ديلتاي في هذا المجال؛ فهو لا يؤمن بفلسفة كانط كما هي؛ ذلك أن "التعالي الذي يؤمن به ديلتاي غير محتاج إلى أيّة مفارقة تعلو على الوجود الفعلي للحياة التي ينبغي لها فهم ذاتها انطلاقاً من نفسها، ومن انعطافها بنفسها. أما العقل، فليس هيئة قبْليّة خالصة، إنما هو مُساوق لحركة الحياة، مُنخرط في زمانيتها وتاريخيتها الجذريتين، إنه وظيفة خلّاقة بالطبع" (ص 143). على أن رؤية بهذا الوضوح ستقول رأيها حتما بشأن الحركة الوضعية التي كانت سائدة في عصر ديلتاي نفسه الذي وجد فيها أن نقضها "مُلازم لنقض ميتافيزيقا التاريخ؛ أي الفلسفات الشموليّة التي تدَّعي إعطاء معنى كُلي ونهائي للسيرورة التاريخية" (ص 145). لذا سيركِّز إنقزّو، وهو يقرأ ديلتاي على ما أسماه "نسْق الطاقات"، أو "النسْق الديناميكي" (ص 147) الذي لا يريد هذا الفيلسوف الحذر التغافل عنه، وهو يبني نسْقه الفلسفي. ولكن ماذا عن الروح الفلسفي؟

حضور الروح

إلى كتاب ديلتاي (مقدِّمة في علوم الروح)، وهو كتاب غير مُترجم إلى العربية حتى الآن! سيأخذنا إنقزّو ليكشف عما قاله ديلتاي فيه؛ إذ إن "الفلسفة لا تقوم على أساس نظري معرفي فقط؛ حيث إن الأمر يتعلَّق في الفلسفة برفع الروح إلى رتبة استقلاله بذاته" (ص 160)، واعتقدُ أن هذا النص لكفيل بدلالة الروح في خطاب ديلتاي، وإذا أردنا أن نضيف ما نتفيّأ به فلنذهب إلى ديلتاي ذاته الذي قال أيضاً: "إن كُل المجامع التي ينتجها الوعي إنما تكمن في وحدة الوعي الشخصي. إن هذه الوحدة هي بنية الحياة النفسيّة" (ص 160). وإذا زدنا الأمر وضوحاً سنصطفي قول ديلتاي الصريح: "إن التجربة الباطنية والفهم هما سيرورتان أساسيتان تُعطى ضمنهما العالَم الروحي والتاريخي، إعادة البناء هي مُعايشة، والفهم بمدلوله الصناعي هو شرح أو تأويل" (ص 161).

على أن إنقزّو لا يفوته التأكيد على رؤية هذا الفيلسوف الذي تملص من ميتافيزيقا غالبية على عصره من خلال "إقامة معرفة واثقة بالتاريخ والمجتمع؛ بل وبسائر هيئات العالَم الروحي البشري وتشكيلاته" (ص 166)، حتى ليقول مع ديلتاي بأن "زمان التأسيس الميتافيزيقي قد ولى وانتهى أمره بانقضاء حال العُلوم التي ارتبط بها"، وأن ما ندب ديلتاي حياته له، إنما هو "استئناف التفلسف استئنافاً غير ميتافيزيقي" (ص 166)، ليحتفي مؤلِّف كتاب (معرفةُ المعروف..) بالنسْق الذي اجتهدَ ديلتاي طوال حياته ببنائه مبينا أن "جُملة العُلوم التي موضوعها الواقع التاريخي والاجتماعي سيقع جمعها تحت اسم عُلوم الروح" (ص 168)، ويقصد بعُلوم الروح إنما "العُلوم الإنسانية"، لكن ديلتاي سيحدِّد مفهومه لـ "العِلم" قائلاً: إنه "كُل جُملة من الوقائع الروحيّة التي تلتقي فيها السِّمات المُشار إليها" (ص 168)، منتصرا للكُليّة التي تمثلها الطبيعة البشرية نفسها التي لا بد أن تتقيّد بما هو روحي ذلك الذي يتجلّى بوعي الإنسان بنفسه بما له من "العُمق والبُعد الكُلي" (ص 169)، الذي ستجذِّره طاقة الإحساس لدى الإنسان وإرادته وشعوره بالحريّة التي لديه كإنسان، على أن "مشروع عُلوم الروح يناسب عصراً للفكر" (ص 169) بغية الخروج من عصر ضجَّ بأشكال الميتافيزيقا حد التخمة المُملة!

وإذا كان الدكتور فتحي إنقزّو يمضي بتحليل مفاصل كتاب (مقدِّمة في علوم الروح)، فإنه سيتوقف عند علاقة ديلتاي بشلايرماخر؛ فالأول أعطى أهمية علميّة لوجاهة "المفرد"، لكن ذلك يؤكِّد بأن ما قام به الثاني إنما هو "استئناف وتطوير جذري لحدس رئيس من حدوس شلايرماخر" (ص 174) كفيلسوف مفصلي لديلتاي. هذا الأخير الذي لا يني إنقزّو يكشف عن تأثره بالحركة الرومنطيقية في عصر كما كان سلفه شلايرماخر (انظر: ص 183). أما مسألة استغراق ديلتاي في سرد حياة أستاذه شلايرماخر، فهو نابع - بحسب إنقزّو - من "ظهور التصوُّر الطبيعي للإنسان وللإنسانيّة في القرن الثامن عشر، وهو أشبه شيء بالتاريخ الطبيعي للحياة النفسية" (ص 183 - 184). ولهذا سيدرس إنقزّو، وعلى نحو مكثف، رؤية ديلتاي لعِلم النفس، ولكن يبقى السؤال متاحاً: ماذا عن مُساهمة ديلتاي في التأويلية؟

النفسي ورتبة التأويلي

يقول إنقزّو: "قد يكون من قبيل التبسيط الشديد القول إن منتهى المباحث النفسية هو مبتدأ المباحث التأويلية من جهة المراهنة على قول المفرد، وتنزيله في مساق القول العلمي" (ص 195). لكن إنقزّو يذكِّر القارئ بما كتبه ديلتاي نفسه تحت عنوان "تأويلية المفرد"، ومن ثم "نشأة التأويلية" لسنة 1900، بغية الحديث عن "وسائط تأويلية"؛ ذلك أن ديلتاي يفهم فن الفَهم بوصفه "يدور على شرح أو تأويل شواهد الوجود البشري التي حفظتها الكتابة" (ص 200)، وفي ظل اعتقاد ديلتاي بأن التأويل لا يمضي بمحض الصدفة؛ بل بقواعد صناعيّة، فإن "العمل الفيلولوجي هو الذي يمثل البداية الصناعيّة التي ترتقي بالتأويل إلى رتبة الفن" (ص 201)، ما يمكننا من الاستنتاج بأن "العِلم التأويلي هو فن شرح الشواهد المكتوبة" (ص 201)، ولهذا لا يني إنقزّو يؤكِّد بأن ديلتاي سيرتقي برفع "المسألة الهرمينوطيقية إلى رتبة العِلم الفلسفي" (ص 201)؛ بل "إنه سيؤسس الصلاحيّة الكُلية للتأويل تأسيساً نظرياً" (ص 204)، ولذلك سيؤكِّد إنقزّو على الترابط الذي اجتهدَ ديلتاي لإجلائه بين التاريخي والنسْقي، وهو يتحدَّث عن التأويل من حيث "تطابق الوسائط النسْقية والوسائط التاريخية في موضع مُشترك" (ص 205)، وسط اعتقاد هذا الفيلسوف بأن "التأسيس الحديث لعُلوم الروح يجد في التأويلية منطلقاً عظيم البناء" (ص 205)، ليستنتج إنقزّو بأن التأويلية عند ديلتا هي "ليست من هوامش النسْق وأطرافه، وإنما هي خيط ناظم لترتيبه، ونمائه، وانتظامه، .. وحاجة التأويلية إلى تأريخها كحاجة الفلسفة إلى تأريخها" (ص 205). وإذا بدا لإنقزّو أنه يؤشر قوله بأن "نمط التأسيس الهرمينوطيقي هو مصدر الحيرة لدى قراء ديلتاي" (ص 206)، فإنه سيصرُّ على أن "وراء الانقطاعات والتردُّدات ثمَّ أتصال باطني يراه ديلتاي في وحدة مشروعه، ووحدة الفرضيّات والأفكار الناظمة له" (ص 207)، ولا يتردد إنقزّو عندما يستنتج بِأن "الفلسفة التي صاغتها الأعمال المتأخرة لديلتاي في العقد الأخير من حياته هي دليل إثبات على اتصال الانشغال التأويلي في الصيغة الأخيرة التي ارتآها؛ أي الصيغة الفينومينولوجية" (ص 209)؛ ولهذا كان ديلتاي، ومنذ أواسط تسعينيات القرن التاسع عشر، يعملُ جاهداً على "تمتين المنوال التأويلي لفلسفته من دون التخلي عن التأسيسات الأخرى التي اشتغل عليها" (ص 210)، ما يعني أن الرجل كان مُصرّاً على مواصلة النهج التأويلي، والذي تبدّى في كم النصوص الهائل الذي كتبه حتى رحيله، ولذلك يعتقد إنقزّو أن الفلسفة التأويلية لهذا الفيلسوف تراها "مبثوثة في روح الكتابات المتأخرة، وهي مُجملة في آخر كتب ديلتاي، خلاصة عمله، ووصيته الفلسفية" (ص 211)، لأنه ظل مُعتقداً ورغم "المداورة" في الأفكار الذي تميزت بها كتاباته، بأنه يحتفي بالتأول كمنوال فلسفي دال على نمط المعقولية الذي تبنّاه في كُل مراحل حياته وأطواره في كتاباته.

***

أخيراً، ومثلما فعل فتحي إنقزّو في كتابه (معرفة المعروف..) بشأن قراءته لمعطيات فلسفة شلايرماخر، كذلك فعل مع ديلتاي عندما ذهب إلى عُمق عصرهما بكُل حراكه الفكري، لنكون بهذا لا نقرأ مجرد تأريخ للتأويل كما عهدناه لدى بعض مؤرِّخة الفلسفة التأويليَّة في عالمنا العربي، بل نخوض غمار الجديد الجاد بشأن هذين الفيلسوفين الألمانيين، كما أننا لا نقرأ سطوحاً نصيّة عابرة كما قرأنا ذلك سابقاً باللغة العربية عن شلايرماخر وديلتاي، إنما نجد أنفسنا عند تخوم النصوص الأصلية ذاتها التي كتبها كُل واحد منهما، لنكون مع أول دراسة العربية تستوفي حق هذين الفيلسوفين في ظل غياب متونهما الألمانية مترجمة إلى العربية، رغم أن إنقزّو غامر بترجمة أحد نصوص ديلتاي (إقامة العالَم التاريخ في عُلوم الروح)، لكن يبقى النص الآخر (مقدِّمة في علوم الروح) له حذوه الأصيل فيما لو تُرجم إلى العربية، هذا النص الفلسفي الذي عرض مفاصله إنقزّو في الباب الخاص بهذا الفيلسوف الكبير كما فعل مع سلفه بشأن متون شلايرماخر الذي عرض لها خطوة بأخرى على نحو متراص. إن كتاب (معرفة المعروف..) دراسة تأخذ القارئ من سطوح النص التأويلي إلى خطابه الفلسفي بحرص علمي دؤوب.

طوبى لهذا الصنيع فيما أقبل عليه الدكتور فتحي إنقزّو ليس بعيداً عن المشرف على مشروع (التأويليّات) الدكتور محمد محجوب، هذا المشروع الذي نرجو له ردم الهوّة بيننا وأمّهات المذاهب التأويلية في الفكر الفلسفي الحديث والمُعاصر.