منير السعيداني: طروحات في الثقافة والتغيير والمجال العام


فئة :  حوارات

منير السعيداني: طروحات في الثقافة والتغيير والمجال العام

نلتقي في هذا الحوار مع الأستاذ الدكتور منير السعيداني المختص في علم اجتماع الثقافة، لنحاوره حول جملة من القضايا التي تطرق إليها في دراساته وأبحاثه. والأستاذ الدكتور منير السعيداني متحصل على شهادة الدكتوراه حول ''الأنا والآخر في الفكر العربي الحديث مقاربة سوسيو- ثقافية'' إضافة إلى رسالة جامعية سابقة بعنوان ''المثقفون العرب وحرب الخليج''. وهو عضو مؤسس للجمعية التونسية المتوسطية للدراسات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية. وله مؤلفات عديدة في مجال اختصاصه؛ منها المقالات والدراسات والكتب، ونذكر من بينها ''التنظيمات السياسية والمدنية في الانتقال الديمقراطي بتونس'' الصادر سنة 2012، وهو كتاب بالاشتراك، إضافة إلى كتاب ثان عنوانه ''يريد ويبدع ما يريد: الشباب في الانتقال الديمقراطي في تونس'' وهو أيضًا صادر سنة 2012. وللأستاذ السعيداني اهتمامات بالترجمة وفي هذا السياق قام بترجمة كتاب ''ممارسة علم الاجتماع'' عن النص الأصلي الفرنسي لسيرج بوغام، وصدر عن المنظمة العربية للترجمة سنة 2012، وله ترجمة لكتاب دنيس كوش، ''مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية''، وصدر أيضًا عن المنظمة العربية للترجمة سنة 2007.

في علم اجتماع الثقافة

د. نادر الحمامي: من خلال ما يمكن أن نطلع عليه من الدراسات التي نشرها الدكتور السعيداني، يبدو للمتتبع أنّ له نظرة مخصوصة إلى علم الاجتماع ودوره، إذ المقارنة مثلاً بين ما نشره قبل سنة 2011 وما بعد ذلك تبين بوضوح أنّ دراساته تنطلق من المجتمع ومن تحولاته، فالمجتمع، كما يعتبره هو في إحدى دراساته، ورشة عمل مفتوحة. ومن هنا يمكننا أن نفتتح هذا الحوار مع الدكتور السعيداني بما يتعلق بعلم الاجتماع الثقافي، فهل ما يمكن أن نلاحظه في هذا المجال هو صحيح أو يجب أن نعدله، أي هل أنّ المجتمع هو الذي يفرض نمط البحث في علم الاجتماع الثقافي، أم إنّ عالم الاجتماع هو من يحاول إسقاط نظرياته على المجتمع؟

د. منير السعيداني: في الحقيقة، هناك نوعان من الخصوصية التي يمكن أن نعتبرها في المجتمع التونسي من ضمن المجتمعات العربية الإسلامية، أوّلهما هذا الحضور الثقيل لما نسميه ثقافي، فعندما نتحدث عما هو ثقافي نحن نقصد بذلك الديني والقيمي والتصورات والمعايير وحضور اللغة في الحياة اليومية ومختلف التمثلات والتصورات التي تهندس نظرة الناس إلى حياتهم وأنفسهم وعلاقاتهم، فالمجتمعات العربية، ومن بينها المجتمع التونسي بشكل عام، تعتبر مجتمعات فيها حضور ثقيل لما هو ثقافي. ولكن الجديد في الأمر هو أنّه علينا أن نبحث دائمًا عن زوايا نظر جديدة لما هو ثقافي، فما بُحث إلى حد الآن في الثقافة العربية الإسلامية كان من منطلقات دينية، مثل البحث في الفقه أو البحث في الدين الإسلامي من منظور تاريخي أو من منظور فيلولوجي. وما هو مطلوب أكثر هو أن نجدد زاوية النظر بحيث نعتمد هذه المقاربات الإنسانية والاجتماعية الجديدة ومن بينها علم الاجتماع، وأقول مقاربات جديدة على الرغم من أنّ علم الاجتماع تجاوز القرن منذ ميلاده أو حتى أكثر بكثير، ولكن ما هو جديد بالنسبة إلينا أن نخضع هذه الثقافة بثقلها هذا الديني والتصوري إلى دراسة من منطلقات إنسانية واجتماعية وبالتخصيص في علم الاجتماع. ما أعتقد أنّه جديد أيضًا هو أنّنا في مناقشتنا لهذه المسائل الثقافية نحاول أن نبحث عن ترابطات بين ما هو ثقافي وما هو سياسي أي التحولات السياسية التي شهدها مجتمعنا أو التي شهدتها مجتمعات أخرى قريبة من مجتمعاتنا. ومجال البحث في الاجتماعي هو العلاقة بالسياسي والعلاقة بالديني والعلاقة بالتاريخي والعلاقة بالاقتصادي... أي أن نحاول إيجاد رابط بين الظواهر الثقافية في تمظهراتها الدينية واللغوية والتصورية والتخيلية ومعطيات الواقع الاجتماعي بما هي معطيات اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية...

هذا المبحث على الرغم من أنّه كان فيه العديد من الاجتهادات والتحليلات السابقة فإنّه يعتبر مبحثًا جديدًا، إلى حد ما، بالنسبة إلى علم اجتماع الثقافة؛ فعندما نعود إلى منجز علم الاجتماع في تونس حول هذه المسائل نجد أنّه لا يتجاوز أكثر من أربعين إلى خمسين سنة، فنحن إزاء مبحث جديد خاصة بالنظر إلى ما أسميته ثقلاً في حضور الثقافي في الحياة الاجتماعية، فنحن نحتاج إلى ما يمكن أن نعتبره جهدًا مضاعفاً حتى نتجاوز ذلك الثقل في حضوره في حياتنا اليومية، فأنا أرى، بصفة عامة، أنّ هذا المبحث فيه الكثير من التحديات في مستوى التنظير والمفاهيم والمنهج ما يمكننا من تجديد النظرة إلى الثقافة.

الآن، ما الذي نقصده بالثقافة؟ اعتدنا في علم الاجتماع أن نتحدث عن معنيين للثقافة بشكل عام؛ هناك أوّلاً معنى يمكن أن نعتبره ضيقًا نوعًا ما وهو يتعلق بالظواهر الفكرية والظواهر الثقافية في معنى الفن وفي معنى الأدب، وهذا هو المجال الذي اعتيد على اعتباره مجالاً لعلم اجتماع الثقافة في المنجز العلمي الاجتماعي في الولايات المتحدة أو في أوروبا، (هناك خصوصية في الولايات المتحدة الأمريكية قد نعود إليها).

وهناك ثانيًا المعنى الأوسع، إلى حد ما، للثقافة وهو يشمل ما كنا فيه من معنى ضيق ولكن يضاف إليه ما يسمى بالعادات والتقاليد وما يتعلق حتى بالحياة اليومية وبالتصورات وبالتمثلات، وهنا نجد المعطيات الدينية والممارسات الدينية والممارسات الاعتقادية والممارسات اللغوية... وفي هذا المعنى نكون أقرب إلى ما يسمى عادة مجال الأنثروبولوجيا الثقافية. وأنا أحاول أن أكون بين بين، أي بين علم اجتماع الثقافة وأنثروبولوجيا الثقافة، لأنّني أعتقد أنّ البحث في علم اجتماع الثقافة يحتاج إلى التعمق في ما أسميه عادةً الأعماق الأنثروبولوجية للثقافة.

د. نادر الحمامي: ولكن هل هذا التعمق هو الذي يجعلنا نتحدث مثلاً عن خصوصية علم اجتماع ثقافة تونسي، ينطلق من المجتمع التونسي ويمثل ضربًا من الخصوصية، أي ذلك الخروج من المفهوم الضيق للثقافة إلى المفهوم الواسع للثقافة الذي يقترب من الأنثروبولوجيا الثقافية، هل هذا هو السبب وراء تخصيصك لعدد غير قليل من دراساتك المتعلقة أساسًا بالمجتمع التونسي؟

د. منير السعيداني: هناك مستويان في هذه المسألة:

المستوى الأول هو ما أسميته منذ حين منجز علم الاجتماع فيما هو ثقافي في تونس، هذا المبحث يشترك فيه العديد من علماء الاجتماع، وإن كان اعتبار هؤلاء بوصفهم علماء اجتماع مختصين فيما هو ثقافي محل جدل ومحل نقاش ما يزال طويلاً. فنحن إزاء الاهتمام بما هو ثقافي ولكن في صورته الدينية، مثلاً، أو في صورة ما يتعلق بالموسيقى أو القراءة أو بعض الظواهر الثقافية الأخرى.

المستوى الثاني هو أنّ هذه البحوث كانت إلى حد الآن محل مراجعات من حيث وجهة النظر أو وجهة التحليل، ولذلك فأنا ألحّيت منذ حين على أنّني أحاول أن أجد نفسي بين اختصاصين أو موقعين؛ موقع علم الاجتماع وموقع الأنثوبولوجيا، وما أعتقد أنّه جديد في هذا الأمر هو أنّنا في حالة جدل مع المنجز العلمي الاجتماعي فيما يهم الثقافي من منظور عالمي أو حتى كوني، فمنجز علم اجتماع الثقافة في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية يعلمنا دروسًا هي غير الدروس التي نتعلمها لو اطلعنا على منجز علم اجتماع الثقافي بالذات من مناظير أخرى تأتينا مثلاً من شبه القارة الهندية، أو تأتينا من تراث يحاول أن يمزج بين علم الاجتماع وما يمكن أن يحيط به مما يسمى عادة في التسميات الأنغلوفونية أو الأمريكية ''الدراسات الثقافية'' (Culture Studies)؛ في هذه الدراسات لا توجد حدود واضحة، إلى حد ما، في منجز علم الاجتماع الثقافي كما هو موجود في فرنسا أو ألمانيا أو غيرهما. هناك تداخل بين ما هو ثقافي متعلق بالفن أو متعلق بالأدب أو بالممارسات الدينية، وبين الأعماق التي يرتبط بها سوسيولوجيًّا، بمعنى ارتباط ذلك بالعادات والتقاليد وتصورات المجتمع والتحولات السياسية التي يشهدها المجتمع. في خضم هذه المناقشات وهذا الجدل حول موقع الثقافي من المجتمع ومن السياسي ومن التاريخي، ما مدى أحقية القول بوجود خصوصيات ثقافية في المجتمعات؟

في هذا الخضم أحاول أن أجدد النظر إلى علم الاجتماع الثقافي بحيث أضع الظواهر الاجتماعية التي تتعلق بالمجال الثقافي في سياق تحولات تاريخية كبرى، فما شهدناه من تحول اجتماعي عميق وسريع وحاد وشامل في تونس، مثلاً، منذ خمس سنوات، يوجب علينا أن ننظر في الثقافي بمناظير جديدة، بمعنى أنّ هذا التحول في علاقة الطبقات ببعضها، وعلاقة الفئات الاجتماعية ببعضها ولكن في الوقت نفسه علاقة الثقافي بما هو سياسي؛ شكل السلطة، شكل ممارسة السلطة، بناء المجتمع لمؤسسات ديمقراطية جديدة بالاعتماد على آليات الانتقال الديمقراطي السائدة الآن في البلاد، يوجب علينا أن ننظر إلى الثقافي نظرة جديدة، بمعنى لا فقط بربطه بما يسمى عادة طبقات أو ما يسمى فئات أو عادات أو تقاليد في المجتمع، بل بمحاولة فهم هذا التحول الاجتماعي انطلاقًا من أنّه تحول ثقافي في حد ذاته.

د. نادر الحمامي: أي إنّ ذلك يمثل نظرة جديدة لتصور علم اجتماع الثقافة، ويرتبط بهذا التصور تصور منهجي آخر يتعلق بأنّ علم الاجتماع، من هذا المنظور الذي تتحدث عنه، لم يعد يقتصر على المناهج المعروفة (المنهج التاريخي أو منهج دراسة الحالة...)، فهل هو مرور من علم الاجتماع الكلاسيكي التقليدي القائم على الوصف والتوصيف إلى نوع من الاستشراف؟ وهذا في الحقيقة نلمسه في الكثير مما كتبت، بمعنى هل أنّه تجاوز للمرحلة الوصفية أو دراسة الحالات إلى محاورة هذه التحولات المنهجية المتشابكة التي لا يمكن فصلها فصلاً منهجيًّا بين السياسي والثقافي والفني، وإدراك ما الذي يمكن أن يقع لاحقًا من خلال اتباع علم اجتماع الثقافة؟

د. منير السعيداني: من بين ما يجب الانتباه إليه هو موقع الفاعلين الاجتماعيين من المنجز الثقافي الذي نجده في المجتمع، فالمجتمعات عادة تعيش حركية دائمة، هناك نظريات ومدارس أخرى في علم الاجتماع تنزع إلى أن تنظر إلى المجتمع في سكونه وفي هيكليته الكبرى وفي بنيته الكبرى، وإن نظرت في التحول، فإنّها تنظر فيه على امتدادات كبرى، ولكن أنا أميل إلى اعتبار أنّ المجتمعات تعيش حالة تطور دائم أو حالة جيشان دائم، فكيف يمكن أن نقارب هذا التحول المتواصل؟

هناك طرائق متعددة، وأنا أعتبر ما يراه الفاعلون الاجتماعيون في صنعهم لهذا التحول؛ وهو تحول في عمقه ثقافي متعلق بتصور الحياة وبنمط الحياة وعلاقة ما هو قيمي في الحياة بموقع الإنسان فيها وبتصوراته، وعلاقته بتراثه وكيفية بنائه لهويته، وهذه المسائل أعتبرها من صلب علم اجتماع الثقافة، أي إنّ لها موقعًا مخصوصًا في هذا الفعل على اعتباره هو الذي يصنع الثقافة. ولذلك اعتمدت في بعض البحوث عناوين من قبيل ''صنع المعيش بابتداع الثقافي''، فبإعادة ترتيبنا لمعيشنا اليومي نحن نصنع الثقافة، وعلينا أن ننتبه إلى أنّ الأمر في الاتجاه المعاكس صحيح أيضًا، فالموقف الثاني المنهجي يرى أنّنا لا يمكن أن نفهم هذا الذي يحدث إلا إذا انتبهنا إلى ما يقول الفاعل، ليس فقط في مستوى التصريحات أو ما يعبر عنه من أفكار بل، أيضًا، في مستوى ما يحدده لنفسه من مواقع: بالسلطة، بالثقافة، بالسياسة، بالدين... هذه المواقف المنهجية، أو هذه النقاط المنهجية الإرشادية، تعطينا نمطًا معينًا من البحث.

د. نادر الحمامي: كأنّني أنظر هنا إلى أمرين؛ أولاً الإفادة من نظرية بنية الإمكانيات السياسية، وهي جديدة وعلى أساسها كانت دراستك للحراك الاجتماعي الذي بدأ في تونس حتى من قبل سنة 2010 وذلك بنتائج مختلفة، بالإضافة إلى ما يمكن أن نستنتجه من كلامك بأنّ الواقع هو الذي يفرض الدرس الاجتماعي لا العكس، بمعنى أنّنا لا نسقط الدرس الاجتماعي على المجتمع بل إنّ المجتمع هو من يجب أن يوجه المسائل الاجتماعية.

د. منير السعيداني: هذه نقطة اختلاف أخرى بين علماء الاجتماع بشكل عام، فهناك ما يمكن أن نعتبره نوعًا من علم الاجتماع التقليدي، وهو الذي يرى أنّنا في علم الاجتماع ننتج خطابًا علميًّا نسلطه على المجتمع من خارج، وهناك نظرة أخرى ترى بأنّنا إزاء المجتمع في معنى أنّه مختبر أو ورشة مفتوحة نجد فيه تحاليل ونجد فيه استراتيجيات ونجد فيه رهانات... إن كان هذا الأمر متاحًا أمامنا فمن المفروض أن نجد أنفسنا منهجيًّا أقرب إلى النقطة التي تجعلنا نفهم ما يحدث. فَهْم ما يحدث، أيضًا، فيه جدل، فهل هو من فعل الفاعلين بوصفهم فاعلين يعون بفعلهم ويستشرفون مقاديرهم، ويصنعون هذه المقادير؟ أو أنّهم يتحركون بطريقة أقرب إلى ما يمكن أن نسميه بـ ''الغباء التاريخي'' أو ''العماء الاجتماعي''، أي كأنّهم يعيشون من دون أن يفهموا ما الذي هم بصدد صناعته؟ وأنا أميل إلى القول بأنّ هؤلاء الفاعلين، وهم يصنعون تاريخهم، يصنعون أيضًا مادة ما نشتغل به نحن في علم الاجتماع، أي لا فحسب الفعل بل الرهانات والاستراتيجيات، ويعبر عن هذه الرهانات والاستراتيجيات وما يرتبط بها أقوالهم بما هي استراتيجيات في بناء الاجتماع الإنساني وفي ما أسميته أنت منذ حين استشراف المستقبل، فأنا أحاول أن أبين أنّنا في عمق جدل منهجي وبطبيعة الحال هذا الجدل يرتبط لا فقط بمسائل منهجية ولكن بمسائل نظرية.

وأنا في اعتقادي أنّ ما حدث في تونس هو حركة اجتماعية، انطلقت مطلبية احتجاجية، وتحولت إلى انتفاضة وإلى ثورة بعد ذلك، على الأقل، في المستوى السياسي. وبصرف النظر عن هذه الثورة، فما حدث في المجتمع هو نوع من مساءلة المجتمع نفسه بنفسه، أي عن طريق الفاعلين السياسيين والشباب والمرأة والمجتمع المدني، أي مساءلة الأسس التي ينبني عليها الاجتماع الإنساني، وفي هذه المساءلة هناك ما يتعلق بالجانب الاقتصادي البسيط، ولكن هناك أيضًا ما يتعلق بما هو سياسي، لذلك نحن نلاحظ وجود هذه التغيرات التي توضع عادة تحت عنوان ''الانتقال الديمقراطي''، ولكننا، في الوقت نفسه، نناقش مسائل هي من العمق التاريخي بحيث تتجاوز بكثير ما كنا نقوله؛ مثل أن يسائل المجتمع نفسه ما الموقع الذي يجب أن يسنده إلى الدين في شأنه اليومي؟ وهذا نقاش أعمق بكثير ويتفرع عن ذلك نقاش موقع المسجد من الحياة وموقع المؤسسة الدينية من السياسي، وكيفية صياغة النص التشريعي الأول والكبير الذي يهندس الحياة، وكيفية تشريعه للعلاقات التي تعتبر عادة مقدسًا دينيًّا، وما يعتبر مرتبطًا بالهوية الثقافية للمجتمع وكيفية التصريف السياسي لذلك. فعلى الرغم ممّا يبدو من أنّنا في حالة تخبط اجتماعي تعبيراته السياسية فيها كثير من الاضطراب، فإنّنا في حقيقة الأمر إزاء حركة في عمق المجتمع، ولذلك أنا أعتبرها في عمقها ثقافيةً. فنحن نناقش مسائل سياسية واقتصادية واجتماعية، ولكن نكون في ذلك بإزاء أسس الاجتماع الإنساني، ولذلك قلت في أكثر من مرة إنّنا في مجال ما هو ثقافي، في المعنى الحصري للكلمة، انتقلنا مما كان سابقًا من النقد الثوري للثقافة، أي الثقافة بوصفها مرتبطة باستراتيجيات الدول، أي الثقافة بوصفها منفصلة عن الشأن الشبابي، والثقافة بوصفها موجهة توجيهًا فيه الكثير من الديكتاتورية وانحسار الثقافي الحر، وانتقلنا إلى ما أسميته النقد الثقافي للثورة.

د. نادر الحمامي: أكثر كلمات كنت تلحّ عليها ونحن نتلمس التصورات سواء كانت المنهجية أو النظرية لعلم اجتماع الثقافة هي: الحركة الانتقالية، والتغير والحركية، وهذه المفاهيم مفصلية فيما قمت به من أبحاث ودراسات، وربما ما تسميه ''مسألة الفعل التغييري'' الذي رأيت أنّه ارتبط بخمسة مستويات هي: الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والروحي/ الديني، وأحسب أنّ مسألة التغير الثقافي يمكن أن تكون محورًا قائم الذات إذا ما تتبعنا الدراسات التي أنتجتها والتي يمكن أن نفصل فيها المفهوم في المحور الثاني من هذا اللقاء الحواري معك.

الفعل التغييري

د. نادرالحمامي: بعد عرضنا بعض التصورات والمناهج والمفاهيم الكبرى التي استند إليها الأستاذ منير السعيداني في بحثه في علم اجتماع الثقافة، نعتقد أنّ هناك مفهومًا أساسيًّا ومركزيًّا في دراساته التي قدمها، ونقصد مسألة "الفعل التغييري" الذي ربطه بخمسة مستويات أساسية؛ هي المستوى الاقتصادي، والمستوى الاجتماعي، والمستوى السياسي، والمستوى الثقافي، والمستوى الديني/ الروحي. ونحسب أنّ هذه المستويات مترابطة عنده، هل من توضيح ما المقصود بترابط هذه المستويات، أولاً، وما يقصد بمسألة التغير الثقافي؟

د. منير السعيداني: المستويات الخمسة التي ذكرتها كانت في نهاية الكتيّب الذي أصدرته في نهاية سنة 2012 بعنوان ''يريد ويبدع ما يريد''، وطبعًا هذا العنوان فيه نوع من الشعرية وهو يتعلق بالشعار الذي رفع أكثر من مرة في التحركات المطلبية والاحتجاجية في تونس، وهو ''الشعب يريد''، كان الكتيب نتيجة لجملة من الأعمال البحثية التي مارستها بوصفي ملاحظًا مشاركًا، بمعنى أنّني كنت في خضم الأحداث مشاركًا باعتبار أنّ ذلك الفعل التغييري كان فعلاً شاملاً وعميقًا، وكنت بصدد الخروج من تجربة سياسية نحو آفاق أعتقد أنّها أرحب نوعًا ما، ومن جهة أخرى كنت ملاحظًا لما كنت مشاركًا فيه، وطبعًا هذا لا يخرج عن تحديدات مادية لعلم الاجتماع فهناك تقنيات للبحث توضع عادة بعنوان الملاحظة والمشاركة، وما لاحظته في خضم الأحداث أنّنا كنا بصدد تغير اجتماعي حاد وعميق وشامل، حاد بفعل السرعة ولكن أيضًا بفعل أنّه أسقط رأس السلطة السياسية، واضطرت السلطة السياسية لمعاودة النظر في علاقتها بالمجتمع، وفي علاقة الحاكم بالمحكوم بصرف النظر عن هذا النقاش وما أدى إليه من ترتيب للشأن السياسي، وهو تغير عميق أيضًا يتجاوز ما هو سياسي إلى مستويات أخرى هي التي ذكرتها، في الاقتصاد، مثلاً، أعاد المجتمع مناقشة الثروة وكيفية توزيعها والأحقية فيها ومن ذلك التراتب أو التنضيد الطبقي أو الفئوي في المجتمع، وكذلك الأمر اجتماعيًّا بمعنى أسس الاجتماع وقواعده وقواعد العيش المشترك، وأيضًا هناك ما يتعلق بالروحي كما أشرنا إليه أي مسألة الدين في الحياة العامة ومكانة المؤسسة الدينية في المجتمع... فنحن إزاء تغير حاد وعميق وشامل، فهل نحن إزاء شيء غريب عن المسار الاعتيادي للمجتمعات أو لا؟

أنا أميل إلى الاعتقاد بأنّ هناك دورات متتالية للتغير الاجتماعي، وهو ما يعني أنّ المجتمعات لا تكف عن التغيّر، ولكن هذه الدورات يمكن أن تكون أكثر حدة أو شمولاً مما كانت عليه، وفي حالتنا نحن جمعنا الحدة والعمق والشمول في التغير الاجتماعي الذي نعيش فيه.

د. نادر الحمامي: وهذا ما يجعل الحراك يطلق عليه ثورة؟

د. منير السعيداني: نعم، في الحقيقة فإنّ وضع الثورة التونسية بالنسبة إلى مفاجأتها للفاعلين في علم الاجتماع والباحثين في التاريخ وكل الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية ليس جديدًا، فأنا لا أذكر أنّ ثمة ثورة تم التنبؤ بها قبليًّا.

د. نادر الحمامي: ولكن ما تسميه تغيرًا ثقافيًّا قد يراه آخرون عودة إلى نقاشات قديمة حول تصور المجتمع وحول ما يسمى النمط الاجتماعي سواء كان سياسيًّا أو ثقافيًّا أو دينيًّا بالخصوص في النواحي المتعلقة بالجوانب الدينية وأشكال التدين لذلك هناك من يرى ما تراه أنت لا يكف عن التغير هو فقط نوع من إعادة حادّة لنقاشات قديمة.

د. منير السعيداني: نعم، قد يكون ذلك، ولكن ما هو مهم بالنسبة إلينا في التحليل العلمي الاجتماعي (السوسيولوجيا) هو أن ننظر إلى علاقة هذه النقاشات، وإن بدت قديمة، بما يعتمل في المجتمع من حركية أخرى، فهناك حركية في مستوى علاقة الفئات الاجتماعية ببعضها، ونقصد من قولنا بأنّها نقاشات قديمة بأنّ هناك صراعًا اجتماعيًّا بين قيم مختلفة.

د. نادر الحمامي: هل هذا ما يفسر، مثلاً، استعمالك لعبارات من نوع ''زمن عاصف'' أو ''زمن مضطرب''؟

د. منير السعيداني: نعم، نحن في زمن عاصف ومضطرب، وأنا أعتقد أنّ من بين الأبعاد الكبرى التي لم نستكشفها بعد للثورة في تونس أنّها مدخل تونس الحقيقي، وربما مدخل العرب الحقيقي، إلى القرن الواحد والعشرين، فإلى حد هذه الثورة لم نكن قد دخلنا بعد إلى القرن الواحد والعشرين بما هو إعادة ترتيب للأشياء على أساس يناقض ما كان، فنحن في زمن الانفتاح على التغيرات الكبرى، ونحن في زمن الانفتاح على إعادة ترتيب للعلاقات الاجتماعية. نحن إذا إزاء تغير يثبت أنّ المجتمع لا يكف عن التغيّر، وفكرة أنّنا بصدد مناقشة مواضيع قديمة بأسلوب جديد تبدو غير مقبولة، فحتى ما يسمى تقليدًا في المجتمعات هو شكل من أشكال إعادة طرح قواعد العيش المشترك، لأنّ ما هو مهم في علم الاجتماع دائمًا هو أن نعود إلى تلك القوى التي تحمل التصورات التي تبدو تقليدية، وقد يكون هذا التصور شكلاً تقليديًّا ولكن في حقيقة الأمر يظل في ذلك بعض حيرة يجب أن نجيب عليها، فما هي القوة التي تحمل تلك التصورات التي تبدو تقليدية؟ ولماذا تحملها الآن ولماذا تضعها الآن على بساط التداول أو حتى "التدافع"، ولماذا تجد قوى اجتماعية نفسها مضطرة إلى طرح بدائل تمتحها من القديم؟ في هذا المعنى تصبح المناقشة عن الجديد والقديم غير ذات معنى، فالمهم هو أن ننظر في كل مرحلة إلى هذا المقطع من التاريخ الاجتماعي لكل مجتمع يبدو فيه اصطراع القوى حول كل ما نتنازع فيه الثروة القيم والنمط الاجتماعي...

د. نادر الحمامي: ولكن ما لا حظته أنّك على الرغم من تحديد تلك المستويات الخمسة المتعلقة بالتغير الثقافي فإنّ النتائج التي وصلت إليها قد تكون مرتبطة أكثر بالجانب السياسي، لأنّك ستحدثنا عن نهاية الدولة ما بعد الاستعمارية في تونس، ومفاهيمها المستندة إلى أمرين أساسيين، أقصد خصخصة الدولة وتجريم الدولة، أليس الأمر هنا وكأنّه تجاوز للمستوى الثقافي والاجتماعي والديني وربطه أساسًا بالمسألة السياسية؟

د. منير السعيداني: نحن نحتاج في كل مرة أن نحدد ما هو المستوى الذي يكون أقدر على إظهار ما يعتمل في المجتمع من تغير، فلا سبيل للإنكار أنّ السياسي في تونس هو الذي هيمن إلى حد كبير على الأربع أو الخمس سنوات الأخيرة، مثلاً، فأن تتعدد المناسبات الانتخابية بذلك الشكل في هذا الظرف بعينه فذلك يفرض مناقشة سياسية حتى للمسائل الثقافية، ولكن أن يوجد هذا العدد المهول من الأحزاب السياسية فذلك يوجب أيضًا أن نعتبر السياسي المستوى الأقدر على إظهار ما يوجد من صراعات، أضف إلى ذلك أنّنا نشهد طفرة كبيرة في بناء مؤسسات المجتمع المدني وهو في عمق السياسي أيضًا. هذه العلامات تدل أنّنا، في الأربع أو الخمس سنوات الأخيرة، كنا مضطرين إلى حد ما أن نهتم بالسياسي، ولكن على مستوى أطول تاريخيًّا نحن سنعود إلى مناقشة المسائل بما هي مسائل ثقافية في العمق، فحتى في المناقشات السياسية التي تعلقت بالمجلس الوطني التأسيسي والتي تعلقت بفصول محددة من الدستور كان عمق النقاش هو ما يسمى بنمط المجتمع بما هو مسألة ثقافية في عمقها؛ فما هو مجتمعنا وكيف نحدده وما هي هويته: مجتمع حداثي، مجتمع متقدم، مجتمع إسلامي مجتمع عربي إسلامي...؟ وأبلغ صورة لتلك المناقشات كانت المناقشة السياسية كما حدثت بين القوى السياسية داخل المجلس التأسيسي أو في محيطه، مما هو مجتمع مدني أو صحافة أو إعلام... وحتى تلك المناقشات لها صدى حتى في بعض الاجتهادات العلمية الاجتماعية، فلم يكن من الصدفة أن نرى عناوين من قبيل الشخصية التونسية في البحوث التاريخية وأن نرى بحوثًا إزاء سطح سياسي في حقيقته له عمق ثقافي. لذلك هذه المناقشة التي تتم الآن هي في صلب ما أعتبره أنا تغيرًا ثقافيًّا.

د. نادر الحمامي: ألا يجرنا هذا إلى الحديث عن فوارق كبيرة لما دار من نقاشات حول الدستور والهوية، وغير ذلك، في الأطر السياسية وما تابعته أنت من تحركات ميدانية كنت تابعتها منذ سنة 2010؟ فمسألة الهوية، مثلًا، لم تكن مطروحة بحدة كبيرة في مستوى التحركات الاجتماعية الأولى ولكنها أصبحت في مركز الحديث السياسي لاحقًا.

د. منير السعيداني: نعم، لأنّه وجدت قوى سياسية اعتقدت، في ظل ما كان يحدث، أنّ لحظة التغيير في تونس هي لحظة مفصلية في منظور استراتيجي يسمح لها بأن تعيد طرح مسألة الهوية، ولكن هذه التصورات ليست بالضرورة تصورات ذات عمق اجتماعي كاف بحيث تحول المناقشة السياسية إلى مناقشة اجتماعية حقيقية، فأن تقدم لنا معطيات تقول إنّ المجتمع السياسي هو كل ما هو أحزاب وناشطون سياسيون في مستوى عمقها الشبابي، لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة في المائة من الشباب في تونس عددًا، فالمشاركون من الشباب في الحياة السياسية المنظمة الجمعياتية والحزبية لا يتجاوزون تلك النسبة؛ فالعمق المجتمعي الشبابي ليس منخرطًا في المناقشات السياسية في الأحزاب والمنظمات والصحافة الحزبية والسياسية، أو حتى في الصحافة السيارة، بما في ذلك المؤسسات السياسية ومنها مجلس النواب أو المجلس التأسيسي الذي كان قبله.

د. نادر الحمامي: يعني هذا أنّ الشباب له تعبير سياسي بالثقافي، كما استنتجت في تحليلك لأغنية ''الراب'' المشهورة ''حوماني'' التي قمت بدراستها، فهي ليست تعبيرًا فنيًّا أو ثقافيًّا أو نمطًا من الغناء، بقدر ما هي تعبير سياسي بالثقافي عند الشباب في غير الأطر الرسمية.

د. منير السعيداني: هذا يضطرنا أن نعتبر أنّ المجتمع، وهو يتغيّر، يعيد حتى تعريف مجالات الحياة السياسية ومن ذلك مفهوم السياسي، فهل السياسي، مثلاً، هو بالضرورة ما هو حزبي، وما هو مرتبط بالسلطة وما هو مرتبط بالانتخابات؟

هؤلاء الذين يعولون على التعبير الفني سواء بـ ''الراب'' أو ''الغرافيتي''، هل هم بصدد ممارسة تعبير فني بالمعنى الثقافي الضيق، أم هم بصدد التعبير السياسي بشكل فني؟ ونحن إن عمقنا المناقشة في هذه النقطة الوحيدة، وهي يمكن أن تكون مثالاً على نقاط أخرى، نستنتج أنّ حركة التغيير أو فعل التغيير يحيلنا على التساؤل: ما هو السياسي؟ خذ مثلاً الرقم الذي ذكرناه عن نسبة المشاركة السياسية الشبابية، فهذا لا يعني أنّ الشباب لا يشاركون، ولذلك فإنّ عزوف الشباب عن المشاركة السياسية لا معنى له.

د. نادر الحمامي: هي مشاركة في السياسي بطرق غير تقليدية.

د. منير السعيداني: نعم، ونحن عندما نتحدث مثلاً عن الحركة المطلبية الاحتجاجية، فإنّنا نلاحظ أنّ قادتها الحقيقيون والفعليون على الميدان لم يجدوا لهم تعبيرًا في أي شكل من الأشكال، فهم غير موجودين أصلًا، أين هم إذن؟ هم في مجال آخر للتغيير السياسي غير الذي نرى. إذن علينا أن نجتهد في النظر إلى السياسي في اتساعه، ولذلك فإنّ الانتباه إلى الافتراضي، مثلاً، وإلى أشكال التنظم الاجتماعي الأخرى يجعلنا ننظر إلى الروابط وإلى هذه الصلات الاجتماعية الجديدة عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي، وهذا يجعلنا ننتبه إلى رغبة الشباب في ضرورة التنظم السياسي بطريقة غير تقليدية، فهم يذهبون إلى الشبكي وإلى الجمعياتي وإلى الجماعاتي (الصلات الاجتماعية التي لا ترى بالمنظور التقليدي).

د. نادر الحمامي: من غير المعروف كثيرًا أنّك اشتغلت على إحدى فنانات تونس وهي صليحة من الكاف، وما لفت انتباهي في تلك الدراسة هو ربطها بالإطار الاجتماعي والسياسي القائم، فكأنّما هذه الفنانة كانت في وقت ما في الثلاثينات نصرًا لنمط اجتماعي تقليدي معين، وهي الفترة نفسها التي ظهرت فيها كتابات مثل محاضرة أبي القاسم الشابي حول ''الخيال الشعري عند العرب''، أو كتاب الطاهر الحداد ''امرأتنا في الشريعة والمجتمع''، بمعنى كسر التقليدية وكسر الكلاسيكية، وكأنّها مسألة تتكرر مع كل تغير اجتماعي في كل وقت. فهل يمكن القول، بنوع من القياس، إنّ هذه الأشكال الشبابية في التعبير عن السياسي بالثقافي بأشكال غير تقليدية تشابه تلك الفترات التي مر بها المجتمع التونسي أو غيره من المجتمعات الأخرى؟

د. منير السعيداني: إنّ نقطة الاشتراك هي ما يمكن أن نعتبره ضرورة اجتماعية، فالمجتمع في حركته وفي تغيره يجد نفسه في حاجة إلى شيء ما هو معنى جديد لاجتماع أفراده وفئاته، وإن وجدنا تعبيرات عن بناء جديد وعن رؤية جديدة أو حتى عن توجه فني أو أدبي جديد، فذلك مدعاة من منظور علم الاجتماع للتفكير في وجود:

-       ضرورة اجتماعية ما لهذا الجديد.

-       القوى التي ستطالب بهذا الجديد، أو ستعبر عنه، فتطرحه للمناقشة الاجتماعية العامة.

نحن، من هذا المنظور، في كل مرة نلاحظ فيها هذا الجديد علينا أن نقوم بهذا التمرين المنهجي حتى نعود إلى أصل الأشياء، وهذا التمرين هو عمق التفكير السوسيولوجي. لكن هناك إشكال، فما الذي يمكن أن يفيدنا به ذلك فيما يسمى عادة تقليدًا؟ هل فعلاً تطلب المجتمعات في وقت ما تقليدًا؟ وبالعودة إلى أحد أسئلتك السابقة، فإنّك تحدثت عن عدد من المناقشات القديمة والآراء القديمة؛ في اعتقادي أنّ المجتمعات لا تعيد إنتاج نفسها أبدًا، هي في حالة تغير دائم، وحتى ما يسمى تقليدًا وحتى عودته الحرفية في بعض الأحيان إلى صياغات قديمة؛ فقهية، أدبية، فكرية... هو في حقيقة الأمر بصدد إنتاج جديد بالنظر إلى الوضع الذي يقوم الآن، وبهذا المعنى فحتى المطالبات السلفية هي جديد، لأنّها في حقيقة الأمر لا هي ولا غيرها من القوى، ولا حتى من المحللين والمفكرين قادر على أن يثبت أنّها مطابقة تمامًا للمثال الذي تعتقد أنّها بصدد إعادة إنتاجه. فلنأخذ مثلاً المستوى الروحي فقد أشرت في بعض الكتابات إلى أنّنا بصدد معاودة مناقشة كيفيات صنع المعيش بما هو ابتداع للثقافة، ففي الإسلام اليومي كما نلاحظه ممارسًا في بعض التعبيرات التي تسمي نفسها سلفية ويسميها الآخرون أيضًا سلفية، هي في حقيقة الأمر تحاول أن تبني أسسًا لاجتماع جديد، صحيح أنّه يقول بأنّه يستلهم من مثال قديم، ولكن واقع الأشياء يثبت أنّه جديد.

د. نادر الحمامي: أنت تذكرني بما كتبه ميشال دي سارتو، وقد كنت مستغربًا جدًّا حين قرأت في كتابه ''كتابة التاريخ''، إذ اعتبر السلفية تجديدًا، وهذا يحيل على إشكاليات أخرى قد تعقد ما هو معقد، من قبيل الدراسات المتعلقة بالمجال العمومي الذي قد يرى بعضهم فيه أشياء مكررة أو تقليدية، ولكن أنت بهذه النظرة التي تقدمها تكسر هذه النظرية، فحتى التقليد يكون في إطار هذا التغير الثقافي وهو نوع من ابتداع أشكال جديدة وإن أوهمت أنّها تستعيد أنموذجًا قديمًا، أظن أنّ هذه المسائل قد تكون نافذة أخرى لفتح مجال آخر حول اهتماماتك بهذه الحركات الشبابية وخاصة بالمجالات الدينية أو الفنية باعتبارها أشكالاً لكسر النمطية، وباعتبارها حركة سياسية ثقافية احتجاجية تكوّن في هذا ما أسميته أنت دخولاً متأخرًا في القرن الحادي والعشرين في دولة، تسميها أنت أيضًا، ما بعد استعمارية، ويسميها آخرون دولة الاستقلال، فربما سننتظر استقلالاً آخر بعد الآن. وربما هذا ما نقف عليه بالجامعة التونسية، وأنت أساسًا أستاذ بالجامعة التونسية، وتلاحظ ما يجري فيها سواء في المستوى التدريسي أو التأطيري أو النقابي أيضًا، فلك دراسات في هذا المجال، وسنتناول هذه النقاط المحورية في القسم الثالث من الحوار معك.

المجال العمومي والتغيّر الاجتماعي

د. نادرالحمامي: من بين النقاط الذي أثرناها مسألة المجال العمومي، ويمكننا أن نستصفي من هذا المجال مسألة الجامعة، وقد اهتممت بالجامعة التونسية من وجهة نظر علم الاجتماع، وربطت ذلك بمسألتين أساسيتين، ونقصد مسألة الحرية الأكاديمية التي رآها بعضهم مهددة، من جهة، ومسألة الاستقلالية المالية التي تحول دون انخراط الجامعة في هذا الحراك الاجتماعي الكبير، من جهة أخرى، ولذلك نستفسر عن وضع الجامعة من هذه الزاوية تحديدًا.

د. منير السعيداني: البحوث التي أنجزتها حول الجامعة هي، في حقيقة الأمر، جزء من برنامج بحثي متكامل، تشرف عليه الهيأة اللبنانية للعلوم التربوية، ويهتم أساسًا بمسألة المسؤولية المدنية للجامعات العربية، وفي ذلك محاولة لبناء نظرة جديدة للجامعة في علاقتها بالمجتمع وبنفسها وبالسلطة السياسية بشكل عام وبالسلطة الأكاديمية بالذات. والبحث الأول كان عنوانه ''الديمقراطية في الجامعة التونسية''، وبعد قراءة تاريخية سريعة، إلى حد ما، في تأسيس الجامعة والقوانين المنظمة لها والنصوص الناظمة للحياة الداخلية بها، حاولت أن أركز على النقطتين اللتين أشرتَ إليهما. وفي حقيقة الأمر فإنّ الجامعة في هذا البحث هي نوع من المثال المصغر الذي يمكن أن ننظر من خلاله إلى قدرة المجتمع على المرور من زمن الدكتاتورية إلى زمن ما بعد الدكتاتورية، كل ذلك في سياق ما أشرت إليه منذ حين، أي الدولة ما بعد الاستعمارية، أي إنّنا إزاء تغير في تشكيل الفضاء العام، الذي يتشكل على وقع التعبيرات الشبابية، والذي يعاد تشكله، أيضًا، ويعيد تشكيل نفسه على وقع هذه الطرق الجديدة في التعبير، التي هي على ارتباط بشبكات التواصل الاجتماعي، فنحن إزاء إعادة تشكيل الفضاء العام ومن بين ذلك إعادة تشكيل الفضاء الجامعي بحيث يمكن أن نسميه الفضاء العمومي الجامعي.

هل الجامعة، بأسس عملها وبعلاقاتها بما يحيط بها وبالسلطة وبالمعرفة... هي قادرة على أن تحول نفسها إلى فضاء عمومي، يسمح بأخذ الكلمة والتداول والمناقشة الحرة؟ على الرغم ممّا طرأ على النصوص القانونية من تغيير، وعلى الرغم ممّا لاحظنا في الممارسة من تغيير من حيث انتخاب المسؤولين وغير ذلك، فإنّ الاستنتاج الذي توصلت إليه أنّنا لا نزال بعيدين إلى حد كبير عن تكون فضاء عمومي جامعي حقيقي.

د. نادر الحمامي: ما المانع؟

د. منير السعيداني: في اعتقادي أنّ هناك المانع الكبير، الذي نلاحظه في حياتنا في المجتمع، وهو عسر الانتقال من زمن الديكتاتورية إلى زمن الديمقراطية الحقيقية، وفي حقيقة الأمر فإنّ الأعماق التي كنا نشير إليها؛ أي السياسية والاجتماعية والروحية للتحول المجتمعي المرغوب من وجهة نظر المجتمع نفسه، انحسرت في السياسي. فمن إمكانية لتغيير عميق في علاقة الحاكم بالمحكوم، إلى مجرد إجرائيات للتحول الديمقراطي: مثل تنظيم الانتخابات والحرص على شفافية الصياغات القانونية. والكل يعلم أنّ المناقشات القانونية، مهما تعمقت، فهي في النهاية مناقشات إجرائية، أي في كيفية إجراء الأشياء وفي النصوص التي تنظم، ولكن الحياة الحقيقية الحية تظل دائمًا أغنى بكثير وخضراء دائمًا، في حين أنّ النصوص القانونية هي دائمًا رمادية اللون.

د. نادر الحمامي: يعني أنّ المجتمع سابق للقوانين، وبالمناسبة نحن كنا نتحدث عن الغرافيتي وعن الراب وعن هذه الأشكال الثقافية السياسية، ألا يختلف هؤلاء المنتمون إلى الجامعة في أشكالهم التعبيرية، عن أولئك المنتجين لأشكال ثقافية متمردة كالغرافيتي أو الراب، وأغلبهم كما نعلم لا ينتمون إلى الوسط الجامعي. فهل من تمايز بين هذا المجتمع الجامعي والمجتمع الذي هو خارج الجامعة وخاصة في فئات الشباب، وقد اهتممتَ بذلك؟

د. منير السعيداني: إحقاقًا للحق وحتى لا نظلم الطلبة، أولاً، الإطار السياسي الذي كانوا ينشطون فيه إلى حد سنة 2010، على الأقل، هو سياق دكتاتوري مقلّص للحريات ومانع لأشكال التعبير. ولذلك فإنّ ما يبرز أكثر في الحركات الطلابية هو جانبها الاحتجاجي والمطلبي، ومع ذلك فهي لا تتوفق في أن تجمع حولها، إن اعتبرنا، مثلاً، أنّ الحركة النقابية الطلابية هي الوجه الأبرز للحركة الطلابية، لأنّ العمل النقابي في اعتقادي عند الطلاب هو أخص بكثير من حركة طلابية بأكملها، لكن إن اعتمدنا هذا المؤشر، فسنلاحظ أنّ التحركات النقابية الطلابية هي في نهاية الأمر تحركات احتجاجية مطلبية تتعلق بمسائل جزئية، وهذا يظل بعيدًا عن نظرة استشرافية توجِد للطلاب موقعًا من الفضاء العام في معناه المجتمعي الشامل. ولذلك فنحن إزاء نوع من العسر في الانتقال من هذا المظهر الاحتجاجي والمطلبي إلى مظهر أكثر استراتيجية في بناء موقع خاص للطلاب ولحركتهم.

إنّ سياق الممارسة، هذا، لا يوفر مناسبات حقيقية للربط بين الحركة الطلابية، بوصفها وجهًا للحركة الشبابية في المجتمع، وبين التعبيرات التي تطورت على هامش الحركة الطلابية أو حتى في انفصال عنها وذلك حتى نهايات سنة 2010، عند تحول قطاعات أوسع من ممارسي الراب والغرافيتي نحو التعبير الفني عن المحتويات السياسية، بما هي محتويات معارضة للسلطة التي كانت قائمة آنذاك. كل هذا تم في غير علاقة بالحركة الطلابية، على الأقل في شكلها الرسمي، فمن الصحيح أنّ طلابًا كانوا موجودين في هذه الحركة، مثلاً حركة ''الزواولة'' للغرافيتي فيها طلاب، ولكن لم يوجد رابط بين الحركتين، وهذا في اعتقادي من العلامات التي تدل على عسر تشكل فضاء عمومي حقيقي له من الترابط ومن التشابك ومن عمق الممارسة ما يجعله قائمًا، بحيث يوجد توازن بين التعبيرات السياسية المختلفة في المجتمع.

د. نادر الحمامي: ليست هنالك رؤية موحدة، ربما، أو استراتيجية موحدة بين مختلف هذه الفئات الشبابية حتى توحد مطالبها بحيث تكوّن رؤية خاصة بفئة شباب، فلنا فئات متعددة ذات اهتمامات متعددة بتعبيرات مختلفة.

د. منير السعيداني: نعم، على الرغم من أنّ الفسحة التاريخية هي من الاتساع بحيث توجد إمكانية لهذا الارتباط أو التشابك، فبالعودة مرة أخرى إلى محاولات إنشاء اتحادات شبابية، يمكن أن نلاحظ وجود منظمات أو جمعيات تحاول الحضور بوصفها صوتًا مخصوصًا، بما في ذلك العلاقة بمسائل أخرى من قبيل مسألة مقاومة الإرهاب والدعوة إلى ضرورة تنظيم مؤتمر وطني ضد الإرهاب؛ فهناك جمعيات شبابية انتظمت في منظمات وحاولت أن تطالب بمؤتمر ما للتعبير عن رؤية الشباب في كيفية مقاومة الإرهاب. ولكن عندما نعود إلى الثلاث أو أربع سنوات الأخيرة، نجد أنّ الأحزاب السياسية لها أذرع شبابية وطلابية، ونلاحظ أنّ الحملات الانتخابية الحزبية للانتخابات التشريعية ثم بعد ذلك الانتخابات الرئاسية، حاولت أن توجد بعض الروابط مع فئة الشباب.

د. نادر الحمامي: هل أنّ المدني بقي تابعًا للسياسي في هذا المجال؟

د. منير السعيداني: السياسي حاول أن يستتبع أو يستوعب فئة الشباب ولكن المحاولة في اعتقادي لم تنجح، وظللنا إلى الآن في حالة لا يزال فيها المجتمع في تعبيراته الدفينة بما في ذلك هذه الحركات الشبابية التي تأتي من الجهات ذات الطابع الاحتجاجي والمطلبي، والتي تعتبر غير معهودة بالنسبة إلى تونس، من ذلك المطالبة، مثلاً، بالمطالبات الإيكولوجية المرتبطة بالبيئة وبنمط الحياة وبما يعتقد أنّها حقوق وتصاغ بطريقة جديدة، مثل حق أهالي منطقة ما في أن يكونوا ذوي أولوية في الانتفاع بالمشاريع التي تقام في منطقتهم، لا بوصفها مشاريع وطنية بل بوصفها مشاريع أقرب إلى المحلية والأهلية؛ هذه مطالب ليس للمجتمع عهد بها وليس للمجتمع السياسي عهد بها، وهي تدل على عسر بناء هذه العلاقة بين التعبيرات السياسة المنظمة بين أحزاب ونقابات وجمعيات وانتخابات وتعبيرات مهيكلة، وبين ما يجيش في المجتمع الأهلي في أوساط الشباب وفي عمقه الجهوي. هذا يدل على أنّ بناء الفضاء العمومي فيه الكثير من الإشكاليات، ولذلك لا تزال مطالب الفضاء العمومي في بعض حقوق التنظيم للجمعيات وقانون الجمعيات يكون أكثر إفساحًا في مجال الحركة مما كان عليه الأمر. وتجاوز بعض مظاهر الدكتاتورية الفجة، غير كاف لأنّه لا ينفذ إلى ذلك العسر الحقيقي في بناء الفضاء العمومي، وهو عسر تاريخي في عمقه الاجتماعي.

د. نادر الحمامي: ونحن نتحدث عن الجامعة في ما يتعلق بالحرية الأكاديمية، أليس هناك سبب آخر وهو أنّ الحريات الأكاديمية لم تستغل كما يجب أوّلاً، وثانيًا أنّها هي نفسها بقيت في محل ما يسمى التجاذب السياسي في كثير من الأحيان، لأنّها بدورها أخذت صبغة سياسية عوض الذهاب إلى تحقيق الحريات الأكاديمية الحقيقية، فبقيت كلها سياسية؟

د. منير السعيداني: مرة أخرى نحن إزاء هذا التناقض الذي يبدو متكررًا في كثير من المجالات؛ فنحن أمام جامعة لها من العمر ما يتجاوز النصف قرن الآن، ولها الكثير من العسر في تنظيم حياتها الداخلية، ولها الكثير من العسر في إظهار المنتوج المعرفي والبحثي الخاص بها، ولها الكثير من العسر في أن تجد لها موقعًا في المجتمع يجعل هذا المجتمع يتعرف على الجامعة بما هي جامعته، ولذلك فأنا استعملت كثيرًا عبارة "طلاق"، أو تجاهل متبادل بين الجامعة والمجتمع، فالمجتمع لا يجد صورة له في جامعته، والجامعة تجد عسرًا في ربط علاقة بالمجتمع لأسباب مختلفة، لذلك نلاحظ ما أشرت إليه أنت، أي هناك حاجة لإعادة بناء الجامعة أو إصلاحها، ومن ناحية أخرى عسر هذا التحول في الإمكانيات التي تتيحها السلطة من حيث التنظيم، لأنّه، في اعتقادي، من المشروع أن نشك في النوايا الديمقراطية الحقيقية للسلطة في علاقتها بالجامعة وفي علاقتها بالمجتمع بشكل عام، إذن هناك هذا الإشكال، وهناك إشكال من حيث الإمكانيات، هل تتوفر للجامعة إمكانيات حقيقية تنظيمية وهيكلية ولوجستية ومالية، بحيث تتجاوز الجامعة الوضع الذي توجد فيه؟

أنا أميل أكثر إلى أن أعتبر أنّ الإجابات على هذه الأسئلة هي إجابات سلبية، فليس هناك إمكانيات حقيقية ولا نية حقيقية في إيجاد حوار حقيقي حول هذه المسائل، وفي هذا الوضع لا يمكن أن نطلب من الجامعة أن تنتج معرفة لها من العمق ومن إمكانية الاستخدام بحيث تكون فاعلة في إطار استراتيجيات عميقة تتجاوز إشكالات منوال التنمية في تونس، فهذا الأمر يبدو فيه الكثير من التعقيد. إنّ جملة البحوث التي أجريتها حول الجامعة بما في ذلك بحث حول ''الحركة النقابية في الجامعة'' جعلتني أطل على بعض جوانب عسر بناء مجال عمومي حقيقي، وهذا هو جزء مما يسمى الانتقال نحو الديمقراطية، وأنا أحاول أن أضع كل هذا الأمر برمته في سياق ما أشرت أنت إليه منذ حين، وهو انتهاء الدولة ما بعد الاستعمارية، فهذه الدولة، منذ 1956 إلى 2010-2011 وعلى الأخص في عقدها الأخير، قد تميزت بوجود ظاهرتين جعلتا كل هذه التحولات الاجتماعية متعسرة.

د. نادر الحمامي: ولكن هل دخلنا في مرحلة الديمقراطية الاجتماعية الحرة التي تتحدث عنها بعد هذا العسر الذي حددت حيزه في هذه الفترة الزمنية للدولة ما بعد الاستعمارية، أو أنّ هذا العسر متواصل؟ وهل يستشرف عالم الاجتماع أنّ هذا العسر سيزول، خاصة أنّ هذه المكونات للمجالات العمومية من الجامعة والمسجد والشارع، هي كما يمكن أن نلاحظ، مازالت إلى اليوم محل تنازع؟

د. منير السعيداني: نعم هي محل تنازع، وهذا التنازع هو وجه من أوجه ما أسميه التفاوض الاجتماعي حول مآل التغيير، الآن ما انتصر هو القشرة الأقل سمكًا من السطح الذي يمكن أن يكون عليه أي تغير في أي مجتمع، أي انتقال ديمقراطي سلس وأبعد عن العنف إلى أقصى حد ممكن، وبطيء ما أمكن، ويعتمد على الموافقات والتوافقات أكثر ما أمكن، وهو بذلك يجد نفسه أقرب إلى بنى الدولة العميقة والبنى القديمة التي كانت تتحكم في سير المجتمع.

إن كانت هذه الاعتبارات قائمة، فنحن إزاء عسر يبدو أنّه سيطول، ولكن بإمكاننا أن ننظر إلى الأمر بإيجابية من زاوية ما، لأنّه بقدر طول هذه الفترة يمكن أن ينفتح المجال أمام قوى شبابية، مثلاً، خاصة منها القوى التي تتحرك في مجالات مهمشة ومقصية (المقصيون من منوال التنمية، ومن التوزيع الجهوي، ومن توزيع الثروة، ومن توزيع السلطة...)، فهؤلاء لا يكفون عن معاودة المطالبة والظهور بأشكال غير كلاسيكية، لذلك نجدهم في التعبيرات الشبابية، ونجدهم في التعبيرات الفنية، وفي التعبيرات الثقافية، وفي التعبيرات السياسية غير الاعتيادية، فهم يتزعمون بشكل متواصل الحركات المطلبية التي لم تنته إلى حد الآن. لاحظ جيدًا أنّنا في كل مرة نلتفت فيها إلى تلك الجهات التي اعتيد أن توصف بأنّها جهات مقصية ومهمشة، نجد تحركات تتخذ أشكالاً مختلفة، وتُبرز قادة مختلفين هم أقرب إلى الشباب، يسمون عادة، أو في أغلب الأحيان، بالمعطلين عن العمل، وهذا يدل على حيوية في عمق هذا المجتمع في إظهار المطالب والتعبير عنها وتوفير الفرصة التاريخية الاجتماعية لتكوين قيادات سياسية من غير المجال التقليدي؛ فليس هو المجال الجمعياتي الاعتيادي وليس هو المجال النقابي الاعتيادي وليس المجال السياسي الاعتيادي في تعبيراته. أنت أشرت في مرحلة من هذا اللقاء إلى بنية الإمكانيات السياسية المتاحة، هذا نقاش أو جدل أو نزاع في عمق البنى التي تتيح الفعل التاريخي لقوى غير معتادة، فإلى حد الآن القوة الرئيسية في التغيير هي الشباب في المناطق التي كنا نتحدث عنها، ولكن التعبير السياسي الذي يمكن أن يكون ممثلاً لهذه القوى هو على أضعف صورة ممكنة، وهذا إشكال يدل على أنّنا بصدد نوع من العطب البنيوي في مآل التغير، لذلك فإنّ الخروج من منطق الدول ما بعد الاستعمارية ومن المطلبية الاحتجاجية إلى استراتيجية بناء أسس علم الاجتماع الإنساني بما هو مسألة ثقافية، هذا يدل على أنّنا بصدد الخروج ولكننا لم نخرج بعد، كأنّ القديم بصدد الوفاة أو الاحتضار ولكنه لم يمت بعد، والجديد هو بصدد البناء ولكنه لم يجد مرتكزاته بعد، وهذا أمر طبيعي ولكن خطره أنّه قد يفتح الأفق التاريخي على مآلات أعنف بكثير جدًّا مما عشناه؛ فنحن عشنا أوضاعًا فيها الكثير من مظاهر العنف السياسي، ومن بينها الاغتيالات السياسية وحل النزاعات السياسية باستعمال قوة السلاح، وهذا مشروع للتغيير السياسي العنيف وفيه تهديد للدولة مباشرة ولأسس الحياة السياسية القائمة، وأخطر ما فيه أنّه يسد الأفق التاريخي على التغير المدني الديمقراطي الاجتماعي العميق، الذي يرتبط بالقوى التي قلنا إنّها مقصية، لذلك فإنّ أفق دولة الرعاية الاجتماعية المستقلة العادلة يبدو مسدودًا بفعل هذا العنف السياسي ذي النمط السلفي الذي يسمى ''إرهابيًّا'' وأنا قد أتفق مع هذه التسمية ولكن هناك مناقشات ليس هذا مجالها.

فإن لم يكن التغيير مجتمعيًّا عميقًا في اتجاه دولة ترعى مواطنيها، وتكون مستقلة في قرارها السياسي الخارجي وفي بناء منوال تنميتها ومنوال إدارة الثروة فيها، فإنّنا سنكون دائمًا على حافة الانزلاق إما إلى حياة سياسية شكلية، وإما نحو خطر العنف السياسي والحرب الأهلية والغزو الخارجي من قوى متنقلة، ولكن الانتباه إلى السياق الذي نحن فيه يجعلنا ننفتح على مسألة مهمة وهي أنّنا في قلب منطق العولمة، بما هي تجاوز أو خرق للحدود السياسية الإدارية للدول وللقوميات وللثقافات.

د. نادر الحمامي: على هذا يمكن أن نختم، وهي خاتمة تجمع بين التشخيص والاستشراف، وهما العمادان اللذان قامت عليهما أبحاثك منهجًا وتصورًا، ويمكننا الإفادة منها والبناء عليها في دراسات لا حقة وحوارات آتية وشكرًا جزيلاً لك.