مواقف من التعدّد في الفكر العربي الإسلامي: أي امتداد لها اليوم؟ موقف ابن خلدون من التعدّد


فئة :  مقالات

مواقف من التعدّد في الفكر العربي الإسلامي: أي امتداد لها اليوم؟  موقف ابن خلدون من التعدّد

يقتضي تعثّر الفكر العربي في معالجة قضايا التعدّد وتكريس ثقافة "الاختلاف" مراجعاتٍ نقديّةً مختلفة، قطباها السياسات الثقافيّة التي سارت فيها الدولة العربيّة الحديثة، والموروث الفكري الإقصائيّ الذي لا يزال يوجّه جانبا مهمّا من الوعي -المذهبيّ أو الدينيّ أو العرقيّ- بـ"الآخر" المختلف والتعامل معه. وتقتضي أولى المراجعات أن نقف عند هذا الموروث تفكيكا لأسسه، وكشفا عن الآليّات التي يعمل وفقها العقل المنتج له، لأنّ إدارة الظهر لهذا الموروث وعدم إخضاعه لقراءة نقديّة، يوفّران أرضيّة سانحة لتوظيفه إيديولوجيّا، ويعوقان فعل التحديث بسبب القفز على واقعٍ ساهم هذا الموروث في تشكيله. وعدم اعتبار مقوّم من مقوّمات الواقع يؤدّي إلى الفشل في التأثير فيه وتطويره. لكن إلى جانب تفكيك هذا الموروث الإقصائيّ تقتضي المراجعة النقديّة أيضا الكشف عن موروث آخر -هُمِّش ولا يزال- مداره الاعتراف بمشروعيّة الاختلاف في إطار نزعة إنسانيّة تبحث عن الجوهريّ المشترك. وربْط الرصيد القيمي "العربي" بالقيم الكونيّة في العيش المشترك -على غرار سائر الثقافات- هو من مقتضيات الانتماء إلى "الإنسانيّة"، كما يقول الفيلسوف ريكور Ricoeur، إذ "يمكن للإنسان أن تطالعه في الماضي قيم إنسانيّة مشتركة يجد فيها نفسه"[1]، فضلا عن أنّ عودته إليه -كما يقول أيضا- يقتضيها "ما يدين به للقدامى من مساهمتهم في أن يكون ما هو عليه"، قبل أن يصوغ بنفسه تمثّله لهذا الماضي[2].

يربط ابن خلدون بين الوجود الاجتماعي والمشيئة الإلهيّة بطريقة تحدّ من استقلاليّة الإنسان في تنظيم "اجتماعه"

ولمّا كان التعدّد ظاهرة "اجتماعيّة"/"عمرانيّة" بالأساس، رأينا أن نبدأ -في تفكيك الموروث الذي تمثّله نصوص هامّة وفاعلة- بنصٍّ مؤسّسٍ لعلم الاجتماع/العمران العربي: مقدّمة ابن خلدون، لنتبيّن تصويره لهذه الظاهرة، ومن ورائه نتبيّن تصوّر ابن خلدون لها من حيث معايير الانتظام في المجتمع، وبين المجتمعات، أو "الأقوام والأمم"، حسب عبارته.

لعلّ أهمّ مدخل إلى الكشف عن حقيقة موقف ابن خلدون من التعدّد، هو المدخل المفاهيمي: فخطابه العمرانيّ قائم على جهاز اصطلاحيّ منتقى بدقّة تعكس رهاناته المعرفيّة والإيديولوجيّة. وأهمّ مصطلح قام عليه هذا العلم الذي استحدثه، هو "العمران البشري". فما هو التأسيس الدلاليّ المقترن بهذا المصطلح؟ وما علاقته بالموقف من ظاهرة التعدّد "في العمران"؟

اعتمد ابن خلدون كلمة "العمران"، ليرفعها إلى المستوى الاصطلاحي، وليبني عليها علما كاملا اختصّ به. هي كلمة قيّد بها دلالات المصطلح المستعمل قبله في الخطاب الفلسفيّ -خطاب بسياسة المدينة- وهو "الاجتماع الإنسانيّ"[3]، وتظهر عمليّة التقييد الدلاليّ في التعريفات التي شفع به مصطلح "الاجتماع": "الاجتماع البشري... هو العمران[4]"، و"الاجتماع الإنسانيّ.. هو عمران العالم"[5]. وبين مصطلحَيْ الاجتماع والعمران اختلافات دلاليّة تبدأ من المعجم، ثمّ تتطوّر في اتّجاهين فكريّين مختلفين: فالاجتماع من "جمع الشيء عن تفرقة.. فاجتمع". و"المجموع، الذي جُمع من ههنا وههنا، وإن لم يُجعل كالشيء الواحد"، و"تجمّع القوم، اجتمعوا من ههنا وههنا". فلا تعدو الدلالة المعجميّة "للاجتماع" البعد الوصفيّ الذي ينقل واقع الوجود المشترك للبشر، والذي طوّره الفلاسفة لاحقا نحو بعد "عقليّ" إنسانيّ في تنظيم المجتمع؛ أي إنّ الاجتماع في تصوّرهم شأنٌ بشري صرف في المنطلق وفي المآل، بينما كلمة العمران توفّر أرضيّة دلاليّة صالحة للاستثمار في بعد دينيّ مداره نظريّة الاستخلاف؛ فهي من "عمر". "والعِمارة، ما يُعمَر به المكان. وأعمره المكانَ واستعمره فيه: جعله يعمره"، والله جعل الإنسان يعمر الأرض مستخلفا إيّاه: ""هو أنشَأَكُم من الأرْض واستعمرَكم فيها"؛ أي أَذن لكم في عمارتها"، وفق ما جاء في "لسان العرب"[6]. واستحضار هذا البعد الدينيّ في هذه الكلمة عبر مفهوم "الاستخلاف"، سيكون الموجّه الرئيسَ لنظريّة ابن خلدون نحو اعتبار المرجعيّة الدينيّة في "سياسة المدينة"، وبذلك يكون البديل "الشرعيّ" لنظريّة عقليّة وضعها الفلاسفة في هذا الموضوع.

ينطلق ابن خلدون في بحث ظاهرة التعدّد بين الأمم والأقوام، معتمدا مصطلحيْن يحيل تقابلهما على دلالات الوصم والإقصاء "للمغاير"، وهما "المعتدل" و"المنحرف"

وعندما نتابع السياقات التي استُعمل فيها مصطلحُ العمران، تظهر بوضوح نظريّة الاستخلاف التي كانت توجّه المعاني العمرانيّة، إذ يربط ابن خلدون بين الوجود الاجتماعي والمشيئة الإلهيّة بطريقة تحدّ من استقلاليّة الإنسان في تنظيم "اجتماعه": فالله هو الذي أراد عمران الأرض "بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها"[7]، وهذا "الخليفة" مطالب بالالتزام بالشرع في تنظيم شؤون دنياه. وقبل هذا، صرّح بأن مقاربته "للعمران" تختلف عن مقاربة الفلاسفة[8]، من حيث التصوّر العامّ: فهو لئن اتّفق معهم على أنّ "الإنسان مدنيّ بالطبع"، وعلى أنّ "التساكن والتنازل في مصر أو حِلّة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات، (ضروريّ) لما في طباع (البشر) من التعاون على التعايش"[9]، فسيختلف عنهم في زاوية النظر إلى هذه الحقائق: زاويتهم ما ألهمهم إيّاه "العقل"، وزاويته "ما ألهمه إيّاه الله"[10]. من هنا سيتطوّر تنظيره لتنظيم العمران في اتّجاه مجادلة الآراء العقليّة في "السياسة" والردّ عليها، مؤكّدا في كلّ مرّة أنّ طريقة التنظيم يجب أن تكون مستندة إلى الشرع –وفق فهمه له- وليس إلى العقل. والسبب في نظره "أنّ الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط، فإنّها كلّها عبث وباطل إذ غايتها الموت والفناء، والله يقول "أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثا"، فالمقصود بهم إنّما دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم، "صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض". فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة"[11]. وبناء على هذا المعيار الدينيّ في تنظيم شؤون البشر، سيبحث ابن خلدون في شروط العمران الأمثل في ظلّ التعدّد والتنوّع اللذين يحكمان الوجود الاجتماعي. وهي شروط -كما سنرى- لن تعدو هويّة "أمّته" و"دينه" و"مذهبه".

ينطلق ابن خلدون في بحث ظاهرة التعدّد بين الأمم والأقوام، معتمدا مصطلحيْن يحيل تقابلهما على دلالات الوصم والإقصاء "للمغاير"، وهما مصطلحا "المعتدل" و"المنحرف"[12]؛ يعني بالأوّل ما هو مستقيم ومعهود وصائب في دائرته البيئيّة والثقافيّة، ويعني بالثاني ما هو غريب أو لا يتماشى والمتعارف مع دائرته و"حقائقها". وعلى أساسهما قارن بين الأمم والأقوام في مجالاتهم الجغرافيّة، وفي طرائق عيشهم، وفي معتقداتهم، وفي أخلاقهم... ويخلص من وراء هذه المقارنة إلى أنّ هناك صنفا عَدّ أصحابه "أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم"، و"أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا"؛ وصنفا آخر رأى أنّ أصحابه لا يرتقون إلى صفة الإنسانيّة، و"أحوالهم قريبة من أحوال البهائم". فالسودان والصقالبة من هؤلاء الأقوام -على سبيل المثال- "أخلاقهم قريبة من خلق الحيوانات العجم"[13]. ومحصّل المقارنة التي قام بها ابن خلدون بين الأقوام، هو وجود من لهم دين منزّل، وهم الأفضل؛ في مقابل من لم يعرفوا "النبوّات"، وهؤلاء بعضهم لا يرتقي إلى مرتبة الإنسانيّة، كما قال.

ثمّ يتقدّم خطوة أخرى في مقارناته ليفاضل بين المجتمعات التي عرفت الأديان السماويّة، في ضوء مفاضلته بين هذه الأديان نفسها؛ فمنها الناسخة ومنها المنسوخة، كما يقول. وواجب العمل بالناسخة منها، أي بالإسلام دون غيره: الملّة الإسلاميّة أحسن الملل وأصوبها "فهي مباينة لجميع الملل، لأنّها ناسخة لها. وكلّ ما قبلها من علوم الملل، فمهجورة، والنظر فيها محظور"[14].

ثمّ تأتي خطوة موالية في ذات النهج المقارني المعياريّ، وهي المفاضلة بين المذاهب داخل الدائرة الإسلاميّة نفسها. فطريقة عرضه للمعارف التي تنشأ في العمران، تبيّن بوضوح اعتباره "للثقافة السنيّة" وحدها إنتاجا "حضاريّا" ملازما للعمران: فهو يبدأ بأنّ "العلم والتعليم طبيعيّ في العمران البشري"، و"أنّ العلوم إنّما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة"، وينتهي إلى أنّ "أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد"، هي وحدها الواجهة السنيّة لعمران[15]. والخطير أنّ الحديث عنها لم يكن في إطار مذهبيّ –وهذا مشروع له تماما كما هو مشروع لأيّ صاحب مذهب- بل كان في إطارٍ تنظيريّ عمرانيّ أظهرها في صورة الإمكان الطبيعيّ والوحيد في العمران الإسلاميّ. في هذا السياق، جاء حديثه عن الإنتاج السنّيّ في التفسير، والقراءات، وعلوم الحديث، وعلم الفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام[16] وغيرها... وجاءت كل شواهده –أعلامًا ومؤلّفاتٍ- في هذا الإطار المذهبيّ دون غيره. ولم يفوّت في أيّ سياق يقتضي الحديث عن بقية المذاهب، ليذكّر بخطئها وضلالها. فالشيعة والخوراج يظلّون الفرق "الضالّة" المقابلة للفرقة "الناجية" فرقة أهل السنة والجماعة، إذ "شذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به، وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمّة ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كلّها أصول واهية. وشذّ بمثل ذلك الخوارج. ولم يحفل الجمهور بمذاهبهم، بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح. فلا نعرف شيئا من مذاهبهم ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها إلاّ في مواطنهم"[17]. وكذا كان موقفه من المعتزلة والفلاسفة الذين يقرنهم دائما بالبدعة والقصور في الرأي، ويحذّر من اتّباعهم[18]. وفي كلّ هذه المواقف كان يتّخذ موقع "عالم العمران"، ساكتا تماما عن موقعه الفعليّ والمحدّد، وهو موقع الفقيه. ونعود ونقول، من حقّ ابن خلدون "الفقيه" أن يدافع عن دينه وعن مذهبه وعن قومه، في إطار الخلافيّات التي كانت تحكم أفق التفكير التقليديّ السائد؛ لكن ليس لابن خلدون "عالم العمران" -كما يقدّم نفسه- أن يقرن "الاعتدال" بمقوّمات هويّته، ولا الصواب بدينه فقط، ولا صحّة الآراء بمذهبه تحديدا. إنّه بذلك يخلط خلطا ستكون نتائجه خطيرة، ليس فقط من حيث تمرير "المذهبيّ" في إهاب "عمراني"، بل من حيث التأسيس –وهو مبدع علم العمران- لعدم التمييز الواجب في عمل المفكّر بين انخراطه في الصراعات الإيديولوجيّة، وهذا مستوى داخل في حريّته؛ وبين التزامه بالتنظير الذي يبحث في المعرفيّ التجريديّ، وفي المشترك الإنسانيّ والآليّات المتحكّمة فيه، دون اتّخاذ الخاصّ، أو الذاتيّ، أو الإيديولوجيّ، معيارا. إنّ عدم الوقوع في هذا الخلط هو سبيل الانتماء إلى الإنسانيّة وإثراء رصيدها.

لقد أراد ابن خلدون أن يكون خطابه "عمرانيّا" بالمعنى الذي ميّزه عن المعنى الفلسفيّ المتعارف قبله، وصاغ تصوّرا للوجود الاجتماعي، لكنّه لم يغادر الخطاب الفقهيّ المحكوم بمعايير "الصحيح والخاطئ" و"الجائز وغير الجائز". فصادر "عمرانُه" المشتركَ السياسيّ الإنسانيّ، وهو الإدارة العقليّة للتعدّد والتنوّع، لأنّ هذه الإدارة هي السبيل إلى "عقلنة" الاختلاف وتنسيبه، في اتّجاه التأسيس لوجود متساوي الحظوظ بين مكوّنات المجتمع الواحد، ثمّ بينه وبين سائر المجتمعات مهما اختلفت هويّاتها، لأنّ "الناس قبيلٌ واحد متناسبون، تجمعهم الإنسانيّة" - كما قال الفيلسوف يحيى بن عديّ.


[1]. P. Ricœur, Histoire et vérité, Paris, Seuil, 2001, p 37

[2]. P. Ricœur, Histoire et rhétorique, Diogène, no 168, octobre-décembre, 1964, p. 25

[3]. عبد الرحمان بن خلدون، المقدّمة، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني، 1999، مج 2، ص 840

[4]. المصدر نفسه، مج 1، ص 62

[5]. المصدر نفسه، مج، 1، ص 57

[6]. جمال الدين بن منظور، لسان العرب، مصر، دار المعارف، د.ت، مادّة "عمر". وهذا المعنى الذي أثبته المعجم مستمدّ من التفسير. جاء في تفسير الطبري: ""واستعمركم فيها": وجعلكم عُمّارا فيها. فكان المعنى فيه: أسكنكم فيها أيّام حياتكم". محمّد بن جرير الطبري، جامع البيان، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1994، مج 4، ص 288

[7]. المقدّمة، مج1، ص 74

[8]. المصدر نفسه، مج 1، ص 65

[9]. المصدر نفسه، مج 1، ص 67

[10]. المصدر نفسه، مج 1، ص 66

[11]. المصدر نفسه، مج 1، ص 337 والآية الأولى من سورة "المؤمنون" 23/ 115؛ والثانية من سورة "الشورى" 42/ 53

[12]. تكرّر هذان المصطلحان بكثرة في المقدّمات الستّ التي حدّدها ابن خلدون: مجلّد 1، ص ص 73، 141، 142، 143، 144، 145، 146، 151، 152، 155

[13]. المصدر نفسه، مج 1، ص ص 142- 143

.[14] المصدر نفسه، مج 2، ص 781

[15]. انظر الباب السادس من الكتاب الأوّل: "في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كلّه من الأحوال وفيه مقدّمة ولواحق، المقدّمة، مج 2، ص ص 739- 881

.[16] انظر في المصدر نفسه، مج 2، ص ص 783–838

.[17] المصدر نفسه، مج 2، ص ص 799، 800

.[18] المصدر نفسه، مج 2، ص ص 825، 992- 1002