موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية


فئة :  قراءات في كتب

موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية

موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد"*

تأليف: عبد الوهاب المسيري**

القضايا النظرية والفكرية والمنهج والهدف والنماذج المعرفية التفسيرية في الموسوعة


تمهيد:

صدرت موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية، نموذج تفسيري جديد" لعبد الوهاب المسيري عن دار الشروق بالقاهرة عام 1999، في ثمانية مجلدات، وهي تعدّ تطويراً لموسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية التي أصدرها المسيري عام 1975.

وتُعالج هذه الموسوعة قضية من أهم القضايا إثارة للجدل عبر التاريخ؛ وهي قضية اليهود واليهودية والصهيونية، إذ تحاول دراسة مختلف "جوانب تاريخ العبرانيين في العالم القديم، وتواريخ الجماعات اليهودية بامتداد بلدان العالم، وتعدادها وتوزيعاتها، وسماتها الأساسية، وهياكلها التنظيمية، وعلاقات أفراد الجماعات اليهودية بالمجتمعات التي يوجدون فيها وبالدولة الصهيونية. وتغطّي الموسوعة، كذلك، أشهر الأعلام من اليهود (مثل موسى بن ميمون) وغير اليهود ممن ارتبطت أسماؤهم بتواريخ الجماعات اليهودية (مثل نابليون وهتلر). كما تتناول هذه الموسوعة كل الجوانب المتعلقة بتاريخ اليهودية، وفرقها وكتبها الدينية، وطقوسها وشعائرها، وأزمتها في العصر الحديث، وعلاقتها بالصهيونية وبمعاداة السامية (معاداة اليهود). وتغطي الموسوعة الحركة الصهيونية ونشاطاتها ومدارسها وأعلامها، وبعض الجوانب الأساسية للدولة الصهيونية".

إنها، إذاً، موسوعة شاملة متكاملة؛ وهي تتميّز، إلى جانب ذلك، بكونها تعدّ أول موسوعة نقدية تفكيكية عن اليهود واليهودية والصهيونية يكتبها باحث غير يهودي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه بعد أربع سنوات من صدور هذه الموسوعة، أصدر المسيري نسخة موجزة منها في جزأين كبيرين[1]. وكان الهدف من اختصارها هو محاولة مخاطبة القرّاء الذين لم يتمكنوا من الاطلاع على النسخة الكاملة.

أوّلاً: محتوى الموسوعة وقضاياها النظرية والفكرية

تتألف الموسوعة، كما سبقت الإشارة، من ثمانية مجلدات، يضمّ كل مجلد عدة أجزاء، ويضمّ كل جزء عدة أبواب، ويضمّ كل باب عدة مداخل.

وعدد مداخل الموسوعة حوالي 2300 مدخل، والموسوعة مرتبة حسب التصنيف الموضوعي؛ وهي لا تقتصر عليه، إذ يوجد في المجلد الثامن فهرس ألفبائي عربي بكل مداخل الموسوعة.

خصّص المجلد الأول لتحديد الإطار النظري للموسوعة، واستعراض جملة من الإشكالات النظرية ذات العلاقة باليهود واليهودية والصهيونية، وفي مقدمتها مشكلة المصطلح الغربي الذي يتميّز، حسب المسيري، بمجموعة من السمات، أبرزها:

1. "تنبع المصطلحات الغربية من المركزية الغربية؛ فالإنسان الغربي يتحدّث، على سبيل المثال، عن «عصر الاكتشافات»، وهي عبارة تعني أن العالم كله كان في حالة غياب ينتظر الإنسان الأبيض لاكتشافه. والصهاينة يشيرون أيضاً إلى أنفسهم على أنهم «رواد»، والرائد هو الشخص الذي يرتاد مناطق مجهولة، فيستكشفها بنفسه ويفتحها لينشر الحضارة والاستنارة فيها بين شعوبها البدائية".

2. "يَصدُر الغرب عن رؤية إنجيلية لأعضاء الجماعات اليهودية. وحتى بعد أن تمت علمنة رؤية العالم الغربي لليهود، ظلت بنية كثير من المصطلحات ذات طابع إنجيلي؛ فاليهود هم «شعب مقدَّس» أو «شعب شاهد» أو «شعب مدنَّس» أو «شعب ملعون». وبغض النظر عن الصفات التي تلتصق باليهود، فإن صفة الاستقلال والوحدة هي الصفة الأساسية، فسواء كان اليهود شعباً مقدَّساً أم مدنَّساً فهم شعب واحد. وقد ترجم هذا المفهوم نفسه إلى فكرة «الشعب اليهودي»، تماماً كما أصبح «التاريخ المقدَّس» الذي ورد في التوراة هو «التاريخ اليهودي». وتُشكِّل مفاهيم الوحدة والاستقلال هذه، الإطار النظري لكل من الصهيونية ومعاداة اليهود".

3. "انطلق الصهاينة من المركزية الغربية هذه وعمَّقوها بإضافة المركزية الصهيونية، وجوهر هذه المركزية هو أن اليهود كيان مستقل لا يمكن دراسته إلا من الداخل في إطار مرجعية يهودية خالصة، أو شبه خالصة؛ وهو ما أدَّى إلى ظهور ما [يسمّيه المسيري] «غيتوية المصطلح». فكثير من الدراسات التي كُتبت عن الموضوع اليهودي والصهيوني تستخدم مصطلحات من التراث الديني اليهودي (بعضها بالعبرية أو الآرامية) أو من تراث إحدى الجماعات اليهودية (عادةً يهود اليديشية) أو من الأدبيات الصهيونية لوصف الظواهر اليهودية والصهيونية، وكأن هذه الظواهر من الاستقلالية والتفرد بحيث لا يمكن أن تصفها مفردات في أي لغة أخرى".

4. "وهناك بُعد آخر في المصطلح الصهيوني يقف على طرف النقيض من «الجيتوية» وهو ما [يسمّيه المسيري] «التطبيع»؛ وهو محاولة إسباغ صفة العمومية والطبيعية على الظواهر الصهيونية رغم ما تتسم به، في بعض جوانبها من تفرّد، بسبب طبيعتها الاستيطانية الإحلالية".

وليتجاوز المسيري هذه الصعوبات، ويصل "إلى مصطلحات أكثر تركيباً وتفسيرية وشمولاً ودقة"، نحت "مصطلحات تَنبُع من نموذج تحليلي جديد مركّب، لا يتبنى المرجعية الغربية أو الصهيونية؛ بل يستند إلى إدراك عربي إسلامي للظواهر، وإلى مرجعية عربية إسلامية".

وقد اهتم المسيري، في هذا المجلد، بتحديد مجموعة من المفاهيم والمصطلحات؛ منها على سبيل المثال لا الحصر: المرجعية النهائية المتجاوزة والكامنة، والمسافة والحدود والحيز الإنساني، والمركز، والمبدأ الواحد، والتجاوز والتعالي (مقابل الحلول والكمون)، والمطلق والنسبي، والمركب والبسيط، والسببية الصلبة واللاسببية السائلة، والواحدية الكونية: المادية أو المثالية/ الروحية، والإنسانية المشتركة، والطبيعة/ المادة، والعقلانية المادية واللاعقلانية المادية، والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، والجماعات الوظيفية... وغيرها من المفاهيم. كما تناول فيه قضايا متعددة؛ منها: قضية الفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية، وإشكالية الموضوعية والذاتية.

ويحمل المجلد الثاني من الموسوعة عنوان: "الجماعات اليهودية.. إشكاليات". وقد تعرّض فيه المسيري لمجموعة من القضايا والإشكالات ذات الصلة بالجماعات اليهودية؛ منها طبيعة اليهود عبر التاريخ وما يرتبط بها من مفاهيم، من قبيل "الجوهر اليهودي"، و"العبقرية اليهودية"، و"الخصوصية اليهودية"، و"الوحدة اليهودية". كما توقف عند هجرات أعضاء الجماعات اليهودية وانتشارهم منذ العصور القديمة حتى العصر الحديث، مؤكداً ما عرف به العبرانيون من أنهم "شعب متجول" تتسم حياتهم بالتنقل من مكان إلى آخر، وبالانتشار في مختلف بقاع الأرض.

وقد تحدث المسيري - بنوع من التفصيل - عن هجرات اليهود قديماً منذ حوالي ألفي سنة قبل الميلاد إلى حدود بداية عصر النهضة، ولاحظ أن هذه الهجرات تميزت خلال هذه المرحلة بالتدريج وبالبطء الشديد، بسبب عدم توفر وسائل التنقل السريعة، كما أن اليهود المحليين كانوا غالبا ما يتصدون للوافدين من اليهود بسبب ما يشكلونه من خطورة اقتصادية.

أمّا هجرات اليهود في العصر الحديث، فقد قسّمها المسيري إلى أربع مراحل؛ هي:

  1. المرحلة الأولى: وتبتدئ من القرن السادس عشر وتنتهي مع بداية القرن التاسع عشر، وتصادف "مرحلة البدايات الأولى للثورة الصناعية الرأسمالية بأوربا"، وقد "شهدت توطين السفارد من يهود المارانو في هولندا وفرنسا وإنجلترا، كما شهدت بدايات الهجرة الاستيطانية اليهودية إلى العالم الجديد".
  2. المرحلة الثانية: وتمتد من بداية القرن التاسع عشر إلى حدود عام 1880، وقد شهدت وقوع "الحروب النابليونية وما أعقبتها من اضطرابات سياسية تسببت في هجرة بعض الجماعات اليهودية من ألمانيا وبوهيميا والنمسا إلى فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية".
  3. المرحلة الثالثة: وتمتد من عام 1881 إلى عام 1939، وتتسم بكونها "مرحلة الهجرة الكبرى اليهودية وغير اليهودية، والتي بدأت عام 1881 مع تعثر عملية التحديث بروسيا وتزايد العنصرية في كل أوربا، وانتهت عام 1939 بصدور قوانين عام 1924 التي حدَّت من هجرة يهود شرق أوربا، ثم بالكساد الاقتصادي، وإغلاق أبواب الهجرة من روسيا تماماً".
  4. المرحلة الرابعة: وتمتد من عام 1948 إلى تاريخ الانتهاء من إعداد الموسوعة، وتتميز بتكتل اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية وتناقص أعدادهم في أوربا وظهور الكتلة اليهودية الاستيطانية بفلسطين المحتلة. وهكذا، أصبح هناك قطبان يتنازعان هجرة اليهود، هما: الولايات المتحدة و"إسرائيل" (فلسطين).

وخصص الباحث المجلد الثالث، الموسوم بـ"الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة"، للحديث عن ثقافات أعضاء الجماعات اليهودية وعلاقة التفاعل بينهم وبين الثقافة الغربية في عصور التحديث والاستنارة وما بعد الحداثة. وقد توقف المسيري - في هذا السياق - عند العلاقة الوثيقة بين البروتستانتية من جهة، وبين العقيدة اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية من جهة أخرى. كما تحدّث عن علاقة العلمانية بالجماعات اليهودية وعن دورهم في ظهورها وانتشارها، وعما تركته من آثار عميقة في اليهودية، خاصة بعد تصاعد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي، حيث دخلت اليهودية الحاخامية مرحلة الأزمة بسبب هيمنة القبالاه الحلولية على اليهودية، فأصبحت رؤيتهم للكون حلولية متطرفة. كما توقف عند مفهوم التحديث، وتحدّث عن دور اليهود فيه وعن تأثرهم به، إلى جانب علاقتهم بالرأسمالية الغربية.

وعرف المسيري مفهوم الثقافة اليهودية، حيث خلص إلى أنه لا توجد ثقافة يهودية خالصة مستقلة وعالمية تعبّر عن وجدان أعضاء الجماعات اليهودية وسلوكهم، وإنما توجد ثقافات يهودية تختلف باختلاف التشكيل الحضاري الذي يوجد فيه اليهود. وهكذا، يمكننا الحديث عن ثقافة غربية يهودية، أو ثقافة عربية يهودية. كما ذكرت الموسوعة - في هذا المجلد- عدداً من المفكرين والفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانين من أعضاء الجماعات اليهودية.

وجاء المجلد الرابع من الموسوعة يحمل عنوان "الجماعات اليهودية: تواريخ"، وهو مخصص للحديث عن تاريخ الجماعات اليهودية في العالم الغربي وفي العالم الإسلامي قديماً وحديثاً.

وهكذا، تناول الجزء الأول من هذا المجلد تواريخ الجماعات اليهودية في العالم القديم، بينما تطرق جزؤها الثاني إلى تواريخ هذه الجماعات في العالم الإسلامي قديما وحديثا. أما الجزء الثالث والأخير من هذا المجلد، فتحدث عن تواريخ اليهود في عدد من بلدان العالم الغربي، مثل فرنسا وإنجلترا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وروسيا وأمريكا اللاتينية والولايات المتحدة.

وقد أثار المسيري في هذا المجلد جملة من القضايا، منها: الرؤية الصهيونية للتاريخ، وهي رؤية تنبع من مصدرين أساسيين؛ أولهما عقائدي، ويتمثل في الحلولية اليهودية بما تحويه من مزج بين المطلق/ الإلهي والنسبي/ الإنساني، وبكل ما تضفيه على الشعب اليهودي من قداسة تجعله مطلقا. والمصدر الثاني تاريخي، يتمثل في التجربة التاريخية التي خاضتها الجماعات اليهودية في شرق أوربا بوصفها جماعات وظيفية؛ وهي تجربة قدمت ما يمكن وصفه بالبرهان الواقعي الملموس، الذي يؤكد صحة الرؤية الصهيونية للتاريخ اليهودي. كما أن الرؤية الصهيونية للتاريخ لا تختلف عن الرؤية الحلولية الواحدية اليهودية له، إذ إن الفارق الوحيد بينهما هو أن الرؤية الصهيونية قد عُلْمِنت.

ويتضمن المجلد الخامس، المعنون بـ"اليهودية: المفاهيم والفرق"، ثلاثة أجزاء رئيسية. وقد غطى الجزء الأول بعض الإشكالات المرتبطة باليهودية، مثل إشكالية "الحلولية اليهودية"، وعلاقة الغنوصية والصهيونية باليهودية. وتناول الجزء الثاني مجموعة من المفاهيم والعقائد الأساسية في اليهودية؛ من قبيل "الإله"، والشعب المختار والنبوة والقباله والشعائر والحاخام وغيرها. وتوقّف الجزء الثالث عند الفرق الدينية اليهودية، مثل الحسيدية واليهودية الإصلاحية واليهودية الأرثوذوكسية واليهودية المحافظة. عالج هذا الجزء، إلى جانب ما سبق، قضيّةً خطيرةً جداًّ قلما التفت إليها الباحثون في العالم العربي؛ وهي قضية العلاقة بين اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية بتيار ما بعد الحداثة، إذ لاحظ المسيري أن كثيراً من مؤسّسي ما بعد الحداثة ودعاتها ينحدرون من أصول يهودية (جاك دريدا، إدموند جابيس، هارولد بلوم، إيمانويل ليفيناس...)، وأن صلة هؤلاء بموروثهم العبري وثيقة. وذهب إلى أن ثمة "تبادلاً اختيارياًّ" بين اليهود واليهودية من جهة وما بعد الحداثة من جهة أخرى، والسبب هو أن ثمة عناصر في اليهودية وفي وضع أعضاء الجماعات اليهودية تجعلهم يتجهون نحو ما بعد الحداثة، فيتأثرون بها ويساهمون في فكرها إسهاما ملحوظا.

ويمكن تلخيص العناصر الموجودة في التراث اليهودي، في ما يلي:

  1. العقيدة اليهودية غير متجانسة، بل إنها تضم عدداً من العقائد المتناقضة. ومن ثَمَّ، يمكن الحديث عن اليهودية بوصفها "تركيبا جيولوجيا تراكميا"، يتكون من عدة طبقات جامدة ومستقلة لا تمتزج فيما بينها ولا تتفاعل؛ ولكنها في الوقت نفسه لا تلغي الواحدة منها الأخرى. إضافة إلى ذلك، يفتقد اليهود إلى تعريف محدد لمن هو اليهودي؟ فقد عرّف تارة بأنه "من يصفه الناس بأنه كذلك"، وعرّف تارة أخرى بأنه "من يشعر في قرارة نفسه بأنه كذلك"؛ وهي تعاريف لا تشير إلى شيء محدد، وهو ما يجعل اليهود يفتقرون إلى "هوية يهودية" وإلى معيارية محددة، ما يسمح بإمكانية أن يشير دال واحد إلى مدلولين متناقضين أو أكثر.
  2. تعدّ التوراة الشريعة المكتوبة في العقيدة اليهودية، ولكنها ليست الشريعة الوحيدة، إذ توجد إلى جانبها "الشريعة الشفهية" التي توارثها الحاخامات، والتي تمثلها التفسيرات الحاخامية المدونة في التلمود. وتذهب العقيدة اليهودية، (في شكلها الحاخامي)، إلى أن الشريعة الشفهية أكثر أهمية من الشريعة المكتوبة. وهذا يعني تحول الأصل إلى فرع، والثابت إلى متغير، والمطلق إلى نسبي، كما يعني أن الدال الإلهي لا يتحدد معناه إلا من خلال تفسيرات الحاخامات؛ وهي تفسيرات متعددة ومختلفة.
  3. تذهب بعض المدارس اليهودية في التفسير إلى أن المعنى الحقيقي للعهد القديم هو المعنى الباطني الذي لا يوجد إلا في بطن المفسر، وهذا يفتح المجال أمام نسبية لا نهاية لها.
  4. هناك مدارس أخرى ترى أن تفسير التوراة يشبه حالة الجماع، والمعرفة في التراث القبالي مماثلة للجنس وذات طابع شهواني. وفي هذا السياق، يقول دافيد باكان David Bakan: "لمفهوم الكابال عن الـ Daath، أو المعرفة، أهمية خاصة أيضاً، الـ Daath في الكابال هي نصف Sephira نتجت عن اتحاد اثنين من الـ Sephiroth، هما Chokmah أي الحكمة وBinah أي الفهم؛ Chokmah هي مبدأ مذكر، وBinah مبدأ مؤنث، Daath هي الابن المقدس لاتحادهما الصوفي. تستعمل كلمة Daath أيضا للدلالة على العلاقات الجنسية، على الجماع، مثلاً: «وعرف الإنسان حواء، زوجته، وحبلت». وهكذا، تتماثل المعرفة والجنس في توليف، حيث تذوبان لتصبحا شيئاً واحداً"[2].

وقد تكون لهذا التصور علاقة بما نراه من اهتمام، مبالغ فيه، بالجنس واللذة من قِبَل كثير من المفكرين والنقاد ما بعد الحداثيين، إلى درجة أن هذه المفاهيم صارت لها الأسبقية على كل شيء؛ وحتى على اللغة ذاتها، التي كانت إلى عهد قريب مركز اهتمام الغربيين. فاكتسح الجنس النقد الأدبي، وكثر الحديث عن "لذة النص"، و"نص اللذة"، وعن أن اللغة الحقيقية هي اللغة "المتقطعة"، اللغة "الإيروسية"[3].

ومن أبرز الأمثلة على ذلك المنحى حديث بارت عن "لذة النص"، باعتبارها لذة جنسية مرتبطة بـ"جسم المتعة" المصنوع "من العلاقات الإيروسية وحدها"[4]، والتي تحدث نتيجة تفاعل جسد النص (النص صورة بشرية)[5] وجسد القارئ؛ فتصبح "لذة النص هي تلك اللحظة التي يسير فيها جسدي وراء أفكاره الخاصة"[6]. كما يشبّه بارت عملية الكتابة بـ"العملية الجنسية التي لا تنجب"[7]، وكذلك يفعل دريدا حين يشبهها بـ"المني العاجز عن الإنجاب"[8].

5. سيطر الفكر القبالي الحلولي على الفكر الديني اليهودي، وثمة في تراث القباله عدد من المفاهيم التي تقترب من مفاهيم ما بعد الحداثة مثل: مفهوم شفيرات هكليم (تهشم الأوعية)، وتسيم تسوم (الانكماش)، وتيقون (إصلاح الخلل الكوني)؛ وهي مفاهيم ترى أن عملية الخلق لم تكتمل بعد، وأن الذات الإلهية نفسها لا تزال في مرحلة البناء؛ وهو ما يعني سقوط العالم في حالة من الصيرورة لا نهاية لها، وينفي بتعبير دعاة ما بعد الحداثة تحقق الحضور الكامل للذات.

أما الأسباب المرتبطة بوضع أعضاء الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية، والتي ساهمت في تسهيل اختيار اليهود لفكر ما بعد الحداثة وتفاعلهم معه، فهي- حسب المسيري- :

1. "النفي هو التجربة التاريخية الأساسية لليهود (...) فقد اقتلع اليهود من وطنهم الأصلي وتم إحلال شعب آخر محلهم، كما تم توطينهم في بلاد غريبة عنهم. واليهودي يعيش في بلاد الأغيار وكأنه مواطن فيها مندمج في أهلها مع أنه في واقع الأمر ليس كذلك؛ فهو فيها وليس منها؛ فهو الغريب المقيم أو المقيم الغريب؛ الحاضر الغائب (...) فهو في حالة صيرورة ولا معيارية، الدال المنفصل عن المدلول أو الدال الذي له مدلولات متعددة بشكل مفرط".

2. ينظر المسيحيون إلى اليهود على أنهم قتلة عيسى، ولكنهم في الوقت ذاته شعب شاهد على عظمة الكنيسة؛ فهم شعب منبوذ ولكن لا بد من حمايته. كما أن اليهود يعيشون في المجتمع المسيحي الذي يحميهم، ولكنهم يرفضون التجسد، فهم لا يزالون بانتظار الماشيح (Messiah) المخلص، وهم أيضاً "شعب الله المختار" كما يقول كتابهم المقدس، ولكنهم منبوذون من قبل الأغيار. وكل هذا يجعل من الصعب على أعضاء هذا الشعب تبني مرجعية ثابتة أو معيارية واحدة. واليهود، بهذا، يصبحون دالاًّ بدون مدلول.

3. "يُشار إلى اليهودي، باعتباره صاحب هوية واضحة، ولكنه في واقع الأمر مفتقد تماماً للهوية، فهو يزداد اندماجاً في الحضارة الغربية رغم كل محاولات الإفلات من قبضتها. ومن المفارقات أن إسرائيل قامت للدفاع عن الهوية اليهودية ولكنها أصبحت الآلية الكبرى لطمس معالم هذه الهوية. ومن ثَمَّ، فإن العودة التي كان المفترض فيــها أن تكـون نقطــة التحقـق والحضور الكامل أصبحت لحظة الغيـاب الكامل؛ وهو ما يعني اختـلاط المـدلولات وتعـددها".

4. "وممّا زاد من زعزعة ما يُسمَّى "الهوية اليهودية" تزايد تعريفات اليهودي؛ فهو يمكن أن يكون إصلاحياًّ أو محافظاً أو تجديدياًّ. وهناك اليهودي الملحد واليهودي غير اليهودي واليهودي المتهوِّد، واليهودي بالاختيار (...) ولعل سؤال «من اليهودي؟»، المطروح بحدة في الدولة اليهودية، هو تعبير عن هذا الفصل الحاد بين الدال والمدلول واستحالة التعريف بسبب سقوط الدال في قبضة الصيرورة".

إن هذه العناصر ساهمت في ظهور "الهرمنيوطيقا المهرطقة"، أو "التفكيكية اليهودية" وتشير هذه العبارة إلى سعي بعض المثقفين اليهود نحو تفكيك النص المقدس وتقويضه.

وتذهب سوزان هاندلمان إلى أن الحضارة اليونانية حضارة مكانية، تتسم بالثبات والوضوح، وهي حضارة أفلاطونية تؤمن بالثبات وتنظر إلى العالم في إطار الثنائية الأفلاطونية: عالم المثل، وعالم الحس. من هنا، تمركزها حول "اللوغوس" الذي يعدّ نقطة ثبات هذه الحضارة، ومرجعيتها المتجاوزة التي تمد العالم بالمعنى، وتضمن للذات الحضور الكامل. وما دامت المسيحية استمراراً لتقاليد الحضارة اليونانية، فقد سعت التفسيرات المسيحية إلى الوصول إلى معنى ثابت وواحد للنص. ومن هنا، فقد ظل النص المقدس أكثر أهمية من تفسيراته، كما هو الشأن في كل العقائد التوحيدية.

أمّا اليهودية فتقف على النقيض من ذلك؛ لأن الحضارة العبرية، من منظور دعاة ما بعد الحداثة، حضارة زمانية غير مرتبطة بالمكان (الأرض). وإن اليهودي يستحيل عليه الاستقرار في مكان واحد، لأنه ليس مكانه. ومن ثَمَّ، فهو يعيش متجولا في الزمان، بل إن هذا الزمان نفسه يتم إلغاؤه لأنه ليس زمانه؛ فاليهودي يعيش في بداية الزمان وفي نهايته، دون أن يعرف أصله بوضوح ودون أن يصل إلى النهاية. ومن هنا، تعبر اليهودية عن رفضها للحظة التجسد والحضور والثبات، سواء كانت أفلاطونية أم مسيحية.

وتتحقق هذه "التفكيكية اليهودية" من خلال آليتين، هما:

1. رؤية يهودية محددة للنص، حيث يفقد النص المقدس حدوده ويتداخل مع النصوص الأخرى ويصبح من الممكن تحميله بأي معنى يشاء المفسر. ومن ثم، فهو يصبح نصا مفتوحا.

2. عند هذه اللحظة، يمكن تحميل النص المفتوح بالهرطقة، باعتبارها المعنى الحقيقي.

تهدف الآلية الأولى إلى فتح النص المقدس "الموحى" به من الإله، حيث يتم إسقاطه في عالم الصيرورة الكاملة، ونفي صفات القداسة والثبات والحضور والمطلق عنه، فتحل تفسيرات المفسرين المتغيرة والمتعددة محل النص المقدس الثابت والمطلق. ويتم نفي صفة الأصلي عن النص المقدس وعن أي تفسير له حين تسود حالة من التناص والتداخل بين النص المقدس والتفسيرات الإنسانية من جهة، وبين تفسيرات الحاخاميين من جهة ثانية. أما الآلية الثانية، الأكثر عمقا وجذرية، فهدفها إعطاء النص المقدس، بعد فتحه، معنى مُهرطقاً، باعتماد عدة خطوات تسير في اتجاه فرض تفسيرات المفسرين عليه، بعدما اكتسب المفسر القداسة، وأصبحت تفسيراته تتحرك نحو المركز، ونحت منحى غنوصياًّ قبالياًّ.

من هنا، تكون "الهرمينوطيقا المهرطقة" تعبيراً عن رغبة اليهود في الانتقام لأنفسهم من العالم اليوناني المسيحي، الذي يزعم أن العالم يدور حول اللوغوس وحول نقطة ثبات نهائية؛ ذلك العالم الذي قام باقتلاع اليهود وفرض عليهم النفي والتحول والصيرورة. ولذا فهو، ردا على ذلك، يفرض اليهود على النص المقدس الذي يفترض فيه الثبات "التفسير" و"سوء القراءة" المتعمد، وهذا في واقع الأمر تفكيك وتقويض له وفرض للصيرورة عليه.

من هذا المنطلق، نجد أن المثقفين اليهود ينجذبون نحو التفكيكية، ويحاولون اتخاذ مواقع لهم خارج التقليد اليوناني، وخارج التراث الغربي المتمركز حول اللوغوس، متهمين إياه بالذاتية، ومحاولين تحطيمه؛ فقد قوّض ماركس فكرة الفردية واستقلالية الذات، وأكد مقابل ذلك قيمة البنية والطبقة والعلاقات الاجتماعية، فأحل بذلك المجتمع محل الفرد. كما أحل فرويد اللاوعي محل الوعي. وقوّض دريدا التمركز حول اللوغوس والكلمة المنطوقة وأحل محلهما الكتابة، وبيّن أن الهامش (Marge) أفضل من المركز، وأنه يمكن أن يكشف عن كثير من التناقضات أو المغالطات التي يحاول المؤلف إخفاءها في المتن (المركز).

 كما ذهب المسيري إلى أن مجموعة من المفاهيم التفكيكية وما بعد الحداثية ذات أساس يهودي، وتتشابه مع بعض المفاهيم القبالية؛ ومن هذه المفاهيم: "الحضور"، و"التمركز حول اللوغوس"، و"الاختلاف"، و"الأثر"، و"تناثر المعنى (التشتيت)"، و"الكتابة الأصلية"، و"الثنائية"، و"العمل والنص".

وخصّص المسيري المجلد السادس للحديث عن الصهيونية، إذ توقف في جزئه الأول عند مفهوم الصهيونية وتياراتها، وتحدث عما سمّاه بـ"العقد الصامت" بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، وعن علاقة الصهيونية بالعلمانية الشاملة. وتناول في جزئه الثاني تاريخ الصهيونية، مبرزاً السياق التاريخي والاقتصادي والحضاري لظهورها، وذاكرا مختلف المحطات الأساسية في تاريخها، ومعرفا بمؤسسيها وقادتها البارزين. أما الجزء الثالث فتحدّث فيه عن تاريخ المنظمة الصهيونية العالمية التي أسست عام 1897 في المؤتمر الصهيوني الأول، وعن هيكلها التنظيمي. كما تحدث فيه عن اللوبي اليهودي والصهيوني، وعن الحركة الصهيونية بالولايات المتحدة الأمريكية. وخصّص الجزء الرابع للحديث عن موقف الصهيونية وإسرائيل من الجماعات اليهودية في العالم، وعن موقف هذه الجماعات من الصهيونية، كما ذكر فيه مجموعة من الشخصيات والمنظمات اليهودية المعادية للصهيونية.

ويسلّط في المجلد السابع الضوء على إسرائيل؛ الدولة الصهيونية الوظيفية. ويتألف هذا المجلد من خمسة أجزاء تعالج القضايا والإشكالات الآتية: إشكالية التطبيع والدولة الوظيفية، والدولة الاستيطانية الإحلالية، والعنصرية والإرهاب الصهيونيان، والنظام الاستيطاني الصهيوني، وأزمة الصهيونية والمسألة الإسرائيلية.

وخصّص المجلد الثامن والأخير للملاحق والفهارس. وتضمّن العناوين التالية: آليات الموسوعة، وتعريفات المفاهيم والمصطلحات الأساسية، وثبت تاريخي بأهم الأحداث في تاريخ البشرية عموماً والأحداث التي تخصّ فلسطين والجماعات اليهودية في العالم، وفهرس موضوعي: فهرس شامل بمحتويات الموسوعة مرتبة حسب ورودها في الموسوعة أي موضوعياً: المجلدات والأجزاء والأبواب والمداخل، وفهرس ألفبائي عربي، ومؤلف الموسوعة والمشرف عليها، وفهرس ألفبائي إنجليزي.

ثانيا: منهج الموسوعة وهدفها

المقصود بالمنهج، هنا، الخطوات الإجرائية أو الطرائق التي اتّبعها عبد الوهاب المسيري في إعداد موسوعته وتحقيق أهدافها؛ وهي الخطوات التي حدّدها في ما يأتي:

1. تقديم تاريخ عام للعقيدة والجماعات اليهودية وللحركة الصهيونية: تقدم الموسوعة رؤية تاريخية جديدة لكل من العقيدة والجماعات اليهودية والحركة الصهيونية أكثر علمية وحياداً وتفسيرية من تلك الرؤية الغربية التقليدية التي تبناها المؤلفون اليهود وغير اليهود في الشرق والغرب، والمتأثرة بما يسمى "التاريخ المقدس". والرؤية الجديدة تضع تواريخ الجماعات اليهودية في أنحاء العالم في إطار التاريخ الإنساني العام. كما أن الموسوعة، قامت بربط تاريخ الصهيونية، عقيدة وحركة وتنظيماً، بتاريخ الفكر الغربي والإمبريالية الغربية.

2. التعريف الدقيق بالمفاهيم والمصطلحات السائدة، والتأريخ لها من منظور جديد، وإبراز جوانبها الإشكالية.

3. إسقاط المصطلحات المتحيّزة وإحلال مصطلحات أكثر حياداً وتفسيرية محلها: تتسم المصطلحات المستخدمة لوصف الظاهرة اليهودية والصهيونية بأنها متحيزة إلى أقصى حد، وتجسد التحيزات الصهيونية والغربية. ولتجاوز هذا الوضع، استبعد المسيري مصطلح، مثل "الشعب اليهودي" الذي يفترض أن اليهود يشكلون وحدة عرقية ودينية وحضارية متكاملة (الأمر الذي يتنافى مع الواقع)، ووضع محله مصطلح "الجماعات اليهودية". وبدلاً من كلمة "الشتات" استخدمت العبارة المحايدة "أنحاء العالم"، وبدلاً من "التاريخ اليهودي" تشير الموسوعة إلى "تواريخ الجماعات اليهودية". وهذه المصطلحات البديلة ليست أكثر حيادا وحسب، وإنما أكثر دقة وتفسيرية.

ويتمثل الهدف المتوخى من إعداد موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية، نموذج تفسيري جديد"، حسب المسيري، في: توفير الحقائق التاريخية المعاصرة عن الظواهر اليهودية والصهيونية والإسرائيلية، وتقديم رؤية جديدة للموضوعات التي تغطيها، وفي محاولة تطوير خطاب تحليلي لوصف الظاهرة اليهودية والصهيونية؛ وهو خطاب يسترجع البعد التاريخي لهذه الظاهرة، من حيث كونها ظاهرة تاريخية اجتماعية يمكن فهمها والتعامل معها.

ثالثاً: النماذج المعرفية التفسيرية في الموسوعة

يعدّ النموذج المعرفي من المفاهيم المركزية في جل كتابات عبد الوهاب المسيري. ويعرف المسيري هذا المفهوم في الموسوعة بأنه بنية فكرية تصورية يُجرِّدها العقل الإنساني من كم هائل من العلاقات والتفاصيل، فيختار بعضها، ثم يُرتبها ترتيباً خاصاً أو يُنسقها تنسيقاً خاصاً، بحيث تصبح مترابطة بعضها ببعض ترابطاً يتميَّز بالاعتماد المتبادل وتشكل وحدة متماسكة يُقال لها أحياناً «عضوية». وإن طريقة التنسيق والترتيب هي التي تعطي النموذج هويته المحددة وفرديته وتفرُّده. ويتصور صاحب النموذج أن العلاقة بين عناصره تُماثل العلاقة الموجودة بين عناصر الواقع. ولذا، فهو يرى أنه يشكل الإطار الكلي الذي يُفسِّر تفاصيل الواقع وعلاقاته. وقد يتصوَّر البعض أن النموذج يُشاكل الواقع، ولكنه في حقيقة الأمر لا يتطابق معه؛ فهناك فرق بين النموذج من ناحية، والمعلومات والحقائق من ناحية أخرى.

وهذا النموذج ليس معطى جاهزاً في الواقع؛ بل هو نتيجة عملية تجريد عقلية مركبة، إذ يقوم العقل بجمع بعض السمات من الواقع، فيستبعد بعضها ويبقي بعضها الآخر، ثم يقوم بترتيبها بحسب أهميتها ويركبها، بل أحياناً يضخّمها بطريقة تجعل العلاقات تشكّل ما يتصوّره العلاقات الجوهرية في الواقع[9].

وقد طوّرت الموسوعة ثلاثة نماذج تفسيرية أساسية، وهذه النماذج هي: "الحلولية الكمونية الواحدية"، و"العلمانية الشاملة"، و"الجماعات الوظيفية"[10]. وهذا وصف مقتضب لها:

1. الحلولية الكمونية الواحدية:

الحلولية الكمونية الواحدية أو وحدة الوجود مذهب يقول بأن الإله والعالم مُكوَّن من جوهر واحد. ومن ثم، فهو عالم متماسك تماسكا عضويا مصمتا لا تتخلله أي ثغرات ولا يعرف الانقطاع، ويتسم بالواحدية الصارمة. ويمكن ردّ كل الظواهر فيه، مهما بلغ تَنوُّعها وانعدام تجانسها، إلى مبدأ واحد كامن في العالم هو مصدر وحدة الكون وتماسكه ومصدر حياته وحيويته، وهو القوة الدافعة له الكامنة فيه، ويمكن تفسير كل شيء من خلاله. وقد تختلف وحدة الوجود الروحية عن وحدة الوجود المادية في بعض الأوجه الفرعية، إلا أنهما يتفقان في الأساسيات والبنية؛ فكلاهما يرى أن العالم يتكوّن من جوهر واحد.

ويرى المسيري أن ثمة تضاداً بين التوحيد والحلولية الكمونية، إذ إن التوحيد هو الإيمان بإله واحد، قادر فاعل عادل، قائم بذاته، واجب الوجود، مُنزَّه عن الطبيعة والتاريخ والإنسان، بائن عن خلقه، مغاير للحوادث، فهو مركز الكون المفارق له الذي يمنحه التماسك، وهو لأنه مفارق للكون يخلق حيزاً إنسانياً وحيزاً طبيعياً؛ الأمر الذي يمنح الإنسـان الاسـتقلال عن سـائر الموجـودات والمقـدرة على الاختيار وعلى تجاوز عالمه المادي وذاته الطبيعية المادية.

أما الحلولية الكمونية، فهي الإيمان بإله حالّ كامن في الطبيعة والإنسان والتاريخ؛ أي إن مركز الكون كامن فيه؛ وهو بحلوله هذا يلغي أي حيّز، إنسانياً كان أم طبيعياً. ومن ثم، فإن التوحيد هو عكس الحلولية الكمونية.

2. العلمانية الشاملة:

العلمانية الشاملة، حسب المسيري، رؤية شاملة للواقع ذات بُعد معرفي تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات بكل مجالات الحياة؛ فإما أن تُنكر وجودها تماماً في أسوإ حال، أو تهمِّشها في أحسنه. وترى العالم، باعتباره مادياً زمانياً كل ما فيه في حالة حركة، ومن ثم فهو نسبي. وتتفرع عن هذه الرؤية منظومات معرفية (الحواس والواقع المادي مصدر المعرفة) وأخلاقية (المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق) وتاريخية (التاريخ يتبع مساراً واحداً وإن اتبع مسارات مختلفة، فإنه سيؤدي في نهاية الأمر إلى النقطة النهائية نفسها) ورؤية للإنسان (الإنسان ليس سوى مادة، فهو إنسان طبيعي/ مادي) والطبيعة (الطبيعة هي الأخرى مادة في حالة حركة دائمة).

وهذه العلمانية الشاملة تختلف، حسب المسيري، عن العلمانية الجزئية التي هي مجرد رؤية جزئية للواقع لا تتعامل مع الأبعاد الكلية والنهائية المعرفية. ومن ثم، لا تتسم بالشمول. وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، ولكنها تَلزَم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة، كما أنها لا تنكر وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية وربما دينية أو وجود ماورائيات. ولذا، لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية، كما أنها رؤية محددة للإنسان؛ إلا أنها تراه إنساناً طبيعياً مادياً في بعض الجوانب من حياته، ويمكن تسمية هذه العلمانية بـ«العلمانية الأخلاقية» أو «العلمانية الإنسانية».

3. الجماعات الوظيفية:

نموذج تحليلي يمكن أن نصفه بأنه قديم/ جديد؛ فهو قديم لأن كثيراً من المفكرين في الغرب قد استخدموه دون تسميته (كارل ماركس وماكس فيبر وأبراهام ليون) وفي غيره من المواضع، وباعتبار أنه كامن في كثير من الدراسات التي كُتبت عن الجماعات اليهودية وغيرها من الأقليات (مثل الأرمن)؛ فكاتب مثل وليام شكسبير في "تاجر البندقية" يصف شيلوك في عبارات تبيِّن أن الكاتب الإنجليزي العظيم قد أدرك فطريا كثيراً من ملامح الجماعة الوظيفية، كما أن كثيراً من الكتابات الصهيونية (وبخاصة كتابات الصهاينة العماليين) قد أدركت ملامح الجماعة الوظيفية.

ومفهوم الجماعة الوظيفية نموذج تركيبي مكثَّف له مقدرة تفسيرية عالية تفوق المقدرة التفسيرية لكثير من النماذج التفسيرية السابقة، مثل مفهوم الطبقة ومفهوم الجماعة الوسيطة؛ وذلك لأسباب يذكرها المسيري:

1 . تظهر المقدرة التفسيرية لمفهوم الجماعات الوظيفية حينما نتعامل لا مع التشكيلات الكبرى (عمال، فلاحون، رأسماليون)، وإنما مع التشكيلات الأصغر مثل الجماعات الهامشية والأقليات الحرفية؛ بل نجد أن التعامل مع التشكيلات الكبرى قد يصبح أكثر دقة وتركيبية، إن قَسَّمنا الرأسماليين إلى رأسماليين أجانب ورأسماليين محليين.

2. يقوم مفهوم الجماعات الوظيفية بالربط بين الجماعات الوسيطة (المالية والتجارية) وبين كثير من الجماعات الأخرى التي استبعدها مفهوم الجماعات الوسيطة، ومن ثم فهو يربط بين كثير من الظواهر في مجتمعات مختلفة وفي حقب تاريخية مختلفة.

3. يمكن تطويع نموذج الجماعات الوظيفية، حيث يمكن تطبيقه على كثير من المجتمعات الشرقية والغربية، في الماضي والحاضر.

4. يسترجع مفهوم الجماعات الوظيفية مفهوم الإنسانية المشتركة، الذي جرى استبعاده إلى حدٍّ كبير من العلوم الإنسانية في الغرب. ويذهب المسيري إلى أن ظاهرة الجماعة الوظيفية ظاهرة عالمي؛ فهي مُتجذِّرة في النزعتين الأساسيتين في الطبيعة البشرية: النزعة الجنينية (النزوع نحو الذوبان في الكل الطبيعي/ المادي)، والنزعة الربانية (أي النزوع نحو تجاوز حدود الطبيعة/ المادة).

5. يتجاوز مفهوم الجماعة الوظيفية الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية المباشرة، ليصل إلى الجوانب المعرفية وإلى رؤية الإنسان للكون.

خاتمـة:

سأحاول، في هذه الخاتمة الموجزة، المقارنة السريعة بين رؤية المسيري للعلاقة بين اليهودية والتفكيكية، ورؤية سعد عبد الرحمٰن البازعي للعلاقة نفسها.

لا يرى عبد الوهاب المسيري أن اليهودية هي السبب في ظهور التفكيكية، وإلاّ لما وجدنا عدداً من اليهود يرفضون الرؤية التفكيكية، أمثال إريك فروم وماير إبرامز؛ بل إنه يتحدّث، مقابل تلك العلاقة العلية بين اليهودية وما بعد الحداثة، عن وجود "تبادل اختياري" بينهما. وينفي المسيري أن تكون اليهودية هي العنصر الحاسم في ظهور التفكيكية؛ بل إن العنصر الحاسم، في نظره، هو الحضارة الغربية نفسها. فهذه الأخيرة هي، في "جوهرها، حضارة تفكيكية؛ فحين أعلنت... إلغاء فكرة الإله أو تهميشها، لم يكن هناك بد من تفسير الإنسان في إطار طبيعي مادي"[11]. ومن ثم، فهو يرى أنه لا يمكن قراءة التفكيكية إلاّ في سياق الحضارة الغربية، وفي سياق الانتماء إلى هذه الحضارة التي ارتفعت فيها معدلات العلمنة والترشيد، وهيمنة "النموذج المادي اللاعقلاني السائل"[12].

والكلام نفسه يقال عن انتشار فلسفة دريدا التفكيكية، فما تحقق لها من ذيوع وانتشار لم يكن بسبب يهودية صاحبها وهيمنة اليهود فحسب؛ وإنما، أيضاً، بسبب الطبيعة التفكيكية للحضارة الغربية. صحيح أن يهودية دريدا، حسب المسيري، "عمّقت من تفكيكيته؛ ولكنها لم تتسبب فيها بداية، ولا يمكن أن تفسر ذيوع وتأثير الفكر التفكيكي بهذا الشكل المذهل"[13].

ويُرجع المسيري نزوع دريدا، أكثر من غيره، نحو التفكيكية إلى "هامشيته"، لا إلى "يهوديته"، يقول: "ويمكن القول بأن دريدا كان مرشّحاً أكثر من أي مفكر آخر لأن يصبح فيلسوف التفكيكية، لا بسبب يهوديته وإنما بسبب هامشيته (التي لعبت يهوديته دوراً في تعميقها)، فهو شخص مقتلع لا جذور له"[14].

أمّا سعد عبد الرحمٰن البازعي، فرغم اعترافه بفضل المسيري ودراساته عليه، فإنه يؤكد أن رؤيته لدور اليهود وطبيعته تختلف اختلافاً جوهرياًّ عن رؤية المسيري؛ فهو، على عكسه تماماً، يرى أن المكوّن اليهودي عنصر حاسم في تشكيل إسهامات المفكرين الغربيين المنحدرين من أصول يهودية، وأنه بدون الوعي بهذا المكوّن يصعب تفسير الكثير من إنتاجاتهم؛ يقول البازعي: "ثمة اختلاف مهم وجوهري، في تصوري، لتقدير كل منا لدور اليهود وطبيعته. ومكمن الاختلاف هو في أن المسيري يرى أن اليهود... من أمثال ماركس وفرويد ليسوا يهوداً بقدر كونهم أوربيين أو غربيين، وأن يهوديتهم، وإن بقيت، لم تكن فاعلة في تشكيل إسهاماتهم الفكرية والإبداعية؛ بينما أرى أن تلك اليهودية كانت حاسمة في ذلك التشكيل، وأننا بدون الوعي بالعنصر اليهودي، أو المكون اليهودي الجزئي، في أعمالهم، سنجد أن الكثير يستعصي على التفسير"[15].

ويرى أن مفاهيم "المادية" و"العلمانية" و"الحلولية"، التي يستند إليها المسيري لتفسير الحضور اليهودي في سياق الحضارة الغربية وانتمائه إليها، "غير كافية للوصول إلى فهم أكثر شمولية واستيعاباً للمكون اليهودي بمختلف ممثليه وسماته الخاصة. أطروحة المسيري، على أهميتها، تقع في الاختزال بإسقاط بعض التفاصيل التي تميز كاتبا أو مفكرا عن آخر، ولا تفسح للبعد الإثني والأقلَّوي (من أقلية) دوراً كافياً في فهم الإسهام الفكري أو الإبداعي"[16].

من هنا، يؤكّد البازعي أن التوجّه التفكيكي الذي نجده لدى ماركس ودريدا وغيرهما من المفكرين الغربيين ذوي الأصول اليهودية، وإن لم يكن "إستراتيجية يهودية خالصة"، لأننا نعثر عليه عند مفكرين آخرين من غير اليهود، إلاّ أنه يمكن القول بأن "هذا التقويض سمة من سمات الفكر اليهودي"؛ وذلك بالاستناد إلى "كثافته" عند اليهود من جهة، وإلى أنه "يتخذ –وهذا هو الأهم- من المصلحة الفئوية لليهود منطلقاً له، وإن لم يكن المنطلق الوحيد بالضرورة، بالإضافة إلى أن له من ثم أهدافا معينة تصبغه بصبغتها"[17] من جهة أخرى.


* المسيري، عبد الوهاب. موسوعة اليهود واليهودية والصهيوينة، القاهرة: دار الشروق، ط1، 1999

** مفكر مصري معروف، متعدّد التخصصات والاهتمامات، حصل على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي، صدرت له العديد من الدراسات والأبحاث، ولد عام 1938، وتوفي –رحمه الله - عام 2008.

[1] المسيري، عبد الوهاب، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الموسوعة الموجزة في جزأين، القاهرة: دار الشروق، ط1، 2003

[2] باكان، دافيد. فرويد والتراث الصوفي اليهودي، ترجمة وتقديم طلال عتريسي، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 1423ﻫ/2002م، ص ص 230-231

[3] يقول رولان بارت: "إنني أولي اهتمامي للغة لأنها تجرحني أو تفتنني. ولعل في هذا شبقية طبقية"، ويقول أيضاً: "والحاصل أن الكلمة تستطيع أن تكون إيروسية بشرطين متعارضين متعديين للحدود كليهما: إذا ما بولغ في تكرارها، أو على العكس إذا جاءت على حين غرة، لذيذة بجدتها... وفي الحالتين -التكرار أو المفاجأة- يتحقق نفس جسدية المتعة، الانفطار والرسم والربط نفسه: ما هو محفور، مدقوق، أو ما يتفجر وينتشر." انظر:

- بارت، رولان. لذة النص، ترجمة فؤاد صفا والحسين سبحان، الدار البيضاء: دار توبقال، ط1، 1988، ص 45

[4] المرجع السابق، ص 24

[5] المرجع السابق، ص 25

[6] المرجع السابق، ص 25

[7] بارت، رولان. درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، الدار البيضاء: دار توبقال، ط3، 1993، ص 50

[8] دريدا، جاك. صيدلية أفلاطون، ترجمة كاظم جهاد، تونس: دار الجنوب للنشر، (د.ت)، ص 113

[9] ويطلق على هذه النماذج اسم "النماذج الإدراكية" و"النماذج المعرفية"؛ لأن الإنسان لا يدرك الواقع إلا من خلالها، ولأنها "عادة ما تحتوي على بعد معرفي (كلي ونهائي)". وهذه النماذج هي سبب الإدراك المختلف للظاهرة نفسها من شخص إلى آخر، ومن حضارة إلى أخرى. ولمزيد من التفصيل حول مفهوم النموذج عند المسيري، انظر:

- عارف، نصر محمد. "النماذج المعرفية عند «المسيري» و«كون»"، في كتاب: في عالم عبد الوهاب المسيري، حوار نقدي حضاري. تحرير عطية، أحمد عبد الحليم، تقديم هيكل، محمد حسنين، القاهرة: دار الشروق، ط1، 2004، مج1، ص ص 184-197

- مرزاق، أحمد. "النموذج المعرفي ونموذج المسيري الحضاري"، في كتاب: عبد الوهاب المسيري في عيون أصدقائه ونقاده. دمشق: دار الفكر، ط1، 2007، ص ص 168-213

[10] انظر بخصوص تاريخ هذه النماذج وكيفية تبلورها:

- المسيري، عبد الوهاب. رحلتي الفكرية، في البذور والجذور والثمار، القاهرة: دار الشروق، ط1، 1426ﻫ/2005م، ص 357 وما بعدها.

[11] المسيري، عبد الوهاب. الحداثة وما بعد الحداثة، دمشق: دار الفكر، ط1، 2003، ص 144

[12] المرجع السابق، ص 146

[13] المرجع السابق، ص 146

[14] المرجع السابق، ص 147

[15] البازعي، سعد. المكون اليهودي في الحضارة الغربية، الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 2007، ص 26

[16] المرجع السابق، ص 27

[17] المرجع السابق، ص 111