نحنُ وآراندت مُلاَحظاتٌ عَلى هامشِ ترجمةِ كتابِ حنهْ آراندت؛ "الوضع البشري"


فئة :  قراءات في كتب

نحنُ وآراندت مُلاَحظاتٌ عَلى هامشِ ترجمةِ كتابِ حنهْ آراندت؛ "الوضع البشري"

صدرتْ في السنة الماضية (2015) الترجمةُ العربية لنص الفيلسوفة الألمانية (الأمريكية) حنة آراندت الوضع البشري[1]، وهي ترجمةٌ تَوَجتْ مسلسلَ الْتفات الفكر العربي المعاصر إلى أهمية فكر هذه الفيلسوفة بعد عقودٍ طويلة من تجاهلها والغفلة عن قيمة أعمالها؛ وبمقدار ما كانتْ لتلك الغفلة أسبابٌ كثيرةٌ تفسرها، فإن لانتباهِ الباحثين العرب المتأخر لها ما يُبرره أيضاً. كان اتهام المرأة بموالاة الصهيونية وعدائها للعرب من أبرز الأسباب الإيديولوجية التي حرمت العرب من اكتشاف غنى فكرها؛ فالمرأة اعتُقلت من طرف النظام النازي، وهي تُوثق لمظاهر الاعتداء على اليهود بتنسيق مع منظمةٍ صهيونية[2]، وانخرطت في حملة ترحيل اليهود إلى فلسطين، بل ودافعت عن الحاجة إلى جيشٍ يهودي يحمي اليهود، ولم تتردد في اتهام العرب بالاصطفاف إلى جانب النازية[3]..إلخ، فوجد كثيرٌ من العرب في هذه المواقف أسباباً كافية للإعراض عن فكرها، لاسيما في ظل فشو الماركسية عندهم، في صيغتها العلموية مع ألتوسير كما في صيغتها الوجودية مع سارتر في جو ثقافي محموم بالثورة وشعاراتها. ومتى استحضرنا نقد آراندت للماركسية، وسعيها إلى صهرها في مظاهر أزمة الإنسان الحديث التي انتهت بجعل الشغل صانع الإنسان وخالقه، منبهة إلى ما تنضح به حتميتها الاقتصادية والطبقية من تكريس لوضعية الإنسان المأزومة في الأزمنة الحديثة، ومتى استحضرنا، كذلك، تبرمها من موقف الوجودية الفرنسية وتحفظها على رؤيتها إلى الإنسان والوجود[4]، فهمنا سبب محاصرة فكر آراندت في العالم العربي، لأسباب قد لا تختلف كثيرا عن تلك التي أدت إلى تهميشها في الوسط الثقافي الفرنسي[5].

يكفي أن ينتبه المرءُ إلى عدد مؤلفات آراندت التي نُقلت إلى العربية، قبل انطلاق موجة تعريبها مؤخراً، حتى يدرك طبيعة تلقي فكرها في الفكر العربي المعاصر، فما عدا جزءاً يتيماً من ثلاثية أصول الشمولية، وكتابها بين الماضي والمستقبل، ومقالتها عن العنف، وكتابها في الثورة، بقيت كل أعمالها الأخرى في طي النسيان، إلى أن استأنف بعض المترجمين (المتطوعين) العرب عملية تعريب أعمالها التي لم تكتمل بعد. يعني ذلك أن اهتمام العرب بآراندت انحصر في بدايته في أعمالها السياسية، أي في ما صنَفَتْه ضمن النظرية السياسية، التي فضلت الانتماء إلى دائرة المشتغلين فيها بدلاً من حلقة الفلاسفة، فكان من الطبيعي أن تبدو تلك الأعمالُ السياسية متجاوزةً بالنسبة إلى الباحثين العرب المنهمكين في سؤال النهضة والثورة والخروج من التأخر التاريخي. فضل هؤلاء استقدام فكر سارتر ووجوديته المتحمسة إلى الثورة والتحرر، وفلسفة برغسون وهيدجر (الذي ضمه عبد الرحمان بدوي إلى خانة الوجودية في كتابه عن الوجودية)، وعندما انفتح الفكر الفلسفي العربي على موجات نقد الحداثة الغربية ومراجعة مسلماتها، تحت وطأة الانبهار بنموذج نقد العقلانية والانفتاح على اللاعقل في الثقافة الغربية المعاصرة، لم تنل آراندت نصيبها من الدراسة، رغم أنها من كبار نُقاد الحداثة الغربية وعقلانيتها كما لاحظ بول ريكور، خلافاً لفلاسفة آخرين كنيتشه وهيدجر وهابرماس وفوكو ودريدا (بفضل اهتمام الباحثين في الآداب والدراسات اللغوية بأعماله)، وهو ما يطرح أكثر من سؤالٍ عما إذا كانت الغفلةُ عنها نتيجةَ أسبابٍ معرفية خالصة أم أن الموقف الإيديولوجي منها هو الذي حكم إقصاءها من موجة التعريف بما بعد الحداثة، وعما إذا كان لكتاب هابرماس الخطاب الفلسفي للحداثة[6] أي دور في هذه المسألة، بحكم صمته عن نقد هذه الفيلسوفة للحداثة الغربية، وهو الكتابُ الذي صار، لاسيما بعد ترجمته إلى الفرنسية، المرجع الرئيس في دراسة فكر ما بعد الحداثة في كثيرٍ من الدول العربية، وخاصةً منها المغرب.

1- منذ سنواتٍ قليلة لوحظ اهتمامٌ متزايدٌ بفكر آراندت في المجال الثقافي العربي، على مستوى ترجمة نصوصها كما على مستوى الكتابة والتأليف في شأن فكرها الفلسفي. فكانت النتيجة أن نُقل إلى العربية بعضٌ من أعمالها (إيخمان في القدس، ما السياسة؟ حياة العقل، بين الماضي والمستقبل (الذي أعيدت ترجمته)، مراسلاتُها مع هيدجر، الوضع البشري) في انتظار ترجمة ما تبقى منها ومراجعة بعض الترجمات تحرياً لمزيدٍ من الدقة. كما ظهرت دراساتٌ قليلةٌ جدّاً تهتم بهذا الجانب أو ذاك من فكرها (كتاب جماعي بتنسيق علي عبود المحمداوي بعنوان؛ الفعل السياسي بوضفه ثورة سنة 2013، وكتاب مليكة بن دودة؛ الفلسفة السياسية عند حنة آراندت سنة 2015)، هذا إضافةً إلى عدد لا بأس به من المقالات التي تروم التعريف بفكرها، بل إن بعضهم ذهب إلى حد إعمال منظورها الفلسفي في فهم الوضع السياسي العربي المأزوم[7]. مما يعني أن شعوراً بقيمة أعمال هذه الفيلسوفة وبحاجتنا إليها نحن اليوم، بدأ يدب في أوصال الثقافة العربية المعاصرة، وأن ذلك قد يسفر عن استثمار منظور هذه الفيلسوفة والتوسل به في فهم كثير من قضايا الاجتماع السياسي العربي اليوم.

غير أن نصوصاً مهمةً ما تزالُ تنتظرُ من ينقلُها إلى اللغة العربية؛ كتابُها عن سيرة اليهودية راهيل الذي أقحمت من خلاله مفهوم الحياة وسردها في مجال كتاباتها الفلسفية، وهو ما تبدى بوضوحٍ في كتابها عن حياة بعض الشخصيات الفكرية والفلسفية والسياسية (Vies politiques)؛ الجزئين المتبقيين من حياة الروح (جزءٌ ثانٍ عن الإرادة، وجزءٌ ثالثٌ غير مكتمل عن ملكة الحكم)، وكتابها عن الفلسفة السياسية عند كانط، ومجموع مقالاتها السياسية التي جمعت في كتابين ترجما إلى الفرنسية (التفكير في الحدث، التراث المنسي)، ودراساتها عن الفلسفة ووضعيتها في العالم الغربي التي نشرت في كتاب فلسفة الوجود، وأخرى تطرقت فيها إلى علاقة الفكر الفلسفي بالأحداث السياسية التي عقبت هزيمة النظام النازي وانطلاق مسلسل المحاكمات السياسية، وقد تم جمعها في كتاب المسؤولية والحكم. هذا إضافة إلى مراسلاتها المهمة التي نُقلت كلها إلى الفرنسية منذ عقود، وبالكاد نُقل بعضٌ منها إلى العربية (بعض مراسلاتها مع هيدجر)، في انتظار تعريب مراسلاتها مع مري مكارتي وكارل ياسبرز وغيرها. كما ينبغي أن نُشير إلى أن الترجمة الفرنسية لكتاب بين الماضي والمستقبل، والتي حملت عنوان أزمة الثقافة، تضمنت مقالاً على قدر كبيرٍ من الأهمية في موضوع علاقة الحقيقة بالسياسة، وهو غير موجود في النص الانجليزي الذي أُعيدتْ ترجمتُه، ويبقى من الضروري ضمُه إلى الطبعات المقبلة من الكتاب ولو في صيغة ملحقٍ حتى يتبين القارئ العربي موقف الفيلسوفة من هذه الإشكالية. والملاحظةُ عينها يمكن أن تُقال عما كتبته عن العصيان المدني والكذب السياسي[8]. تُمثل هذه النصوص، إضافة إلى ما تمت ترجمته، الخطوطَ العريضة الكبرى لمتن آراندت، وهي تعكس التيمات التي انصرفت للاهتمام بها طيلة مراحل مسارها الفلسفي؛ فنحن أمام متنٍ متعدد الموضوعات، تأبى صاحبته إلا أن تربط الفكر براهنه، فلا تُطل على قضاياها من بُرجها العاجي، وإنما تفكر فيها من مدخل وضعها الإنساني وإعضالات العيش المشترك في الأزمنة المعاصرة. من يُدقق النظر في كتابات آراندت يُدرك أنها لم تحصر اهتمامها في قضايا الفكر الفلسفي الكلاسيكي ومباحثه الكبرى المعروفة منذ أفلاطون، وإنما أبت إلا أن تُوسع من دائرة اشتغال الفكر الفلسفي، ليشْملَ قضايا الشرط السياسي للإنسان، وهي القضايا التي جرتْ عادةُ الفكر السياسي والعلوم السياسية على احتكار القول فيها، كما هو الشأن بالنسبة إلى موضوع الثورة، والعنف، والعصيان المدني، وتحليل النُظم السياسية. غير أن مناولتها لهذه الموضوعات لم تتم بمعزلٍ عن المنظور الفلسفي الحاكم لتصورها كباحثةٍ تعي حساسية الانتماء والانتساب إلى الفلسفة وتاريخيها، والذي انتهلت كثيراً من أسئلته التأسيسية من تاريخ الفلسفة عموماً، ولاسيما من التقليد الفلسفي الذي تفتق وعيها عليه في ألمانيا بداية القرن العشرين؛ تقليد الفينومينولوجيا (هسرل)، ونقد الحداثة (نيتشه، وليسينغ الذي أخذت عنه وصف الأزمنة الحديثة بالأزمنة الحالكة)، والكانطية الجديدة، وفلسفة "نقد" الحضارة الغربية (شبنغلر وتوينبي)، هذا إضافة إلى الفلسفة الوجودية في صيغتيْها الألمانية (ياسبرز) والفرنسية (سارتر)، والنزعات الوضعية المتحدرة من فتدجنشتاين التي اعتبرتها قرينة المد الشمولي في كتابها عن فلسفات الوجود. ما الذي يعنيه الخروج من دائرة الفلسفة في حالة آراندت؟ يعني ذلك، أولاً، أننا أمام فيلسوفةٍ لم تقتنع بقدرة هذه التقاليد كلها على بلورة فهمٍ معقولٍ للوجود الإنساني وأزمته، لذلك كان عليها أن تُعيد ترتيب أوضاع التراث الفلسفي حتى تتسنى لها الإفادة منه في فهم تلك الأزمة. يجدُ كل واحدٍ من تلك التيارات ذاته في كتابات آراندت، وسواءٌ احتضنت هذا التيار أو ذاك، أو رفضتْ غيره وشهرتْ في وجهه ورقة النقد، فإن غايتها في الأحوال جميعها هي الإفادة من ذلك التراث في فهم ما يحدث. ويعني ذلك، ثانياً، أن أسلوب آراندت في نحت مفاهيمها الفلسفية كان أسلوباً يستوعبُ منطقَ الحدث بقدر ما ينضح بهواجس الفكر وأسئلته المشبعة بالتراث الغربي، مما يأذن بالقول إنها أعطت للفكر الفلسفي وجهةً جديدة يضطلع في أعقابها بمهمة جديدة؛ مهمة فهم الحدث ومآل الإنسان في الأزمنة الحديثة. لذلك مثلت محاورةُ فكرها مناسبةً للتفكير في علاقة الفكر بالإنسان ووضعه في العالم، في أزمته ومظاهر عوزه الوجودي، واندثار بعده السياسي في ظل تصاعد الأنظمة الشمولية، وهو ما يُشعرنا بالحاجة إلى الإفادة من فكرها الذي يجب كثيرا من الأسئلة المرتبطة بعلاقة الإنسان بالسياسة في العالم العربي.

2- في هذا السياق، تحديداً، يُمكن أن نُدرج الترجمة العربية التي أنجزتها السيدة هادية العرقي لكتاب الوضع البشري، الذي يتنزل من فكر آراندت الفلسفي منزلة الأُس، بحكم تأليفه في مرحلةٍ جد مهمة من مسارها الفكري؛ إذ يأتي الكتابُ ذاك بعد رسالتها الجامعية عن مفهوم المحبة عند القديس أوغستين، وكتابها عن أصول الشمولية بأجزائه الثلاثة، وقد كان ثمرة محاضرة ألقتها آراندت سنة 1953 في موضوع الحياة النشيطة عند ماركس. في أعقاب الفترة الزمنية الفاصلة بين هذه الأعمال كلها اقتنعتْ فيلسوفتُنا بضرورة إخراج الفكر الفلسفي من قواعده الكلاسيكية، وانتبهت إلى أن التقليد الفلسفي الذي ترعرعت فيه، ذاك الممتد من أفلاطون إلى هيدجر، لم يعد قادراً على مد الوعي المعاصر بمقولات ومفاهيم تُسعفه بفهم ما يحدث من أحداث، وهي التي جعلت من فهم الحدث المهمة الأولى للفكر والفلسفة. فطنت آراندت إلى أهمية السياسة وخطورتها بعد وصول النازية إلى سدة الحكم بألمانيا[9]، وانبرت تُفكر في دلالات الوجود الإنساني بعد تفتت مقولاته الكبرى واندثار بعده السياسي؛ تساءلت عن مآل الإنسان في ظل نظامٍ مُتطرفٍ كالنظام النازي والستاليني، عن أثر ذلك كله في زحزحة أكثر أبعاد الطبيعة الإنسانية رسوخاً وثباتاً، وعما إذا كانتْ غربةُ الإنسان الحديث عن العالم تعبيراً عما طال كينونته من انقلابٍ بسبب تصاعد مثل هذه الأنظمة. تساءلت، بكثيرٍ من الاندهاش، عن سببِ جدة النظام الشمولي وارتباطه بالأزمنة الحديثة، عن دلالة التاريخ الإنساني على ضوء وعيٍ مأزوم بالوجود والزمن، كذلك الوعي الشقي الذي ينظرُ من خلاله الإنسانُ الحديثُ إلى وجوده وإلى العالم، وطفقت تنقب عن أسباب هذا التعطش لكل ما هو جديد في الثقافة السياسية الحديثة[10]...إلخ. كان عليها، وهي في مضمار بلورة تصورٍ تُجيب به عن تساؤلاتها تلك، أن تُعيد النظر في ماهية القول الفلسفي ومهامه، في وضعه داخل فضاء العيش المشترك، كما في مدى مشروعية أن يتقدم المرء إلى مشهد الثقافة اليوم في صورة الفيلسوف المحب للحقيقة والباحث عنها، وهو ما يبرر لنا نبرتها النقدية الحادة تجاه الفلسفة وتاريخها، وتبرمها من الانخراط في التقليد الفلسفي الغربي نظراً لما رأتْ فيه من تشبعٍ بالتجربة التأسيسية للفلسفة المتمثلة في حدث إعدام سقراط، وانسحاب الفلسفة من مجال الشؤون الإنسانية[11]. بذلك عبرتْ هذه المرحلة من حياة آراندت عن خيبة أملها من التراث الفلسفي الغربي، وسرعان ما وجدتْ في فلسفة أستاذها هيدجر ما تُقيم به الدليل على فساد هذا التقليد. لفكر هذا الفيلسوف أثرٌ كبيرٌ في تشكل فلسفة آراندت، وكتابُها الوضع البشري يبقى العلامة الفارقة على ذلك؛ فرغم محاولاتها الإفلات من قبضة تصوره للإنسان والوجود على نحو ما نجده في كتاب الوجود والزمان، فإن مفاهيم هيدجر ظلتْ تؤثث مشهد كتابها الذي أفردته للنظر في معنى الوجود الإنساني منظوراً إليه من جهة مشروطيته في هذا العالم، ومتى علمنا أن فيلسوف الغابة السوداء أراد لكتابه العمدة أن يكون إعادة اكتشافٍ لمعنى الكينونة والإنسان بحسبانه راعي الوجود، سعيا منه إلى إخراجهما من النسيان الذي سقطا فيه، فَهِمْنا سبب استدعاء آراندت المُزمن لكتابه ذاك؛ إذ أدركت، كغيرها من مجايليها، أن كل محاولةٍ لممارسة فعل التفلسف لا يُمكن أن تتم من دون محاورة فكر هذا الفيلسوف. زاد من حدة وعيها بهذه الحقيقة ما راج عن علاقة الرجل بالنظام النازي، فطفقت تبحثُ في مفاهيم فكره الأساسية عن جراثيم هذا الموقف المتواطئ مع النازية، معتقدة أن الأمر يتعلق بعطبٍ مهني déformation professionnelle اعتورَ المنظور الفلسفي منذ بداياته الأولى عندما قرر أفلاطون إبدالَ مجال الشؤون العمومية بمجالٍ آخر منغلقٍ ومعزول سماه الأكاديمية، ومنذ أن جسد، في أمثولة الكهف، رغبة الفلاسفة في الخروج من كهف العامة والاضطلاع بدور الملك-الفيلسوف.

3- في ظل ما تقدم، يُمكنُ القولُ إن كتاب الوضع البشري كان نتيجةَ خيبةِ أمل آراندت من الفلسفة ومن السياسة معاً، ويبقى من العسير علينا أن نفهم بنية الكتاب ومفاهيمه الأساسية دونما انتباه إلى هذه الخيبة التي حملتها على إعادة استشكال معنى الوجود الإنساني من مدخل التفكير في شروط وجوده في هذا العالم. نلاحظُ أن المترجمة اختارتْ عبارة الوضع البشري لتعريب عبارة The Human condition، وهذا ما يطرحُ أكثر من إشكالٍ على مستوى فهم دلالات هذا العنوان في فلسفة آراندت. من المعلوم أن المترجم الفرنسي تصرف في العنوان، فترجمه بعبارة La condition de l’homme moderne، مُبقياً بذلك على دلالة مفهوم condition الذي يحيل إلى الشرط، والوضع، والحالة، ومشيراً بذلكَ، أيضاً، إلى وضعية الإنسان في زمن الحداثة في جوٍ محمُومٍ بنقدها والدعوة إلى مراجعة مسلماتها. خِلافاً للترجمة الألمانية التي حملتْ كعنوانٍ عبارةَ Vita Activa، لأنها أكثر دلالة على موضوع الكتاب ورهاناته. أما رامون نوفاليس فلم يتصرف في العنوان الإنجليزي في ترجمته الإسبانية التي قدم لها مانويل كروز سنة 1993. وقبل الخوض في أي نقاش حول إمكانيات ترجمة هذا المفهوم الفلسفي، ينبغي أن نفطن إلى أن الغرض من عقد مصنف آراندت لا يتمثل في تحديد معنى "الوضع البشري" في حد ذاته، وإنما تحليل مظاهر أزمة الإنسان الحديث التي طالت نظام وجوده وتراتبية الأنشطة الناظمة لحياته النشيطة، عندما حل الشغلُ (الكدحُ) محل الفعل السياسي والحرية، وما نجم عن ذلك كله من انمحاءٍ للشرط السياسي للإنسان، وانسحابه من الفضاء العمومي، فضاء العيش المشترك والمبادرة والحرية...إلخ. لذلك، سيلاحظُ القارئ أن الفصل المتعلق بوضعية الإنسان وحياته النشيطة في العالم الحديث قد أضيفَ إلى الفصلين الثاني والثالث المتعلقين بالمجالين الخاص والعام، وبالأنشطة المكونة للحياة النشيطة. هذا في حين أن الفصل الأول يمثل مدخلاً الغرضُ منه ضبطُ معنى مفهوم "الوضع البشري" و"الحياة النشيطة" على ضوء علاقتهما بمسألة الاستمرارية في الزمن (الخلود). يمكن أن نفهم، في ظل هذه الملاحظة، سبب إقدام المترجم الفرنسي على إضافة عبارةٍ تشيرُ إلى الحداثة والإنسان الحديث إلى عنوان الكتاب، لأن مدار هذا الأخير على أزمة الإنسان الحديث التي أعربت آراندت عن وعي حادٍ بها منذ كتابها عن المد الشمولي، وأفردت كل كتاباتها اللاحقة لبسط القول في أسبابها والبحث عن سبل الإفلات من قبضتها، بما استلزمه ذلك منها من تعقبٍ لمظاهر تلك الأزمة وأثرها في نظام الأنشطة المكونة للحياة الإنسانية. صحيحٌ أن المرأة تكادُ ألا تستعملَ مفهومَ الأزمة في كتاب "الوضع البشري"، خلافاً لما نجدُه في كتاباتها الأخرى التي ستتحدث فيها صراحة عن أزمة الإنسان الحديث وتجلياتها الكبرى، لكن ذلك لا يمنعُ من ملاحظة أن مظاهر أزمة الإنسان التي بسطت فيها القول في كتاباتها المتأخرة تجد أصولها في توصيفها لوضعية الحياة النشيطة في كتاب "الوضع البشري"، لاسيما عند حديثها عن نشأة الحداثة والأحداث الثلاثة الكبرى المؤسسة لها، وما تمخض عنها من انقلاب في نظام الوجود الإنساني ما يزال يجثم بظله على البشرية في نظر هذه الفيلسوفة.

أ- إذا كان من نافل القول "إن كل ترجمةٍ خيانة"، فإن وراء الاختلاف في ترجمة عنوان الكتاب تخوفٌ من التشويش على المعنى الذي تُضفيه آراندت على مفهوم "الوضع البشري"؛ فهي تميزُه عن الطبيعة البشرية، وعن الحقيقة البشرية، بل وعن الحياة الإنسانية كذلك. وتقصدُ به جملة الشروط المحددة لمعنى وجود الإنسان في العالم، انطلاقاً من النظر إلى هذا الأخير من حيث كونُه صناعةُ الفعل الإنساني، لذلك لم تتردد في التمييز في "الوضع البشري" بين مستويين من الحياة يمتاز كل واحد منهما بطبيعة العلاقة التي يربطها الإنسان بالعالم من خلاله؛ فإما أن تقوم العلاقةُ تلكَ على السكينة والقرار وغيابِ النشاط، لتكون علاقة تأملٍ ونظرٍ في العالم، وهذا هو ما تسميه الحياة التأملية (حياة النظر)، وإما أن تقوم العلاقة تلك على النشاط والتأثير في العالم بشكل من الأشكال، فتسمى لذلكَ حياة نشيطةً. وعندي أن اشتراك الناس في القدرة على الفعالية والإبداع يبقى أهم ما تضمنه العنوان الأصلي، لذلك فضلتْ آراندت العودة إلى عبارة الحياة النشيطة كعنوان للترجمة الألمانية، إذ الكتاب في جوهره محاولة لإبراز قدرة الإنسان على النشاط بمختلف مستوياته؛ ما تعلق منه بالكدح والشغل، أو بالأثر الفني أو بالفعل السياسي. خلف هذه الخطوة يكمن اقتناع آراندت بأن تاريخ الفلسفة الغربية كان، في جوهره، تاريخ نسيان للحياة النشيطة لصالح التأمل الذي اعتبرته الفلسفة أرقى مستويات الحياة الإنسانية، مكرسة بذلك هوسها بالثابت والجوهري ونفورها من العرضية والتغيير، وهو ما يشكل القاعدة الأساسية لانسحابها المزمن من مجال الشؤون الإنسانية في نظر فيلسوفتنا. هل تتضمن عبارة "الوضع" هذه الدلالات كلها؟ من الصعب أن نجيب بالإيجاب عن هذا السؤال، إذْ علاوةً على دلالته المنطقية المعروفة، والتي تعيدُه، قسراً، إلى دلالاته المعيارية التي حاولت المترجمة تجنبها[12]، فإن عبارة "الوضع" تشير إلى حال ووضعيةٍ ثابتة، وإحالتها إلى الفاعلية والإبداع ضعيفةٌ، رغم ارتباطها فعل الوضع ذي الدلالة المنطقية والتشريعية، بل إنها تعيدُ إلى الأذهان صورة الإنسان المُلقى به في الوجود بين لحظتي الولادة والموت (هيدجر) وفي المستقبل (سارتر)، وهي الصورةُ التي ما انفكتْ فيلسوفتُنا تستبعدُها من دائرة تصورها للإنسان، بل وتدفع القارئ إلى تأويل عبارة The Human condition على ضوء مفهوم الوضعية الإنسانية الذي ارتبط بالفلسفة الوجودية أساساً، كما على ضوء مفهوم الطبيعة الإنسانية الذي فشا تداوله بين فلاسفة الحداثة منذ القرن السابع عشر، ولم تتردد فيلسوفتنا في رفضه[13]. كلما تقدمنا في قراءة النص المُعرب، كلما تباهتَ حضور عبارة "الوضع البشري"، وانفتحت المرتجمةُ على مقابلاتٍ أخرى لنقْل المفهوم؛ فهي تُكثر من استعمال عبارة "شرط" عند نقلها حديثَ آراندت عن "الوضع البشري" (27-29)، ولعل ما حملها على ذلك وعيها بأن ما ترمي إليه آراندت ليس الحديث عن وضع الإنسان أو وضعيته، وإنما عما يشرطُ وجودَه في هذا العالم؛ الحياةُ والولادة والخروج إلى الوجود، والموت وشقاء الوعي بالتناهي، الوجود في العالم والانتساب إلى الأرض، التواجد مع الغير ومشكلة العيش المشترك، الحاجة إلى الحرية والفعل، قدرة الإنسانِ على خلق الاستمرارية وتحدي شرط تناهييه وموته...إلخ، أي كل ما جمعته في مقولتيْ الحياة النشيطة والحياة التأملية. لا يعني هذا أن مفهوم الشرط أنسب لترجمة العبارة الإنجليزية، فمضمونه المنطقي والقانوني قد يجعله غير ملائمٍ للدلالة على ما يتضمنه المفهوم الغربي من دلالة على الفعل والمبادرة والحرية، لذلك يمكن البحث عن عبارات أخرى لنقل المفهوم العربي، كمفهوم الحالة الإنسانية أو البشرية، بل إن المترجمة نفسها لجأت إلى عبارة الحالة البشرية عند تعريبها حديث آراندت عن علاقة الشك بالترابط بين الفكر والتجربة الحسية (ص. 311)، وفي معرض توصيفها لما طال تراتبية أنشطة الحياة النشيطة من انقلاب (ص. 338)، وقد ينتهي بنا البحث إلى العودة إلى عبارة الحياة النشيطة، سيراً على هدي الترجمة الألمانية، طالما أن مدار الكتاب عليها أساساً. لذلك وجب تنبيه القارئ إلى حجم الغموض الذي يكتنف اختيار المترجمة لهذا المفهوم تحديداً، ولعله سيكون من الأفيد أن تتضمن الطبعة القادمة من الترجمة العربية توضيحاً مسهباً لهذا الاختيار.

أما فيما يتعلق باختيار عبارة البشري كمقابل لمفهوم Human/Humaine، فإن السيدة هادية العرقي لم تقدم ما يكفي من الحجج لإقناع قارئها باختيارها هذا، مكتفية بالقول إن لفظ البشري يجمع بين المعيارية والتوصيف (ص. 19)، رغم إدراكها حجم التداخل بين مفهومي البشري والإنساني في التداول العربي. ويبدو أن الحسمَ في هذه المسألة يستلزم استحضار تعامل آراندت مع مفاهيم human/humain/ humanitas/homo، وسياقات إعمالها لها في متنها عموماً؛ إذ إنها أعملت المفهوم بمعناه الروماني الذي يشير، تارةً، إلى من لا حقوق له[14]، وإلى خاصية غير مرئية في الشخص لا يدركها إلا أقرانه من المواطنين تارة أخرى[15]، بل وجعلتها تقابل مفهوم الشخص في أحيان كثيرة[16]. وإذا استحضرنا التداخل القائم في اللغة العربية بين لفظيْ بشري وإنساني، أدركنا أن اختيار أحدهما لترجمة المفهوم الأجنبي ينبغي أن يلحظ ما تقصده المرأة بإعمالها له.

ب- على أن "قلق" الترجمة لم ينحصر فقط في عنوان الكتاب، وإنما طال، كذلك، كثيراً من المفاهيم الرئيسة الناظمة لبنيته. مفهوم Vita activa خير دليلٍ على ذلك. تشير الفيلسوفة بهذه العبارة إلى الحياة الإنسانية من حيث هي علاقةٌ بالوجود محكومة بالفعالية والنشاط، أي باللاسكون، وقد ميزتْ فيها بين ثلاثة أنشطةٍ (فعاليات) رئيسة يُمكن أن نُلملم فيها تمظهرات تلك العلاقة؛ الشغلُ أو الكدح Travail/Labor (العملُ وفق الترجمة العربية)، العمل Work/Oeuvre (الأثر وفق الترجمة العربية)، الفعلAction. وقد ذهبت هادية العرقي إلى ترجمتها بعبارة الحياة العملية في مقابل الحياة التأملية التي يغيبُ فيها النشاط والفاعلية، فتكون السكينة وغياب الفاعلية القاعدة التي على مقتضاها يمارس فعل النظر والتأمل.

نُلاحظ، من جهة أولى، أن هذه الترجمة تخلطُ بين المعاني التي تعطيها آراندت لمفاهيم WorkوLabor (Œuvre/ travail)؛ ذلك أن مفهوم العمل، ورغم إمكانية استعماله للدلالة على Labor بسبب فُشو تداوله في الترجمات العربية لكتابات ماركس وتصوره لعلاقة الإنسان بالشغل، فإن التداول العربي كرس في الأذهان المضمون المعياري لمفهوم العمل سواء بربطه بالأخلاق ومعاييرها، أو بالفن ومجالات الإبداع، وما عاد من الممكن اليوم فصل الكلمة عن دلالاتها المعيارية في التداول العربي، شأنها في ذلك شأن مفهوم الأثر الذي وظفه أحد المترجمين في تعريب مقال هيدجر عن منبع الأثر الفني، (وما يمكن لذلك أن يحدثه من تشويشٍ على ترجمة مفهوم Trace كما وظفه دريدا، بل وسيلزم مترجمي هذا الأخير بإيجاد مقابل آخر للمفهوم الفرنسي). ما يزيدُ المشكلةَ حدةً أن عبارة "الحياة العملية" تتقاسمُ، في الترجمة العربية لكتاب الوضع البشري، صفة "العمل والعملية" مع مفهوم Labor، ومن شأن ذلك أن يوحي للقارئ بانحصار الحياة النشيطة (العملية) في مجال "العمل" (أي الكدح والشغل)، وهذا ما يجعلُ بعض فقرات الكتاب غير مفهوم بتاتاً. نقرأ، على سبيل المثال لا الحصر، ما يلي من الترجمة العربية؛ "والذي ما يزالُ ينتظر التفسير هو لماذا انتهى هذا الفشل بانتصار الإنسان العامل؛ ولماذا، مع انبثاق الحياة العملية، كان نشاط العمل، بالتدقيق، هو الذي رفع إلى أسمى مراتب قدرات الإنسان" (338). لنلاحظ، هنا، أن الحياة العملية اختُزلت، بسبب الترجمة، في نشاط واحد من مكوناتها، وهو "العمل"، الذي يشير إلى الشُغل والكدح، ففقدت الفقرة برمتها دلالاتها؛ إذ وردت في معرض حديث آراندت عن ظاهرة تواري الفعل واندحاره أمام تصاعد الإنسان المشتغل والكادح، وما أفرزه ذلك كله من تحويلٍ للعالم إلى موضوع للاستهلاك وفقدانه طابع العمومية والديمومة والاستمرارية في الزمن. السببُ في هذا الغموض واضحٌ؛ ترجمة كلمة Activa بعبارة "عملية" من جهة، وكلمة Labor بكلمة "عمل" تحت وطأة ارتباطها بكلمة "العامل" و"العمال" في الخطاب الماركسي العربي، ولا أدل على ذلك من إيثارها عبارة "الحيوان العامل" (ص. 124) للإشارة إلى علاقة الإنسان بالشغل عند ماركس بدلاً من العبارة الشائعة في متنه المُعرب؛ "البهيمةُ المشتغلة". لو اختارت المترجمة عبارة "الحياة النشيطة" أو "حياة الفاعلية" لما وقعت في هذا الغموض، ولتجنبت، بالتالي، الاضطراب الناجم عن رواج استعمال عبارة "عملي" كمقابل لـ "نظري" و"خالص" في الوعي العربي المعاصر تحت تأثير كانط وتمييزه بين العقل المحض (الخالص) والعقل العملي. لقد انتبهت المترجمة إلى أهمية كلمة "نشاط"، ونقلت بها حديثَ آراندت عن الأنشطة الثلاثة المكونة للحياة النشيطة (ص. 28)، لكن ذلك لم يدفعها إلى اعتماد الكلمة لتعريب مفهوم Vita activa، وهو ما ترك فراغاً على مستوى تحديد معناه قياساً بالأنشطة المكونة له.

نُلاحظ، من جهة ثانية، أن المترجمةَ لم تلتزم، رغم إيثارها لفظ "عمل" على لفظ "شغل"، بالفصل بين هاتين العبارتين في كل السياقات التي وردتا فيها، فكانت النتيجة أن تضمنت ترجمتها مثل هذه الفقرة؛ "إن السبب الذي من أجله كان ينبغي أن يتجاهل هذا التمييز في العصور القديمة وأن تبقى دلالته غير مدروسة، يبدو بديهياً كفاية. إن احتقار الشغل، في الأصل انبثاق إرادة جامحة في التحرر من الضرورة، وليس أقل لحاجة عاطفية مع كل مجهود لا يترك أي أثرٍ ولا أي نصبٍ ولا أي عمل ضخمٍ يستحق الذكر. هذا الاحتقار للعمل قد امتد مع نمو طلبات حياة المدينة..." (103) [التشديد من عندي]. ما المقصود في هذه الفقرة بعبارة "عمل"؟ وما الفرق بينه هنا وبين الشغل والأثر؟ في الجملة الأولى تستعملها الفيلسوفة للدلالة على الشغل، باعتباره نشاطاً مُستهجنا في التقليد اليوناني القديم، لذلك لجأت المترجمةُ إلى مفهوم الشغل حتى تميزه عن الأعمال الضخمة التي من شأنها أن تخلد ذكرى الإنسان وتترك أثراً في الزمن، هذه الأعمال أدخل في باب الإبداع الفني ولا علاقة لها بالشغل والكدح، لكن المترجمة تناست أنها استعملت لفظ عمل للإشارة إلى الشغل، وهذا ما من شأنه أن يحمل القارئ على الاعتقاد أن الإنسان الكادح (المشتغل) هو الذي يصنع "أعمالا ضخمة" إذا ما أتيحت له الفرصة لذلك. والأنكى من ذلك، أنها سرعان ما تعود إلى لفظ عمل للحديث عن احتقاره في حياة المدينة، متناسية أنها بالكاد استعملته للإشارة إلى الأثر والصناعة الفنية...إلخ.

كيف نفهمُ هذا القلق في التسمية وانتقاءِ الكلمات؟ قد يكون مردُ ذلك إلى النص نفسه، إلى التَماس الحاصل بين مفاهيم آراندت، كما إلى أثر الترجمات العربية لمفاهيم ماركس ورسوخها في الأذهان، دونما وعيٍ بالفرق الحاصل بين سياقات آراندت وسياقات ماركس، وهو الأمر الذي يتطلب كثيراً من التحوط في تعريب مثل هذه المفاهيم، لأنها تحوي في طياتها كثيراً من تفاصيل تصور هذه الفيلسوفة للإنسان وأبعاده.

3- لماذا "الوضع البشري"؟ وما قيمة تعريبه اليوم بعد عقودٍ من تأليفه؟ وكيف يمكن لفكرنا أن يتلقاهُ، باعتباره نصاً من نصوص الفلسفة الغربية المعاصرة؟

تفتحُ مثلُ هذه الأسئلة باباً عريضة للتفكير في علاقة الفكر العربي المعاصر بالفكر الغربي عامةً والفلسفي منه على وجه التحديد. وعندما يتعلقُ الأمر بأعمال تنتمي إلى ما بات يعرف بتيار ما بعد الحداثة، فإن تلقيها والوعيَ بمفعولها يتخذ طابعاً إشكالياً في الثقافة العربية المعاصرة. نلاحظ أن أعداء الحداثة ومناهضيها غالبا ما يلهثون وراء النقد الغربي للعقل الحديث ومكتسباته، سعياً منهم إلى إنعاش اللاعقل المستشري في ثنايا الثقافة العربية التي لم تستوعب إلى اليوم منطق العقل والعقلانية، ولم تجسده بعد في الفعل والسلوك والمؤسسات السياسية والعلاقات السلطوية، وهو ما يحملهم على الركوب على الأعمال الناقدةِ للحداثة في الفكر الغربي[17]. لذلك قد يُشكلُ نقد آراندت للحداثة الغربية فرصةً مُناسبةً لأصحاب هذا الخطاب لرثاء الحداثة والنحيب على مآل الإنسان فيها قياساً بوضعه عندنا نحن. غير أن المتأمل في كتاب الوضع البشري يَلْحظُ أنه لم يكن بياناً في موت الحداثة، بقدر ما كان وصفاً لمسار تشكلها ومفعول ذلك كله في خلخلة معنى الحياة الإنسانية وشروطها الأساسية، وما أفضى إليه ذلك كله من صوغ معالم الإنسان المعاصر؛ إنه دعوةٌ إلى إعادة اكتشاف المعنى الأصيل للإنسان الذي أسقطه تطور أحداث الحداثة الغربية في طي النسيان، وليس ذلك المعنى شيئاً آخرَ غير الشرط السياسي للإنسان، لذلك كانت فلسفة آراندت، بجهة من الجهات، محاولةً لنفض الغُبار عن الإنسان السياسي في زمن نسيان السياسة وأفول الحرية. إن أهمية فكر آراندت عموماً، وكتابها الوضع البشري تحديداً، تكمنُ في الأسئلة التي يحفزُنا على طرحها على شرطنا السياسي العربي، عن أثر التسلطية في تحديد معنى كينونتنا السياسية، ووضع طبيعتنا الإنسانية الهشة المجافية لكل أشكال التسلُط والإذلال، عن دلالات الشر وقدرة الفعل السياسي على مواجهته...إلخ. وهو، من هذه الجهة، كتابٌ يحملُنا على التأمل في واقع كينونة مفرغةٍ من عمقها السياسي ودلالاتها الإنسانية، أنهكتها التسلطية لمدة عقودٍ وقتلت فيها، في صمت، شرطها المدني ووَأَدتْ قدرتها على الفعل والإسهام في صناعة العالم، بل وكرست فيها كل مشاعر السلبية والانسحاب[18]. وعندما يعتبر ريكور كتاب الوضع البشري كتاباً في مقاومة المد الشمولي وعدميته المتضمنة في مفهومه الخفي عن السلطة والإنسان[19]، ومحاولةً للتفكير في إمكانية صناعة عالم غير شمولي صالح للشرط الإنساني، فإن في إشارته تلك ما يفيدنا في قراءة هذا النص على ضوء معاناةٍ مُزمنةٍ مع التسلط والتسلطية.

ومهما يكن من أمر، فإن تعريبَ كتاب الوضع البشري يبقى عملاً على قدر كبير من الأهمية، والجهدُ المبذول فيه من طرف هادية العرقي كبيرٌ، بل ويحسب لها أنها أقدمت على تعريب نصٍ من عيارٍ فلسفي ثقيلٍ، وإذا كانت الملاحظات السابقة قد نبهت إلى بعض الغموض الناجم عن اختياراتها المصطلحية، فإن الغاية من ابدائها هي فتح باب التفكير في الأسئلة التي يطرحها علينا الكتاب، وهو ما يستلزم تفكيراً نقدياً في الترسانة المفاهيمية التي أُعملت في تعريب مفاهيمه ومصطلحاته، كما في العلاقة التي يمكن أن تجمعنا بمنظوره الفلسفي ورؤيته إلى الإنسان والوجود.


[1]- حنه آراندت، الوضع البشري، ترجمة هادية العرقي، بيروت؛ جداول ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2015

[2]- H, Arendt, La tradition cachée, Paris, Christian Bourgeois Editeur, 1987, p. 228.

[3]- H, Arendt, Eichman à Jérusalem, Rapport sur la banalité du mal, Paris, Gallimard, 2002, p. 59

[4]- H, Arendt, La philosophie de l’existence, Paris, Payot, 2015, 333.

[5]- Olivier Mongin, La réception d’Arendt en France, in, Colloque Hannah Arendt, politique et pensée, Paris, Payot, 2004, p. 9.

[6]- J, Habermas, Le discours philosophique de la modernité, Paris, Gallimard, 1988.

[7]- علي عبود المحمداوي، العنف والشمولية وإمكان استعادة الفعل السياسي؛ استحضار حنة آراندت في فهم الوضع السياسي العراقي؛ بغداد، مكتبة عدنان للطباعة والنشر، 2014

[8]- هذا في ما يتعلق بأعمال آرندت التي لم تنقل بعد إلى اللغة العربية. ويُمكن أن نقول الملاحظات عينها عن عددٍ كبيرٍ من الدراسات التي أُنجزت حولها بمختلف اللغات الأوربية، ولم يسبق لأي مترجم عربي أن أقدم على ترجمتها، خلافاً للدارسات التي أنجزت في العالم الغربي عن فيلسوف كنيتشه وهيدجر وفوكو ومدرسة فرانكفورت.

[9]- H, Arendt, La tradition cachée, op, cit, p. 227.

[10]- H, Arendt, De la révolution, Paris, Gallimard, 2012, p. 67.

[11]- H, Arendt, La vie de l’esprit, Paris, PUF, 2007, p. 112.

[12]- حنه آراندت، الوضع البشري، ص 19

[13]- المصدر نفسه، ص 31

[14]- H, Arendt, De la révolution, Paris, Gallimard, 2012, p. 65.

[15]- H, Arendt, Vies politiques, Paris, Gallimard, 1974, p. 91.

[16]- H, Arendt, Responsabilité et jugement, Paris, Payot, 2009, p. 52.

[17]- هذا ما نجده في كتاب روح الحداثة للأستاذ طه عبد الرحمان، الذي رسم فيه صورةً حالكة وقاتمة عن الحداثة و"واقعها". ويبدو أن أحد الباحثين في مجال الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، وهو حسن فراث، قد تلقف موقف طه عبد الرحمان وطفق ينزله على مجال السياسة والمؤسسات الدولتية، عندما لجأ إلى النقد المعاصر للحداثة لتفنيد فكرة الحداثة السياسية وإبدالها بفكرة الميثاق الإسلامي. انظر Hassan Fourrat, Du contrat social au contrat politique islamique, ou L’anti-léviathan, Casablanca, Afrique orient, 2015

[18]- أنظر في هذا الشأن؛ محمد نور الدين أفاية، الديمقراطية المنقوصة، في ممكنات الخروج من التسلطية وعوائقه، بيروت؛ منتدى المعارف، 2013

[19]- P, Ricœur, Préface, in ; H, Arendt, La condition de l’homme moderne, op, cit, p. 14.