نحو إعادة التفكير في الذات والذاتية


فئة :  مقالات

نحو إعادة التفكير في الذات والذاتية

فكرة الذات فكرة حديثة اقترنت بالنزعة الإنسية لعصر الأنوار، وظهور الفرد على مسرح التاريخ. ولعل تعبيرها الأكثر شيوعاً هو الكوجيتو الديكارتي الشهير: "أنا أفكر، إذاً أنا موجود"، الذي يقضي أن يكون تصور الذات إبستيمولوجياً على أنها ذات عارفة، في مقابل أو إزاء "موضوع" معين تحكم الذات فيه أو له أو عليه، أو أن تكون فكراً إزاء امتداد، أي إزاء وجود مادي، فلا تخرج هذه الثنائية عن ثنائية الماهية والوجود، أو الروح والمادة. الذات الفردية ("الأنا" ego أو "النفس" self) التي كانت تعد مركز الكون، صار ينظر إليها نظرة علمانية، على أنها مصدر أفعالها، ومسؤولة عنها، وهذا مما سيؤسس فكرة الذاتية والاستقلال الذاتي.

مع ولادة تصور أحدث للذات الفردية، تراجع مفهوم "الإنسان" (المجرد)، الذي يعتبر مصطلحاً حيادياً (بحكم التجريد) مرادفاً للذات في الخطاب الإنسانوي لعصر التنوير. "من هنا كانت فتنة النقد أو التفكيك ما بعد البنيوي للذات (وآليات تشكُّلها وتشكيلها) في النظرية النسوية وما بعد الكولونيالية، لأن المرجعية الاجتماعية لمقولة "الإنسان" الفلسفية كانت الذات المذكرة البيضاء الأوروبية التي تصورها هذه الخطابات ذاتاً مهيمنة"، وعالمية أو كونية معيارياً؛ وكانت هذه المرجعية تنطوي على سمة عنصرية؛ فلكي يكون الغرب قادراً على إثبات الإنسانية لنفسه كان في حاجة إلى خلق آخرِيه (others) بوصفهم عبيداً ووحوشاً[1]. لكي تتمكن الذات الفردية أو الجمعية التي تنظر إلى نفسها على أنها وجود جوهري قائم بذاته من إثبات إنسانيتها، لا بد لها من خلق آخرها وآخريها وتجريده وتجريدهم من الخصائص الإنسانية. ولكي يتمكن الرجال من السيطرة على النساء كان لا بد لهم من اعتبار النساء جنساً آخر.

لا يسوغ الحديث عن ظهور مفهوم الذات الفردية العلماني، بغض النظر عن تاريخية هذا الظهور، أي انتقال الجماعات من "حالة الطبيعة" إلى "الحالة المدنية"، (ماكيافلي، هوبز، لوك، روسو) وما تبع ذلك من تحول الإحداثيات التي كانت تنظم الكون الرمزي للمجتمعات الوسطوية على مدى قرون. ذلك التحول الذي كان نتيجة تغيير جذري في بنية الإنتاج الاجتماعي وعلاقات الإنتاج، دشنته "الطبقة الثالثة"، كما سماها الأب سييس، الطبقة التي هزت أركان النظام البطركي، ودكت أسواره، فتحرر الأفراد شيئاً فشيئاً من ربقة العلاقات التقليدية.

في خضم هذا التغير الاجتماعي الاقتصادي والسياسي والثقافي، الجذري، ظهر المفهوم العلماني "للأنا" الفردية، بصفته وعياً مجرداً وكونياً متحرراً من كل تجسد وموضعية. الأنا أو الذات، بما هي وحدة قانونية وفلسفية ومفاهيمية ونفسية، ستجد معناها الكامل في مقولة السيادة، التي تمنح الذات منزلة عالمية، يتم إنتاجها وفق إستراتيجية معقدة، مؤسسة على مبدأ القوة والغلبة والاستتباع، الذي تجلى في حركة الاستعمار الحديث، الحركة التي غدت معها الذات السيدة المستقلة هي الذات المستعمِرة والمهيمِنة. ذلك لأن تشكل الذات أو تشكيلها يتطلب طرفاً آخر تميز الذات نفسها عنه، وتؤسس سيادتها واستقلالها على تبعيته وخضوعه، وفاعليتها على انفعاليته، وإيجابيتها على سلبيته، وحداثتها على تخلفه. هذا الطرف "الآخر" يظل مكبوتاً. وحضوره "المنسي" أو المكبوت هو بالتحديد شرط لاستقلال الذات المهيمنة وعالميتها. هذا المفهوم "الغربي" للذات سيؤثر في تشكيل الذوات الفردية والجمعية، في العالم غير الأوروبي، ولا سيما في البلدان التي عاشت تجربة الاستعمار الغربي المباشر، واستعارت منها مفهومي السيادة والاستقلال.

إن نقد الحداثة يستمد شرعيته وقيمته وضرورته من تفكيك هذه الإستراتيجية، إستراتيجية السيادة، وتعرية جذورها، ودحض مبادئها الفكرية والسياسية والأخلاقية، والكشف عن آثارها في تشكيل الذات / الذوات الخاضعة والتابعة و"المتخلفة"، وبكلمة واحدة: المؤنثة. لذلك لا يستقيم الحديث عن استقلال المرأة وحريتها وسيادتها على نفسها، من دون تفكيك مقولة السيادة والكشف عن الروح العبدي (نسبة إلى العبد) والاستعبادي، الذي يسري فيها، وإعادة بنائها، على نحو تصير معه السيادة مقاومة ونفياً لجميع الشروط التي تجعل الخضوع ممكناً، أي إعادة بنائها على مبدأ الندية والتشارك الحر، ويصير الاستقلال مقاومة لجميع الشروط التي تجعل التبعية ممكنة.

نقد الحداثة يعني، بالضبط، إعادة إنتاجها، وفق رؤية / رؤى جديدة، وإستراتيجية / إستراتيجيات جديدة. صيغة الجمع، في قولنا رؤى وإستراتيجيات، تؤسس أيضاً لنقد مفهوم الكونية أو العالمية الواحدية، بما هي صيغة علمانية ومعولمة للواحدية اللاهوتية. في بلد كسوريا، نقترح أن يبدأ هذا النقد بنقد ثقافة الاستعمار، وعلاقة المستعمِر بالمستعمَر، التي أعيد إنتاجها فصامياً في العقيدة القومية، والعقيدة الإسلامية للإسلام السياسي. وأن يثنِّي بنقد "العلمانية" بما هي تلفيق رديء يمارسه المثقف الفقيه والسياسي الفقيه، وتعرية جذور النزعة الفقهية ذات السيماء الكلبية (فقه السلطة) في الثقافة والسياسة والتشريع، حيثما تكون السلطة هي المرجع أو النص المقدس.

إذا كنا إزاء حالة طبيعية تتجاوزها الجماعات إلى حالة مدنية، فإن كل واحدة من هاتين الحالتين تسم الأنا (أو الذات) بميسمها، وتعيِّن خصائصها العامة؛ ففي حين تتحدد الأنا بعلاقات القرابة والحسب والنسب ووحدة العقيدة، وفق ثنوية القريب / الغريب، التفاصلية، في "حالة الطبيعة"، تتحدد بالمعرفة والفاعلية والعمل والتواصل الإنساني والتشارك الحر، في الحالة المدنية. لذلك، لا بد من توكيد الفرق النوعي بين "الأنا الطبيعية" و"الأنا المدنية"، وتتبع رواسب الحالة الطبيعية في الحالة المدنية، وخاصة ظهور النزعة الوطنية (= القومية) باعتبارها شكلاً جديداً من أشكال المركزية الإثنية (البدائية أو الطبيعية)، المؤسسة على المركزية الذكورية، وهدر إنسانية الأفراد، ولا سيما إنسانية النساء. من هنا تنبع أهمية نقد المركزية، في فكر ما بعد الحداثة وفي الفلسفة النسوية. لذلك ذهبنا في كتابنا "من الرعوية إلى المواطنة" إلى ضرورة أنسنة فكرة الوطنية أو القومية؛ أي إعادة تأسيسها على مبدأ المساواة في الكرامة الإنسانية والمواطنة، وعلى مبدأ الحرية التي لا تتعين إلا في الاختلاف.

يتسم الأنا الطبيعي بغلبة الأفعال الغريزية على الأفعال الواعية؛ إذ الغريزة باعث طبيعي على أفعال معينة يصعب فهمها وتحديد غاياتها، لصعوبة فهم بواعثها. يمتاز الفعل الغريزي بلاشعورية الدافع النفسي الذي يكمن وراءه، ومفارقته للسياقات الواعية. يبدو الفعل الغريزي حادثاً نفسياً على شيء من الفجائية أو نوعاً من قطع استمرارية الواعية؛ لهذا السبب نحسه "ضرورة داخلية". وهذا هو التعريف الذي أعطاه كانط للغريزة[2]. نعتقد أن بعض الأفعال الغريزية تنبثق من خافية الفرد الشخصية، في حين تنبثق أفعال أخرى من "الخافية الجامعة" في الفرد نفسها أو نفسه، وهذه أكثر غموضاً وإبهاماً من الأولى، لأن محتوياتها ترجع إلى تاريخ النوع، بل إلى تاريخ الحياة[3]. (وهو ما يفسر حالات النكوص إلى الهمجية والتوحش وأشكال اللامعقول واللاأخلاقي، هنا وهناك). ومن ثم، يمكن اعتبار الأنا المدني قطيعة واعية مع الأنا الطبيعي غير المرفوع. فمن أبرز سمات المدنية سيطرة الأفراد على أفعالهم وتوجيهها نحو غايات معينة، فردية وجمعية، خاصة وعامة.

لذلك يمكن التفريق، على نحو واضح، بين الأنانية بوصفها تعبيراً عن الأنا الطبيعي، وتقابلها الغيرية، (الأنا ضد الغير، نحن ضد الأغيار أو الغوييم) وبين الأنوية المعبرة عن الأنا المدني، وتقابلها الآخرية (أنا / الأخرى والآخر، الأخرى والآخر كلاهما "أنا".) وسنلاحظ أن الأنانية لا تزال ثاوية في ثنايا الأنوية، وستظل كذلك، ما دام الطبيعي ثاوياً في ثنايا المدني. وفي مجال الغيرية يجب أن نفرق بين الغيرية التبادلية (الانتقال من الأنا إلى الأخرى والآخر، وبالعكس) أو الغيرية المعتدلة، التي منها الغيرة، بمعانيها المتناقضة شكلاً [4]، وبين الغيرية الجذرية، التي تعني ذوبان الفرد في الجماعة، وتماهي التابع والتابعة بالمتبوع، والعبد والعبدة بالسيد، وتماهي المحكوم بالحاكم. ومن ثم يجب التفريق بين الذات الطبيعية (الهووية) المؤسسة على المغايرة والتفاصل، والتي تسم النزعات العرقية والمذهبية، وبين الذات المدنية المؤسَّسة على الاختلاف والتواصل، والمؤسِّسة للسلم المدني والتشارك الحر. هذا التفريق لا يُظهر ولا يُضمر أي حكم على الأفراد، بل يحكم على العلاقات السائدة، التي تحوِّر العلاقات الواقعية بين الأفراد والجماعات، والتي ينبغي نقدها ومقاومتها وتغييرها.

ما من شك في أن الخطاب يشكل موضوعه، بقدر ما يكون خطاب سلطة تشكل الأفراد، الذين لا يقاومونها واللائي لا يقاومنها، وتفرض تمثيلها للذات على أنه الحقيقة أو الواقع؛ فإن اقتفاء الآثار الخافية لجدل المعرفة والسلطة في إنتاج الخطابات الإثنية والدينية والمذهبية يمكن أن يكشف عن الطابع المركزي لهذه الخطابات وعن الطابع الذكوري المتمفصل مع المركزية، حيث يصعب الفصل بين المركزية الإثنية، على سبيل المثال، والمركزية الذكورية، ويصعب الفصل من ثم بين السيطرة الإثنية و/ أو المذهبية وبين السيطرة الذكورية، وأشكال الهيمنة الثقافية الناعمة المقترنة بها. وإذ لا تنفصل المركزية الإثنية عن المركزية الذكورية فإنهما لا تنفصلان، ولا تنفصل أي منهما عن الاستبداد، الذي يمحق الذات والذاتية، ويهدر حرية الإنسان، وهي قوام إنسانيته.


[1] ميدا ييغينوغلو، استيهامات استعمارية، نحو قراءة نسوية للاستشراق، ترجمة عدنان حسن، دار التنوير، دمشق، 2012، ص 157 وما بعدها.

[2] راجع/ي، كارل.ج. يونغ، البنية النفسية عند الإنسان، ترجمة نهاد خياطة، دار الحوار، اللاذقية، سوريا، 1994، (حسب مقدمة المترجم)، ص 64

[3] يحمل كل فرد في جيناتها أو جيناته تاريخ النوع وتاريخ الحياة، كما تبين الشفرة الجينية أو كتاب الحياة. راجع/ي: ريدلي، مات، الجينوم، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 275، نوفمبر 2001

[4] كالغيرة التي تتضمن الحسد والضغينة، والغيرة على الشرف والعرض والدين والوطن .. ولكن أساسهما واحد، هو الأنانية، فردية كانت أم جمعية.