نحو رجولة عربية جديدة


فئة :  مقالات

نحو رجولة عربية جديدة

على الرغم من المجهودات المبذولة من طرف الجامعيين، وصناع القرار والفاعلين الجمعويين من أجل إحلال المساواة في الحقوق بين النساء والرجال، وهو ما اصطلح على تسميته بالمساواة الجندرية، يظل الطريق شائكا بالنظر إلى المميزات البنيوية والإيديولوجية التي تطبع المجتمع العربي كمجتمع أبيسي إسلامي يؤمن بشرعية تفوق الرجل على المرأة، ويرى في امتيازات الرجل وسلطه أمرا عاديا وطبيعيا.

وبالتالي يكمن الرهان في نقد الرجولة من خلال أفعال ثلاثة: فعل معرفي يفكك الرجولة كبناء تاريخي، فعل نضالي يصارع الرجولة كهيمنة، وفعل تربوي يسعى إلى تنشئة الأجيال الصاعدة على فكرة المساواة. ولن تنجح هذا المهمة العسيرة إلا بإشراك الرجل وإقناعه بجدارتها وبوقعها الإيجابي على هويته وعلى هوية المرأة وعلى العلاقات التي تربطهما. فإذا كان الرجل طرفا في الإشكالية الجندرية من حيث هو المنفذ والمستفيد المباشر من النظام الأبيسي، فإنه يظل وبالقوة جزءا من الحل النهائي الذي يكمن في تحقيق المساواة بين النساء والرجال في الحقوق (وفي الواجبات أيضا)، وهي المساواة التي تنقذه من كونه ضحية النظام الأبيسي من حيث لا يدري، حيث تشكل الرّجولة تحدّيا يوميا ينبغي مواجهته على جبهات مختلفة، جنسية، مالية، تدبيرية، رمزية... إن الرجولة في معناها الأبيسي محنة وامتحان وثقل يومي، وهي من ثمة بناء هش من السهل أن يسقط، ويسقط بالفعل في حالتي العجز الجنسي أو الاقتصادي.

الرجولة في معناها الأبيسي محنة وامتحان وثقل يومي، وهي من ثمة بناء هش من السهل أن يسقط، ويسقط بالفعل في حالتي العجز الجنسي أو الاقتصادي

النقد النسَوي للسيطرة الرجولية

يعتقد الأبيسيون أن السيطرة الرجولية تقوم أولا على الطبيعة؛ بمعنى أن الذكورة كخاصية بيولوجية هي التي تفسر تحول الذكر إلى رجل؛ أي إلى كائن اجتماعي متفوق ومسيطر. فالرجولة قوة متعددة التمظهرات: قوة بدنية تخضع الطبيعة، قوة عمل إنتاجية، فحولة جنسية، عقل قادر على التدبير والتسيير والقيادة. في مقابل الرجولة كمصير اجتماعي مسيطر تحدده الذكورة، تقود الأنوثة إلى وضع اجتماعي ضعيف وهش، غير قادر على الكسب والاستقلال والمسؤولية. من أجل الحفاظ على هذه العلاقة التراتبية، تغلف بقدسية دينية غير قابلة للرفض، فيتخذ عدم التكافؤ الجندري طابعا أبديا يعبر عن إرادة إلهية ما فوق التاريخ. ويؤدي التكامل بين الأبيسية والدين إلى جعل العنف سلاحا شرعيا في يد الرجل يمكنه من الحفاظ على سلطه وامتيازاته.

إن العنف الجندري ليس مجرد خلل يقع من حين لآخر في العلاقة بين الرجل والمرأة، بل هو سلاح مؤسسي بنيوي في يد الرجل يستعمله الرجل من أجل تأديب المرأة، إن رفضت طاعته. ويبلغ الاستلاب الأبيسي درجته الأقصى حين يعتقد الرجل، ومعه المرأة، أن العنف تعبير أساسي عن الرجولة الحقيقية، وأنه لا رجولة دون عنف تجاه المرأة. ويتخذ ذلك العنف أشكالا متعددة، جسدية، جنسية، لفظية، نفسية، اقتصادية، قانونية، دينية، كما يقع في كل الأماكن الاجتماعية المختلفة كالأسرة والمدرسة والجامعة والإدارة والمقاولة والشارع العام...

على الصعيد المعرفي، قامت النسوية (féminisme) الغربية بنقد القدرة التفسيرية للذكورة البيولوجية على تبرير التفوق الرجولي. وأبانت أن الاختلاف البيولوجي بين الجنسين تحول تدريجيا إلى تفوق اجتماعي رجولي بسبب عوامل اقتصادية تاريخية. وبالتالي، أظهرت أن اللامساواة ليست معطى بيولوجيا طبيعيا، وإنما بناء تاريخي مكتسب بالإمكان تجاوزه والقضاء عليه بفضل إرادة سياسية وسياسات عمومية ناجعة، وهو ما تحقق بقدر لا يستهان به في الكثير من الدول، على رأسها الدول الإسكندنافية. إنه انتقال من أنموذج "مختلفون إذن غير متساوين" إلى أنموذج "مختلفون لكن متساوون". وهو الانتقال الذي تم أيضا بفضل نشأة "دراسات الرجولة" (Mens’s studies) المتموقعة داخل الدراسات الجندرية.

في العالم العربي، يظل حقل "دراسات الرجولة" حقلا ضعيفا وهشا، رغم انتشار الدراسات الجندرية كما لو أن مقولة "الرجولة" مقولة شبه مقدسة لا ينالها السؤال. وظلت تلك المقولة غير مرئية كما هو الشأن بالنسبة إلى كل المقولات المسيطرة. فتمركز النظر المعرفي النسَوي العربي حول النساء ضحايا العنف واللامساواة، ووجهت كل الاستثمارات الرمزية والمادية نحو تمكين المرأة دون الالتفات إلى ضرورة تغيير الرجل العربي، وظل ذلك الرجل سجين سبات أبيسي سالب يمنعه من مساءلة عقلانية سيطرته ومعقوليتها، وبالتالي من الإسهام الناجع في ميلاد هوية رجولية جديدة تلائم مقتضيات مبدأ المساواة الجندرية.

انطلاقا من هذه الاعتبارات، يجوز التساؤل عما حققه الأنموذج الجندري المساواتي في العالم العربي بصدد الرجولة العربية. إلى أية درجة توجد مؤشرات تدل على تحول في الرجولة العربية؟ ما مدى رفض الرجل العربي لتعريف الرجولة كسيطرة؟ تقتضي الإجابة عن هذه التساؤلات الرجوع إلى كتابنا "نقد الرجولة في المغرب" (بالفرنسية).

أنا أومن بالمساواة، إذن أنا رجل (حقيقي)

في الحقل الجنسي والإنجابي، هناك مؤشر دال على التحول في إدراك الرجولة يكمن في اعتبار المثلي المفعول به رجلا ما دام يتوفر على ذكر. فالذكورة عامل كاف في ضمان الهوية الرجولية بغض النظر عن الممارسات الجنسية. إنه الموقف البازغ الذي يؤدي إلى الانتقال إلى رجولة متعددة من ضمنها رجولة مثلية تطالب بالاعتراف وبالمساواة.

العنف الجندري ليس مجرد خلل يقع من حين لآخر في العلاقة بين الرجل والمرأة، بل هو سلاح مؤسسي بنيوي في يد الرجل

في هذال السياق، كانت الفحولة تشكل بدون منازع المؤشر المرجعي الأساسي لتعريف الرجولة. "أنا فحل إذن أنا رجل... أنا فحل إذن أنا موجود". ضد هذا الكوجيطو الأبيسي، يذهب 62 ٪ من الرجال المغاربة إلى فك الارتباط بين الرجولة والفحولة، حيث يبزغ كوجيطو مضاد جديد يقول: "أنا لست فحلا لكني رجل". إنه رفض لاختصار الرجولة في الفحولة ورفض لتعريفها بالاستناد إلى مؤشر ارتفاع وتيرة النشاط الجنسي. فالعجز الجنسي لا يعني فقدان الرجولة في نظر هؤلاء الرجال الذين يولون أهمية أكبر لمؤشرات أخرى في تعريف الرجولة كالقدرة على اتخاذ القرار والحسم، وفي عدم استعمال العنف ضد النساء أيضا.

فالعنف لم يعد مؤشرا على الفحولة بقدر ما أصبح يدرك كاستغلال للقوة ضد من هو أضعف؛ أي كسلوك انتهازي يحط من قيمة الرجل، فيلقب الرجل العنيف ضد المرأة بالشماتة، وهو وصف قدحي جدا. وبالتالي يصبح الرجل الممارس للعنف الجندري رجلا من الدرجة الثانية، فاشلا يعاني من الحرمان.

"أنا لا أعنف النساء، إذن أنا رجل حقيقي"، ذلك تعبير عن كوجيطو جديد يميز الرجل العربي الجديد، وهو الرجل الذي لا يكتفي بتعنيف الزوجة في البيت، بل يرفض أيضا استعمال المال للحصول على النساء ويرفض ابتزاز النساء جنسيا في أماكن العمل من خلال استغلال نفوذه. إنه أيضا الرجل الذي ينتهي من إدراك الفضاء العمومي مملكة للرجال، والذي يعترف للنساء بالحق في التواجد بالشارع العام دون قيد أو شرط. فيتوقف بالتالي عن التحرش بالنساء في الشارع وعن اعتبارهن فرائس جنسية سهلة المنال وعن تعزيرهن حفاظا على الأخلاق العامة.

من المؤشرات الأخرى في هذا الاتجاه، اكتفاء الرجل كأب بمطالبة البنت بالحفاظ فقط على غشاء البكارة مع السماح الضمني لها بإقامة علاقات جنسية غير فرجية. ويكون الأب على علم بعلاقات بناته الجنسية دون أن يشعر أنه فقد رجولته (وشرفه). وهناك آباء يدافعون عن حق بناتهم في حياة جنسية تلمة قبل الزواج. أيضا لا يلتفت العريس إلى غشاء البكارة والعذرية. فقليلون هم الرجال الذين لا زالوا يؤمنون بضرورة عذرية الفتاة إلى حدود ليلة الزفاف؛ ذلك أن الرجل العربي الجديد في دول مثل تونس والمغرب ولبنان يولي أهمية أكبر لرساميل أخرى غير العذرية؛ أي إلى رساميل غير تشييئية لا تختزل المرأة في جسدها، وإنما تنظر إلى ما لرفيقة الحياة من تكوين ومن شهادات ومن وظيفة ومن دخل شهري. في هذا الإطار، يحبذ 33 ٪ من الرجال استعمال الفتاة العازب لوسائل منع الحمل ويذهب 29 ٪ إلى إقرار حق الفتاة العازب في الإجهاض لاعتبارات اجتماعية، مثل العزوبة والفقر وخطريْ التهميش والوقوع في العمل الجنسي.

وفي إطار العلاقة الزوجية، يعتبر 42 ٪ من الرجال بضرورة التناوب على منع الحمل بين الزوجين؛ بمعنى أن الرجل الجديد يساهم في الوقاية من الحمل من خلال استعمال الغشاء الذكري أو بفضل العزل قبل القذف. ويقوم بذلك إما مساعدة للزوجة، وإما إيمانا منه بوجوب اقتسام تلك المهمة.

في الحقل القانوني، تذهب أقلية تصل إلى 15٪ إلى فك الارتباط بين الرجولة وبين الولاية على البنت عند الزواج؛ بمعنى أن بعض الرجال توقفوا عن ربط رجولتهم بحقهم في قبول زواج بناتهم أو رفضه. إنهم تنازلوا عن ذلك الحق في ضبط السوق الزوجية المتعلقة بنساء العائلة. بالنسبة إلى هؤلاء، الفتاة أولى بتشخيص مصلحتها، وحريتها لا تهدد رجولة الأب أو الأخ أو العم. والأغلبية نفسها لا تتشبث بحق الولاية إلا كحق رمزي غير محدد لاختيار الزوج.

المؤشر القانوني الأهم يكمن في إدراك الرجل ذي الزوجة الواحدة رجلا حقيقيا بالمقارنة مع معدد الزوجات. من هنا تجاوز المثل الشعبي المغربي القائل: "الرجل الذي له زوجة واحدة ثيب (هجال)، الذي له اثنتان يبشر بالخير، من له ثلاث أصبح قويا، ومن له أربع زوجات هو سيد الرجال". ويذكرنا هذا المثل الشعبي بما قاله الحسن بن علي بن أبي طالب "مسكين مسكين من له زوجة واحدة، إذا حاضت حاض معها، وإذا نفست نفس معها". 43٪ من الرجال صرحوا أنهم ضد تعدد الزوجات ومع منعه بشكل تام.

يبلغ الاستلاب الأبيسي درجته الأقصى حين يعتقد الرجل، ومعه المرأة، أن العنف تعبير أساسي عن الرجولة الحقيقية، وأنه لا رجولة دون عنف تجاه المرأة

أيضا، صرح 43٪ من الرجال أنهم ضد الطلاق كسلطة شرعية وقانونية أعطيت للزوج بصفته رجلا عائلا. "أنت طالق": كلمتان كافيتان لإثبات رجولة أبيسية سيادية مطلقة. اليوم، لا يشكل فقدان هذا الحق تهديدا لرجولة الرجل، وأصبح الرجل الجديد يتقبل كلمة الفصل من القاضي، بل ومن القاضية، دون شعور بإهانة رجولته.

وفي البيت، أصبح الزوج يقاسم الأشغال المنزلية مثل غسل الأواني، إما على سبيل المساعدة وإما كمبدأ غير تمييزي، دون أي خوف على رجولته. ونجد أن 33٪ من الرجال يغيرون ملابس الطفل الرضيع في حين يقوم 71٪ بإرضاع الطفل ويستمرون في إطعامه إلى أن يصبح قادرا على إطعام نفسه.

خاتمة

بالإمكان القول إن الرجولة العربية رجولة انتقالية. فمن جهة، يسعى الرجل العربي إلى الاحتفاظ بموقعه السيادي في نظام جندري لا يزال تمييزيا ولا مساواتيا. لكن ومن جهة أخرى، لا يمكن له ذلك بشكل كامل بالنظر إلى اندماج المرأة في التعليم وفي سوق الشغل، وبالنظر أيضا إلى وعي نسَوي متصاعد يمس الرجال بدورهم. وبالتالي لا بد من الإقرار بأن الرجولة الأبيسية المطلقة لم تعد موجودة بشكل كامل كما أن الرجولة المساواتية لم تنشأ بعد في صفوف معظم الرجال. بتعبير آخر، هناك أزمة رجولة، بمعنى أن الرجل العربي لا يستطيع اليوم فرض نفسه على المرأة بمجرد استغلاله للنفقة من أجل السيطرة، فالقدرة على الإنفاق والإعالة أصبحت متعذرة على معظم الشبان العرب. من ثم اللجوء إلى الدين وإلى العنف من أجل الاحتفاظ بالسلطة الرجولية.

ولتدقيق أكبر، يمكن القول إن أزمة الرجولة في طريقها إلى رجولة مساواتية تمس بالأساس الشريحة العليا من الطبقات المتوسطة، تلك الشريحة التي يملك فيها الزوجان رأسمالا رمزيا حداثيا كبيرا، مما يؤهلهما معا لتقبل فكرة المساواة. لكن هذه الخلاصة لا تنطبق على كافة الدول العربية بنفس القوة حيث إن مساءلة الرجولة لا تطرح في دول الخليج العربي مثلا. ويعني ذلك أن أزمة الرجولة الإيجابية ترتبط بالدول العربية التي تبنت في سياساتها العمومية برامج إدماج المرأة في سوق الشغل وتنظيم الأسرة ومكافحة العنف ضد النساء وتشجيع قيام مجتمع مدني حقوقي ونسَوي.