نظام الأسرة بين الأصالة والمعاصرة: هل أصبحنا في المجتمع المغربي أمام مفترق طرق بين الزواج الديني والزواج المدني؟


فئة :  مقالات

نظام الأسرة بين الأصالة والمعاصرة:  هل أصبحنا في المجتمع المغربي أمام مفترق طرق بين الزواج الديني والزواج المدني؟

نظام الأسرة بين الأصالة والمعاصرة:

هل أصبحنا في المجتمع المغربي أمام مفترق طرق بين الزواج الديني والزواج المدني؟

في كل علاقة زوجية هناك مجموعة من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين التي من المفروض أن توزع بينهما بشكل عادل، حتى يتحقق لهما الاستقرار الأسري، حيث يكون ما من حق يستفيد منه أحد الطرفين إلا وفي مقابله واجب، ونلاحظ في مجتمعنا اليوم أن هذا التوزيع الحقوقي/ الواجباتي في العلاقة الزوجية ينبني تارة على مبدأ القوامة ذي المرجعية الدينية المنصوص عليه في القرآن الكريم: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم"[1]، وتارة أخرى ينبني على مبدأ الشراكة ذي المرجعية الحداثية، والذي فرضه السياق الدولي المعاصر المتمثل في المعاهدات الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان، وإدماج مقاربة النوع في مشاريع التنمية، وإقرار مبدأ المساواة بين الجنسين في حقوق المواطنة وواجباتها، لكن يبقى اختيار هذا النموذج الأسري أو ذاك هو أمر يختلف من فئة اجتماعية لأخرى بحسب متغيرها الثقافي، والاقتصادي، والبيئي، والتديني، وتقديرها الخاص لأي منهما أنسب لتحقيق المصلحة المشتركة بين الزوجين.

فما مفهوم كل من مبدأ القوامة والشراكة في الأسرة المعاصرة؟ وما طبيعة وخصائص كل من المبدأين؟ وهل يمكن التوفيق بين الدولي والمحلي في مجال الأسرة عبر الاجتهاد الديني والقانوني قصد إيجاد نظام أسري يواكب التغيرات الراهنة المعتبرة، ويحافظ في الآن نفسه على الخصوصية الدينية للأسرة المسلمة؟

أولا: مبدأ القوامة

إن مبدأ القوامة لا ينبغي أن يُفهَم على أنه مجرد حقوق وامتيازات للزوج على حساب زوجته، ولا أنه مجرد واجبات وتكاليف على الزوج لصالح زوجته، بل هو عبارة عن منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات المُوزَّعة بين الزوجين بشكل عادل، والتي يتم تنظيمها بطريقة تختلف جذريا عن الطريقة التي يعتمدها مبدأ الشراكة؛ فالزوج في نظام القوامة من واجبه وحده أن يتكفل بتأسيس الأسرة دون أدنى تكلفة تدفعها الزوجة، بل بالعكس هي من حقها أن تستفيد من المهر والهدايا المقدمة لها من طرف الزوج تأكيدا لرغبته في الزواج منها. وبعد إبرام عقد الزواج، تظل تستفيد من النفقة طيلة حياتها على قدر مستوى دخل زوجها الذي قد يتفاوت ما بين القلة والكثرة أو ما بينهما، وإذا لم تتوفر لديه الإمكانيات اللازمة لتأسيس أسرة مستقرة، فليس من حقه الزواج أصلا.

لذلك كان من واجب أي شاب مقبل على الزواج حسب نظام القوامة أن يبذل قصارى جهده في أن يوفر لزوجته المستقبلية كل شروط العيش الكريم الذي لا يقل عن مستوى عيشها في بيت أبيها من نوعية المأكل، والمشرب، والملبس، والمركب، والتمريض، والمسكن اللائق المزود بالأثاث والمفروشات والأدوات المنزلية اللازمة وغير ذلك من الاحتياجات الأساسية، حتى تجد كل الظروف مناسبة للتفرغ لممارسة أمومتها على أكمل وجه، بل وفي أحيان كثيرة تحرص الفتيات في إطار نظام القوامة على أن يحصلن على زوج يكون مستواه الاقتصادي يفوق مستوى عيش الأب طمعا منهن في عيش أفضل، فيجعلن من الزواج وسيلة لتحقيق الترقي الاجتماعي والاقتصادي، وإن كان في الأساس لم يُجعَل لذلك.

هكذا في نظام القوامة، كل الواجبات المرتبطة بإعالة المرأة تنتقل تلقائيا إلى مسؤولية زوجها بمجرد عقد الزواج بعد أن كانت في مسؤولية أبيها منذ أن ولدت، ولا تُطالَب الفتاة نهائيا بتحقيق استقلالها الاقتصادي لا قبل الزواج ولا بعده تكريما لها، ولا ريب في أن هذه المسؤوليات الملقاة على عاتق الذكور هي السبب في تأخر سنهم عن الزواج مقارنة مع الإناث، كما أنها أيضا هي السبب في جعل الشريعة الإسلامية نَصيبَ الذكر في الإرث ضعف نصيب الأنثى بناء على القاعدة القرآنية "للذكر مثل حظ الأنثيين"[2]، فكما أن للذكر ضعفَ نصيب الأنثى في المال الموروث، فله أيضا ضعفُ نصيبها في المسؤوليات المرتبطة بتأسيس الأسرة والإنفاق عليها وبشروط العيش عامة، ولو لم يكن مكلفا بهذه المسؤوليات لما استحق حظ الأنثيين، ولكانت الأنثى ترث مثلَ نصيب أخيها الذكر؛ لأنها ستتكفل حينها بالإنفاق على نفسها وأولادها ولن تحتاج لأي أحد يعيلها.

ولأوضح للقارئ أكثر، فلو فرضنا أن شخصا مات وترك ابنا وبنتا و30 مليون في حسابه البنكي، فصحيح أن الابن سيأخذ 20 والبنت 10، لكن ينبغي ألا ننسى أن مسؤوليات الابن تمثل ضعف مسؤوليات البنت أيضا، فأخوها تسقط نفقته على وليه بداية من سن 18 فقط، ومن الواجب عليه بعد هذا السن أن يعيل نفسه بنفسه، ولو أراد الزواج فمن تلك ال20 سيؤسس الأسرة، وسَيُخرِج منها المهر والهدايا، وتجهيز بيت الزوجية، والإنفاق على الزوجة والأولاد وكل من يجب عليه نفقتهم من الأقارب. أما أخته، فتبقى نفقتها واجبة على وليها حتى تتزوج، وإن هي تزوجت فمن واجب زوجها أن يُقدِّم لها المهر والهدايا ويقوم بتجهيز بيت الزوجية ويتحمل كل تكاليف الأسرة لوحده، وبالتالي يمكنها أن تدَّخر 10 ملايين لنفسها؛ لأنها لن تحتاجها بعد تكفُّل زوجها بكل المسؤوليات، ولربما أخوها لم يبق في حوزته هذا المبلغ بعد أداء كل تلك الواجبات المالية المكلَّف بها، حتى وإن ورث ضعف نصيبها.

ولمَّا كان الزوج في نظام القوامة هو المُؤسِّس للأسرة بتَحمُّله كل تكاليفها منذ أول لبنة فيها إلى آخرها، استحق بهذا الاعتبار أن يرأس المؤسسة الأسرية ويختص بالقيادة الزوجية الرشيدة؛ ذلك أن الواقع الإنساني أثبت أنه لا يمكن أن توجد أي مجموعة بشرية أو مؤسسة اجتماعية مهما تنوع مجال نشاطها دون أن يكون لها رئيس أو قائد يحفظ لها النظام والاستقرار والاستمرار، كما أثبت أيضا أنه لا يمكن أن يرأسها شخصان أو ثلاثة مهما وصلت درجة ديمقراطيتها في التدبير والتسيير، ومن نفس منطلق التأسيس أيضا كان للزوج الحق في إصدار قرار الطلاق وإنهاء مشروعه الأسري، إذا رأى أن من مصلحته أن يتوقف وأن نجاحه قد بات مستحيلا لأسباب مخصوصة.

وبصفة الزوج رئيسا لمؤسسة الأسرة أو المسؤول الأول عنها، يتوجب على زوجته أن تطيعه فيما لا يغضب الله تعالى من القرارات المتعلقة بتدبير الأسرة وتسيير شؤونها الداخلية والخارجية، اعترافا منها بما يقوم به من واجبات، وحفظا لاستقرار مؤسسة الأسرة، وضمانا لسلامتها، وخروجا من أي خلاف متوقع بين الزوجين بسبب قرار أسري معين، وصونا لحق الأطفال في بيت أسري آمن وحنون؛ وذلك مثلما يجب على أي امرأة عاملة أن تلتزم بالطاعة المهنية لمديرها أو رئيسها في مؤسسة عملها، وأن تحترم كل القوانين الداخلية والخارجية للمؤسسة دون أن تشعر بأدنى حرج؛ لأن طبيعة العمل تتطلب منها ذلك، غير أن الطاعة الزوجية تبقى أعلى مكانة وأشرف من الطاعة المهنية؛ لأن الزوجة تكون أقرب أكثر من رئيسها / زوجها الذي تربطها به علاقة عاطفية عميقة، فهي -إن شئنا أن نضع تحديثا لغويا معاصرا للتعبير عن دورها في نظام القوامة- بمثابة "مستشارة رئيس المؤسسة أو مساعدته أو نائبة عنه في حالة غيابه".

ولا شك في أن منطق القوامة يستبعد جدا فكرة التمييز الجنسي ضد المرأة داخل الفضاء الأسري، فلم يُكلَّف الرجل بالقوامة فقط؛ لأن جنسه ذكر، كما أن المرأة لم تُعف من القوامة فقط؛ لأن جنسها أنثى، بدليل أنه لو كانت الزوجة هي المؤسِّسة للأسرة بتحمل كل تكاليفها من البداية حتى النهاية كما يفعل الرجل، فستكون بهذا الاعتبار هي أولى بالقوامة وبوظيفة القيادة الزوجية الرشيدة، وسيكون من السهل جدا على الزوج أن يلتزم في المقابل بمبدأ الطاعة الزوجية مقارنة مع ما يعانيه في سبيل القيام بواجبات القوامة، وسيكون سعيدا بطاعة زوجته في كل قراراتها المتعلقة بتسيير الأسرة وتدبير شؤونها، ولن يتجاوز حدود منصبه المتمثل في مستشار أو مساعد أو نائب الرئيسة، فهل يكون من مصلحة الأسرة المعاصرة إذن قلب الأدوار بين الزوجين؟

والحقيقة أن الإشكال ليس في رئاسة الزوج لمؤسسة الأسرة؛ لأنه استحق هذا المنصب عن جدارة، وذلك بصفته مؤسِّسا فعليّا لها، وأنه الأقدر على تدبير مصالح الأسرة في مختلف أحوالها وأوضاعها التي تمر منها نتيجة ما يمتلكه من تجارب وخبرات تأتي من فارق السن بين الزوجين؛ إذ هو الأكبر سنا في الغالب، ثم ما يتميز به دوره الاجتماعي من احتكاك بالفضاء الخارجي بنسبة أكبر، حيث مصدر عيشه وقوت يومه، وما أهدته طبيعته البيولوجية من قوة جسمانية وقدرة على المهام الصعبة وتفرغ في الحيز الزمني أكبر مقارنة بالمرأة التي يجب أن تقضي غالب وقتها في وظيفتها الطبيعية المتمثلة في الأمومة حملا، ووِلادة، وحضانة، ورعاية.

وإنما الإشكال بالأساس فيما إذا كان هذا الزوج رئيسا مستبدا أو عادلا! فيمكن أن يكون رئيسا ظالما، لا يحسن معاشرة زوجته بالمعروف، ولا يراعي فيها حقوق الله، وربما يمارس عليها المَنّ قولا وفعلا بما يقوم به من واجبات تجاهها، وقد يطالبها في المقابل بخدمات إضافية فوق واجباتها الشرعية، ويستغلها ويستخدمها، بل ربما يعنفها لفظيا وجسديا.. كما يمكن أن يكون رئيسا خيِّرا، يعتمد مبدأ الشورى مع زوجته في تدبير الأسرة، ويحترم رأيها، ويحبها، ويتفانى في خدمتها، وينفق عليها امتثالا للواجب الإلهي الذي كلفه الله به دون أن يريد بذلك لا جزاء منها ولا شكورا، ثم اعترافا منه بجميل صنيعها في واجباتها الزوجية، وبحسن أمومتها لفلذات كبده، فهذا النموذج الأخير بالتأكيد لا يُشكِّل أي مشكل للزوجة داخل أسرتها، بل على العكس من ذلك يشكل مصدر سعادتها، ويعطينا صورة حضاريَّة لنظام القِوامة الذي في أصله جاء يخدم المرأة ويضمن استقرارها النفسي وأمْنها الاقتصادي لولا تحريفات العادات والتقاليد.

وهناك عوامل كثيرة تتدخل في جعل هذا الرئيس الأسري خيِّرا أو شريرا مثله مثل باقي رؤساء المؤسسات؛ فمنها ما هو نفسي ومنها ما هو ثقافي ومنها ما هو اقتصادي.. غير أن أهم عامل هنا في مؤسسة الأسرة، إنما يكمن في حضور أو غياب البعد الإيماني لديه؛ ذلك أن الحقوق الزوجية في نظام القوامة تكون مرتبطة أساسا بالعامل الديني والإيماني لكلا الطرفين، ومن ثم كان هو الضامن الوحيد لحمايتها وصيانتها، فكلما كان حاضرا قويا عند الزوجين إلا وكانت محمية ومحفوظة به، وكلما كان غائبا أو ضعيفا إلا وغابت بغيابه وضعفت بضعفه؛ فالعديد من التجارب الأسرية في مجتمعنا اليوم تؤكد أن الرقابة الإلهية وحدها لا تكفي عند الكثير من الأزواج في التوظيف السليم للقوامة ومنعهم من الشطط في استعمال سلطتها، لدرجة أنها تحولت لدى بعضهم إلى تسلط وتجبر وقهر وعنف واستبداد واستغلال، مما جعلها شيئا مخيفا للمرأة المعاصرة وكأنها في نظرها كلمة مرادفة للظلم والعنف والإكراه، فبمجرد أن تسمعها تشمئز نفسها وينقبض قلبها.

لذلك قامت فئة من النساء في شكل تنظيمات وحركات نسائية تثور في وجه هذا الظلم الذكوري الممارَس على المرأة باسم القوامة، ولم تُحمِّل المسؤولية فقط لعينة من الأزواج الذين أساءوا استعمال القوامة، بل حمَّلتها لنظام القوامة ككل، مع أنه بريء من هذه التهمة لو تم توظيفه على وجهه المشروع دينيا من دون تحريف العادات ولا تزييف التقاليد، وهذا طبعا يتطلب مجهودا جبارا في تربية الإنسان المعاصر على القيم الدينية الأصيلة التي تُنزِّل حقوق العباد منزلة حقوق الله المقدسة، وبالتالي فاحترامها هو من احترام المقدس.

لذلك من ضمن مبادئ نظام القوامة الجديرة بالذكر هنا، هو مبدأ المكارمة بين الزوجين الذي ينادي بأهميته فقهاء الشريعة الإسلامية بعبارتهم الشهيرة: "الزواج مبني على المكارمة لا على المشاطرة أو المحاصصة"، وهو يعني أن يتكرم كلا الزوجين على بعضهما بالتنازل عن بعض الحقوق الخاصة بكل منهما، كما لا يقفان فقط عند حدود القيام بالواجب الأسري تجاه بعضهما، وإنما يحاولان تعديه إلى شيء أكبر من الواجب؛ وذلك طبعا بعد أن يعرف كل من الزوجين ما له من حقوق وما عليه من واجبات. أما قبل ذلك، فلا يمكنهما العمل أصلا بمبدأ المكارمة؛ لأن كلا منهما سيكون جاهلا بحقه فكيف سيتنازل عليه، أو جاهلا بواجبه فكيف سيقوم بأكثر منه؟

ولعل أهمية هذا المبدأ تكمن أساسا في إبعاد الأسرة عن فكرة التعاقدية التي لا تؤمن بالعطاء إلا بعد الأخذ؛ فكل طرف يصير يركز على الأخذ قبل العطاء، فتتحول الأسرة إلى مؤسسة تجارية تنافسية بين الزوجين، يحرص كل طرف على كسب أكبر قدر ممكن من الحقوق والامتيازات والمصالح الشخصية، ويغفل في المقابل عن المصالح المشتركة بينهما، والمصالح العامة للأسرة والأطفال وما يرتبط بذلك من القيم النبيلة والمصالح الأخروية الآجلة، فتتجرد العلاقة الزوجية من حميميتها ومن صفة القداسة التي يضفيها عليها الطابع الديني، حينما يستشعر كل طرف أن الله تعالى بعدله ورحمته وبتعاليمه الآمرة والناهية طرفا ثالثا في العلاقة الزوجية، ومن ثم في علاقة الأبوة والأمومة والبنوة والأخوة، فتتقوى أواصر الأسرة المسلمة وتصير حسن المعاملة مع الأهل والأقارب وذوي الأرحام موردا حقيقيا للاستثمار الأخروي مثلها مثل باقي العبادات والقربات والطاعات، فيطمح كل فرد داخل مؤسسة الأسرة أن يجني أرباحا أخروية طائلة من وراء هذا المورد.

ثانيا: مبدأ الشراكة

إذا كانت القوامة مبدأ دينيا بكل ما تحمله هذه النسبة من معنى، فإن الشراكة مبدأ حداثي ظهر مع مفهوم الدولة الوطنية الحديثة وكل ما أتت به من قيم جديدة ترتبط بمفهوم المساواة بين الجنسين في حقوق المواطنة وواجباتها، وبإدماج مقاربة النوع في المشروع التنموي للبلاد. وبناء عليه، فإن الشعب من كلا الجنسين يجب أن يعيش مواطنته داخل أسرته كما في باقي الفضاءات الاجتماعية الأخرى، مما يعني أنه لا سلطة لأحد على أحد لا داخل الفضاء الأسري ولا خارجه، وإنما سلطة القانون وحدها فوق الجميع، فالفرد ذكرا كان أو أنثى عندما يتسلم بطاقته الوطنية، فإنه يصبح مواطنا مؤهلا لتحمل مسؤوليته الشخصية ولا يبقى تحت مسؤولية أي أحد لا في حياته العائلية ولا الاقتصادية، ولا المدنية بشكل عام، ومن العيب كل العيب أن يظل أي فرد عالة على فرد آخر أو تحت حمايته أو وصايته، أو خاضعا لسلطته مهما كانت العلاقة أو الرابطة بينهما، وهنا نستحضر فلسفة جون جاك روسو -كواحد من أهم المنظرين لمفهوم الدولة الوطنية الحديثة- في قضية الملكية الخاصة وأهميتها القصوى في تحقيق الحرية والاستقلالية للأفراد والجماعات، حيث يرى أنه لا يمكن لأي أحد أن يتمتع بحرية حقيقية دون أن تكون له ملكية خاصة، وكما قالت العرب قولتها في هذا الصدد: "من لم يأكل من فأسه لم ينطق من رأسه".

وبناء على ما سبق، فإن تأسيس الأسرة يجب أن يتم بالشراكة بين الزوجين طبقا لمبدأ التعاقد الاجتماعي؛ وذلك بدءا من المبادرة في التعارف والخِطبة، ثم الاختيار الحر للشريكين دون أن يتوسط أي طرف ثالث بينهما من أقرباء الزوجة، ثم إلغاء الولي في عقد الزواج؛ لأن دوره المتمثل في حماية قريبته من الإذاية لم يعد له أي معنى، ولم تعد الفتاة المعاصرة أصلا في حاجة إليه؛ إذ صارت قادرة على حماية نفسها بنفسها والقانون هو الذي يحمي الجميع أولا وأخيرا، ثم مسألة المهر والهدايا يجب أن تكون متبادلة من الطرفين كليهما أو يتم الاتفاق على إلغاء ذلك بشكل نهائي، ثم مسؤولية تجهيز بيت الزوجية وتحمل تكاليف الأسرة من مصاريف المأكل والمشرب والملبس والمركب والمسكن، وأثاث البيت، والتمريض، وأداء فاتورة الماء والكهرباء والأنترنت، وتمدرس الأطفال.. كل هذا يجب اقتسامه بالتساوي بين الزوجين، كما يقتسم بينهما أيضا العمل البيتي من رعاية الأطفال والتنظيف والطبخ وغير ذلك، وبالنسبة إلى التدبير المالي للأسرة فيعمد كلا الزوجين إلى فتح حساب بنكي مشترك بينهما، يكون خاصا بشؤون الأسرة ومنافعها المشتركة، على أن يستقل كل طرف بحساب بنكي آخر يستعمله في منافعه الخاصة أو يستثمره في مشاريع معينة تخصه وحده، وليس لأحد الطرفين الحق في مال الآخر بشكل نهائي، فكما أن الزوج لا حق له في مال زوجته فكذلك لا حق للزوجة في مال زوجها، أو يمكن أن يكون كلاهما له حق في مال الآخر، فكما أن الزوجة يكون لها حق في مال زوجها فكذلك الزوج يكون له حق في مال زوجته، أما أن تكون الزوجة فقط لها حق في مال زوجها دون العكس فهذا مرفوض في نظام الشراكة، وبخصوص العلاقة الجنسية يجب أن تكون رغبة الزوج في الجنس مساوية لرغبة الزوجة حتى لا يتفاجأ برفض طلباته الجنسية من طرف زوجته ما بين الفينة والأخرى، حيث ينبغي تفادي فكرة اللامساواة الجنسية وأن الذكر هو الأقوى جنسيا وأنه المستمتع الأكبر في العملية الجنسية بحكم أنه كان -تاريخا- هو من يدفع المقابل للأنثى، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، في الممارسات الجنسية المشروعة أو غير المشروعة، ثم رئاسة مؤسسة الأسرة يجب أن تكون مشتركة بين الزوجين، فتكون لدينا أول مؤسسة اجتماعية تحت رئاسة شخصين، فتصبح مهددة بالسقوط عند أول خلاف بينهما في أبسط شأن من شؤونها الإدارية، ثم الولاية على الأطفال يجب أن تكون لكلا الوالدين وليس للأب فقط؛ لأن كليهما ينفق، كما أن الاسم العائلي للطفل يجب أن يكون مركبا من الاسم العائلي للأب والاسم العائلي للأم.

هذا كله من مستلزمات مبدأ الشراكة الذي له نسق مساواتي متكامل بين الزوجين، وفي ظل هذا النسق التشاركي لا ينبغي طبعا أن يُنظر للزوجة على أنها مسترجلة تقوم بدور الزوج في الإنفاق على الأسرة وإصدار القرارات في شؤونها الداخلية والخارجية، أو يُنظر للزوج على أنه ليس مسؤولا بما يكفي ويتم الانتقاص من رجولته، ذلك أنه نظام أسري له معاييره الخاصة تختلف جذريا عن معايير نظام القوامة، حيث جاء استجابة لواقع اجتماعي فرض نفسه بنفسه، يتمثل أساسا في إدماج الدولة مقاربة النوع في خطتها التنموية، واعتمادها مبدأ المساواة بين الجنسين في حقوق المواطنة وواجباتها، خاصة حق المساواة بين الجنسين في مجال التعليم والعمل، فاستفادة المرأة من هذين المجالين بشكل كبير في العقود الأخيرة بالمساواة مع الرجل هو أساس هذا التغيير الذي طرأ على الأسرة المعاصرة، والذي أضحى يشكل حاجة ماسة إلى إصلاح جذري لمؤسسة الأسرة، وإعادة بناء مفاهيمها الهيكلية كمفهوم الرجولة، والأنوثة، والأبوة، والأمومة والأدوار المنوطة بكل مفهوم، ذلك أن كلا الجنسين يشتركان في نفس التعليم المدرسي والجامعي والتكوينات المهنية، ثم تُفتَح أمامهما نفسُ فرص الشغل، والاحتكام فقط يكون للكفاءة المعرفية أو المهنية، وكل تمييز بينهما على أساس الجنس يعاقب عليه القانون، وبالتالي عندما يصلان إلى مرحلة تأسيس الأسرة فيكونان متكافئين من كل الجوانب والقدرات والكفاءات، فيجدان أمامهما مبدأ الشراكة أنسب لأسرتهما من مبدأ القوامة.

ولو تأملنا بعمق بنية الأسرة التشاركية سنجد أنها مجردة في الغالب من القداسة الدينية على عكس أسرة القوامة، كما سنجدها ألغت من الاعتبار كل الاختلافات والفروقات الجنسية، وتجاهلت كل خصائص الأنوثة وخصائص الرجولة سواء في الجانب النفسي، أو الفيزيولوجي، أو الفكري، أو الاجتماعي، واعتبرت فقط البعد الإنساني / الوطني / المساواتي / التشاركي، ورغم اعتمادها هذا البعد، إلا أنه لا يتم تطبيقه على أرض الواقع الأسري بشكل كامل كما هو في الأسر الغربية، وإنما يتم الاقتصار فقط على تطبيق جزء منه مع الاحتفاظ بجزء من القوامة، والإشكال الذي يحصل هنا -ويسبب معظم المشاكل الأسرية اليوم- هو عندما يستغل أحد الطرفين هذا الجمع بين نظام الشراكة والقوامة لصالحه وحده بكل أنانية وانتهازية، حيث ينتقي فقط ما يوافق مصلحته ويترك الطرف الثاني لا هو مستفيد من الشراكة ولا من القوامة، وربما هذا الخطأ ترتكبه حتى الجهات المسؤولة عن تعديلات مدونة الأسرة وليس الزوجان فقط.

فلا زال - مثلا- هناك العديد من الزوجات المستقلات اقتصاديا تستفيد من مبدأ القوامة في وجوب النفقة على الزوج وترفض المشاركة في تحمل تكاليف الأسرة من بداية تأسيسها إلى نهايتها، مستغلة في ذلك الدين والقانون، ومهما حققت من الاستقلالية الاقتصادية، فإنها لا زالت تتصور أن 90% من رجولة الزوج تتمثل في تحمل المسؤوليات المالية للأسرة، وأنها تستعمل شعار: "فلوسي فلوسي، وفلوسك فلوس الدار"؛ بمعنى أنها كزوجة لها حق في مال زوجها شرعا وقانونا، لكن هو كزوج لا حق له في مالها جملة وتفصيلا، كما تستفيد في المقابل من مبدأ الشراكة في إسقاط الطاعة الزوجية وتعتبرها مبدأ ذكوريا لا صلة له بالدين؛ وذلك لأنه مناقض لمبدأ الحرية الفردية الذي يمنع الزوج منعا كليا من أي تدخل في شؤون زوجته الخاصة والعامة. وكذلك لا زالت هناك فئة من الأزواج تستفيد من القوامة في الخدمات المنزلية المجانية التي تقدمها الزوجة دون أدنى مساعدة من الزوج، كما تستفيد في المقابل من الشراكة في الانتفاع من مال الزوجة أو جزء منه معتبرا أن من حقه ذلك. هكذا ينتج عن هذه الازدواجية المعيارية وهذا التلفيق الانتهازي بين القوامة والشراكة نظام أسري مشوه لا صلة له لا بالعدل ولا بالمساواة.

إنه لمن الجميل فعلا أن يجلس الزوجان على طاولة الحوار ويناقشان مسألة تنظيم الحقوق والواجبات المتبادلة بينهما على ضوء كل من مبدأ القوامة والشراكة، ثم ينتقيان من المبدأين ما يناسب مصلحتهما المشتركة بدل انتقاء كل طرف ما يصلح له فقط، ويبقى الطرف الثاني ضحية العلاقة الزوجية مدة استمرارها في الوجود. ومن المهم الإشارة إلى أن هذا الانتقاء بين امتيازات كل من القوامة والشراكة بطريقة تخدم مصلحة الطرفين هو منهج يستحق أن يعتمد في تعديلات قوانين الأسرة المرتقبة؛ ذلك أن تطبيق نظام القوامة بشكل حرفي كما كان في الماضي لا يتماشى مع العديد من التغيرات الاجتماعية اليوم، كما أن تطبيق نظام الشراكة بشكل حرفي لا يتماشى مع خصوصية الشعوب والأسر المسلمة، فلا يبقى إذن إلا التوفيق العادل بين النظامين.

وعلى الرغم من الحضور البارز للأسرة التشاركية بين الشباب المعاصر ولو بتطبيقها الجزئي لمبدأ الشراكة، فإننا لا زلنا نلاحظ أن الشاب بمجرد أن يحصل على عمل ويضمن لنفسه استقرارا اقتصاديا، فإن أول ما يفكر فيه هو تأسيس الأسرة، ولا يبخل بمشاركة هذا الاستقرار مع إحدى المواطنات بالزواج منها على سنة الله ورسوله، بل إنه ليعتبر ذلك من دواعي سروره ومن كمال رجولته، وربما ينقذها من معاناة الفقر والبطالة ويكرمها عنده، فالعمل بالنسبة لأي شاب مقبل على الزواج لا زال يعتبر شرطا أساسيا، فالمجتمع لا يسمح له أن يفكر في بناء أسرة دون تحقيق استقراره الاقتصادي، بل وحتى إذا قرر الزواج دون عمل فلن توافق أي فتاة على الزواج منه، وحتى إذا وافقت الفتاة لسذاجتها وعدم معرفتها جيدا بدروب الحياة فأكيد أن عائلتها لن توافق على تسليم فلذة كبدها لشخص عاطل عن العمل، في حين أن العمل بالنسبة لأي فتاة مقبلة على الزواج لا يشكل أي شرط لزواجها، ولا علاقة له نهائيا بتأسيس أسرتها، بل ربما ستفكر في فسخ خطوبتها إذا علمت أن خطيبها عرض عليها الزواج بسبب وظيفتها المرموقة في المجتمع، ذلك أنه -حسب التمثل الاجتماعي السائد- طماع في مالها بهذا الزواج، لذلك فهي بمجرد حصولها على وظيفة أول شيء تفكر فيه هو كونها صارت مستقلة بذاتها ولم تعد تابعة للرجل أبا كان أو زوجا.

ومن جملة التناقضات التي لا زال يعيشها مجتمعنا اليوم بإقرار من القانون هو كيف للمرأة المستقلة اقتصاديا أن "تَغْنَمَ دون أن تَغْرَم"؛ أي كيف للقانون أن يُمَكِّنها من أخذ حق دون أن يُلزِمها في المقابل بتأدية واجب، فإذا كان القانون قد أقر مبدأ المساواة بين الجنسين في العمل فلماذا لم يقر أيضا حتى المساواة بينهما في تحمل المسؤوليات المالية المترتبة عن هذا العمل بما في ذلك تأسيس الأسرة والإنفاق عليها؟! ثم ماذا عن المرأة العاملة في بيتها التي تتفرغ -اختيار أو اضطرارا- لصناعة مواطنين صالحين ومواطنات صالحات.. أليس من حقها أن تأخذ أجرة تليق بمقام عملها الشريف ولو يتم اقتطاعها من حساب زوجها؟

في الختام أرجو أن أكون قد وفقت في محاولة تقريب كل من نظام القوامة ونظام الشراكة، وأود التأكيد أن الأسرة اليوم تعاني من أزمة الغموض في الحقوق والواجبات بين الزوجين نتيجة الخلط بين التقليدي والحداثي، كما تعاني أيضا من أزمة غياب التوزيع العادل في هذه الحقوق والواجبات نتيجة الانتهازية في الجمع بين نظام القوامة والشراكة؛ فكل طرف يحرص على أن يستأثر بأقصى قدر ممكن من الحقوق المقررة داخل النظامين، ويتجاهل تلك الواجبات الموضوعة بإزاء كل حق، ولعل الوجه البارز لهذه المعاناة يتمظهر أساسا في تزايد نسب الطلاق في العقود الأخيرة سنة بعد سنة، ومن ثم فالأزمة بالأساس هي أزمة نظام أكثر مما هي أزمة أشخاص، فليس الزوجان في الماضي بأكثر حكمة وعلما وعقلانية من الزوجين في الحاضر، حتى يكون هذا الفارق المهول في نسب الطلاق بين الزمنين، وإنما كان الزمن الماضي يمتاز بأحادية النظام الأسري ووضوح في الحقوق والواجبات الزوجية، في حين أن الزمن الحاضر يمتاز بالازدواجية والتعددية في المعايير المنظمة لهذه الحقوق والواجبات، حيث امتزج فيها ما هو دولي بما هو محلي بسبب الانفتاح الثقافي بين الشعوب، فلا شك إذن أن فهم المشكل فهما سليما يمثل جزءا مهما من الحل!

[1] سورة النساء، آية 34

[2] سورة النساء، آية 11