مسيحيون أتقياء... بقوة القانون؟


فئة :  مقالات

مسيحيون أتقياء... بقوة القانون؟

مسيحيون أتقياء... بقوة القانون؟

كان التصرف العنيف الوحيد الذي أتاه المسيح كما يخبرنا الإنجيل هو طرده للباعة والصيارفة من الهيكل بالقوة، وإلقائه البضاعة التي ازدحم بها بيت الله. ولا نستطيع لومه على هذا فهو ابن الله وهذا هيكل الله "بيت أبيه" كما يؤمن المسيحيون، وهناك حكمة شعبية تقول: "من حكم في ماله فما ظلم".

رجل الدين من حقه الحفاظ على النظام الذي سنته المؤسسة الدينية التي يتبعها؛ فمن حق القس مثلا أن يلتزم فقط بأصول الزواج التي وضعتها كنيسته؛ فمن حق كل إنسان أن يمارس شعائره كما يريد سواء أعجبتنا أم لم تعجبنا مادام لا يوقع الأذى بغيره، ولا يفرض عقيدته على آخر. إذن، فمن حيث المبدأ من حق الكنيسة ألا تقر الزواج داخلها إلا لمن ينتمي إليها، وبالشروط التي تضعها؛ فمن حقها مثلا رفض عقد زواج أرثوذكسي على غير أرثوذكسي أو غير مسيحي أو مطلق.

ولكن في حالة الكنيسة المصرية نجد المعادلة ناقصة، فأنا لا أملك حق الاختيار من الأساس حتى نقول إن الكنيسة من حقها وضع النظام، ومن حقي أن أوافق على شروطها أو لا أوافق، وفي الحالة الثانية أتزوج بطريقة أخرى؛ فأولا: في بلادنا لا نختر ديننا فقد أكون ملحدا مثلا، ولكنني أعامل قانونيا واجتماعيا على أني مسلم/مسيحي؛ لأني أنتمي لأسرة مسلمة/مسيحية، ثانيا: لا يوجد زواج مدني حقيقي ميسر، حتى تكون عندي حرية الاختيار، كما أن للمؤسسة الدينية حرية سن نظمها.

يلجأ البعض إلى رفع قضايا ليتمكنوا من الزواج المدني. وهنا نجد أن الكنيسة قد تدخلت وخرجت من محيطها لتمنع بالقانون أيضا هذا الزواج الذي يتم خارجها. ولست هنا بصدد مناقشة دستورية هذا التصرف من عدمه، ولكني أناقش مدى "مسيحية" هذا التصرف.

فبغض النظر عن رأيي في مفهوم الزواج في المسيحية، والذي تختلف الآراء فيه، فالكنيسة الأرثوذكسية ترى أنه "سر" من أسرارها، ولابد أن يتم بين اثنين من أبنائها وبشروط معينة، وفيما عدا هذا، فلا يعترف به كزواج مسيحي. لن أناقش هذا هنا وسأعتبر الكنيسة محقة في مبدئها هذا، فهل هي محقة في محاولة إجبار الناس على الالتزام بما تراه وصية باستخدام قانون الدولة؟

- يفصل المسيح الكنيسة عن الدولة بوضوح، عندما يفصل بين المملكة الروحية التي هو ربها وعرشه قلوب المؤمنين به، وبين السلطة الزمنية وعرشها، وما تستلزمه من هيئات قضائية وقوة تنفيذية...إلخ عندما حاول الناس تنصيبه ملكا فهرب منهم، ورفض هذا قائلا كلمته التي أرسى بها مبدأ علمانية المسيحية: "مملكتي ليست من هذا العالم".

- عمل المسيح عمل روحي بحت، وهو يأخذ موقف الداعي قائلا: "هأنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه.." فهو لا يقتحم البيت ويجذب الناس من أقفيتهم ليطيعوه، لكنه يقف سائلا، فإن سمعوا؛ أي إن استجابت قلوب الناس ووجدانهم لتعاليمه، واختاروا بإرادتهم أن يتبعوه، هنا فقط يدخل المسيح.

- لم يقل المسيح رأيه في سياسة الدولة، رفض هذا وفصل بين ما للرب وما للحاكم عندما قال: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله".

- رفض أيضا استخدام القوة حتى للدفاع عن نفسه، عندما جاء العسكر ليمسكوا به وقال لتلميذه: "ضع سيفك في الغمد".

- في التبشير بالمسيحية، أوصى المسيح رسله بأن يتحدثوا إلى الناس عن الملكوت، فمن سمع سمع ومن لم يسمع، فعلى الرسل أن يغادروا المكان، ولا يأخذوا معهم حتى التراب الذي لصق بأحذيتهم، فلا إجبار البتة، بل كان المسيحيون دائما كما وصفهم المسيح: "حملان وسط ذئاب"؛ لما اتسموا به من وداعة واستسلام.

- يقول الكتاب المقدس: "لقد دعانا المسيح في الحرية"، ودائما ما كان المسيح يستخدم عبارة "من له أذنان للسمع فليسمع".

- غسل المسيح المتضع أرجل تلاميذه دلالة على غسل الله أدران الحياة اليومية عن المؤمنين، ولما رفض بطرس حياءً لم يعنفه المسيح أو يجبره، بل خيره قائلا: "إن لم أغسلك لا يكن لك معي نصيب".

- يحب الكثير من أبناء الكنيسة الأرثوذكسية أن يقتبسوا كلمة المسيح لبطرس: "أعطيك مفاتيح ملكوت السماوات"، لتكون تصريحا لرجال الدين بالتحكم الكامل في حيوات الناس ومصائرهم، والحقيقة أن المقصود هنا هو القدرة الروحية التي يمنحها الإيمان للمؤمن، والتي تحدث عنها العهد الجديد في مواضع أخرى، فالمسيح يقول: "أعطيكم سلطانا أن تدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو "إبليس"، ويقول الإنجيل أيضا: "إن مصارعتنا ليست مع لحم ودم بل مع رؤساء، مع سلاطين، مع ولاة هذا الدهر علي أجناد الشر الروحية"؛ أي أرواح الشر، ويقول: "أسلحة محاربتنا ليست جسدية"، فرجل الدين لا يستخدم في حربه مع الشر قوة القضاء والمحاكم، ولكنه يستخدم القوة الروحية: الإيمان المحبة، الصلاة....

يستلزم الإتيان بكل الأدلة الكتابية علي الحرية التي اعترف بها المسيح للناس في الإيمان به من عدمه، وفي عدم استخدامه أيّ قوة بشرية لإلزام المؤمنين أو غير المؤمنين بتعاليمه أن نكتب كل ما جاء في الإنجيل. وإنه لمن المحزن أن يضطر المرء لمحاولة إثبات أمر بديهي كهذا، وأن نضطر أيضا في القرن الحادي والعشرين أن ندافع عن حق من أبسط الحقوق التي كفلتها الحضارة البشرية للإنسان، فكيف برسالة سامية كالمسيحية؟

يعاني المسيحي من أوجه تميز تتفاوت في درجاتها، فهو في الصعيد مثلا غير آمن على حياته تماما، وقد يزج به في السجن أو يطرد أو يقتل لأوهى الأسباب. وفي كل مكان في بلادنا يعاني من فرض شعائر دين آخر عليه في المدرسة، وفي المواصلات والأماكن العامة والمصالح الحكومية ووسائل الإعلام...إلخ، والمسيحي الحر المثقف ذو الشخصية المستقلة يعاني أيضا من وطأة محاولات الكنيسة الأرثوذكسية المصرية "الأبوية" بمعني الكلمة لفرض سيطرتها علي حياته، فكأني به المسيح المصلوب من جهتين، ولا يستطيع فكاكا فهو مكبل بانتمائه لوطنه من ناحية، وبانتمائه الديني من ناحية أخرى.