قراءة في كتاب: الدين والمجتمع؛ "دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب" للدكتور عبد الغني منديب


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب: الدين والمجتمع؛  "دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب" للدكتور عبد الغني منديب

قراءة في كتاب: الدين والمجتمع؛

"دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب" للدكتور عبد الغني منديب

بقلم: المصطفى بن خجو

 

أولا: تقديم:

لا يخفى على كل متخصص في الحقل السوسيولوجي مدى صعوبة دراسة الظاهرة الاجتماعية دراسة موضوعية وصفية تحليلية باتباع مناهج البحث العلمي من أجل الكشف عن القوانيين والميكانيزمات التي تحكمها؛ وذلك بسبب اتحاد الذات الباحثة مع الموضوع المبحوث شأن كل العلوم الإنسانية والاجتماعية التي موضوعها الإنسان، الشيء الذي يفسح المجال أمام الإيديولوجيا لتغلبها على العلم وإسقاط الرغبات والانطباعات المسبقة بوعي من الباحث أو دون وعي منه عند وصف الظواهر الاجتماعية وتحليلها بدل إبراز ما هو كائن فيها حقيقة.

ويزيد الأمر صعوبة، حينما تكون هذه الظاهرة الاجتماعية لها مساس كلّي أو جزئي بالمقدسات والمعتقدات والطقوس الدينية والهويات الثقافية للمجتمعات المدروسة كظاهرة التدين على سبيل المثال، حيث يصعب جدًّا على الباحث أن يفصل بين ذاته كباحث سوسيولوجي رهين بمناهج، وآليات البحث العلمي التي تستدعي تطبيقها موضوعيا لاستخلاص النتائج العلمية التي تعكس أو تقارب الواقع المدروس، وبين ذاته كإنسان يحمل في نفسه نوازع بشرية ومواقف شخصية واتجاهات نفسية تجاه هذه الظواهر والمعتقدات الدينية التي قد تكون توافق معتقداته أو تخالفها، تلائم أهواءه النفسية أو تعارضها، تحقق مصالحه أو تحول دون تحققها.. إلى غير ذلك مما يعرف في أدبيات العلوم الاجتماعية بالإيديولوجيا التي من أهم ما قيل في تحديد معناها: قناع يخفي مصلحة ذاتية.

ولعل الدراسات الكولونيالية التي أقيمت عن المجتمع المغربي بشكل عام، وعن الحياة الدينية منه بشكال خاص، خلال مرحلة القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين خدمة للاستعمار الفرنسي، أبلغ نموذج على هذا التحدي الابستمولوجي في حقل السوسيولوجيا، حيث تناول الدكتور المغربي عبد الغني منديب بالدراسة والنقد هذه الدراسات في كتابه هذا الذي نحن بصدد تقديم قراءة فيه، وحاول التمييز بين جانبها العلمي السوسيولوجي الذي يخدم الإنسانية جمعاء، وبين جانبها الإيديولوجي الكولونيالي الذي يخدم مصالح المستعمر، وقام بغربلته قدر الإمكان من مختلف الشوائب الإيديولوجية في مقابل تثبيت قوائمه العلمية المرتبطة بموضوع التدين، ثم أعقب ذلك بأهم إسهامات الأنثروبولوجيا الأنجلوسكسونية في دراسة الظاهرة الدينية المغربية، بالإضافة إلى عرضه لنتائج بحثه الميداني حول التدين بالمجال الدكالي كنموذج للتدين بالمجتمع المغربي؛ سواء فيما يتعلق بتمثلات المغاربة عن الحياة والكون والطبيعة والمجتمع الأمر الذي يعكس التدين في بعده الاعتقادي أو فيما يتعلق بالممارسات والطقوس الدينية التي تعكس التدين في بعده العملي والطقوسي، ثم ما يميز هذا البعد الأخير من تنوع يتأرجح ما بين الكوني والمحلي وما يعرض له من حالات وعوارض طارئة تتمثل في وجوده وانعدامه، استمراريته وانقطاعه، تغيره وثبوته.

لذا كان هذا الكتاب يبلغ من الأهمية بمكان في نظر الباحثين النقاد؛ فإذا كان الكل يتفق على أهمية تناول موضوع التدين من الناحية السوسيولوجية، وعلى أهمية الإشكالية القائمة على التمييز بين العلم والإيديولوجيا في السوسيولوجيا الكلونيالية، وعلى أهمية سؤال النشأة والتأسيس لسوسيولوجيا مغربية متحررة من ربقة الموروث الكولونيالي، فيجب أن نقر أيضا بمدى نجاعة وشجاعة هذا الكتاب الذي أدلى بدلوه في معالجة هذه القضايا الإشكالية بكل دقة واحترافية موضوعيا ومنهجيا، مسهما بدوره بتقديم خلاصات ونتائج علمية ميدانية عن التدين المغربي لا يستهان بها سوسيولوجيا. وإذا كان كل بحث علمي يشرف باختيار موضوعه أولا، ثم بالمناهج المتبعة فيه ثانيا، ثم بالنتائج المحصلة فيه ثالثا، فإن هذا مما يزيد في التأكيد على أهمية هذا الكتاب ويرفع من مكانته العلمية.

وبصفتي باحثا في حقل علوم الشريعة الإسلامية ومقارنة الأديان بالموازاة مع العلوم السوسيولوجية، يجدر بي أن أكون ملما بما أنتجته السوسيولوجيا عن موضوع التدين بشكل عام وعن التدين المغربي بشكل خاص؛ لأن ميزة بحوثها حول التدين، باعتباره طريقة معينة يعيش بها الناس معتقداتهم الدينية في حياتهم اليومية، تكمن في رصد وتحليل كافة الأبعاد التطبيقية لهذه المعتقدات الدينية دون الخوض بالضرورة في أسسها النظرية؛ فالسوسيولوجي لا يهمه البحث في مضامين النصوص المقدسة أو في المناهج والطرائق الصحيحة لتحليلها وفهمها فهما سليما، أو ما إذا كانت الاعتقادات والطقوس الدينية صحيحة من الناحية الشرعية أو غير صحيحة، بل يهمه البحث في السلوك الديني في المجتمع والكشف عن دوافعه وأدواره الاجتماعية بغض النظر عن باقي الحيثيات الأخرى، وبتعبير آخر يبحث في التدين بمعناه الشعبي الممارس والمتداول عند عامة الناس في المجتمع، ولا يهمه بحال من الأحوال مفهوم التدين بمعناه الفقهي الأكاديمي.

ومن المهم الإشارة إلى أن الكتاب الذي بين أيدينا يعتبر جزءا من المشروع السوسيولوجي للدكتور منديب، والذي رد فيه - كما رأينا- على دراسات سابقة من جهة، وعمق البحث من جهة ثانية في ظاهرة التدين التي وإن كانت الدراسات السوسيولوجية قد تناولتها قديما إلا أن طريقة طرحها ومعالجاتها في هذا الكتاب لا شك تتسم بطابع التجديد والإبداع؛ لا من ناحية أشكال وأنماط التدين المغربي التي تم التركيز عليها، ولا من ناحية المفاهيم والمناهج الدراسية التي تم الاعتماد عليها، ولا من ناحية النتائج البحثية التي تم التوصل إليها. ولم تقتصر الإسهامات السوسيولوجية للدكتور منديب على موضوع التدين فحسب، بل تجاوزته إلى جوانب أخرى مختلفة من الحياة الاجتماعية، فمن هذه الإسهامات مؤلفاته التالية:

1- المغرب في الوقت الحاضر.

2- المعرفة، السلطة والتغير بالمجتمعات الإسلامية.

3- التحولات الاجتماعية والثقافية بالبوادي المغربية.

ثانيا: توصيف الشكل الخارجي وتلخيص المضمون الداخلي للكتاب:

من ناحية الشكل الخارجي لكتاب: "الدين والمجتمع" فقد أتيحت لي الطبعة الأولى منه، والتي تم نشرها سنة 2006 بدار النشر "إفريقيا الشرق" بالدار البيضاء، وهي طبعة متوسطة الحجم، تبلغ صفحاتها 240 صفحة. أما من ناحية البناء الداخلي، فيتكون الكتاب من مقدمة وخمسة فصول ثم خاتمة.

تناول في المقدمة تحديد مفهوم التدين، باعتباره الكيفية التي يعيش بها الناس معتقداتهم الدينية في حياتهم اليومية، كما تعرض للتحولات التي مست البنيات الثقافية والاجتماعية خلال العقود الأربعة الأخيرة بالمجتمع المغربي، والتي أثرت في أنماط الفهم والقراءات التأويلية للإسلام، حيث أصبح النمط التديني المتداول لدى معظم الفئات الاجتماعية العريضة محل اعتراض ونفور من لدن الحركات الإسلاموية بمختلف مشاربها وتفرعاتها، حيث تراه خاطئا ومنافيا لجوهر العقيدة الإسلامية الصحيحة.

وفي الفصل الأول من الكتاب، تطرق المؤلف إلى إشكالية الحياة الدينية المغربية في الدراسات الكولونيالية بين الإيديولوجيا والسوسيولوجيا، وتعرض لها بالنقد العلمي في كثير من المواضيع الدينية التي تناولتها؛ بداية من أنماط الاعتقادات والممارسات الدينية في الحياة الواقعة للمغاربة، وعلاقة ذلك بكل من البقايا الوثنية والممارسات السحرية والاعتقاد في الجن والعين الشريرة ومفهومي "اللعنة" و"الصلاح"، باعتبارهما معتقدين وثنيين قديمين، والطقوس الاحتفالية المتعلقة بـ"عاشوراء" و"بو الجلود" كبقايا بربرية ورومانية، وما إلى ذلك مما يتفرع عن أطروحة "البقايا الوثنية" المنسوبة لفستر مارك، ثم استمر في تتبعه النقدي لاستمرارية هذه الأطروحة مع باحثين آخرين من أمثال إدمونت دوتي الذي تحدث عن نسق أسلمة المعتقدات الدينية، وإدوارد مونتي الذي رأى أن الأولياء المغاربة تتم عبادتهم من دون الله بسبب الإرث الوثني والحماس الديني السياسي، دون أن ننسى طبعا جاك بيرك الذي انتهت أطروحة البقايا الوثنية على يديه حيث تساءل باحترافية السوسيولوجي المتضلع: هل هي بقايا وثنية أم تداخل معتقدات؟ وحسب ما يفهم من تحليل المؤلف لهذا التساؤل السوسيولوجي أنه تساؤل تقريري أكثر منه إشكالي، مما يعني أن ذلك مجرد تداخل معتقدات إسلامية وغير إسلامية فيما بينها على شكل صيغة توافقية.

وعلى الرغم من الانتقادات اللاذعة الذي تم توجيهها لهذه الدراسات الكولونيالية من طرف صاحب الكتاب إلا أن ذلك لم يمنعه من الاعتراف بفضل بعض الباحثين المنتمين لهذه المدرسة التزاما منه بمبدأ الموضوعية العلمية، حيث اعتبر العالم فستر مارك باحثا موضوعيا بامتياز، ووصفه بكونه لم يكن تطوريا خطيا ولا يؤمن حتى بتفوق حضارة بني جلدته من ذوي البشرة البيضاء، ثم ختم هذا الفصل بالتركيز على دور الأنثروبولوجيا الأنجلوساكسونية في تطوير المرجعيات الأكاديمية والقضاء على الاحتكار الفرنسي الذي ظل لفترة طويلة في الدراسات السوسيولوجية المغربية.

وفي الفصل الثاني من الكتاب، تم تحديد مجال الدراسة المتعلق بمنطقة دكالة كنموذج للتدين بالمجتمع المغربي؛ من حيث تاريخها وجغرافيتها وطبيعة مجتمعها الكلي والجزئي والمواقع الطوبوغرافية لأماكنها المقدسة.

كما حاول الكاتب في الفصل الثالث أن ينفذ بعمق إلى تمثل المغاربة عن الطبيعة والمجتمع ممحصا نظرتهم لبعض الأحداث الطبيعية والاجتماعية؛ كالمرض والموت والإعاقات والعاهات والكوارث الطبيعة...وكيف يربطها المغاربة بالمكتوب والإرادة الإلاهية التي تقف وراء كل أحداث العالم حسب ما قرره المؤلف عن هذا التمثل، مميزا بين كل من الجوانب السالبة والموجبة فيه، دون أن يغفل كلا من الحركة الأفقية والعمودية للمجتمع المغربي وشبكة العلاقات الاجتماعية التي اعتبرها بمثابة مرآة لكل المعتقدات والتصورات التي يحملها المغاربة عن الحياة.

وفي الفصل الرابع من الكتاب، تناول المؤلف قضية الممارسات الدينية بين المحلي والكوني وقسمها إلى ثلاثة أصناف رئيسة مع التركيز الكبير على وظائفها الاجتماعية، وهذه الأصناف هي:

1- ممارسات دينية يومية كعبادة الصلاة والحضور المكثف للمعجم الديني اليومي كلفظ الجلالة "الله" ممثلا في الحمدلة والبسملة والاستغفار والتعوذ والدعاء واللعنة...إلخ.

2- ممارسات دينية موسمية كالاحتفال بعيد الفطر وعيد الأضحى وعبادة صوم رمضان وحج بيت الله الحرام، بالإضافة إلى عيد المولد النبوي وعاشوراء.

3- ممارسات دينية ظرفية حسب أحوال الناس وظروفهم الشخصية؛ كالطقوس الجنائزية والختان وزيارة الأضرحة التي يقوم بها الناس من أجل التبرك والاستشفاء وقضاء مختلف الحاجات، وهي قبل ذلك وبعده سياحة دينية -في رأي الكاتب- لها دور مهم في تنمية السياحة الداخلية للمجتمع المغربي.

أما في الفصل الختامي والأخير، فقد تعرض الدكتور منديب لظاهرة التدين بمجتمع الدراسة من حيث العوارض التي تطرأ عليها، سواء فيما يتعلق بجانب وجودها القائم على ضرورة التوافق مع الحس المشترك والوعي الجمعي والتنظيم الاجتماعي، أو فيما يتعلق بجانب تغيرها الذي يمس الجوانب الشكلية منها دون المساس بجوهرها الثابت، أو بخصوص جانب استمراريتها الذي تكفله السياسة الدينية للدولة.

ثالثا: مناقشة الكتاب على مستوى المضمون:

يمكن الوقوف في هذه المناقشة على بعض القضايا التي أثارت انتباهي، وأحببت أن أطرحها للنقاش إن معارضة واستدراكا عليها، أو إضافة وتعقيبا عليها، أو موافقة وتأييدا لها؛ من هذه القضايا ما يلي:

1- خلال العقود الأربعة الأخيرة، ظهر الاختلاف في القراءات التأويلية للإسلام نتيجة للتحولات التي مست البنيات الاجتماعية والثقافية للمجتمع المغربي:

من المعلوم أن الاختلاف في تأويل الدين الإسلامي ليس أمرا جديدا كما تصور الدكتور منديب، بل هو قديم قدم الإسلام ذاته؛ سواء تعلق الأمر بعامة الناس في المجتمع بسبب تأثير عملية التثاقف على السلوك الديني للأفراد، حيث نجد مثلا أن التدين في منطقة معينة من المغرب يختلف في بعض جوانبه الشكلية والكمية والنوعية عن التدين في المناطق الأخرى منه، رغم أن الدين واحد، أو تعلق الأمر بذوي الاختصاص من العلماء الدارسين للإسلام عقيدة وشريعة بسبب احتمالية النصوص الدينية من جهة، وتفاوت مدارك هؤلاء العلماء من جهة أخرى، فنجد في الجانب العقدي للإسلام هناك عدة قراءات تأويلية تمثلت في المدارس العقدية الكبرى كالمدرسة المعتزلية والأشعرية والماتريدية والسلفية وغيرهم، كما نجد في جانبه العملي/الطقوسي عدة مذاهب فقهية كالمذهب المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي وغيرهم. فإذن ليس الاختلاف في القراءات التأويلية للإسلام أمرا جديدا لم يظهر إلا مع العقود الأربعة الأخيرة، بل إنما ذلك مجرد شكل من أشكاله التأويلية التي عرفها قديما ولا زال يعرفها حتى الآن، وسيظل يعرفها في المستقبل، غير أن المميز في هذا التأويل المعاصر هو انتشاره بسرعة فائقة عن طريق الإعلام الديني الذي طغى عليه النموذج السعودي الوهابي المتشدد؛ بفضل العامل الاقتصادي للدولة السعودية والمكانة العظمى لأماكنها المقدسة –الحرم المكي والحرم المدني- عند المسلمين. كما يتميز أيضا بطابعه السياسي الذي تشكل بسبب التحول الذي طرأ على البنيات الاجتماعية والثقافية للمجتمع المغربي والعربي عموما، والذي يتمثل أساسا في ظهور الحركات السياسية الإسلاموية بهذه المجتمعات خلال العقود الأخيرة، خصوصا بعد نجاح ثورة الخميني في إيران وحركة الإخوان المسلمين بمصر وحزب العدالة والتنمية في كل من تركيا والمغرب؛ حيث انطلق هؤلاء من مسلمة مفادها أن الإصلاح الاجتماعي الشامل لا يمكن تحقيقه إلا بإصلاح أعلى الهرم الاجتماعي أو النظام السياسي الحاكم، على عكس بعض الاتجاهات الإصلاحية التي تؤمن بأن الإصلاح يمكنه أن يبدأ من أسفل الهرم الاجتماعي أو من أفراد المجتمع المدني.

2- "أطروحة البقايا الوثنية":

لقيت هذه الأطروحة كثيرا من الانتقادات العلمية من مختلف الباحثين المتخصصين في الحقل السوسيولوجي المغربي، لكني أود أن أضيف شيئا مهما هنا، وهو أن علاقة الإسلام بعادات وأعراف الشعوب التي اعتنقته زمن الفتوحات لم تكن علاقة تعارض وتناقض بشكل كلي - كما تصورها رواد هذه الأطروحة- حتى تكون هناك بقايا وثنية تتناقض والإسلام، بل إن أوجه التوافق والانسجام في العلاقة بين الإسلام وبين هذه الثقافات، خصوصا الثقافة الأمازيغية المغربية، أكثر بكثير من أوجه التعارض والتضاد فيها؛ مما يعني أن كثيرا من الموروثات الثقافية في حياة المغاربة التي أطلق عليه اسم "بقايا وثنية" هي في حقيقة أمرها لا تمت بأية صلة إلى الوثنية، باعتبارها شركا بالله ووحدانيته، وإنما هي مجرد موروثات ثقافية لا حرج فيها إطلاقا، لذلك فهي محمودة حسب الدين الإسلامي، ولا تتعارض مع معتقداته وتعاليمه بأي شكل من الأشكال، غير أن الطابع الإيديولوجي كان مهيمنا في هذه الأطروحة لدرجة أنه تم اختيار كلمة "وثنية" للدلالة على التعارض الكلي مع العقيدة الإسلامية لأجل التفريق بين الشعب المغربي ذي الأصول الأمازيغية والعربية. ولعل أكبر دليل على تقدير الإسلام للثقافات والأعراف الحميدة للشعوب التي اعتنقته هي علاقته بالموروث الثقافي العربي زمن نزول الوحي، حيث أقر الكثير من العادات والتقاليد العربية الحميدة، ولم يتم منع منها إلا التي أبانت عن تعارضها مع معتقداته وتعاليمه بشكل صريح واضح، ومعايير التوافق والتخالف معروفة عند أهل الاختصاص ليس هذا مقام بيانها.

3- حضور فكرة الجزاء الدنيوي في حياة المغاربة بشقيها الثوابي والعقابي:

لعل من بين أقدم الظواهر التي عرفتها المجتمعات المغربية، بل والبشرية بشكل عام، ولا زالت تعرفها حتى الآن، هي فهمها "للشر" بمختلف أنواعه وصوره من الكوارث الطبيعية والأوبئة والمجاعات والأمراض.. على أنه غضب من الرب وعقوبة منه بسبب ذنوبها وعصيانها ومخالفتها لمنهجه القويم، كما فهمت "الخير" بشتى أشكاله وصوره من دفء أشعة الشمس وغيث السماء ومياه الأنهار والصحة الجيدة ووفرة النعم.. على أنه ثواب من الرب على الاستقامة، وخير دليل على ذلك وجود بعض المغاربة اليوم يعتقدون أن فيروس كورونا هو عقوبة من الله للناس بسبب الفساد الذي ألحقوه بالبلاد والعباد، ولم يحملهم على هذا الفهم إلا إيمانهم بوقوع الجزاء الدنيوي؛ أي إن الدنيا في نظرهم دار عمل وجزاء في نفس الآن، وليست دار عمل فحسب، مثلما أن الآخرة دار جزاء فحسب.

4- الإيمان بالغيبيات وعلمنة الحياة اليومية:

لا شك أن الغيب الذي أخبر به الوحي الصريح، والذي يعجز الحسّ البشري عن إدراكه، هو جزء لا يتجزأ من الممارسات الدينية بالمجتمع المغربي، لكنه لا يخلو في الغالب من مزجه ببعض الأشكال الأسطورية التي تأتي نتيجة للخيال البشري وبعض المبالغات ووضع الأمور في غير موضعها الصحيح، كالغلو في الاعتقاد في الجن والشياطين والأشباح، ومسألة العين وطقوس السحر والشعوذة، وقضية البركة ورؤيا الحلم.. فهذه كلها أمور يتداخل فيها الديني بالثقافي والأسطوري عند ممارستها وتطبيقها إلى حد عدم القدرة على التمييز بينهما، ومع كل هذا وذاك، يكتسح طابع العلمنة مختلف مجال الحياة اليومية للمجتمع المغربي؛ مما يعني أنه مجتمع معقد ومركب من عناصر متصارعة فيما بينها لا تكاد أن تجد أي روابط ملموسة تجمعها لولا انسجامها وتكاملها في البناء الاجتماعي الكلي.

5- التداخل بين العادات والعبادات:

من الملاحظ في التدين المغربي أنه يتداخل مع العادات والتقاليد الاجتماعية لدرجة أنه يصعب التمييز بينهما؛ ومن ثم فالاتجاهات المحافظة تتشبث بكل ما هو قديم اعتقادا منها أنها تتشبث بدينها؛ لأن كون الدين قديما قد أعطى القداسة للأشياء والأفكار وأنماط العيش القديمة، كما أن الاتجاهات الحداثية عند ثورتها على التقاليد التي - في نظرها- قد فقدت صلاحيتها، هي في الحقيقة تثور على كثير من التعاليم الدينية. ويمكن تقديم نموذج يعكس حقيقة هذا التداخل بين العادة والعبادة في التدين المغربي هو لباس المرأة المغربية المسلمة، فكثير من النساء المغربيات يسترن أجسادهن من منطلق العادة لا العبادة، وحتى من يفضلن منهن التعري الجزئي، إنما يقمن بذلك من منطلق التخلي عن التقاليد التي وجدنها في حياة أمهاتهن وجداتهن والتي -حسب رأيهن- لم تعد تواكب مستجدات العصر، مع العلم أن "قيمة الستر" في اللباس لا بالنسبة إلى الرجل ولا بالنسبة إلى المرأة تعتبر من المشترك الكوني للأديان في الدراسات المقارنة للديانات، فهي في هذا بمثابة طقس الصلاة والصوم والصدقة والإحسان للوالدين والصدق والعدل بين الناس وغير ذلك من أصول العبادات والأخلاق والمعاملات التي تعتبر مشتركات دينية كونية، مع حفاظها على طابعها الخاص الذي تتميز به عند كل طائفة دينية على حدة.

6- الوجود الديني في المجتمع المغربي واستمراريته:

أتفق تماما مع الدكتور منديب في أن وجود التدين الاجتماعي رهين بتوافقه مع الحس المشترك والتنظيم الاجتماعي القائم؛ لأن عنصر التدين هو من بين عناصر البنيات الاجتماعية التي يجب أن تكون متجانسة ومتكاملة فيما بينها، حتى تتم البنية الكلية للمجتمع. كما أوافقه في أن استمرار التدين رهين بالسياسة الدينية للدولة؛ لأن المؤسسة الدينية واحدة من المؤسسات الاجتماعية التي تعتمد عليها الدولة في تدبير الشأن الديني للمجتمع، بنفس القدر الذي تعتمد فيه على المؤسسات الأخرى في تدبير المجالات الخاصة بها، غير أن أنواعا من المتدينين في المجتمع المغربي المعاصر لا يريدون معرفة هذه الحقيقة ويرفضون تأطير الدولة للشأن الديني رفضا باتا رغبة منهم في استقلالية المؤسسة الدينية عن الدولة، على اعتبار أن الدين يمثل السلطة الإلهية والدولة تمثل السلطة البشرية، ومن هذا المنطلق تمردوا على الدولة والمجتمع المدني في شكل من أشكال التطرف التي تعرفها المجتمعات على مر العصور، وظهرت خليات إرهابية هنا وهناك، وتعرض المغرب لتفجير إرهابي خطير سنة 2003 / 16 مايو.

وحسب صفحة فايسبوكية تعنى بنشر الحياة الفكرية للدكتور منديب، أن هذا الأخير قد فقد أحد أقربائه خلال هذا الحدث الإرهابي البشع، ولعل ذلك كان من بين أسباب توجه الدكتور لدراسة الظاهرة الدينية بالمجتمع المغربي.

رابعا: مناقشة الكتاب على مستوى اللغة والمنهج:

بالنسبة إلى لغة الكتاب يمكن القول، إنها لغة علمية بحكم التخصص السوسيولوجي للكاتب، وتتميز بالإبداع، سواء على مستوى آلياتها الوصفية والتحليلية أو على مستوى أدوات الربط المنطقية أو على مستوى الصناعة المفاهيمية المتمثلة خاصة في العناوين الكبرى والصغرى للكتاب، مثل: "نظرة المغاربة إلى الكون وأضلاعها الخمسة"، "الحياة الدينية بالمجتمع المغربي بين عقيدة البركة وعلمانية الحياة اليومية"، "شبكة العلاقات الاجتماعية مرآة لكل المعتقدات والتصورات".

أما بالنسبة إلى المنهج المتبع، فيمكن القول إن الكاتب قد زاوج بين المنهج النقدي المقارن عند تناوله للدراسات الكولونيالية والأنجلوسكسونية في الجزء الأول من الكتاب، وبين المنهج التجريبي القائم على العمل الميداني ملاحظة ومعاينة ووصفا وتحليلا عند مباشرته لمجتمع الدراسة بمنطقة دكالة المغربية في الجزء الأخير من الكتاب.

خاتمة:

على الرغم من أن الظاهرة الدينية بالمجتمع المغربي قد نالت حظا أوسع في الدراسات السوسيولوجية إلا أن الغموض لا زال يحيط بها من كل جانب؛ وذلك راجع حسب عالم اجتماع الأديان التونسي عز الدين عناية –مترجم إلى العربية كتاب: "علم الاجتماع الديني" للعالمين سابينو أكوافيفا وإنزو باتشي- إلى التباعد القائم في الوسط الأكاديمي العربي بين المجالين السوسيولوجي والشرعي، حيث انفصلت الدراسة في كلية الشريعة عن الدراسة في قسم علم الاجتماع، الأمر الذي أفرز بالنهاية خريجين دراسات إسلامية بعيدين عن المتابعة الخارجية للظاهرة الدينية، يفتقرون إلى أبسط الأدوات العلمية في الشأن الاجتماعي مقتصرين فقط على تناول الظاهرة الدينية من الداخل. كما أفرز في المقابل باحثين اجتماعيين تنقصهم الحميمية مع التجربة الدينية، ويفتقدون الخبرة في التعامل مع المادة الدينية الخام كمادة أولى في مجال علم الاجتماع الديني، وربما طغت دراساتهم الخارجية على الداخلية منها. لذلك، أكد الدكتور عناياة على أن تطور علم الاجتماع الديني في الثقافة العربية رهين بهذا التقارب الأكاديمي بين المجالين، مستدلا بتجربة العالم ابن خلدون الذي احتضنه كل من جامعة الزيتونة وجامعة القرويين.