نقد ذاتي للمشروع الإسلامي الحركي: كنت إسلامياً أنموذجاً


فئة :  قراءات في كتب

نقد ذاتي للمشروع الإسلامي الحركي:  كنت إسلامياً أنموذجاً

في الظاهر، نحن أمام عمل روائيّ صرف، ولكن في مضامين هذا العمل الإبداعي، الذي جاء تحت عنوان: (كنت إسلامياً: عندما يتماهى الخيال مع الواقع)[1]، يصعب اختزاله في الشقّ الإبداعي الروائي. نقول هذا آخذين في الاعتبار أنّ الأصل في العمل كونُه سيرة ذاتية مشفّرة الأسماء، لكنها حقيقية الوقائع، والمعطيات، والأحداث.

نحن في ضيافة عمل إبداعي مركّب (لمؤلفه الكاتب والإعلامي المغربي عمر العمري) أثار بعض الجدل الإعلامي قبل صدوره[2]، وميزته أنّه مجهود يجمع، في الواقع، بين الرواية والسيرة الذاتية، وما قد يُلخصها بشكل دقيق ما صدر على لسان بطلها الرئيسي (أبو أيمن): «إنّه سير طويل ووعر إلى الله.. ظننت أنّي وجدت الله... لكن (الإخوان) كانوا حجاباً بيني وبينه... كانت هذه هي البداية لأنغمس في حياة كلّها تناقضات... حسبت أنّ الدين واحد، فإذا بي أكتشف أنّ لكلِّ جماعة ديناً... وأنّ لكلِّ حركةٍ صنماً تعبده.. وكلُّ واحد يعتقد أنّ الله اصطفاه وصياً على دينه.. فأين دين الله الذي ارتضاه في الأرض؟».

وعن الفصل في طبيعة العمل، أَنحن إزاء رواية أم سيرة ذاتية؟ أجاب الكاتب عن ذلك، في أحد الحوارات التي أُجريت معه، على هامش التفاعل الإعلامي مع صدور العمل، بأنّ «القارئ عندما سيقرأ الرواية سيكتشف بنفسه حقيقة تلك الوقائع والأحداث، فالعمل الروائي في عمومه يُعبّر عن واقع معيّن، إلا أنّ الكاتب يطبعه بلمساته الفنيّة والشعورية، يقدّمه للقرّاء في حلّة إبداعية ترقى به إلى عالم الإبداع.

لقد استلهمت، بالفعل، تجربتي في الحياة، وداخل الحركة الإسلامية، لأعبِّر عن كلِّ ذلك في إطار إبداع أدبي. مزجت بين وقائع حقيقية وأخرى متخيّلة إلى درجة التداخل؛ لذلك سميّت هذا العمل (كنت إسلامياً: عندما يتماهى الخيال مع الواقع).

العمل الروائي أكبر من هذه التفاصيل، فهو يحمل رسالة مفادها أنّ الإسلام دين الله في الأرض، ولم يجعل الله -تعالى- أحداً وصيّاً عليه، ولم يكتب تفويضاً لأحد بأن يتكلّم باسمه، ولم يكره الله –تعالى- أحداً على اعتناق دينه، ولا يمكن، أبداً، للسيف أن يبثّ رحمة القرآن في أرجاء الكون، لقد ترك -سبحانه- لعباده حريّة مطلقة في أن يختاروا مصيرهم بأيديهم. فإذا كان الله –تعالى- يقول: ]لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِن الغَيِّ[ [البقرة: 256]، ويقول سبحانه: ]وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر[ [الكهف: 29]، فكيف للبعض أن يفرض على غيره فهماً معيناً من الفهومات البشرية، أو استنباطاً معيّناً لكلام الله تعالى؟»[3].

بَدَهيّ أنّ المجال التداولي العربي - الإسلامي يعجُّ بالأعمال الإبداعية (قصة، رواية...)، التي تتطرّق إلى تجارب الفكرانية [الإيديولوجية] اليسارية، والقومية، والاشتراكية، وكلّ الفكرانيات المختلفة مع الفكرانية الإسلامية الحركية، في حين أنّ الأمر مختلف تماماً مع الأعمال الإبداعية المخصّصة لتجربة الفاعل الإسلامي الحركي (إخواني، وسلفي وهابي، وجهادي، وتكفيري... إلخ).

هناك بعض الأعمال في الساحة، ولكن «لا قياس، مع وجود الفارق» إذا قارنّا بين عددها (كمّاً ونوعاً) مع ما صدر عن أقلام الفكرانية اليسارية، والقومية، وغيرها.

أسباب هذا التواضع مرتبطة بعدّة مُحدّدات، ليس أقلّها حداثة التجربة الإسلامية الحركية مقارنةً مع باقي التجارب الفكرانية، ولكن نجد ضمن الأسباب، أيضاً، واجب التحفُّظ، والستر السائد، عند الفاعل الإسلامي الحركي. وهناك، أيضاً، تبعات التماهي بين الانتماء للعمل الإسلامي الحركي، والانتماء لعالم الإسلام: الفاعل الإسلامي الحركي يعتقد أنّ تديُّنه يُمثِّل الإسلام، وفي هذه المرحلة، كلّ نقدٍ موجّه ضد تديّنه (نمط أسلمته للكون) يتفاعل معه، من حيث لا يدري أنّه نقد للدين/ الإسلام، ومن مُقتضى مرحلة إطلاق العمل الإسلامي الحركي أنّ بعض الفاعلين تلتصق بهم هذه الميزة، من دون الوعي بها، فالمسألة ليست هيّنة مادامت تمسّ جهازاً مفاهيمياً ظلّ يشتغل في إطار هذا الأفق الإبستيمي طيلة عقود، أو طيلة سنوات، ونعتقد أنّ هذا السبب يوجد في مقدّمة الأسباب التي تفسّر تواضع صدور أعمال النقد الذاتي الخاص بتجربة العمل الإسلامي الحركي، مقارنةً مع أعمال النقد الذاتي الصادرة عن فكرانيّات أخرى لا علاقة لها بالفكرانيّة الإسلاميّة الحركيّة.

تحكي الرواية/ السيرة عن طفل وُلِد في القرية (البادية)، نهاية الستينيات، في واقع موسوم بالفقر، والجهل، والشعوذة، وفي واقع يخاف فيه البدوي من الشيخ، والقائد، والجمركي، والوزير. حدث أنْ أصاب الجفاف المنطقة، فتفاقمت أوضاع أسرة الطفل، وازدادت فقراً وتهميشاً. ستهاجر أسرة الطفل إلى إحدى (كاريانات) [عشوائيات] المنطقة، وهناك سيجد ما هو أسوأ من الفقر والجهل. في (الكاريان) تمَّ استقطاب بطل الرواية إلى أحد التنظيمات التي انشقّت عن أوّل حركة إسلامية في المغرب.

يقول الشاب إنّه انتمى إلى (الجماعة) [الإسلامية الحركية] لينتقم من الوزير، الذي كان يسرق ماء الدولة، ليواجه (المقدّم) و(القائد). التقى الشاب أحدَ قادة الجماعة ويُدعى (أبو أيمن)، وهذا الأخير مهّدَ له الطريق ليعرف كلّ شيء عن الإسلاميين، وعملا معاً على تأسيس الجلسات التربوية.

في خضمّ هذه الأحداث المتسارعة، سيكتشف البطل أنّ التنظيم الدعوي، الذي انتمى إليه، كان هدفه الترشُّح إلى الانتخابات، والحصول على المقاعد، وتوزيع الغنائم. تمرّد على هذا الوضع. دخل البطل في صراعات قويّة مع أسرته، ومع الإسلاميين، ومع السلفيين، ومع التكفيريين، وحدثت معهم مواجهات (فكريّة)، ليصل، في نهاية المشوار، إلى أنّه كان ضحية (إغواء سياسي) باسم الدين، ويكتشف بطل الرواية، في النهاية، [بعض] أسباب تأسيس الحركة الإسلامية في المغرب، معتبراً أنّها [في الحالة التي تميّز إسلاميي المؤسّسة التشريعية] أصبحت بضاعة مستوردة من الخارج، وأنّها تستغلّ الدين من أجل الانتخابات، وتحقيق مآرب سياسية، باسم الدعوة[4]، والعمل الخيري.

هناك فوارق جليّة بين تفاعل قرّاء هذا العمل عند غير المتتبعين لأداء العمل الإسلامي الحركي، وبين تفاعل عدد معيّن ونوعيّ من القرّاء[5] يجمع بينهم الانتماء السابق للعمل الإسلامي الحركي، وأخيراً، تفاعل قرّاء العمل من المتتبعين للظاهرة الإسلامية الحركية:

1 - واضحٌ أنّ العمل يُقدّم خدمة معرفية وأدبية كبيرة للصنف الأوّل من القراء، والذين في معرض البحث عن بعض المفاتيح المفاهيمية من أجل قراءة الظاهرة، قد يُصابون بالحيرة من كثرة ما صدر من مؤلّفات، ودراسات، ومقالات، وهنا، بالذات، تكمن أهمية الرواية/السيرة بالنسبة لهؤلاء القرّاء، على اعتبار أنّ مُحرِّر العمل كان عضواً سابقاً في حركة إسلامية، ومن ثمّ يتحدّث تأسيساً على تجربة ميدانية، نظرية وعملية في آن، وتكون احتمالات الصواب في قراءته أكبر نسبياً من احتمالات الصواب في ما يصدر عن باقي الفاعلين غير المنتمين، أو الذين يحرّرون في/ حول الظاهرة، اعتماداً، مثلاً، على تفكيك النصوص، أو متابعة الوقائع والمستجدّات الميدانية، والقصاصات الإخبارية، بله التحرير في/ حول الظاهرة انطلاقاً من تصفية حسابات فكرانية (إيديولوجية)، وهذا أمر لا ينطبق على مُحرّر العمل؛ لأنّه ابن العمل الإسلامي الحركي، قبل إعلانه الطلاق البائن عن العمل، وتوجيهه نقداً صريحاً ضد أغلب مشاريع حركات وأحزاب الإسلام السياسي.

2 - من المُلاحظات، التي صاحبت صدور الرواية، تلك المرتبطة بتفاعل العديد من الفاعلين الإسلاميين السابقين إيجاباً مع العمل، إلى درجة أنّ بعض هؤلاء لم يتردّدوا في تأكيد تطابق المعالم الكبرى لمسار مؤلّف الرواية مع المعالم الكبرى لتجربتهم الإسلامية الحركية؛ بل وصل الأمر إلى أنّ بعض الفاعلين اعتبروا أنّهم اطّلعوا على نقد روائي لتجربتهم الحركيّة، بالصيغة الواردة في رواية/ سيرة (كنت إسلامياً)، على الرغم من أنّ الرواية/ السيرة خاصّة بتجربة عضو مُحدّد، وليست لائحة من الأعضاء والفاعلين.

3 - يختلف الأمر كثيراً مع مُتتبعي أحداث الحركات الإسلامية، في تفرّعاتها الدعوية، والسياسية، و(الجهادية)، حيث يطّلعون على نموذج تطبيقي لما تضمّنه العديد من الأعمال النقدية، التي اشتغلت على نقد المشروع الإسلامي الحركي (في شقه الإخواني، والسلفي الوهابي)، سواء تعلّق الأمر بأعمال صدرت في المجال التداولي الإسلامي العربي أم الأعمال التي صدرت في المجال التداولي الغربي.

في الخانة الأولى، وما دمنا نتحدّث عن التجربة المغربية، يكفي استحضار بعض أعمال الراحل فريد الأنصاري، ومنها: (البيان الدعوي)[6]، (الأخطاء الستّة للحركات الإسلامية بالمغرب)[7].

وفي الحالة الثانية، يكفي استحضار العمل الشهير للباحث الفرنسي أوليفيه روا، والموسوم بـ (فشل الإسلام السياسي)[8]، الذي صدرت طبعة جديدة منه مؤخراً للساحة الأوروبية[9]. ونضيف، أيضاً، أعمال الباحث الإيراني آصف بيّات المخصّصة لظاهرة (ما بعد الإسلام السياسي)[10].

بالتوقُّف عند الحالة المغربية، نلاحظ أنّ بعض ما تطرّق إليه الراحل فريد الأنصاري في أعماله سالفة الذكر، وإن غلب عليه الشق النظري. سوف نُعاين بعض تطبيقاته العملية على أرض الواقع في رواية/ سيرة (كنت إسلامياً).

الالتباس الذي تسبّب فيه عنوان الرواية يُلخِّص الشيء الكثير بخصوص موضوع (اختطاف الإسلام) من أهله، ومن المهمِّ جدّاً تأمُّل الواقعة الآتية التي جرت للمؤلّف، عندما طرق باب مكتب الإيداع/ الترخيص القانوني من أجل طبع العمل، حيث سألته موظفة المكتب، من باب الفضول لا غير، عن المقصود بعبارة (كنت إسلامياً)، وعن حقيقة أو معالم تديُّنه اليوم، بعد أن كان إسلامياً، وهل أصبح، مثلاً، ملحداً، أو لا أدرياً، أو ماذا؟

واضح أنّ الموظفة، كما شرح ذلك بتدقيق المؤلّف، سقطت في الخلط بين الإسلام (Islam) والأسلمة (islamisation)، أو بين الدين والتديُّن[11]. هذا ما أشار إليه المؤلّف في مقدّمة الطبعة الثانية، مُعتبراً أنّ بعض القرّاء اعتقدوا أنّه (الكاتب) خرج عن ملّة الإسلام، ومن ثمّة، «من حسنات هذا العنوان أنّه يفصل بشكل نهائي بين الإسلام السياسي والإسلام، وبين الحركات الإسلامية والإسلام، وبين الإسلامي والمسلم، ويضع حدّاً لتجربة بشرية مصيرها الزوال، مثلها مثل باقي التجارب التاريخية التي عرفتها البشريّة».

ويُضيف العمري، بنبرة نقدية تترجم مرارة تجربته الإسلامية الحركية، أنّ «عنوان الرواية يحمل، أيضاً، نبوءة تبشّر بنهاية ما يُسمّى الإسلام السياسي أو الحركي، لاسيّما أنّ الحركة الإسلامية في العالم انتهى بريقها وإشعاعها، ولم يعد بمقدورها الاستجابة لحاجيات الإنسان الروحية، والمعنوية، والماديّة، كما أنّها تحوّلت إلى كائنات سياسية تسترزق باسم الدّين والدعوة، وتبيع الوهم (الروحي) للناس، وأنّه بات من اللازم، في هذا الوقت، بالذات، الاستعصام بوحي الله من أجل استلهام أفكار جديدة، ومعانٍ حداثية يمكن أن يستنير بها الإنسان في دروب هذا العالم المظلم»[12].

العمل الروائي يسلّط الضوء، بذكاء، على تشرُّب جزء، لا بأس فيه، من الحركة الإسلامية المغربية من مرجعيات مشرقية، مرجعيات إخوانية بالدرجة الأولى، ويخصُّ الكاتب بالذكر التيار الإخواني الذي يقود الحكومة المغربية الحالية [حكومة (الربيع المغربي)]. نقرأ للكاتب في هذا الصدد: (الحقيقة المؤلمة هي أنّي أصبحت أعيش في بلدي بفؤاد مصري... أمشي في المغرب وعقلي في المشرق... انسلخت تماماً عن واقعي وتاريخي، تأثّرت بكتب (البنا) و(قطب)[13] تأثيراً غير محدود.. أصبحت أكره (عبد الناصر) و(السادات)... أحبُّ ما يحبُّه (الإخوان)... وأمقت ما يمقتون: هكذا تربّى الرعيل الأول من (الإسلاميين) المغاربة.

التأكيد على ثقل الهوى المشرقي في الأدبيات، التي ينهل منها أغلب الإسلاميين في الساحة المغربية، يتوقّف، عند الكاتب، في أكثر من مقام، ولو بمرارة، كما نقرأ في المقطع الآتي: «أكثرت، في هذه المرحلة، من قراءة الكتب الفقهية، نصحني إخواني بدراسة كتب القرضاوي، والغزالي، والترابي، والغنوشي... مرّة أخرى نحتاج إلى أناس من المشرق العربي لتعليمنا أمور ديننا. (حسن) البنّا هو من أسّس الفكر الإخواني، والقرضاوي هو فقيه الحركيين على الإطلاق. أمّا السلفيون، فلهم فقهاؤهم، وعلماؤهم، ومشايخهم أيضاً»[14].

قراءة المؤلّف للظاهرة السلفية الوهابية كانت حاضرة بدورها في العمل، وفي أكثر من مناسبة، سواء تعلّق الأمر بالتجلّي (المعتدل) للظاهرة؛ أي ما يُصطلح عليه اليوم بتيار (السلفية العلمية)، أو التجلّي المتشدّد والمتطرّف؛ أي تيار (السلفية التكفيرية)، ولو أنّ القاسم المشترك بين التيارين أكبر بكثير من الفوارق، ولعلّ الشهادة/ الرواية التالية، كما جاءت في العمل، تلخّص الشيء الكثير في قلاقل القواسم (الإبستمية) المشتركة بين التيارين. نقرأ للكاتب: «تزوجت جارتي (الألباني) [لقب أحد المشايخ السلفيين]، حضرت هذا الزفاف كأنّه مأتم، دخلت دار (سي إبراهيم)، وقد خيّمَ عليها السكون والحزن. حضر العرس بعض الإخوان من جماعتين، وأغلب الحضور كان من السلفيين، ألقى الشيخ لهم درساً بالمناسبة. كان وجهاً مألوفاً. تحدّث عن الولاء، والبراء، ومحاربة الطاغوت»[15].

وفي ما يُشبه ترجمة بعض مقتضيات الأدبيات الإخوانية سالفة الذكر، وفي مقدّمتها مقتضى (المفاصلة الشعورية)، و(الجاهلية)، و(الحاكمية)، نقرأ أيضاً: «ذات فجر، شدَّ أستاذ العلوم على يدي بحرارة، دون أن يبتسم ابتسامته المعهودة... لأوّل مرّة يسألني عن أحوالي، وعن أسرتي... فطن إلى أنّي طلّقت كلّ شيء يربطني بأبي، وأمي، وأخي، وأختي... أقصد الروابط الروحية... طبّقت حرفياً مبدأ (المفاصلة)، كما في معالم الطريق التي رسمتها لنفسي... قلت للوالد:

ـ البوعزاوي أبدع طريقة في الدّين... وأنت اتّبعت دينه... وما عليك إلا أن تتوب إلى الله... وتتبع سنّة النبي (محمد) (صلّى الله عليه وسلم).

وقلت للوالدة:

ـ أنت وإخوانك وأجدادك (التيجانيون) [الصوفيون] لستم على هدى... فاتّبعوني أهدكم سبيل النجاة..»[16].

حكايات الروائي مع العائلة حافلة بالحسرة والألم، على تبعات تبنّي بطل الرواية (الخطاب الإخواني)، في شقّه القطبي، وتنزيل بعض مقتضيات الخطاب/ المشروع على العائلة تحديداً، بما في ذلك أقرب المقربين: الأمّ خاصةً، وهذه فقرة دالّة وصادمة في هذا الصدد: «بكلمة بسيطة أخرجتُ أمي من ملّة الإسلام، وأدخلتها في أُمّة (الكفّار)، والسبب تافه جداً وهو الحجاب.. أتشاجر مع الوالدة بسبب (فولار) (foulard) تضعه أختي فوق رأسها... ما المشكل إذا كانت زينب إنسانية شريفة ونبيلة، تشتغل في مهنة الخياطة من أجلي؟ ما المشكل إذا لم تضع خرقة على رأسها؟ هل أصبح الإسلام ينحصر في ملابس معيّنة تلبسها امرأة؟ تحولت إلى قاضٍ في رمشة عين»[17].

وقد يكون بيت القصيد في انتماء الكاتب، الذي يمرُّ منه اليوم، في مرحلة ما بعد العمل الإخواني، تلخصه شهادة جامعة مانعة: «شاء الله أن أطلع على عالم أشمل وأوسع من عالم الإخوان، لكنّ هذا لا يُنقِص من قيمتها، وفضلهم شيئاً، لقد شكّلوا، بالفعل، مرحلة عابرة في حياتي، لها ما لها، وعليها ما عليها، ليس هناك أخطر من أن يبقى الإنسان حبيس مرحلة لا يتعدّاها أبداً، من الواجب أن يبحث عمّا هو أفضل»[18].

بالنتيجة، بدأت القصة بولادة، وتنتهي بولادة أخرى، وخلالهما تتداخل الأبعاد بين ما هو ديني، وسياسي، وفكري، واجتماعي، وفلسفي، وأيضاً عاطفي.


[1] العمري، عمر، كنت إسلامياً: عندما يتماهى الخيال مع الواقع، منشورات كيان ميديا، الرباط، ط1، 2014م. وجاء العمل في 215 صفحة من الحجم المتوسط، وصدرت طبعته الثانية عن المؤسسة نفسها في غضون العام 2015م.

[2] في الهامش: حظيت الرواية بالمتابعة الإعلامية حتى قبل نزولها الأكشاك والمكتبات، في غضون شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر 2014م، وذلك بسبب رفض توزيعها على الأكشاك والمكتبات من طرف شركة تعاقد معها المؤلّف لهذا الغرض، وتطوّرت الأمور إلى درجة تلقي الكاتب مكالمة هاتفية من وزير العدل المغربي الحالي، يؤكّد فيها أنّه لا علاقة له بموضوع منع توزيع الرواية، على الرغم من اختلافه الفكري مع مضامين الرواية. كما نقرأ في تقديم الطبعة الثانية للرواية (2015م)، واتّضح، لاحقاً، أنّ سبب منع توزيع الشركة للعمل مردّه انتماء أحد مسؤولي الشركة إلى التنظيم الإسلامي الحركي المعنيّ بالعمل الروائي، ومن ثمّ، اعتقد صاحب قرار المنع أنّ عدم توزيعها سيقلّل من تفاعل القرّاء، وواضح أنّ ما تمّ، في نهاية المطاف، عكس ما توقّعه المسؤول الإسلامي الحركي.

[3] حوار مع عمر العمري، صحيفة الأخبار، الدار البيضاء، العدد 579، فاتح تشرين الأوّل/ أكتوبر 2014م.

[4] نقرأ في العمل أيضاَ: «لم تجد الجماعة (الإسلامية الحركية)، في بلدنا، صعوبة في إقناع الأتباع بضرورة العمل السياسي، وأنّه لا بُدّ من خوض الانتخابات؛ أي إقامة الدين على مستوى الفرد أوّلاً، ثمّ على مستوى الأمّة ثانياً، (ثمّ) المرور إلى أسلمة المؤسسات؛ أي الانتقال من الدعوة إلى الدولة». العمري، عمر، كنت إسلامياً، مرجع سابق، ص 175

[5] في معرض قراءة تفاعل القرّاء مع العمل، نقرأ في التقديم ذاته للمؤلّف أنّ البعض احتفى بالعمل من منطلق أنّه يُسهم في تعرية «جانب من الشعارات المزيّفة للإسلاميين، وانخراطهم المشبوه في العمل السياسي باسم الدين، والأخلاق، والدعوة إلى الله.. وفي المقابل، كان هناك من انتقد الرواية، واعتبرها ردّة، وعملاً فضائحياً، ونكراناً للجميل، وطعناً في الدين، وافتراءً على الإخوان».

[6] الأنصاري، فريد، البيان الدعوي وظاهرة التضخُّم السياسي: نحو بيان قرآني للدعوة الإسلامية، دار الكلمة للنشر والتوزيع، مصر، المنصورة، ط1، 2004م.

[7] الأنصاري فريد، الأخطاء الستّة للحركة الإسلامية بالمغرب: انحراف استصنامي في الفكر والممارسة، منشورات الفرقان، رقم 2، مكناس، ط 1، 2007م.

[8] صدرت النسخة الأصلية (بالفرنسية) من كتاب (فشل الإسلام السياسي) في غضون العام 1992م، وصدرت الطبعة الثانية من العمل خلال مطلع العام الجاري 2015م.

انظر:

Olivier Roy, L'échec de l'Islam politique, Seuil, paris, 1992, p 255.

[9] نشرت مجلّة روح (Esprit) الفرنسية مقدّمة الطبعة الجديدة من الكتاب، في عدد أيار/ مايو 2015م، تحت عنوان: (الإسلام السياسي.. الفشل مرّة أخرى). [ولو أنّ البعض قد يُترجم العنوان الأصلي كالآتي: (الإسلام السياسي: الفشل دائماً)، وهذه اجتهادات في الترجمة، نعتقد أنّ الحسم فيها يتطلّب الاطلاع على مضمون المقدّمة والكتاب بطبيعة الحال؛ ولذلك ارتأينا ترجمة العنوان كما سلف.

عنوان المقدّمة جاء كالآتي: ما هي الإسلاموية؟ الظاهرة الإسلامية الحركية والعمل (الجهادي)، أفول الظاهرة الإسلامية الحركية، والمستقبل؟ ويخلص الباحث إلى أنّ فشل الإسلام السياسي يترجم، في الواقع، فشلاً للدولة الدينية، معتبراً أنّ الفعل السياسي هو ممارسة للسلطة، وأنّ لهذه الأخيرة مقتضيات مغايرة عمّا هو مرجو من هذه الفكرانية أو تلك.

انظر:

Olivier Roy, l'islam politique, toujours en échec, Esprit, Paris, Mai 2015, pp 83-91.

[10] Asef Bayat, Democratic: Social Movements and the Post-Islamist Turn, Stanford University Press, 2007, pages 291.

[11] انظر في هذا الصدد: العمل المهم للباحث العراقي: ياسين، عبد الجواد، الدين والتديُّن: التشريع والنص والاجتماع، صدرت طبعته الأولى عن دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 2012م. وصدرت الطبعة الثانية للعمل عن مؤسّسة (مؤمنون بلا حدود للدراسات والنشر)، نشر وتوزيع المركز الثقافي العربي، 2014م.

[12] العمري، عمر، مقدّمة الطبعة الثانية من رواية (كنت إسلامياً)، 2015م. ويضيف المؤلِّف أنّ الرواية «صدرت في وقت عصيب يمرُّ منه العالم، حيث أفلست فيه الإيديولوجية (الفكرانية) (الإسلامية)، وقبلها الشيوعية والاشتراكية، وانكشف الوجه الحقيقي للإسلاميين المتهافتين على السياسة، أو بالأحرى، المتنافسين على من يكون خليفة للمسلمين، بعضهم يبني خلافة وهمية في بلاد الشام، بتهديم البيوت، وقطع الرؤوس، واغتصاب النساء، والبعض الآخر يريدها خلافة سلمية عبر صناديق الاقتراع والانتخاب...».

[13] نقرأ للمؤلِّف أيضاً: كتاب (معالم في الطريق) [هو] (قرآن) الإسلاميين الأوائل دون منازع، ص 150

[14] العمري، عمر، كنت إسلامياً، مصدر سابق، ص 157

[15] العمري، عمر، المصدر نفسه، ص 173

[16] العمري، عمر، المصدر نفسه، ص 111

 [17]العمري، عمر، رواية كنت إسلامياً، مرجع سابق، ص 131

[18] العمري، عمر، المصدر نفسه، ص 141