نوفل الحاج لطيف: طروحات حول العدالة في الفكر الفلسفي المعاصر


فئة :  حوارات

نوفل الحاج لطيف: طروحات حول العدالة في الفكر الفلسفي المعاصر

نور الدين علوش: بداية من هو الدكتور نوفل الحاج لطيف؟

نوفل الحاج لطيف: أستاذ أول للفلسفة بالمعاهد الثانوية التونسية، متحصل على شهادة الأستاذية في الفلسفة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس سنة 1994، والدراسات المعمقة في المنطق وفلسفة اللغة من كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بتونس سنة 2000، وشهادة الدكتوراه تحت عنوان "نقد جون رولز للمنفعية"، من الكلية نفسها سنة 2013. نُشرت رسالتي تحت عنوان "جدل العدالة الاجتماعية في الفكر الليبرالي: جون رولز في مواجهة هيمنة التقليد المنفعي" عن دار الجداول للترجمة والنشر، وقد قام الدكتور منير الكشو، الذي أشرف على رسالتي مشكورًا، بتقديمها. وأنا مدين له بذلك.

وقد ترجمت أيضًا كتاب "الليبرالية السياسية" لجون رولز، ويصدر لاحقًا لفائدة دار الجداول، وأنا الآن بصدد ترجمة كتاب تشارلز تايلور "عصر علماني" بالشراكة مع الأستاذ محمد محجوب، وآمل أن يكون جاهزًا في موفّى هذا العام (2015). ونشرت لي العديد من المقالات باللغتين العربية والفرنسية في دوريات عربية محكمة مختلفة، وعلى موقع مؤمنون بلا حدود.

نور الدين علوش: تعتبرون من الباحثين المتميزين في فلسفة رولز، حيث ناقشتم أطروحة دكتوراه بعنوان "نقد جون رولز للمنفعية" وقد نشرتْ تحت عنوان: "جدل العدالة الاجتماعية في الفكر الليبرالي جون رولز في مواجهة التقليد النفعي" فما هي الإشكالية الرئيسية لأطروحتكم؟ وما هي الخلاصات التي انتهيتم إليها؟

نوفل الحاج لطيف: هناك أهمية خاصة للجدل بين جون رولز والمنفعية حول مسألة العدالة الاجتماعية، إذ كما يشير العديد من قرّاء رولز إلى أنّ فهم نظريته في العدالة بوصفها إنصافًا يقتضي فهم النظرية المنفعية التي يريد أن يقدم نظريته بديلاً عنها لتسويغ المبادئ الليبرالية. فالمنفعية بما لها من صيت واسع هيمنت على الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي المعاصر، وعطلت في تقدير رولز عودة مسألة العدالة التوزيعية إلى حيّز المباحث الفلسفية ومنعتها من أن تكون "فضيلة المؤسسات الاجتماعية". وفي جدله مع المنفعية حول العدالة الاجتماعية، عمل رولز على توظيف فرضية العقد الاجتماعي كما صيغت عند كانط وروسو ولوك حتى تكون البديل عن المبدأ المنفعي الذي لا يهتم بمسألة التوزيع ولا بالعدالة إلا إذا كانت خدمة لتحقيق أكبر منفعة لأكبر عدد أساسًا لتقويم السياسات العامة. بينما يؤكد رولز على أولوية العدالة الاجتماعية في ذلك. وعليه يستدعي البحث في حقيقة هذا الجدل وطبيعته ومآلاته فهم التراث المنفعي وطريق استخدامه اليوم في الدفاع عن دولة الرفاه المعاصرة كما يفهمها الليبراليون، وفهم كيف أنّ رولز يرى أنّ هذا الدفاع قاصر ويحتاج إلى تغيير في تصوراتنا للعدالة وفي طرائق الدفاع عنها. والمنفعية، برأي رولز لا تستطيع أن تقوم كإيتيقا عمومية تنسجم مع الشروط التي تفترضها الديمقراطيات الدستورية المعاصرة فهي لا تتورع في التضحية بحقوق الأقلية باسم تحقيق الرفاه العام، فضلاً عن أنّها لا تأخذ بأولوية الحريات والحقوق الأساسية للأفراد، بل إنّها تعمد إلى التضحية بها في سبيل "تأويج" المنفعة أو تحقيق أكبر قدر من النجاعة الاقتصادية. وتفرض المنفعية رؤية جامعة وشمولية للمنفعة والخير والحياة الطيبة دون اعتبار تمايز الأشخاص واختلاف رؤاهم لخيرهم الخاص ولمشروعهم الخاص لحياتهم الخاصة، فهي تسحب مبدأ الاختيار العقلاني الفردي على الاختيار الاجتماعي لأنّ ما يعنيها في كل ذلك المجتمع ككل بما يقتضيه تجميع المنافع وحسابها و"تأويجها". وهو ما يتعارض تمامًا مع مبادئ العدالة التي يقول بها رولز من حيث هي تأخذ بعين الاعتبار حرية الأفراد وتساويها وتحض على أن تكون اللامساواة في صالح ذوي الحد الأدنى في المجتمع. ولأجل ذلك اعتبرت دائمًا أنّ رولز لا يمكن أن يكون مفكرًا منفعيًّا على الرغم من زعم بعضهم مما اصطفينا من قراء رولز أمثال ديفيد ليونس وسدناي ألكسندر.

نور الدين علوش: لماذا جون رولز وليس غيره أو بعبارة أخرى ما هي الأسباب الذاتية والموضوعية التي جعلتكم تهتمون برولز؟

نوفل الحاج لطيف: أما في ما يتعلّق بمبررات (ودواعي) اختيار موضوع الرسالة حول رولز ناقدا للمنفعية، فيمكن تصنيفها إلى موضوعية وذاتية، تتمثل الأولى أساسًا في القيمة الفلسفية والمنهجية وربما البيداغوجية للاشتغال على فكر جون رولز بصفة عامة لما يتميز به من ثراء وخصوبة في مجال اهتماماته (الفلسفة الأخلاقية والسياسية)، ومجال انتمائه (الفلسفة الأنجلو-سكسونية)، فهذان المجالان يشهدان إلى أيامنا هذه جدلاً واسعًا بشأن قيم الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الأفراد والجماعات، وفي صلب هذا الجدل بالذات يحتل السجال بين نظرية رولز في العدالة ونظيراتها وخاصة تلك التي تقول بها النظريات الغائية وعلى رأسها المنفعية مكانة متميزة ومخصوصة ظلت على الرغم ممّا كُتب حول رولز مذيلة في بعض الهوامش أو ربما، في أحسن الحالات، يفرد لها فقرة أو عنصر من فصل في سياق إشكالي مختلف. وعلى هذا الأساس ارتأيت أن أفرد بحثًا مخصوصًا لهذا السجال ضمن رسالتي في الدكتوراه حملت عنوانًا ("نقد رولز للمنفعية") يعكس هذه الرغبة المبنية على أسس موضوعية بالدرجة الأولى لإظهار حقيقة ذلك السجال وأبعاده وتبعاته على صعيد الفلسفية السياسية والأخلاقية لا في الفضاء الأنجلو-سكسوني فحسب بل تعداه إلى كل العالم حيث أصبح هذا السجال أرضية خصبة للعديد من النقاشات فلم يعد ممكنًا الخوض في المسائل ذات الصلة دون العودة الصريحة والمباشرة إلى ذلك السجال. بل إنّ فهم نظرية رولز في العدالة بوصفها إنصافًا متوقف بالضرورة على فهم النظرية المنفعية وفي ذلك كتب ويل كمليشكا يقول في كتابه مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة: "لقد كان جلّ الفلاسفة السياسيين المعاصرين يأملون في الظفر ببديل متناسق للنزعة المنفعية إلا أنّ جون رولز كان أول من قدم ذلك البديل في كتابه الصادر سنة 1971، الذي يحمل عنوان نظرية في العدالة"[1]

ولكن على الرغم ممّا حظي به هذا السجال من صيت واسع في العالم الغربي فإنّ المكتبة العربية ظلت تفتقد لبحث أو مؤلف يحتويه ويعلنه بواسطة اللغة العربية ولعل ذلك من أهم أسباب اختيار هذه اللغة لغةً للكتابة في بحثي عسى أن يبلغ الغاية التي قادتني إلى هذا الاختيار. والحقيقة أنّ ما كُتب حول رولز بلغة الضاد ظل مجرد نتف متناثرة هنا وهناك أو بعض المقالات ورسائل الماجستير.

وأما عن المبررات الذاتية، فتعود إلى إحساس غريب رافقني ذات مرة في أواخر السنة الدراسية 2006~ 2007، (قبيل التسجيل رسميًّا في شهادة الدكتوراه بسنة ونيف تقريبًا) عندما كنت بصدد تحليل نص لجون رولز في إطار مسألة العمل: النجاعة والعدالة، من الكتاب المدرسي لتلامذة الأقسام النهائية شعبة الآداب وقد عنون المشرفون عليه هذا النص بـ"العدالة والنجاعة"، فأخذت أبحث في فلسفة الرجل الذي دخلت كتاباته برنامج الفلسفة للأقسام النهائية لأول مرة آنذاك حتى قادني البحث إلى الرغبة في إعداد شيء ما في صدده وبلغت غايتي التي تجسدت في إطار رسالتي في الدكتوراه التي حملت طموحي إلى فضاء الجامعة من جديد بعد أن أوشكت أن أعلّق كل اتصال بها والاكتفاء بشهادة الدراسات المعمقة، ومن ثمة بدأت الرحلة مع معاشرة مؤلفات رولز عن كثب.

نور الدين علوش: لم ينظر رولز للعدالة في بعدها المحلي بل للعدالة الدولية خاصة من خلال كتابه قانون الشعوب فما هي أهم مبادئ العدالة الدولية وأسسها؟ وما موقع كانط خاصة في كتابه نحو السلام الدائم في تأسيسه للعدالة الدولية؟

نوفل الحاج لطيف: في الحقيقة لا يخرج اهتمام جون رولز بهذه المسألة عن مناهضته للأفكار المنفعيّة[2] التّي تعهّد بمتابعتها ونقدها حيث ما وجدت، لأنّه راهن منذ البدء على إنشاء نظرية في العدالة تصلح لأنّ تكون بديلاً عنها. ولأجل ذلك ارتأى جون رولز تمشّيًا تعاقديًّا بوصفه نهجًا لا محيد عنه في البحث عن المبادئ الخاصّة بالعدالة في مستوياتها المختلفة: سواء تعلّقت بالمؤسّسات الاجتماعية، أو بالأفراد، أو بالمجال الدولي وسلوك الدول، وما يمكن أن ينتظم بينها من علاقات، وعن هذا المستوى الأخير سيتركز الاهتمام في هذا المقال. وتجدر الإشارة إلى أنّه بحسب رولز لا يمكن طرح فكرة عقد دولي من أجل السّلم والتعاون ما لم يتمّ الاتفاق أولاً على مبادئ العدالة التّي ينبغي لها أن تنطبق على الصعيد الداخلي وتحكم نمط اشتغال المؤسّسات الكبرى في كلّ مجتمع بشكل منفصل، وكذلك مبادئ العدالة التّي تخصّ الأفراد وتحكم أفعالهم وعلاقاتهم داخل مجال انتمائهم القومي. وإذا كان الاهتمام بهذه المسألة لم يحظ بالحيّز نفسه في كتاب نظرية في العدالة، فإنّ رولز استدرك أمره في كتاباته اللاحقة، ولن أبالغ إن قلت إنّه خصها بكتاب منفرد اختار له عنوانًا يعكس حجم هذا الاهتمام المتزايد بها وهو: قانون الشعوب بتاريخ سنة 1999، وفي هذا الكتاب المتأخّر نسبيًّا عن كتابه، فائق الشهرة، "نظرية في العدالة"، حاول صاحبه أن يبلور تصوّرًا جديدًا للعلاقات بين الحضارات والأمم والشعوب قوامها التعاون والتعايش السلمي، بعيدًا عن كلّ مظاهر العنف والحرب والقوّة والهيمنة، بما يضمن استقرار النظام الدولي، على أساس العدالة وما يقتضيه ذلك من مبادئ من شأنها أن تحدّد بشكل واضح حقوق كلّ شعب يرتقي إلى مرتبة عضو دائم في المجموعة الدولية وواجباته، ولن يتسنّى ذلك إلّا بالقطع مع المقاربة الواقعية التّي سيطرت على التفكير الفلسفي في حقل العلاقات الدولية، والتّي تنظر إلى السّلم بوصفه نتيجة توازن بين القوى العسكرية التّي تمتلكها دول تتمتّع بالسيادة الكاملة وذات مصالح متضاربة على نحو جوهري، وذلك في اتّجاه صياغة رؤية جديدة تنهض على وفاق أخلاقي بين شعوب متعقّلة ومنتظمة في إطار دول، وتقديم معالجة تعاقدية للتهديد الذي تمثّله الحرب على القانون الدولي وعلى العلاقات بين الشعوب.

نور الدين علوش: وفي الواقع، لا يمكن أن ندرك أهمية التمشّي التعاقدي الذي يتوخّاه رولز في البحث عن مبادئ العدالة الدولية دون العودة إلى المقاربة المنفعيّة، فماذا عن قراءة هذه الفلسفة المنفعيّة للعلاقات الدولية؟ وما الذي تثيره من إحراجات في هذا السياق؟

نوفل الحاج لطيف: قد يبدو من نافلة القول، التأكيد على أنّ نظرية رولز برمتهّا تحتاج لكي تُفهم أن نقارنها بالنّظريّة المنفعيّة، ولكن لا يعني هذا أنّه ليس لها مقوماتها الذاتية التّي بها تتميّز وتقوم نظريةً مخصوصةً، ولأجل ذلك سأبدأ بالتذكير بأحد مقومات تلك النّظريّة ألا وهو مفهوم "البنية الأساسية للمجتمع"، وأعتقد أنّ هذا المفهوم متى فُهم على نحو صحيح، أصبح بإمكاننا عندئذ أن نتحدّث عن عقد اجتماعي دولي أو ربّما كوني تكون قاعدته بنية اجتماعية أساسية منفتحة بحكم طبيعتها، من حيث هي بنية تعاون في جوهرها وفي طبيعة تكوينها، وفي وظيفتها وفي غايتها. ولمّا كان موضوع العدالة الأوّل هو هذه البنية على صعيد العلاقات بين الأشخاص داخل المجتمع الواحد بما يقتضيه الإنصاف، فالأمر سيّان إذا ما انتقلنا من العلاقات بين الأشخاص إلى العلاقات بين المجتمعات والدول، مادام الأمر في الحالات المختلفة متعلّقًا بالتعاون، سواء كان هذا التعاون محلّيًّا أو دوليًّا. وما انفكّ رولز يذكّرنا دائمًا بأنّ الحقل المميّز لانطباق مبادئ العدالة هو البنية الأساسية للمجتمع، وعن هذا الأمر يمكن أن نورد ما قاله رولز نفسه: "إنّ العدالة بماهي إنصاف نظرية سياسية، وليست نظرية عامة، في العدالة: إنّها تنطبق أولاً على البنية الأساسية للمجتمع وتعتبر أنّ سائر المسائل الأخرى المتعلقة بالعدالة المحلّية وبالعدالة الكونية (التّي أسميها قانون الشعوب) تتطلّب معالجة منفصلة عن استحقاقها. ونسمّي مبادئ العدالة التي يجب أن تُطبق على نحو مباشر من قبل الجمعيّات والمؤسّسات، مبادئ العدالة المحلّية.

وبذلك نكون، إجمالاً، إزاء ثلاثة مستويات في العدالة: أولاً، العدالة المحلية (حيث تنطبق المبادئ بشكل مباشر على المؤسّسات والجمعيات)، ثمّ، العدالة الخاصّة (حيث تنطبق المبادئ على بنية المجتمع الأساسية)، وأخيرًا، العدالة العالمية (حيث تنطبق المبادئ على القانون الدولي). وتبدأ العدالة بما هي إنصاف بالعدالة الخاصّة، تلك التّي تخصّ بنية المجتمع الأساسية، ثم تتطوّر في اتّجاه المحيط الخارجي لتمنحنا قانون الشعوب، وفي اتّجاه الداخل لتمنحنا العدالة المحلّية"[3]، وهذا معناه أنّ كلّ مستوى من مستويات العدالة المعلنة، يحافظ على خصوصية معيّنة وبالتّالي لا يمكن أن ننتصر إلى مستوى على حساب الآخر، أو نلغي أحدها لحساب الآخر أيضًا. ولا يبدو أيّ نظام في غير حاجة لبنية أساسية سواء كان خاصًّا أو محلّيًّا أو عالميًّا، طالما أنّ النظام يقوم على التبادل وعلى المشاركة والمساهمة وعلى التعاون. إنّ البنية الأساسية للمجتمع هي صورة نموذجية لما ينبغي أن يكون عليه التعاون في الاتجاهين: الداخل، حيث يتعلّق الأمر بالعدالة المحلّية، والخارج، حيث يتعلّق الأمر بقانون الشعوب، وهو ما يمكن أن نستنتجه من خصائص البنية الأساسية للمجتمع (التّي خصّها بمقال بعنوان: "البنية الأساسية للمجتمع"، 1978)، كما أوردها رولز: "نعني بالبنية الأساسية للمجتمع، الكيفية التّي يتمّ من خلالها تنظيم المؤسّسات الأساسية ضمن نظام موحّد، حيث تكون قادرة في صلبه على تعيين الحقوق والواجبات الأساسية وعلى وضع بنية لتوزيع ثمار التعاون الاجتماعي. وأمّا المؤسّسة السياسية وسائر أشكال الملكية القانونية المعترف بها، والتنظيم الاقتصادي وطبيعة الأسرة فإنّها جميعًا تمثّل جزءًا منها"[4].

وتتّفق فكرة التعدّدية التّي تدافع عنها الليبرالية الجديدة، كما يسوّغ لها رولز، والتّي تحكم طبيعة المجتمعات الديمقراطية المعاصرة، مع تعدّدية المجتمعات ذاتها، ومن هذا المنطلق يمكن لنظرية رولز أن تمتدّ إلى المستوى الدولي، حتّى أن الرجل يعتمد فرضية الوضع البدئي خلف ستار الجهل في ترتيب المجتمعات، ولكنه في الوقت ذاته، انطلاقًا من بعض المقاييس، يقبل بدخول مجتمعات غير ليبرالية في التفاوض بشأن مبادئ العدالة لصالح مجموعة الشعوب، وعليه لا يتعلّق الأمر بفرض شروط العقد كما تفترضه المجتمعات الديمقراطية المعاصرة بالقوّة على الشعوب التّي يصنّفها غير ليبرالية. ومعنى هذا أنّ رولز يحاول توسيع مجتمع الشعوب ليستوعب الشعوب غير الليبرالية عبر فكرة التسامح لتعني هذه الفكرة أكثر من مجرّد الامتناع عن فرض عقوبات عسكرية واقتصادية ودبلوماسية-التّي يبدو فرضها طبيعيًّا ومفروغًا منه بالنسبة إلى الأنظمة الليبرالية تجاه الآخر- وإنّما يذهب رولز إلى أبعد من ذلك في النظر إلى الشعوب غير الليبرالية المقبولة على أنّها أعضاء على قدم المساواة، مشاركة من موقع جيّد في مجتمع التسامح بين الشعوب، على اعتباره مطبقًا في المجتمع الواحد والسبب الآخر هو أنّ فرض عقوبات على الشعوب غير الليبرالية يؤثّر سلبًا على احترام الشعوب والأشخاص لذاتها ما يؤدّي إلى شعور لا مبرّر له بالمرارة والكراهية، ثم إن التسامح قد يؤدّي إلى التحوّل التدريجي للشعوب غير الليبرالية إلى الليبرالية.

ولمّا كان العقد الاجتماعي يحدّد شروط التعاون، فإنّ السؤال يتعلق هاهنا بمدى قدرة ارتقاء هذا التعاون، وفق تلك الشروط، إلى المستوى الدولي، بمعنى آخر أيّ قيمة لعقد اجتماعي يمكن أن يمتد إلى المستوى الدولي، أو أن يستجيب لمقتضيات العلاقة الدولية؟ وإذا كان بإمكاننا أن نستدلّ على وجود بنية أساسية على المستوى الدولي، فماذا نعني، عندئذ، بالمجتمع الدولي (بما تعنيه العبارة من اعتراف بوجود رابطة ما بين دول العالم)؟ يقتضي الأمر، بلا منازع، في هذه الحالة استخدام مبادئ العدالة التوزيعية.

فالعدالة الاجتماعية يبدو أنّها يمكن أن تحمل أكثر من دلالة، دون أن يعني ذلك، برأيي، غموضًا في المفهوم، بقدر ما يفيد بأنّها يمكن أن تحمل على معنى ضيّق ومحدود بحيث تتعلق بمجتمع ما، ويمكن أن تحمل على معنى أعمّ وأوسع لتتعلّق بالمجتمع الدولي، وإذا كان الموضوع الأوّل للعدالة هو البنية الأساسية على صعيد المجتمع الواحد، فهي كذلك بالنسبة إلى المجتمع الدولي، على أن نأخذ بعين الاعتبار، في الحالتين، عدالة التّوزيع، ولنتذكر ما يقوله رولز في خصائص البنية الأساسية: "بالنسبة إلينا، الموضوع الأوّل للعدالة هو البنية الأساسية للمجتمع، أو بصفة أدق، الكيفية التّي من خلالها توزع المؤسّسات الأكثر أهمية في المجتمع الحقوق والواجبات الأساسية، ومن خلالها أيضًا يضبط توزيع ثمار التعاون الاجتماعي. وتعني المؤسّسات الأكثر أهمية المؤسّسة السياسية، وسائر البنيات الاجتماعية والاقتصادية الأساسية. هذا بالإضافة إلى الحماية القانونية لحرية التعبير والضمير، ووجود الأسواق التنافسية، وتمثل الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج، والأسرة أحادية الزواج خير مثال على ذلك"[5].

تعني البنية الأساسية للمجتمع، إذن، "تنظيم المؤسّسات الاجتماعية الكبرى في نظام تعاون واحد"[6]، غير أنّ عبارة" مؤسسات اجتماعية كبرى"، تفترض تأويلات مختلفة. فإذا افترضنا أنّ نظم التعاون أكثر عددًا من الدول، ونظرًا لأهمية هذه النظم الجزئية ضمن بنيات أساسية جزئية، فهل يمكن الحديث، عندئذ، عن بنية أساسية شاملة أو عالمية؟ ذلك هو ما تراهن عليه العدالة بما هي إنصاف على الصعيد الدولي حيث يتعلق الأمر بمدى انطباق مبادئها (مبادئ العدالة) على العلاقات الدولية، أي مدى قدرة هذه المبادئ على الامتداد على النطاق العالمي. معنى هذا أنّ دائرة العدالة يمكن أن تتسّع عبر الانتقال من البنية الأساسية المحلّية إلى البنية الأساسية العالمية، وهذه الأخيرة يبدو أنّها واقع لا سبيل للاعتراض عليه وفي هذا الصدد يتحدّث راكس مارتن عن وجود بنية أساسية عالمية أو دولية لأنّ العلاقات بين الدول قائمة على التّرابط في ما بينها أصلًا[7]، وهي تعبّر عن وجهة النظر الكوسموبوليتية، غير أنّ هناك من يرى عكس ذلك تمامًا، بحيث لا يمكن الحديث عن مجتمع عالمي، لأنّه لا يمكن الحديث عن بنية أساسية موحّدة، ومن بين من يقول بهذا صامويل فريمان الذي يعتقد بأنّه لا توجد بنية أساسية عالمية لأنّه ليس هناك مؤسّسات عالمية أساسية ولا مؤسّسة دولة عالمية، ولا نظام عالمي قانوني مستقل، ولا نظام ملكية دولي، ولا قانون تعاقدي عالمي مستقل[8].

إنّ البنية الأساسية، بقطع النظر عمّا يمكن أن يقال بشأنها من هنا وهناك، تمثّل إمكانية منفتحة لعلاقات لا فقط محلّية بل وأيضًا دولية، وهو ما يدفع في اتّجاه كوننة العدالة بما هي إنصاف ضمن فضاء دولي قوامه قانون الشعوب، ولعلّ هذا ما حدا ببوكنان إلى التعبير عن هذه البنية بكيفية تعكس وعيًا حقيقيًّا بأهمية هذا التصوّر على صعيد العلاقات الدولية، وأعتقد أنّه تعبير مقنع إلى أبعد حدّ ومفاده "بنية قانونية عالمية "[9]، وهذا ما ينبغي النضال من أجله حتى تضع الحرب أوزارها ويحلّ السّلام الدائم في العالم عبر هذه البنية الأساسية أيّا كان تأولها وأيّا كانت الصيغة التّي ترد فيها، لأنّ الأمر، برأيي، لا يتعلّق بمجرّد اصطلاح أو بمجرّد تعميم للجزئي ورفع له إلى مستوى الكوني، بقدر ما هو رغبة صريحة من لدن مفكّر ما فتئ يدافع عن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وهو دفاع يقفز فوق الخصوصيات المحلّية الضيقة والتصوّرات الاختزالية للبشر في دائرة من الاهتمامات والمشاغل المتعلّقة بـ "تأويج" المنفعة.

وهذا ليس إلّا غيضًا من فيض من نظرية ذاع صيتها، ولكن لنعد من جديد من حيث بدأنا، لنقول إنّ المنفعيّة تفترض أن يكون معيار الحكم من وجهة الأخلاق على القرارات والسياسات العمومية، مدى انسجامها مع مبدئها الأعظم الذي يختزل تعاليمها وأفكارها "أعظم سعادة لأكبر عدد"، ولن نعود هنا إلى ما يثيره هذا التحديد من تناقضات أو ما يعكسه من مغالطات بوجه عام، ولكن سنركّز على ذلك على صعيد العلاقات الدولية. فهذه المقاربة تقود إلى إقرار أخلاق ينبغي على سائر الدول الفاعلة في الساحة الدولية أن تعمل من أجل حمايتها وتكريسها وترسيخها، حتى أنّها توصي بأن يُنظر للعلاقات بين الدول بحسب ما قد يتحقّق من منفعة شاملة تغنمها المنظومة الدولية ككلّ إذا ما دخلت في نظام تلك العلاقات، فالمسألة لا تخرج، في كلّ الأحوال عن منطق حساب المنافع ربحًا وخسارةً، غير أنّها هذه المرة ليست على صعيد كلّ مجتمع على حدة (وإنّما على صعيد المنظومة الدولية برمتها)، فكأنّنا هنا إزاء مبدأ يتحرّك بتحرّك المصلحة ذاتها، فيدركها حيث تدرك ذاتها في أي صيغة ترد فيها، وعلى أيّ صعيد كان، ولكن ثمة أمر جميل في كلّ ذلك، فهذه المقاربة تبدو وكأنّها تريد من الشعوب أن تجنح إلى السلم كافة، وأن لا تخوض الحرب، ولكن بحسب قاعدة المنفعة، ذلك أنّ الدخول في السلم فيه غنم أكبر ولأكبر عدد ممكن من الشعوب، وخوض الحرب فيه خسارة أكبر ولأكبر عدد ممكن. وهذه القاعدة الذهبية في النّظريّة المنفعيّة تفرض أن تكون سعادة الشعوب في رفاهها ورخائها المادي وأنّ ذلك لا يمكن أن يتحقّق إلّا عبر التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري وليس في الهيمنة الدولية والسيطرة على الشعوب الأخرى. وعليه يصبح مرحّبًا به كلّ ما يمكن أن يدعم الاستقرار الدولي بحيث يتوفر المناخ المناسب لمزيد التبادل التجاري والتعاون الدولي من أجل "تأويج" المنفعة الجامعة والرفع من مستويات النمو. بيد أنّ هذه المقاربة، على الرغم من تميّزها عن النزعة الواقعية في العلاقات الدولية إذ تجعل من السّلم حالة قائمة على الاقتصاد والزيادة في معدلات النماء، لا على توازن القوى على السيطرة على الآخر، فإنّها تظلّ، حسب رولز، عاجزة عن توفير إطار نظري قادر على تسويغ علاقات دولية متكافئة بين الشعوب ويسمح بتجنب شبح الحرب، بل أقول يسمح بإيقاف الحرب. فكما أنّ اعتماد المبدأ المنفعي "أعظم سعادة لأكبر عدد"، أساسًا للتشريع وتقييم السياسات العامة داخل كلّ بلك ينتج عنه تراجع مقتضى العدالة إلى مرتبة ثانوية، بل إنّ العدالة تصبح مجردة أداة في خدمة مقتضى "تأويج" المنفعة وجلب أعظم خير لأكبر عدد من الناس، وهذا من شأنه، بطبيعة الحال، أن يؤدي إلى القبول بإمكانية التضحية بالأقلية لصالح الأغلبية، فضلاً عن أنّ اعتماد المبدأ ذاته أساسًا أخلاقيًّا في العلاقات الدولية، ينتج عنه تهميش العدالة ذاتها في العلاقات الدولية، ومن ثمة لن يتروع المجتمع الدولي بالتضحية بالأقلية من الشعوب أمرًا مبرّرًا، طالما أنّ في ذلك منفعة أعمّ بالنسبة إلى الأغلبية، فمنطق التضحية الذي يحكم العلاقات بين الأفراد هو ذاته الذي يحكم العلاقات بين الشعوب، فلا يهمّ وفق هذا المنطق إن كان شعب ما قد خسر من علاقات التبادل التجاري، أو أنّه لأسباب تاريخية (كتلك التّي تتعلّق بالاستعمار مثلاً)، أو جغرافية، أو ثقافية أو ما إلى ذلك لم يكن قادرًا على منافسة الشعوب الأخرى والاستفادة من التعاون الدولي ليرفع من حجم الكفاءة الاقتصادية لديه فيغنم أرباحًا، مادام حجم ما خسره قد تمّ تعويضه بأرباح حقّقتها الشعوب الأخرى والمنتظم الدولي برمتّه.

وخلافًا، لهذه المقاربة المنفعيّة للعلاقات الدولية، لا تركز النّظريّة التعاقدية التّي يقول بها رولز، على البعد الاقتصادي وما يمكن أن يضاعف في نسبة المنفعة الجامعة للمنظومة الدولية، بل إنّها تضع تلك العلاقات، منذ البداية، على صعيد سياسي قوامه مسلّمة أخلاقية سياسية أساسية مفادها أنّ كلّ الشعوب اللائقة والمتعقلة شريكة في نظام تعاون، هو المجتمع الدولي، تكون فيه متساوية وتتمتّع بسيادتها وحقوقها كاملة، ولعلّه لهذا بالذات لا يمكن أن يكون مبدأ المنفعة مقبولاً كمبدأ في العدالة الدولية لأنّه يتضمّن فكرة التضحية التّي تقود إلى تبرير خسارة شعوب معيّنة لموارد اقتصادية بما حقّقته شعوب أخرى من أرباح وفوائد، وهذه الطّريقة في التعويض التّي بمقتضاها تقع التضحية بأرباح شعوب من أجل تعويض خسائر شعوب أخرى تتناقض تمامًا مع مبدأ المساواة وفي ذلك يقول رولز: "إنّ مبدأ المنفعة... لن تقبل به مجموعة الشعوب لأنّه لا يوجد شعب تُدير شؤونه دولته مستعدّ لقبول مبدأ أساسي يجعل أرباح شعب آخر يفوق حجمها حجم التضحيات التّي فُرضت عليه. إنّ الشعوب ذات التنظيم الجيّد تؤكّد المساواة فيما بينها بوصفها شعوبًا. ويستبعد تأكيد كهذا كلّ صيغة من صيغ المبدأ المنفعي"[10]. معنى هذا أنّ تعاقدية رولز تمنح الأولويّة للاعتبارات المتعلقة بالعدالة على تلك المتعلقة بالمصالح الاستراتيجية والبحث عن سبل "تأويج" المنفعة مفهومة حصرًا وفق مفردات اقتصادية. وإنّ النظر في العلاقات الدولية، ومن زاوية نظر تعاقدية، يعني تحديدًا موافقة كلّ وحدة سياسية، أي كلّ شعب، وقبوله بتنظيم ما للعلاقات الدولية أساسًا يتعيّن أن ينهض عليه القانون الدولي، لأنّه لا يمكن للمنفعة العامة والرضى عن نسب النمو الاقتصادي التّي يحقّقها نمط ما لتنظيم العلاقات الدولية أن تمثّل أساسًا متينًا يمكن أن نثق به لإقامة علاقة مستقرّة بين الشعوب. ومن ثمة يكون موضوع نظرية العدالة الدولية، وفق وجهة نظر رولز التعاقدية، هو العلاقات بين وحدات متشكلة من شعوب ومجتمعات ترى نفسها حرة ومرشحة لنيل صفة العضوية الكاملة في جماعة الأمم. ومن أجل ذلك يفترض رولز حالة مثالية من التفاوض يدعى إلى المشاركة فيها ممثّلو مختلف الشعوب اللائقة، المنتظمة في إطار دول، لاختيار المبادئ التّي من شأنها أن تحكم علاقاتها في المستقبل. وفي هذا الاتّجاه تأتي محاولة رولز بمثابة خريطة طريق لحلّ مشكلة العلاقات الدولية وفق إجرائية التعاقد على أساس الإنصاف وهو ما يقتضي افتراض وضع للاختيار بحيث يكون بموجبه تحييد أشكال اللامساوة بين الشعوب، تلك التّي تنجم عن الظروف الطبيعية والتاريخية، ومنعها من أن تؤثّر في طبيعة المبادئ التّي سيتمّ اختيارها ومن ثمة التوافق بشأنها، فلا يجب أن يؤثّر التفاوت في الثروة بين الشعوب ولا التفاوت في مصادر القوّة والنفوذ العسكري ولا المجد التاريخي، في التفاوض بين ممثلي تلك الشعوب، ولا ينبغي أن يحدّد ذلك نتيجة التفاوض بين أطراف تطمح إلى الشركة بينها مستقبلاً. وعليه، لابدّ أن تشعر الأطراف المتفاوضة أنّها على قدم المساواة، وفي حالة من التناظر الكامل فيما بينها حتى يتمّ اختيار مبادئ العدالة الدولية ضمن شروط يتوفّر فيها الإنصاف، في مشهد يذكّر بالوضع البدئي ووضع الشركاء الممثّلين للأشخاص فيه، لتتأكد ضرورة بناء العلاقات في مستوياتها المختلفة على فكرة التعاقد، بناء أصبح اليوم أكثر من ضروري، وإن كان تحقيقه مازال متعذرًا، وكونه كذلك لا يعني البتّة التراجع عن العمل على تحقيقه وترسيخه نهجًا بديلاً عن النهج المنفعي. وأسوة بوضع الشركاء في الوضع البدئي حيث يتمّ اختيار المبادئ خلف ستار من الجهل، يرى رولز أنّ تحقيق مقتضى العدالة الدولية لابدّ أن يتمّ في الظروف نفسها بشكل مماثل لأنّ الاختيار العادل، المحايد وغير المتحيز لصالح جهة على حساب جهة أخرى يحتاج إلى مثل تلك الظروف بحيث لا يضع مشروعيته بعد ذلك موضع مساءلة أيّ طرف من الأطراف المشاركة، ولأجل ذلك ارتأى رولز أن تحجب عن ممثّلي الشعوب، في إطار الوضع البدئي-كوضع افتراضي-كلّ المعلومات التّي من شأنها أن تؤثر في اختيارهم فينحازون لمصالح شعوبهم على حساب باقي الشعوب، فينعدم بذلك شرط الإنصاف أو الحياد، ويشرح رولز هذا الأمر عندما يقول: "يخضع ممثّلو الشعوب إلى ستار من الجهل قُدّ على نحو يتلاءم مع هذا الوضع بحيث يجهلون مساحة الدولة التّي يمثلونها، وعدد سكانها ومدى قوة الشعب الذي يمثلون مصالحه الأساسية(...) وفوق ذلك يجهلون حجم مواردها الطبيعية أو درجات نموها الاقتصادي أو أيّ معلومة من هذا القبيل"[11]، ومن ثمار ذلك الوضع وما يفترضه من شروط مثالية ومعقولة، إذ يتمّ التفاوض خلف ستار من الجهل تجاوبًا مع مبدأ الإنصاف والحياد، من أجل الاتفاق بشأن جملة من المبادئ يكون الجميع مطالبين بالالتزام بها واحترامها في العالم الواقعي عندما يحصل كلّ طرف منهم على المعلومات التّي افتقدها بفعل ستار الجهل عند اختيار مبادئ قانون الشعوب، وبين رولز لماذا يستعمل مفهوم الشعوب بدل الدول أو الأمم، ويعود السبب في ذلك، أولاً، إلى أنّ الشعوب بعكس الدول لا تحركها منافعها الخاصّة وإنّما تحدد مصالحها الأساسية بشكل معقول دون المساس بمصالح الشعوب الأخرى، أي أنّ الشعوب تمتلك جانبًا أخلاقيًّا، وثانيًا، إلى أنّ الشعوب لا تمتلك السيادة التّي تمكّنها من شنّ الحرب على الشعوب الأخرى كما لا تمتلك السيادة حتى تتعامل مع مواطنيها، ما يعني أنّ الدول الكبرى والمنظمات الدولية تمتلك كامل الحرية في التدخل بشؤونها. ويرى رولز ضرورة تحديد سيادة الدول في التعامل مع مواطنيها بغرض حماية حقوق الإنسان، ويرى أيضًا أنّ الشعوب الليبرالية تتميّز بجانب مؤسّساتي يتمثّل في امتلاكها حكومة ديمقراطية دستورية عادلة على نحو معقول، وتتميّز كذلك بجانب ثقافي حيث تجمعها وحدة المشاعر ولغة ودين وتاريخ مشترك، هذا فضلاً عن كونها تمتلك صفة أخلاقية بحيث تستطيع أن تتعاون مع باقي الشعوب وتعاملها بالمثل. ومبادئ قانون الشعوب كما يحدّدها رولز ثمانية نوردها كما يلي:

1-     الشعوب المنظمة حرّة ومستقلة ويجب احترام حريتها واستقلاليتها من قبل الشعوب الأخرى.

2-     الشعوب متساوية وتعتبر أطرافًا في اتفاقاتها.

3-     للشعوب حقّ الدفاع عن النفس وليس لها الحقّ في شنّ الحرب.

4-     على الشعوب أن تحترم واجب عدم التدخل.

5-     على الشعوب احترام المعاهدات والالتزامات.

6-     على الشعوب احترام تحديدات معيّنة حول كيفية السلوك في الحرب.

7-     على الشعوب احترام حقوق الإنسان.

8-  واجب الشعوب مساعدة الشعوب الأخرى التّي تعيش في ظل ظروف غير مواتية تحول دون تمتّعها بنظام سياسي واجتماعي عادل ولائق[12].

ويتعامل رولز مع كلّ ذلك بموجب مبدأ روسو الذي ينظر للبشر كما هم فعلاً والقوانين كما يجب أن تكون، ذلك أنّ الاتفاق بين ممثّلي الشعوب الليبرالية بشأن مبادئ القانون كما رأينا يتمّ خلف ستار من الجهل ضمن وضع بدئي افتراضي ضمانًا للحياد التام، ثم بعد ذلك تتحدد طبيعة العلاقات بين الشعوب الليبرالية والشعوب غير الليبرالية ويُشترط لكي تكون عادلة ولائقة أن تتوفّر فيها المواصفات التالية:

1-     ليست لها أهداف عدوانية.

2-     يتكون الشّرط الثاني من ثلاثة أجزاء:

أ- تمتلك نظامًا قانونيًّا ينسجم مع تصوّرها للعدالة ويؤمّن الحقوق الأساسية للمواطنين: حقّ الحياة والحرية والملكية المساواة.

ب- النظام القانوني يحدّد واجبات والتزامات أخلاقية على كلّ الشعوب بما يتناسب مع فكرتهم المشتركة عن الخير ولديهم القدرة على التعلّم الأخلاقي.

ج- على المسؤولين القضائيين أن يؤمنوا بوجود تصوّر مشترك للخير وأن يهتدوا به[13].

ويرى رولز أنّ ما يميّز الشعوب الليبرالية هو أنّ حقوق الإنسان فيها تقوم على تجمّعات وجمعيات واتّحادات أي جماعات تتمثّل في النظام القانوني من قبل هيئة هرمية تشاورية مقبولة، وظيفتها أن ترعى تصوّرًا مشتركًا للخير وتسمح لكلّ الآراء أن تُطرح وعلى المسؤولين الإصغاء الجيّد لها وتقديم التفسيرات المطلوبة بشأنها، في حين ينتمي مفهوم العدالة في الليبرالية فيما يتعلّق بحقوق الإنسان إلى تصوّر سياسي ليبرالي للعدالة فضلاً عن مجموعة ثانوية من الحقوق والحريات التّي ينبغي أن تؤمّن للمواطنين الأحرار والمتساوين. وبمعزل عن تجذّر نظرية قانون الشعوب في تربة النّظريّة الكلاسيكية المؤسّسة للقانون الدولي ولمبدئه الأساسي القاضي بالمساواة الكاملة بين الشعوب من حيث السيادة، أودّ أن أنوّه هنا بأهمية مشروع رولز وطرافته وجدّته في العديد من جوانبه قياسًا إلى النّظريّة الكلاسيكية، من حيث أنّ قانون الشعوب عند رولز لا يهدف فقط إلى تشجيع ظهور علاقات تعاون وسلم بين أمم ودول تمتلك مقومات السيادة جميعًا عبر حثّ الشعوب على الدخول في معاهدات ومواثيق وإبرام الاتفاقيات، بل أكثر من ذلك، إن لم نقل خلافًا لكلّ ذلك، يتمثّل الهدف الحقيقي لهذا القانون في البحث عن قاعدة اتّفاق أو وفاق أخلاقي دولي حول طائفة من المبادئ تكون نتيجته المباشرة ليس التخلّي عن الحرب فحسب بوصفها وسيلة اكتساب حقوق وتحصينها ولكن على نحو غير شرعي وغير قانوني، وإنّما أيضًا التخلّي عن كلّ وسائل القوة وأشكال الهيمنة المباشرة أو غير المباشرة واستغلال النفوذ للاحتفاظ بموقع مسيطر داخل المنظومة الدولية.

إنّ هذا الإطار النظري الذي تسوّغ له نظرية رولز في العلاقات الدولية، بلا شك إطار تعاقدي ولكن ليس طوباويًّا بحيث لا يمكن أن ينطبق على واقع الشعوب اليوم متى توفّرت الإرادة لتحقيقه، وهو على الرغم من ذلك يقترح بديلًا، لا فحسب عن المقاربة المنفعيّة، بل وأيضًا عن المقاربة الواقعية السائدة في النظر إلى العلاقات الدولية في سياق الفكر الأمريكي الذي لا يتصوّر إمكان السّلم في العالم إلّا من خلال نموذج توازن القوى وتكافؤ القدرة بين الدول على تدمير بعضها بعضًا، وأبعد من ذلك يصبح الهاجس الذي يسيطر على الدول هو كيف تُحصّن وجودها داخل عالم غير آمن يتهدّده باستمرار الانزلاق نحو العنف والحرب، وليس بناء علاقات مع بعضها بعضًا على أساس التعاون والثقة المتبادلة والحرص على شروط الإنصاف. وإذ يؤكّد رولز على أهمية تجاوز هذه النظرة الواقعية التّي ابتذلت العلاقات الدولية بجعلها رهن موازين القوى، يقترح يوتوبيا واقعية تستند إلى المكتسبات التاريخية للبشرية، وإلى تطوّر (وانتشار) ثقافة السّلم والتسامح التّي تجسّدها الفلسفة الليبرالية السياسية التّي يدافع عنها حيث يقول: "تنفي الليبرالية من خلال فكرتي اليوتوبيا الواقعية والعقل العمومي، ما توحي به لنا كثيرًا الحياة السياسية، ألا وهو أنّ السّلم بين الشعوب لا يمكن أن يكون شيئًا أكثر من تسوية بين قوى متوازنة"[14]، وخلافًا للتصوّر الواقعي، يرى رولز، أنّ ظاهرة الحرب لا يمكن فصلها عن الطّريقة التّي تدير بها دولة ما شؤونًا داخل حدودها، وبالتّالي، كما يشير إلى ذلك هو نفسه، يكون المجتمع الليبرالي ديمقراطيًّا ومستقرًّا عندما تحكم بنيته الأساسية ونمط اشتغال مؤسساته الكبرى رؤية عمومية للعدالة، يأتلف حولها كلّ مواطنيه ويقبلونها، فضلاً عن اعتماده على سياسية خارجية تجنح إلى السلم، وإلى التعاون مع المجتمعات الأخرى. ويحرص هذا النمط من المجتمعات على حماية السلم بدل الاندفاع نحو رعاية مصالحه متوسلاً في ذلك كلّ الوسائل المتاحة، بل مع إمكانية خلقها من أجل تلبية طموحاته، "لأنّه لا يمكن لمجتمع ليبرالي أن يطلب من مواطنيه أن يخوضوا الحرب من أجل تكديس الثروات الاقتصادية أو الاستحواذ على موارد طبيعية، باسم سياسة هيمنة أو من أجل مطامح إمبريالية"[15]، وهكذا لا يقترن نجاح المجتمعات الليبرالية في تقدير رولز بالإنجازات العسكرية أو بانعدامها، بقدر ما يقترن بتوفير العدالة الاجتماعية لأعضائه، ولا تقاس قيمة الدولة بما تحققه من إنجازات اقتصادية، بقدر ما ترتبط بتشريع قواعد تحفظ حريات الأفراد الأساسية، وما يهم كما يقول رولز هو "ثراء الثقافة المدنية والاجتماعية وثراء التعبير عنها، وأيضًا مستوى لائق من الرفاه الاقتصادي لكلّ أفراد الشعب"[16].

ولا يفوتنا هنا أنّ نوضح ما يعنيه رولز بالمجتمع الليبرالي، حتى نستطيع أن نفهم حقيقة الغنم الذي يمكن أن نجنيه متى استقام حال العلاقات الاجتماعية على الصعيدين المحلّي والدولي على أساس التعاون والتبادل، وعلى أساس العدالة والإنصاف، فهو مجتمع تكون فيه قيم الحرية والمساواة متأصّلة في ثقافته العامة، ويكون فيه الفرد مشرّعًا لكلّ صلاحية أخلاقية وحكمًا حرًّا فيما هو خير وشر، وتكون فيه حقوق الفرد محفوظةً دستوريًّا وقانونيًّا، وذلك في انسجام تامّ مع ما اصطلح عليه كانط المبادئ القبلية الضرورية لتأسيس مثل هذا المجتمع وهي مبادئ لا يتّخذها المجتمع لنفسه وهو قائم الذات بقدر ما هي قوانين تسمح بتأسيس مجتمع يمتثل إلى مبادئ العقل في مجال الحقوق الخارجية للبشر بصفة عامة، وتلك المبادئ هي ثلاثة (نوردها هنا كما يعرض لها كانط نفسه):

1-     "حرية كلّ عضو في المجتمع من جهة كونه إنسانًا.

2-     المساواة بين كلّ إنسان وأيّ إنسان آخر من جهة كونه واحدًا من الرعية.

نور الدين علوش: هل من تحول في بعض مواقف رولز كما يوحي بذلك كتابه "نظرية في العدالة، إعادة صياغة"؟

نوفل الحاج لطيف: ليست العلاقة بين نظرية رولز والمنفعيّة بسيطة، كما يمكن أن يتبادر إلى أذهاننا، لأنّه بقدر ما كان نقده لهذه النّظريّة شديدًا وجريئًا في كتابه نظرية في العدالة، بقدر ما تقلصت حدته في مؤلفاته اللاحقة إلى درجة بدا فيها وكأنّه يقبل ببعض القيم المنفعيّة أو على الأقل لا يرفضها وذلك لأنّ فكر الرجل تطور كثيرًا نتيجة الانتقادات التّي وجهت إليه من قبل معاصريه من المنفعيين. وفي ذلك يقول رولز: "يسعدنا لو أنّ المنفعيين استطاعوا، وفق وجهة نظرهم الخاصة، أن يجدوا طريقة للإقرار بأفكار ومبادئ العدالة بوصفها إنصافًا، لأنّهم بعملهم هذا يعني أنّهم يمكنهم المشاركة في الإجماع التقاطعي على ذلك المبدأ. وإذن لم تعنِ الملاحظات المتقدمة نقدًا للمنفعية بوصفها عقيدة شمولية. والعدالة بوصفها إنصافًا بما هي مفهوم سياسي للعدالة تتحاشى مثل هذا النقد حيثما أمكن"[17]. ولكن ما ينبغي ألا نغفل عنه أبدًا، على الرغم ممّا يمكن أن نلاحظه من تحول في فكر صاحب نظرية في العدالة، هو أنّ رولز لم يكن منفعيًّا، بالمعنى الحرفي للكلمة، "فالعدالة بوصفها إنصافًا ليست في ذاتها منفعية للأسباب التي تم ذكرها"[18]. فلقد كان رولز في محاجته للمنفعية حريصًا على متابعة تعاليمها بدقة متناهية تخفي حذرًا شديدًا يأتي في تقديري من رغبة الفيلسوف في تجنب كل تشابه أو خلط بين نظريته في العدالة بوصفها إنصافًا وبين النظرية المنفعية. ولأجل ذلك ينبغي مراجعة مختلف المواقف التي تزعم اعتبار نظرية رولز في العدالة صيغة منقحة من صيغ المنفعية على غرار ما ذهب إليه كل من ديفيد ليونس وسدناي ألكسندر. فرولز مفكر تعاقدي بامتياز، وهو يرفض تمامًا أن يؤسس نظريته في العدالة على أطروحة المنفعيّة التّي تعتقد أنّ الوقائع التّي تتصل بالرفاه الفردي وحدها تكون سديدة من الناحية الخلقية. وإذا لم يكن هدف رولز، في كتاباته المتأخرة عن نظرية في العدالة، دحض المنفعيّة بوصفها عقيدة شمولية، فإنّه ظل يدافع، ضدّ المنفعيّة، على النّظريّة التعاقدية كبديل عنها، لأنّها الأقدر على أن تمنحنا إطارًا لصياغة تصوّر سياسي للعدالة في سياق التعددية المعقولة. ومع ذلك لا شيء يمنع من إمكانية تجميع المنفعيين حول مبدأي رولز في العدالة كلّما كان بإمكانهم تقديم مبررات وجيهة لاعتمادهما وهو ما يبدو جليًّا في جل الدول الديمقراطية حيث نشهد تلاحمًا كبيرًا بين نظرية رولز والنّظريّة المنفعيّة وبشكل متزامن وخاصة في ما يتعلق بالسياسات الاجتماعية التّي ينبغي تبنيها.

والأهم من هذا كلّه بالنسبة إلينا أنّ نظرية رولز في العدالة بوصفها إنصافًا في أطوراها المختلفة استطاعت أن تطرح لأول مرة منهجًا جديدًا وجريئًا في طرح المسائل الخلقية والسياسية مازالت الجامعات عبر العالم تحتفي به. ولعل أهم إنجازات هذه النظرية تكمن أيضًا في حجم الجدل أو السجال الذي فجرته منذ ظهورها في صلب الفلسفة الأخلاقية والسياسية.

وفي هذا الاتجاه يمكن الحديث عن أمرتيا صن الذي استفاد كثيرًا من الدرس الرولزي فسعى إلى التوفيق بين متطلبات المبدأ المنفعي "أكبر رخاء لأكبر عدد من الناس" وتبني الدفاع عن الحقوق والحريات الأساسية الفردية بما تعنيه من استقلالية ذاتية وهو ما حاول القيام به حينما جعل التنمية والرخاء يقومان أساسًا على تطوير القدرات الذاتية للفرد حتى يكون مستقلاًّ بذاته وقادرًا على تلبية حاجاته على نحو معقول دون اعتماد كبير على الآخرين. ومن هذه الجهة يمكن أن تتقاطع المنفعية مع نظرية رولز في العدالة بوصفها إنصافًا وأن تقدم لنا رؤية منسجمة يقترن فيها الصالح العام بالحقوق والعدالة وتطوير القدرات الذاتية للفرد.

وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أنّ نظرية رولز في العدالة بوصفها إنصافًا تتميز بطابعها التأسيسي الذي بوأها مكانة متميزة في حقل النظريات حول العدالة الاجتماعية في العصر الحديث. فلقد نهل، في سبيل بلورتها، من روافد نظرية متعددة ومختلفة حتى أضحت أطروحته مرجعًا لا مندوحة عنها كلما وجهنا نظرنا إلى التفكير في مسألة العدالة لا في الفضاء الأنجلو-أمريكي فحسب وإنّما على صعيد العالم. وليس مرد هذه المكانة المتميزة التي تبوأتها نظرية رولز غياب الاهتمام بهذه المسألة إبان عقده لمصنفه حولها، بقدر ما أنّ الغاية من إعادة التأسيس للعدالة تبلورت في ضوء قناعة بالمنزلقات والمفارقات الكثيرة التي يقود إليها التصور المنفعي الذي زعم احتكار القول في العدالة قبل ظهور نظرية العدالة بوصفها إنصافًا اجتماعيًّا.

وفي هذا الصدد يعترف أمرتيا صن بالقيمة الفكرية لنظرية رولز، فهو لا ينفك ينبهنا إلى المنعطف الكبير الذي أحدثته هذه النظرية في تاريخ الفكر السياسي والأخلاقي، فهو كثيرًا ما يتعرف مشيدًا بمساهمتها في بلورته لنظريته أو لنقل فكرته حول العدالة. بيد أنّه رغم ذلك ظل يؤكد على حاجتها إلى بعض التدقيق والتعديل في بعض المواضع وفي ذلك كتب يقول: "تدعو إسهامات جون رولز العظيمة في فكرتي الإنصاف والعدالة إلى الإشادة، ومع ذلك ثمة أفكار أخرى في نظريته للعدالة تستدعي، فيما أرى، تدقيقًا وتعديلًا. لقد أضاء تحليل رولز للإنصاف والعدالة والمؤسسات والسلوك فهمنا للعدالة إضاءةً عميقةً ولعب-وما يزال يلعب-دورًا بنّاءً جدًّا في تطوير نظرية العدالة. لكن لا يسعنا اعتبار طريقة رولز في التفكير في العدالة نهاية الطريق، بل يتعيّن علينا الإفادة من غنى الأفكار التي استقينا من رولز ومواصلة عمله، بدل الاكتفاء بما جاءت به" "[19]. ففي نظرية رولز في العدالة مشروع يحتاج إلى مزيد التطوير والتأسيس لا إلى الهدم.

ولا شك بأنّ صن يلتقي في مواقفه أحيانًا كثيرة مع أفكار رولز حول العدالة في مواجهة هيمنة التصور المنفعي وهو ما يتجلى خاصة في تصوره للإنصاف على اعتبار أنّ أيّ اهتمام بمسألة العدالة يجب ألّا ينفصل عن الإنصاف وفي ذلك يقول في انسجام وتناغم تامين مع ما ذهب إليه رولز حول الإنصاف: "في هذه المقاربة يؤخذ مفهوم الإنصاف كأساس، أي أنّه، بمعنى ما، سابق لتطوير مبادئ العدالة. أرى أنّ لدينا سببًا وجيهًا للاقتناع بما يذهب إليه رولز من أنّ السعي للعدالة لابد أن يرتبط بفكرة الإنصاف، ويُستمد بمعنى ما منها. هذا الفهم المركزي ليس مهمًّا فحسب لنظرية رولز، بل إّن له كذلك صلة عميقة بمعظم تحليلات العدالة، ومنها ما أحاول تقديمه في هذا الكتاب" (ويقصد كتابه فكرة العدالة)[20] ويُفهم الإنصاف في تقدير صن على: "ألاّ ننحاز في تقييماتنا، وأن نأخذ مصالح الآخرين وشواغلهم في الاعتبار، وبالأخص أن نتجنب التأثر بمصالحنا نحن أو أولوياتنا أو اختلافاتنا الشخصية وآرائنا المسبقة. يمكن اعتبارها بصفة عامة مطلب الحياد"[21]

نور الدين علوش: ما حقيقة الجدل بين نظرية رولز في العدالة في كتابه "نظرية في العدالة" وبين تصور أمرتيا صن للعدالة في كتابه "فكرة العدالة" الذي أهداه إلى روح رولز؟

نوفل الحاج لطيف: ومن هنا نتبيّن كيف أن شرط النزاهة، أو الحياد في تقييم الأوضاع، هو ما يمثل ماهية فكرة العدالة بوصفها إنصافًا في تصور كل من رولز وصن. ولأجل ذلك سعى كلاهما إلى البحث في الحدود الممكنة لبلوغ أقصى حالة ممكنة من الإنصاف على الرغم ممّا يشقّ الحياة الاجتماعية والسياسية من تناقضات وصراعات يغلب عليها الظلم وغياب الإنصاف. وتتنزل فرضية الوضع البدئي، بالنسبة إلى رولز، في سياق البحث عن الحلول الممكنة لمثل هذه المآزق لأنّه كما يقول عنه صن: "وضع متخيّل من المساواة الأولية، يجهل فيه الأطراف المعنيون هويتهم الخاصة ومصالحهم الشخصية في المجتمع"[22]، مما يترتب عليه تكافؤ الفرص بين جميع الأطراف فيكون لكل شخص الحرية في الاختيار الذي يستجيب لمصالحه في ضوء جهل بقواعد اللعبة التي تدير مختلف العلاقات المتصورة بين الأفراد. فيكون على نظرية العدالة بوصفها إنصافًا أن تضفي نوعًا من المعقولية على هذه الحالة من خلال الكشف عن الكيفية التي تبنى وفقها تصورات الأشخاص حول العدالة انطلاقًا من وضعهم البدئي. فستار الجهل الذي يقف خلفه الشركاء في وضعهم البدئي ذاك ذو طابع تأسيسي لا يمكن إنكاره كلما تعلق الأمر بتحديد السمات العامة لمبادئ العدالة باعتبارها هي التي ينبغي لها أن تحدد ملامح المؤسسات القادرة على حسن إدارة المجتمع وتدبيره. ولما كان رولز يصف نظريته في العدالة بوصفها إنصافًا بأنّها تصور سياسي للعدالة، ذلك أنّ الأفق الذي يستشكل في ضوئه سؤال العدالة عامة هو أفق السياسة والمجتمع، فإنّ الإنصاف يصبح عندئذ شأنًا اجتماعيًّا بامتياز يتعلق بكيفيات (وملابسات) تدبير شؤون المجتمع سياسيًّا واقتصاديًّا.

وإذا كان يُنظر للأشخاص في تقدير رولز على أنّهم كائنات سياسية بما يتوفر لهم من قدرة على الاختيار الحر، فإنّ قوة نظريته إنّما تنبع حسب صن من كونها تعتبر المبادئ الأولى للعدالة نتيجة لتلك الاختيارات العفوية التي يقوم بها الأفراد وهم في وضعهم البدئي. وتعبر هذه الاختيارات المبدئية عن تصورات الأفراد عن العدالة ورؤيتهم الضمنية لها. ولعل ما يهم في كل ذلك بالنسبة إلى رولز هو ما يكشف عنه ذلك من تصورهم للإنصاف بما هو قوام العدالة وجوهرها. فما أراده رولز، في مناهضته للرؤية المنفعية للعدالة، هو إضفاء سمة الإنصاف في كل محطة من محطات تحقق العدالة بدءًا من الوضع البدئي الذي يعبّر عن الكيفية التي تنبثق وفقها المبادئ المؤسسة لها. والأهم من ذلك كله هو أن تحظى تلك المبادئ بالإجماع لأنّ مثل ذلك الإجماع على اختيار المبادئ سيجعل منها مفهومًا سياسيًّا للعدالة يقبل به الجميع إلا أنّ هذا يثير لبسًا في علاقة بالسلوك الفعلي للأشخاص على صعيد الواقع لأنّ مجرد القبول بتلك المبادئ على أنّها المفهوم السياسي الصحيح للعدالة هو الذي سيحكم عما إذا كان نظرية ما في العدالة قابلة للانطباق في توجيه اختيار المؤسسات في المجتمعات الفعلية. ذلك هو المأزق الذي عملت نظرية رولز على تجاوزه وعن هذا الأمر يقول صن: "لقد أريد من اختيار مبدإ العدالة، في النظام الرولزي، ضمان الاختيار الصحيح للمؤسسات وظهور السلوك الفعلي المناسب لدى كل فرد، ما يجعل نفسية الفرد ونفسية المجتمع معتمدتين اعتمادًا عميقًا على نحو من الأخلاق السياسية. وتشتمل مقاربة رولز، التي طُورت بتناسق وبراعة تدعوان إلى الإعجاب، على تبسيط منهجي شديد لمهمة ضخمة متعددة الوجوه ذات أهمية مركزية للتفكير العملي في العدالة الاجتماعية هي مهمة الجمع بين عمل مبادئ العدالة وبين السلوك الفعلي للناس"[23]

والحقيقة إنّ مساهمات نظرية رولز في العدالة بوصفها إنصافًا وفي الأسلوب الذي انتهجه في وصفها وشرح مضامينها لا يمكن إنكار أهميتها فلقد دافع الفيلسوف بشكل مستنير عن الإنصاف كمفهوم محوري ذي أهمية مركزية بالنسبة إلى العدالة وهو ما جعله يتجاوز التصورات التي سادت في الأدبيات السابقة حول العدالة كالأساس التبريري الذي قامت عليه النظريات المنفعية ساعدته في ذلك فرضية الوضع البدئي كأساس متين قامت عليه فكرته الأولية حول أولوية الإنصاف في تطوير نظريته في العدالة، فالإنصاف يسبق العدالة.

وفي تأكيده على أهمية أن يتمتع الأشخاص بقوتين خلقيتين –الإحساس بالعدالة، وتصور للخير ومتابعته، وهو إسهام جريء-استطاع رولز أن يتجاوز من خلاله بعض التصورات في الاختيار العقلاني ترى أنّ الناس لا يملكون سوى القدرة على الإحساس بمصلحتهم الشخصية والحصافة في حين يفتقدون كل قدرة أو ميل إلى التفكير في الإنصاف والعدالة. وفي هذا الاتجاه استطاع رولز أن يميّز ببراعة بين أن يكون الشخص عقلانيًّا وبين أن يكون متعقلاً في سبيل نحت رؤية جديدة للعقلانية تنزع نحو الطابع الآدابي في مقابل ما ميزها في المقاربة الغائية من طابع أداتي. وتحتل الحرية الشخصية في تقييم عدالة الترتيبات الاجتماعية والمساواة في الترشح والتنافس على الوظائف والمناصب مع الأخذ بعين الاعتبار أوضاع الأكثر حرمانًا في المجتمع، "فقد أولى رولز مسألة القضاء على الفقر مقيسًا بالحرمان من الخيرات الأولية أهمية كبرى في نظريته في العدالة، وقد كان لهذا التركيز أثر قوي في تحليل السياسة العامة للقضاء على الفقر"[24]

وإذا استطاعت نظرية رولز أن تقترح تصورًا بديلاً للمنفعية يجعل من الإنصاف قطب الرحى الذي تدور حوله مختلف المفاهيم والتصورات حول العدالة بحيث استطاعت أن تفلت من الصعوبات التي واجهتها المنفعية، فإنّ ذلك لا يجعله في مأمن من الصعوبات، ومن بينها خاصة المغالاة في إعطاء الحرية الشخصية الأولوية المطلقة في حين أنّ بعض الأمور كالجوع والمجاعة والإهمال الطبي يمكن أن تكون أكثر أهمية من التعدي على بعض الحريات الشخصية. وكذلك ما يثيره مبدأ التفاوت من مفارقة عبر عنها صن كما يلي: "ففي إطار هذا المبدأ يحكم رولز على الفرص التي يملكها الناس من خلال ما يملكون من وسائل، دون الالتفات إلى ما بينهم من تفاوت كبير في القدرة على تحويل الخيرات الأولية إلى طيب عيش"[25] ذلك أنّ ما يستطيع فعله ذوو الاحتياجات الخاصة عادة ما يكون أقل بكثير من ذلك الذي يقدر عليه الأشخاص الأسوياء لو توفر لديهم جميعًا القدر نفسه من الدخل والخيرات الأولية. وباختصار تختلف القدرة على تحويل الخيرات الأولية إلى ما يمكن أن نقوم به اختلافًا بيّنًا باختلاف الخصائص التي تولد معنا كالميول الخِلقية الناتجة عن الإصابة بمرض وراثي معين أو باختلاف السمات المكتسبة المتفاوتة أو كل ما يلحق الأشخاص من صفات ناتجة عن تأثيرات المحيط والبيئة التي يعيش فيها الناس كالعيش في وسط تنتشر فيه الأمراض المعدية والأوبئة وما إلى ذلك أو تتفشى فيه مظاهر العنف الأمر الذي يدفع في اتجاه التأكيد على أهمية الانتقال من التركيز على الخيرات الأولية إلى التقييم الفعلي للحريات والقدرات. ولكن يبقى حاضرًا في الأذهان اعتراف أمرتيا صن بقيمة الإضافة النوعية لنظرية رولز في العدالة حيث يقول: "أميل أنا شخصيًّا إلى التفكير أنّ نظرية رولز الأصيلة لعبت دورًا كبيرًا جدًّا في جعلنا نفهم مختلف جوانب فكرة العدالة، حتى ولو كان لابد من هجرها-ولهذا في اعتقادي مبرر قوي-فسيبقى قدر كبير من إسهام رولز الرائد مضيئًا وسيظل يغني الفلسفة السياسية. يمكن أن يكنّ المرء تقديرًا عميقًا لنظرية ما ويكون منتقدًا جديًّا لها في آن، ولا شيء يسعدني أكثر من الاصطفاف إلى جانب رولز، إن كان لهذا أن يحدث، في هذا التقييم المزدوج لنظرية العدالة بوصفها إنصافًا."[26] ولعل هذا ما يدور بخلد العديد من قرّاء رولز وشرّاحه، وفي ذلك فضل له ينبغي ألاّ يُنكر.

نور الدين علوش: ماذا عسانا نحن العرب أن نستفيد من تلكم النظرية فيما بعد الربيع الديمقراطي؟

نوفل الحاج لطيف: غنيٌّ عن التذكير بأنّ مقاربة رولز للرابطة الاجتماعية، من حيث هي مقاربة تعاقدية في نمط بنائها وفي نمط اشتغالها، تتعارض مع المقاربة المنفعيّة حيث يُنظر للعلاقات بين الأفراد وفق رؤية أخلاقية غائية تقوم على القول بفكرة غاية خارجية لها وجود موضوعي مستقلّ عن الأفعال البشرية، بما يعكس تراتبًا أو تصنيفًا معيّنًا للغايات يفرض على تلك الأفعال الأهداف التّي يتعيّن عليها متابعتها والسعي إلى تحقيقها، فالفعل الإنساني لا يخلق غاياته انطلاقًا من طبيعته باعتباره فعلاً إنسانيًّا، وكأنّ الإنسان يتقلّد غايته من مبدأ خارج عنه، وعليه فهو مطالب بالانخراط في منظومة القيم السائدة وأنّ عليه أن يبدي ولاءه التامّ لتصوّرات مشتركة بشأن الخير.

وعلى هذا النّحو تكون الرابطة الاجتماعية ناشئة لا عن عملية بنائية لمواقف الشخص ذاته انطلاقًا ممّا يحمله هو ذاته من تصوّرات وأفكار بشأن خيره الخاص وتطلّعاته ومشروعه للحياة، وإنّما عن تصوّر جامع، أي عن منظومة من الغايات المشتركة التّي ينبغي على الشخص ألا يحيد عنها، في حركة تجميعية تتجاوز كلّ منحى فردي في تمثّل منظومة للغايات، وفق قاعدة "أكبر خير لأكبر عدد"، وفي هذا الصدد يعتبر فالزار أنّ الرابطة الاجتماعية متجذّرة في أيتوس مشترك خاص بحياة جماعة معيّنة تعيشه على نحو ملموس في عالم التّجربة وضمن عالم من الدلالات المشتركة[27]. فما يوحّد المجتمع هو تصوّر مشترك لخيره الخاص والصورة التّي يحملها عن نفسه وعن مستقبله، وهذا التصوّر للخير وتلك الصورة التّي للمجتمع عن هويته هما في الحقيقة، في إطار هذه المقاربة، متجذران في الأفراد على نحو ضمني ومسبق. إنّ هذه الرؤية الموحّدة والجوهرية للخير ضمن هذه العقيدة الشمولية والجامعة التّي تحكم المقاربة المنفعيّة للرابطة الاجتماعية، تفرض نفسها على أعضاء الجماعة بحيث ترغمهم على اتّباع نمط محدّد في السلوك دون اعتبار مواقفهم الخاصّة إزاء ذلك. وأنّ من مهمة الدولة المناطة بعهدتها، من حيث هي الضامن للمحافظة على الرابطة الاجتماعية وضمان استمراريتها ودوامها، هو تأمين وحدة الجماعة حول تصوّرها الخاص للخير وضمان التنسيق والتوفيق بين مختلف الأفعال الفردية حتى تساهم في تمتين الخير المشترك وتنميته، ويتنزل هذا التصوّر للرابطة الاجتماعية في إطار نظرية أخلاقية، يصفها رولز، بالغائية، لأنّها تقيّم عدالة السلوك والمؤسّسات بالنظر إلى قدرتها على تأمين متابعة خير المجتمع و"تأويج" رفاهه العام.

يتعارض تأسيس الرابطة الاجتماعية تأسيسًا غائيًّا ضمن مقاربة واحدية للخير، مع واقع المجتمعات المعاصرة التّي تتميّز بكثرة التصوّرات بشأن الخير، بل إنّ تأسيسًا كهذا لا يليق بطبيعة المجتمع نفسه من حيث هو ينطوي على فكرة الكثرة ذاتها، وعليه ليس من المعقول أن نتحدّث عن فكرة خير يتصّف بالجوهرية والواحدية أيًّا كان السّجل الذي تتنزّل في سياقه، دينيًّا أو إثنيًّا أو متعويًّا أو حتى علمانيًّا، على غرار ما هو سائد في النّظريّة المنفعيّة على اختلاف صيغها، وهو أمر لا يبدو اليوم محلّ اتفاق ولا إجماع، ولا ينبغي له ذلك لأنّ من شأنه أن يجعل المجتمع مجتمعًا منغلقًا حول ذاته، ولا يمكن له أن يتواصل مع غيره من المجتمعات، هذا عدا، ما تمثّله النظريات الجامعة والشمولية من خنق لحرية الأفراد وكبح لقدراتهم بما يبعث فيهم اليأس إزاء بناء موقف خاص بهم بشأن مشروعهم في الحياة وبشأن تصوّرهم لخيرهم الخاص، كما تقتل فيهم الشعور الفردي بالذات، مادام كلّ ما يتبنّونه، هو في نهاية المطاف، ليس سوى خير مشترك عليهم اعتباره وكفى. وهذا لا يتوافق مع الواقع الاجتماعي الذي يتميز حسب رولز بطابعه التعدّدي أصلاً، ومن شأنه أيضًا أن يؤدّي إلى استعمال مفرط للقوّة الإلزامية والقسرية للدولة من أجل فرض تصوّر واحد للخير على الجميع. وهذا، بطبيعة الحال، يتناقض مع مبدأ حياد الدولة الحديثة بشأن التصوّرات والرؤى حول العالم، وهو مبدأ أصبح أساسيًّا في الأدبيات السياسية السائدة في الدول الديمقراطية خاصة بعد عصر النهضة ونهاية الحروب الدينية. ويعتبر انتهاك مبدأ حيادية الدولة تهديدًا مباشرًا للحرية الفردية ولمبدأ ديمقراطية الحكم التّي ناضلت من أجلها المجتمعات حتى تستطيع تنظيم نفسها بنفسها بشكل لائق ومحكم.

يُصان في المجتمع حسن التنظيم وحرية المواطن ويُحفظ للجميع كلّ على حدة حقّه في أن يكون له مشروعه الخاص لحياته، وتصوّره الخاص لخيره ومتابعة كلّ ذلك في استقلال تامّ عن كلّ أشكال الوصاية سواء تلك التّي تفرضها الدولة أو العقيدة الشمولية السائدة أيًّا كان السّجل الذي تتنزل في صلبه، فما يميز تلك التصوّرات الفردية للخير هو أنّها لا تقبل المقايسة، ومن ثمة لا يمكن أن نصهر تلك المشاريع للحياة جميعها في تصوّر عامّ وموحّد دون أن نخرق حرية الشخص وحقّه في اختيار تصوّره المحدّد لخيره الخاص ومراجعته بكلّ استقلالية حتى أنّ غوتييه يقول بأنّ مجتمعًا عادلاً بحقّ هو مجتمع لا يقبل بأن يكون هناك خير اجتماعي يقوم بديلاً عن خير الأفراد كلّ على حدة[28]، فالاختيارات الفردية لا يجب أن تُختزل في اختيار اجتماعي ولا ينبغي أن تكون نتيجة له بأي حال من الأحوال، ولا ينبغي أيضًا أن تقود اختيارات الأفراد فكرة جامعة ومشتركة بشأن الخير، أو أيّ تفضيل يمكن اعتباره جوهريًّا بالنسبة إلى تنظيم المجتمع الذي يجد نفسه مضطرًّا للبحث في كيفية تلبيته أو "تأويجه". فلا قوة خارجة عن ذات الفرد سواء كانت الدولة، أو ملاحظاً محايدًا متميزًا بالعطف (كما هو الحال في المذهب النفعي) يمكن لها أن تحدّد على نحو مسبق ما هو الخير، كما لا حظ ذلك بوكنان[29]. وفي الاتّجاه ذاته اعتبر رولز أنّ سلوك الأفراد ومشاريعهم الشخصيّة للحياة لا يجب أن تخضع بالضرورة إلى توجّهات اجتماعية أو إيتيقية تكون محلّ اتفاق وإجماع من قبل الجميع.

ولكي يكون مجتمع يقوم على مبدأ التعدّدية عادلاً في علاقة بالمواطنين الذي يكونونه، ينبغي أن يحافظ على حياده حيال مختلف التصوّرات بشأن الخير والمثل العليا التي يمكن أن تقوم عليها الحياة السعيدة، ولا يمكن للمجتمع أن يفرض على أعضائه أيّ تقييد إلّا ما كان ضروريًّا لتحقيق متطلّب العدالة أو متوافقًا مع مبادئ العدالة المعروفة والمعترف بها من قبل جميع المواطنين. تكمن مهّمة المجتمع السياسية الجوهرية في حماية كلّ المواطنين إزاء كلّ تدخل يأتي من خارج ذواتهم في شأن تصوّراتهم الخاصّة سواء حول الخير أو حول المثل العليا التّي يؤمنون بها في إطار تصوّرهم للحياة السعيدة، وتضمن هذه الحماية لكلّ مواطن المتابعة الجيّدة لسعادة الشخص ولمثله الأعلى في الحياة دون أن يُزعج في ذلك غيره من شركائه في المواطنة. معنى هذا أنّ الرابطة الاجتماعية في صلب التصوّرات الآدابية تتحدّد وفق وجهة تأخذ في الحسبان كلّ الاعتبارات المتعلّقة بالعدالة والحقّ على حساب تلك التّي تتعلّق بالخير والسعادة. وعليه ينبغي إخضاع كلّ ما يحيل على الرغبات والمصالح الضيّقة أو الخصوصية للأشخاص العقلانيّين للتقييدات التّي تفرضها الاعتبارات المتعلقة بالعدالة والحقّ. وتمكن أهميّة تلك التقييدات الناجمة أصلاً عن أولوية العدالة على الخير في قدرتها على صياغة تصوّر للخير وللغاية على نحو مقبول بحيث لا يمكن أن نقبل إلا بالتصوّرات التّي تستجيب لمتطلّب مبدأ الحقّ أو تتوافق معه. وذلك ما تعمل عليه نظرية العقد الاجتماعي المعاصرة، خاصة مع رولز الذي يرى أنّ المواطنة الديمقراطية تؤسّس لعلاقة اجتماعية متمايزة تمام التميز عن غيرها من الروابط الاجتماعية لأنّها تخلق جماعة أخلاقية مؤسّسة على واجب المدينة. وتتيح لنا مقولة المواطنة الديمقراطية، بهذا المعنى أن نقول "نحن" لا بصدد الأسرة والأصدقاء فحسب بل بصدد ملايين المجهولين الذين ليسوا أجانب ولا غرباء ولا أعداء، بل "أصدقاء" محتملين بالمعنى القديم للصداقة المدنية، أصدقاء نتقاسم معهم شيئًا غريبًا هو الهوية الوطنية، وبفضل المواطنة يتحوّل أولئك المجهولون بأعجوبة إلى مواطنين يشاركوننا الوطن نفسه، وأندادًا في المواطنة. وعندئذ لا نكفّ عن اعتبارهم مجهولين فحسب، بل نقرّ بأنّ علينا واجبات والتزامات إزاءهم من قبيل واجبات التضامن والرعاية والعدالة والاحترام التّي تشكّل مقابلاً للحقوق التّي تمنحهم إيّاها المواطنة.

نور الدين علوش: في الأخير، ما هي مشاريعكم المستقبلية؟

نوفل الحاج لطيف: في الحقيقة تستهويني العديد من الأمور آمل أن أوفق في تحقيقها، من ذلك مثلاً إعداد معجم يخص المدونة الرولزية يعنى بأهم المفاهيم الأساسية التي تحفل بها هذه المدونة. وترجمة أكثر ما يمكن من مؤلفاته وخاصة: دروس في تاريخ فلسفة الأخلاق، ودروس في تاريخ الفلسفة السياسية. وربما سلسلة من المقالات التي تعرف بمختلف أطوار المنفعية وأبرز أقطابها ومن ثم تجميعها ضمن مؤلف خاص بها، وقد انطلقت في ذلك فعليًّا حيث نُشر لي مقال في المجلة الجزائرية للدراسات الفلسفية في عددها الرابع حول جون هارسنيي الذي كانت بينه وبين رولز مساجلات هامة حول مبادئ نظريته في العدالة ومسألة الاختيار العقلاني.

شكرًا للصديق العزيز الأستاذ نور الدين علوش

 


[1] كيملشكا، و: مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة منير الكشو، المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا للنشر، تونس، 2010، ص 81

[2] تعتبر النظرية المنفعية مرمى نقد نظرية جون رولز في العدالة الجوهري، حيث اعتبر أنّه لا يمكن إنشاء مثل تلك النظرية (نظرية العدالة) إلا عبر تجاوز مقولات المنفعيين.

[3]Rawls, J.: La justice comme équité, une reformulation, Paris, La Découverte, 2003, p30

[4] Rawls, J.: «La structure de base comme objet», in Justice et démocratie, Paris, seuil, 1993, p37

[5]Rawls, J.: Théorie de la justice, trad. franc. Catherine Audard, Seuil, 1987, p 33 

[6]Ibid., p85

[7]Martin, R.: «Rawls on International Distributive Economic Justice: Taking a Closer Look», Rawls’s Law of Peoples. A Realistic Utopia, Martin, R. et Reidy David A., Oxford Blackwell Publishing, 2006, p228(226-242)

[8] Freeman, S.: «Distributive Justice and The Law of Peoples», Rawls’s Law of Peoples. A Realistic Utopia, Oxford Blackwell Publishing, p 247(243-260)

[9]Buchanan, J.: «Rawlsian Global Justice», Rawls’s Law of Peoples, Cambridge, MA: Harvard, 1999

[10] رولز، ج: قانون الشعوب وعودة إلى فكرة العقل العام، ترجمة ناظم خلوصي، بيت الحكمة، بغداد، العراق، 2006، ص 57

[11] رولز، ج: قانون الشعوب وعودة إلى فكرة العقل العام، مصدر موثق سابقًا، ص 45

[12] رولز، ج: قانون الشعوب وعودة إلى فكرة العقل العام، مصدر موثق سابقًا، ص ص 51-52

[13] المصدر نفسه، ص ص 93-94-95

[14] المصدر نفسه، ص 28

[15]Rawls, J.: Leçons sur l’histoire de la philosophie morale, trad. franc., Marc Saint Upéry et Bertrand Guillarme, Paris, La découverte, 2002, p352

[16] رولز، ج: قانون الشعوب، مصدر موثق سابقاً، ص 64

[17] رولز، ج: العدالة كإنصاف، إعادة صياغة، مصدر موثق سابقًا، ص ص 249-250

[18] المصدر نفسه، ص 250

[19] صن، أ.: فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي، الدار العربية للنشر ناشرون، بيروت، لبنان، ص 129

[20] المصدر نفسه، ص ص 101-102

[21] المصدر نفسه، ص 102

[22] المصدر نفسه، ص 102

[23] المصدر نفسه، ص 123

[24]المصدر نفسه، ص 116

[25] المصدر نفسه، ص 117

[26] المصدر نفسه، ص ص 109-110

[27]Walzer, M.: Critique et sens commun, trad., franc.. Romain, J., Paris, La Découverte, 1990, p36

[28]Gauthier, D: Morale et Contrat, Liège Mardaga, 2000, collection «Philosophie et langage»., 1986 p405

[29]Buchanan, J.: Les limites de la liberté entre l’anarchie et le Léviathan,Paris, Litec, 1992