هل كانت "داعش" ستوجد من دون الإسلام؟


فئة :  مقالات

هل كانت "داعش" ستوجد من دون الإسلام؟

في الثالث من الشهر الجاري نشرت مجلة "أتلانتك" تحليلاً بعنوان "هل كانت داعش ستوجد من دون الإسلام؟" كتبته كاثي جيلسينان، وناقشت فيه مدى إسلامية "داعش"، مستعينة بحديث مع داليا مجاهد، التي قادت لسنوات البحوث الخاصة بالمسلمين في منظمة "جالوب" لاستطلاعات الرأي. مجاهد تجيب عن السؤال بـ"نعم"؛ معللة إجابتها بأنّ الوحشية التي تتوافر عليها "داعش" هي ما يقود تفسيرها للنصوص الدينية، وليس هذه الأخيرة ما يولّد وحشية "داعش".هذا المنطق، هو ذاته الذي يرِدُ على ألسنة من ينتقدون الدعوات الجديدة والقديمة لمراجعة المناهج الدراسية، وخاصة الدينية، لتنقيتها من التطرف والتشدد وكراهية الآخر ومحرضات العنف وتبرير القتل باسم الله، وحجة هؤلاء أننا منذ عشرات السنين ونحن ندرس هذا المضمون التعليمي ولم نتحوّل إلى "دواعش" أو إرهابيين. في هذا إحالةٌ لأسباب سياسية واجتماعية خلقتْ "داعش"، وتهميشٌ إلى حدّ النفي للأسباب الثقافية والنفسية المسؤولة عن ظهورها، وفي ذلك تقول مجاهد إن الجماعات المتطرفة في جميع أنحاء العالم تنفذ الأنواع نفسها من العنف، مستخدمةً ما وصفته بـ"الحالة الاجتماعية المحلية الرائجة" لتبرير ذلك، وأضافت الباحثة: (هي أحيانًا المسيحية؛ وهي أحيانًا اليهودية؛ وفي بعض الأوقات البوذية؛ وهي في بعض الأحيان أيضًا الأيديولوجيات العلمانية؛ ولذلك فإن العالم من دون الإسلام كان سيبقى فيه مجموعة مثل "داعش"، ولكن باسم آخر قد يكون أقل جذبًا للاهتمام). من جانبه، أعلن غرايم وود، بكل وضوح وحسم، في قصته على غلاف مجلة "أتلانتك": (الحقيقة هي أن "داعش" إسلامية. إسلامية للغاية).

من المهم ابتداءً التأكيد أنّ دموية النظام السوري، وتنامي الطائفية في عراق ما بعد صدام بفعل الاحتقان المحلي والتغلغل الإيراني معاُ، وانتشار الاستبداد والفساد وغياب الديمقراطية والعدالة وحكم القانون.. هي عوامل أساسية لظهور الإرهاب والتطرف في العراق وسورية، أيْ أنّ عنف وتطرف الأنظمة الحاكمة في البلدين حفّزا خروج إرهاب "القاعدة" و"داعش"، ناهيك عن توظيف تلك الأنظمة لذلك الإرهاب في إدامة استبدادهما وإقصائهما ودمويتهما. وفي ردها على سؤال لماذا برزت "داعش" الآن؟ قالت مجاهد إن أحد الأسباب المحتملة هو الرئيس السوري، بشار الأسد. وأضافت: (لقد ذبح من الناس ما هو أكثر بكثير مما فعلت "داعش")؛ وبالتالي، فإن المتغير الرئيس في الظهور المفاجئ للجماعة ليس تفسيرها للإسلام على ما يبدو، وفقًا لمجاهد. التي أضافت أضافت: "أعتقد أنها نتاج وحشية هذه الحرب التي لم نعرها اهتمامًاً".

مجاهد، وفق هذا العرض، تعطي الأولوية القصوى في تفسير العنف للجانب السياسي، وتذهب إلى جعل هذه الظاهرة عامة ولا تقتصر على المنطقة العربية، وفي ذلك تقول: (كان في منطقة الشرق الأوسط نفسها إرهاب قبل وجود "الحالة الاجتماعية الإسلامية بوضوح". وفي الخمسينيات من القرن الماضي، التزم الفدائيون العلمانيون، اليساريون، بشن الهجمات على إسرائيل باسم القومية العربية، وهذه كانت الحالة الاجتماعية السائدة في ذلك الوقت. وبالنظر لهذا التاريخ في منطقة الشرق الأوسط، وللتاريخ العالمي من بيرو إلى أيرلندا الشمالية إلى اليابان، حيث ظهر الإرهاب مرة تلو أخرى في مجتمعات لا تمتلك تقاليد إسلامية، فهناك حدود للقوة التفسيرية للقرآن عندما يتعلق الأمر بالعنف السياسي).هذه المقاربة، التي تقدمها داليا مجاهد عبر مجلة "أتلانتك"، لا تقلل من أهمية التساؤل عن سرّ قدرة "داعش" والسلفية الجهادية عموماً على النبش في موارد ومنابع التطرف والتشدد الفكري والاجتماعي القائمة أصلاً في مجتمعاتنا. التساؤل هنا أيضاً عن مطواعية النصوص الدينية على تقوية النوازع والغرائز التي يضعفها التقدم والتحضر والاختلاط بالعالم والعلم والبشر. التساؤل موصول كذلك عن الآلية التي نبتكرها لجعل هذه النصوص أقلّ ممانعة لروح العصر، لنجرؤ بعدها على القول بوضوح، مثلاً، إن "التترس" هو تكتيك حربي تاريخي لا يمت للدين بصلة، وكل الفتاوى حوله هي فهم بشري أعوج لتسويغ العنف وقهر الخصوم وحيازة السلطة والقوة ليس إلا.

الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي خلّفها ما سمي "الربيع العربي" لا تقوى على مساءلة الموروثات الثقافية والمدونة الفقهية التي تعدّ سبباً من أسباب تبرير الكثيرين لـ"داعش" وعدم إعلانهم الكفر به، ومن ثمّ تأمين "استعدادات" لاستياطنه وبقائه وعدم القضاء على جذوره، التي قد تُطلّ مجدداً بنسخ أكثر تشدداً؛ فأبو مصعب الزرقاوي كان أكثر تشدداً من أسامة ابن لادن، وأبو بكر البغدادي فاق في تطرفه وعنفه الاثنين معاً.

حركة "التحديث من فوق" مُهمة لكنها لا تكفي، يدلّ على ذلك مآل جهود الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في تونس، التي، ويا للمفارقة، هي اليوم البلد العربي الأكثر تصديراً لـ"الدواعش" إلى سورية والعراق؛ لأن العوائق الثقافية المجتمعية والظروف الاقتصادية، منعت حتى الآن إنتاج تحديث أو حداثة وتنوبر تصنعه حركة المجتمع عبر مخاضاته وتفاعلاته وليس بالاقتصار على أوامر رأس السلطة. هذا لا يعني انسياق تونس نحو "داعش"، بل إن "هجرتهم" إلى الخارج ناجم عن غياب الحاضنة الاجتماعية لهم في تونس بالرغم من وجود ظروف إنتاجهم، كما يقول الخبراء، ما يعيد تأكيد الأهمية الكبرى لتنوير تقوده المجتمعات والنخب المدنية، عبر إعادة النظر في الموروث الثقافي والمدونة الفقهية و"الاستعدادات" النفسية والسوسيولوجية؛ جنباً إلى جنب مع ضرورات التعجيل بالإصلاح السياسي وتعزيز الحوكمة وحماية الحريات ومحاربة الفساد وإبعاد الديكتاتورية، وفي واجهة ذلك اليوم إبعاد الأسد والمشاركة العادلة لسنّة العراق في محاربة "داعش" وبناء وطنهم.

نتفق مع مجاهد بقولها: "إننا نبدأ من العنف الذي نريد ارتكابه، ونقنع أنفسنا بأن هذا هو الطريق الصحيح لتفسير النصوص". لكنّ هذا الفهم الناضج غير كافٍ إذا لم يقترن بوعي مفاده بأننا نضعف مطواعية النصوص الدينية للتشدد وشرعنة العنف ضد المختلف حين نخرجها (النصوص) من دائرة الالتباس والاحتمالات المتناقضة. فـ"داعش" ومن شابهها يشتغلون على هذا "الالتباس الديني"، وهو نفسه من يقنع كثيرين، وهم يرون تدمير "داعش" لآثار مدينة تدمر، بأن هذا قضاء على أصنام ينبغي أن يكون هذا مصيرها!

"الالتباس الديني" يتبدى ونحن نقرأ كتاب "فقه الدماء" للمصري أبي عبد الله المهاجر، أستاذ أبي مصعب الزرقاوي، فنكتشف كمية النصوص الدينية الكبيرة الموظَفة في الكتاب لشرعنة العنف والدموية وجعلهما جهاداً وجسراً إلى الجنّة. كلُّ هذا يدفعنا لأنْ ندرك مدى حاجتنا إلى تنوير تقوده المجتمعات والنخب التي تحظى بثقتها؛ لمعالجة دائرة "الالتباس الديني" التي تتيح إلباس عنفنا وبطشنا غطاءً دينياً مقدساً. السؤال: كيف لنا أن نقضي على هذه الثغرة وإلى الأبد؟. تلك هي المهمة لتنوير دائم يحفظ للمقدس منزلته عبر منع قابلية تدنيسه.