هل يفكّك الخيال الإبداعي كوابيس اليأس والفجيعة والاغتراب الكوني بعد الوباء؟ تحوّلات الفن التشكيلي في عصر كورونا


فئة :  مقالات

هل يفكّك الخيال الإبداعي كوابيس اليأس والفجيعة والاغتراب الكوني  بعد الوباء؟ تحوّلات الفن التشكيلي في عصر كورونا

 

الفنان ابن بيئته وثمرة سياقه الحضاري والثقافي، والإبداع الفني خطاب تفاعلي يستلهم قضايا عصره وروحه ولغته وصراعاته وإشكالياته، ويعيد تخييلها وتأويلها جمالياً وتوثيقها وتخليدها تاريخياً.

وكما تترك الكوارث والحروب بصماتها على التكوين العاطفي والثقافي للمجتمعات والأفراد؛ فإنها تعيد هيكلة وبرمجة وإنتاج أفكار ومشاعر الفنان وتفرض نفسها على منجزاته الجمالية من حيث الشكل والمضمون، حيث تُجبر الآلام والفواجع التي تخلّفها تلك المآسي عموم البشر والفنانين خصوصاً، على مراجعة معتقداتهم وقناعاتهم التقليدية وتجديد نظرتهم للواقع.

لقد كان للأوبئة والأمراض المعدية عبر التاريخ تأثيرها على الثقافة والفلسفة والأدب والفنون عموماً، وعلى الفن التشكيلي تحديداً، والذي يبدو أنه لن يكون في ظل الاندلاع العالمي لفايروس كورونا بمنأى عن تحوّلات جوهرية تطال مسيرته واتجاهاته، في سياق تغلغلها إلى البنى الفلسفية للفن ومنظومة القيم والمفاهيم التي تتحكم في مسارات الإبداع الإنساني فيما يتعلق بإدراك العلاقة بين الإنسان والبيئة والمجال الكوني.

وتتطلّب الكوارث التي تهدد الأسرة الإنسانية معالجة تشكيلية تنتقل بالفنون البصرية من التقوقع النخبوي إلى تناول أبعاد توعوية ونهضوية ومواقف مبدئية وتضامنية تصب في صلب رأس المال الاجتماعي وصميم المسؤولية الاجتماعية المحلية والعالمية، وهو هدف تعيق الوصول إليه بعض أنماط التفكير الانسحابي والاستعلائي الموجودة داخل الأوساط الفنية، والتي ترى في الغموض عمقاً وتفوّقاً وفي التماهي مع القضايا العامة شعبوية وأدلجة وتسييساً للفن.

 تعيد الكوارث والحروب هيكلة وبرمجة وإنتاج أفكار ومشاعر الفنان وتفرض نفسها على منجزاته الجمالية من حيث الشكل والمضمون

ومن المتوقع أن يتجلّى التأثير المباشر للوباء على الفن التشكيلي في تداعياته على حياة الفنانين الشخصية؛ الأمر الذي سينعكس على مضامين أعمالهم وأساليبهم في المستقبل، كما سيتمظهر تأثيره غير المباشر على الحركة التشكيلية العالمية في عواقبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية على المجتمعات والثقافات المختلفة.

لكن الأهم في أزمة كورونا هنا، هو أنها لم تعد مسألة صحية أو بيئية فحسب؛ ولكنها باتت قضية فلسفية ذات طبيعة كونية ووجودية وقيمية ومثاراً لعديد السجالات والنقاشات العابرة للحقول المعرفية؛ بمعنى أنها امتدت من المجال البيولوجي إلى المجال الأيديولوجي، وهو واقع يرشحها لتكون ذات تأثير عميق وبنيوي على الفكر الإنساني عموماً، وفلسفة الفن والقيم الجمالية بصورة خاصة.

وحتى حين يحاول الفنان التمرّد على سطوة الأزمات والكوارث وتداعياتها، سعياً للإفلات من هيمنتها على الفكر والثقافة وأنماط الإبداع، ولا سيّما في مرحلة وقوع الأزمة أو خلال ارتداداتها الاجتماعية والحضارية التي قد تستمر لعقود؛ فإنه لن يستطيع أن يمنع النقاد من ربط أعماله بتلك الأزمة وتوصيفها بأنها جاءت ضمن تيار التمرّد على الأزمة لا الامتثال لإكراهاتها.

بمعنى أن الأزمة تفرض نفسها في كل الأحوال، وما ندركه بأبصارنا من فنون تشكيلية لا يمكن أن يخلو من ترجمة لانفعالات وتجاذبات داخلية خلقتها في أعماق الفنان أزمات مجتمعية وشخصية مرّ بها، وقام بتأويلها من الحالة النفسية المعنوية إلى الحالة الفيزيائية الحسيّة عبر تطويع ومعالجة الخامات والمواد الأولية المستخدمة في بناء وتخليق العمل الفني.

وتشمل عملية التأويل هذه، تحويل المعنى الفلسفي والروحي المتبلور في عقل الفنان جراء تفاعله مع الواقع إلى بناء تشكيلي ماثل في المجتمع وقابل للتأويل المتعدد اللامحدود. ويتنقّل الفنان ضمن عملية التفاعل التأويلي هذه مع الواقع بين مرحلتين؛ هما مرحلة "التخييل الفني"؛ أي الإيغال في التفاعل مع الحادثة أو الموقف، ومرحلة "التجسيد الفني"؛ أي تقديم الحادثة في صورة مادية ملموسة ومُدركة بصرياً.

وتقدّم لحظة كورونا للإنسان، الفنان والمتلقي على حد سواء، تجربة انفعالية مكثفة ومعقدة وثرية بالمعاني والدلالات والإسقاطات والرموز والإيحاءات الفلسفية والجمالية، وكفيلة بتثوير الخيال وتحفيز الذائقة وإغناء الخبرة الروحية.

وكما أن الانفعال النفسي والعقلي لدى الفنان هو "تأويل انفعالي" ذاتي لواقع موضوعي هو الظاهرة أو الأزمة التي يعالجها فنياً؛ فإن العمل الفني نفسه هو "تأويل جمالي" لهذا التأويل الداخلي؛ أي إن صناعة العمل الفني هي عملية "تأويل مركب" أو "تأويل للتأويل"؛ فالفنان لا يجسّد في العمل الفني حقيقة الواقع ولا تأويله المباشر للواقع، بل يقدّم تأويلاً جمالياً مجسّماً لتأويله الذهني للواقع، ثم تأتي بعد ذلك مهمة المتلقي في خلق المستوى الثالث من التأويل الذي يمكن أن نسميه "التأويل التفاعلي" أو "الاستجابة التأويلية للمتلقي"، والذي يعطي العمل الفني قيمته الفكرية والمعرفية المتحررة من قيود المكان والزمان والإنسان.

باتت كورونا قضية فلسفية ذات طبيعة كونية ووجودية وقيمية ومثاراً لعديد السجالات والنقاشات العابرة للحقول المعرفية

ولا يخضع التأويل الثالث لشروط الفنان، وإنما لشروط المتلقي ومخزونه البصري وذائقته الجمالية ورصيده الثقافي، وأيضاً أزماته وصراعاته وتجاربه الذاتية، الأمر الذي يجعل صور هذا التأويل متعددة ومتباينة بتعدد المتلقين وتباين ذائقاتهم الفنية وتنوّع خلفياتهم الحضارية والثقافية؛ ما يعطي العمل الفنية قيمته الإنسانية المتجددة والمتجردة من ذاتية الفنان والمنفتحة على آفاق كونية رحبة.

ومن أهم ما يدعم فرضية التحوّلات المرتقبة في عالم التشكيل بعد كورونا، العلاقة الوثيقة بين الفنّ التشكيلي والفلسفة؛ فالفلسفة تشكيل فكري للحياة والواقع، والتشكيل فلسفة فنية للأفكار والمفاهيم. وكل عمل فني هو إسهامة فلسفية؛ لأنه يحرّك الخيال ويستنطق الذهن ويستفز العاطفة، وكل مقالة فكرية هي إبداع تشكيلي؛ لأنها عملية خلق جمالي خاماتها هي المعرفة والمنطق وإحساس الكاتب.

وما من عمل فني يظهر إلى الوجود من دون أن ينتقل من الفلسفة، بما هي حركة عقلية وفعل تشكيلي ينشئ الأفكار التي تصف وتحاكي الظواهر، إلى التشكيل، بما هو حركة تعبيرية وفعل فلسفي ينشئ الأشكال والألوان والخطوط والأجسام والرموز التي تعبّر عن تلك الأفكار. بمعنى أن الفلسفة تشكيل والتشكيل فلسفة، ومن دون هذه المتلازمة لا يمكن للفعل التشكيلي أن يولد ويرى النور.

ومن هنا يتعاظم دور اللحظة الكورونية كعاصفة فلسفية كونية في إطلاق تحوّلات جوهرية في الفنون التشكيلية، باعتبارها تجلّيات بصرية وإبداعية للتحوّلات الفلسفية والفكرية، فقد أثبت تاريخ الحضارات أن للكوارث الطبيعية والبيئية آثاراً عميقة الغور وممتدة الأثر على الفلسفة الإنسانية.

وتبدو جائحة كوفيد-19 مرشحة لتحفيز مثل هذه التحوّلات التشكيلية، فتقييد الحركة الجسمانية للبشر بسبب سياسات الحظر والحجر والإغلاق العام، سيؤدي إلى تفعيل حركتهم الذهنية والعاطفية للتعويض وللإفلات من العزلة والاختناق، وبالتالي هم بحاجة لأن يستجيب الفنانون والفنانات لهذا الحراك العقلي والروحي بمنجزات إبداعية وجمالية تحاكيه وتتناغم معه وتستثمر فيه تشكيلياً وتأويلياً.

وكما تترك الأزمات والتقلّبات آثارها على الإنسان في صور شعورية متعددة كالخوف والإحباط والحزن واليأس والهلع والأسى، والتفاؤل والفرح بانفراج الأزمة، والمشاركة الوجدانية للناس والتعلّم من تحرّكاتهم وردود أفعالهم ومبادراتهم وتعاونهم لتجاوز الأزمة؛ فإن هذا كله يتجسّد في الأعمال الفنية، باعتبار الإنسان هو صانع الأحداث الواقعية ومبدع الأعمال الفنية المعبّرة عنها في الوقت ذاته، فهو حلقة الوصل بين البيئة والعمل الفني، فيما يشكّل هذا العمل بعد خروجه للضوء وتحوّله إلى قيمة كونية جسراً للتكامل الجمالي والتناغم التأويلي والتعارف الحضاري بين البشر.

وفي إطار استشراف التأثير المستقبلي لإعصار كورونا الوبائي على الحقول التشكيلية، يمكن القول إن العمل الفني هو ابن سياقين؛ سياق التشكيل وسياق التأويل؛ الأول هو السياق الذي يتم فيه إنتاج العمل التشكيلي من قبل الفنان، والثاني هو السياق الذي يتم فيها تأويل العمل من قبل المتلقي.

ويتكون سياق التشكيل من عدة مراحل تشمل انبثاق الفكرة وتبلورها، ثم خروجها إلى صورتها النهائية ضمن الحيّز المادي. أما سياق التأويل، فمفتوح ومتفتّح ومنفتح على المراحل التاريخية المختلفة؛ ففي كل زمن يتم تأويل العمل الإبداعي وفق معطيات التجربة الحضارية التي يتم استحضاره في عصرها، ما يجعل كل عمل تشكيلي مرشحاً لإطلاق عصف تأويلي ممتد لتوليد تأويلات متنوعة للمضامين الجمالية والفلسفية الكامنة فيه.

وفي مرحلة ما بعد كورونا، من المتوقع أن تطلق العاصفة الوبائية عصفاً فلسفياً وتشكيلياً متعدد الأوجه والأطراف يحفّز ويضاعف تلك العواصف التأويلية المترتبة على الإبداع الفني.

ومن شأن تجربة وباء كورونا أن تضفي على الفن التشكيلي طابعاً كونياً؛ لأن المأساة التي أفرزها انتشاره كونية عابرة للحدود، ولم توفّر شعباً أو أمة أو حضارة أو مجموعة ثقافية، وبالتالي ستنتج مشاعر إنسانية عابرة للهويات المحلية والفئوية ومتفاعلة ضمن مناخ إبداعي عالمي.

الفنان لا يجسّد في العمل الفني حقيقة الواقع ولا تأويله المباشر للواقع، بل يقدّم تأويلاً جمالياً مجسّماً لتأويله الذهني للواقع

كما سيكون عصر ما بعد كورونا مبشّراً بازدهار وعي فني عالمي جديد على مستوى الثورة الانفعالية الداخلية المفجِّرة للإبداع من أعماق الفنان، والتي من شأنها استثارة ثورة تفاعلية على مستوى التشكيل والتأويل؛ فالأجواء النفسية التي خلقتها لحظة الوباء بكل ما ترتب عليها من إكراه على تغيير نمط الحياة والعيش والتفكير والعلاقات شكّلت ضغطاً هائلاً على الروح الفنية والإبداعية.

وباتت حالة اللايقين وصعوبة التكهّن بالخطوة التالية للوباء تمثّل محرّكات للقلق والصدمة والانشداه، وكل العوامل التي تولّد الإبداع التشكيلي ما يفتح الآفاق لثورة عالمية في هذا الحقل على مستوى المحتوى والتقنيات الفنية.

وبفضل الدفعة التي أعطتها أزمة كورونا للتحوّل الرقمي في المجالات كافة، ستصبح رقمنة الأعمال الفنية وإنشاء متاحف وصالات عرض افتراضية على الإنترنت أمراً شائعاً ومألوفاً؛ ما يعزّز الدور الرسالي والموقفي للفن التشكيلي في بناء الجسور بين الشعوب والثقافات، وتسليط الضوء على القضايا المحلية والعالمية المشتركة كالفقر والمجاعات والعنف والاتجار بالبشر وتجنيد الأطفال في النزاعات والتمييز ضد النساء وكبار السن والاحتباس الحراري وحماية البيئة.

واليوم يتفاعل الفنان بحواسه كافة مع السياق الكوني الذي أنتجه اندلاع الفايروس التاجي المستجد في العالم بما يمنح الفن فرصة نادرة للعودة إلى منبعه الأصلي ألا وهو الطبيعة؛ لأن الأوبئة رغم قسوتها تبقى من معطيات هذه الطبيعة.

وربما يكون الفن التشكيلي استراتيجية ناجحة للتصالح مع الطبيعة ونشر وعي بيئي وصحي جديد في العالم عبر إعادة تعريف العلاقة مع البيئة على أسس جمالية تؤسس لمستقبل يحترم القيم والمصالح الإنسانية التي تنتجها الشراكة بين البشر في العيش على هذا الكوكب.

ومن المفاعيل الفنية التي يمكن التنبؤ بها للأزمة الوبائية توليد مفردات بصرية وتكوينات مرئية وتفاصيل مثيرة للدهشة والفضول الإبداعي، بما يجعلها تستحق التأمل الفلسفي والاستلهام الفني والتوثيق التشكيلي والتأويل الجمالي.

كما يمكن أن تلعب الفنون التشكيلية دوراً في تسريع التعافي من الصدمة الكونية التي خلفتها جائحة كوفيد-19، وما أفرزته من أزمات سكانية واقتصادية ومجتمعية كالبطالة وفقدان الأحبة والتفكّك الاجتماعي، في إطار مفهوم توظيف الفن كعلاج، وذلك عبر طرح خطاب فلسفي جمالي يقارب تداعيات وعواقب المفاعيل الكورونية، ويعالج إفرازات وانفعالات الظاهرة الوبائية جمالياً وإبداعياً.

سيكون عصر ما بعد كورونا مبشّراً بازدهار وعي فني عالمي جديد على مستوى الثورة الانفعالية الداخلية المفجِّرة للإبداع من أعماق الفنان

إن ظاهرة إنتاج التحوّلات البايولوجية والبيئية لتحوّلات مفاهيمية وأسلوبية وتقنية في الفن التشكيلي هي ظاهرة معروفة عبر تاريخ الفن، ولا تشمل التشكيل فقط، وإنما تتعداه إلى مختلف أنماط التعبير الفني، ولا سيّما الأدب وخصوصاً في عصر العولمة، حيث يتيح الانفتاح التكنولوجي شفافية الحدود بين الدول، وكما أن الفايروس عابر للدول، فإن الفنّ عابر للثقافات.

ومن شأن صدمة كبرى تعيشها البشرية أن تحفّز وتكثّف خيال الفنان، وبالتالي إثراء التجربة الفنية، وتعزيز كفاءة الخبرة التشكيلية في التأويل بمعنى التعبير عن السياق الاجتماعي والحضاري الذي يعيشه الفنان وتأطير ظواهره من خلال مكونات ومضامين العمل الفني وعبر آليتي الإبراز والاجتناب التشكيلي، حيث يقدّم الفنان ما ينفعل له ويتفاعل معه، ويتحاشى إظهار ما يؤلمه، أو يتعمّد أن يقدّم ما يؤلمه، بحسب حالته النفسية والشعورية ورؤيته الجمالية.

تبدو لحظة كورونا فرصة ليأخذ الفن التشكيلي بزمام المبادرة للتعبير عن معاناة الإنسان الملتبسة، وما يعيشه من الشعور باللامعنى واللاجدوى في ظل الوباء. ومن المتوقع كذلك، أن تشهد الذائقة الفنية للمتلقين تغيّرات وتحوّلات تفرض نفسها على المجال الإبداعي ككل. إن مهمة الفن التشكيلي تتجسّد اليوم في إعادة ترميم الروح الإنسانية عبر تجديد تفسير الظاهرة الوبائية، لتحوّلها من نهاية للعالم إلى بداية للحياة ومناسبة مواتية لإعادة فهمها عبر بناء ذاكرة جمالية لذكرى كورونا المؤلمة.