وسائل التكنولوجيا الرقميَّة الحديثة: قراءة في كتاب الافتراضي والثورة


فئة :  قراءات في كتب

وسائل التكنولوجيا الرقميَّة الحديثة: قراءة في كتاب الافتراضي والثورة

كتاب جوهر الجمّوسي، "الافتراضي والثورة ـ مكانة الإنترنت في نشأة مجتمع مدني عربي"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة في مارس 2016، الذي يقع في 224 صفحة، يُعدُّ مساهمة مهمَّة لرصد العلاقة المتشابكة والمعقّدة بين وسائل المعلومات والتكنولوجيا الحديثة والمجتمع المدني في العالم العربي، التي أخذت شكلاً متميزاً منتجاً لآثاره في المجتمع زمن الثورات العربية وما بعده، وأثارت تساؤلات عميقة حول خلفياتها ومحدداتها ومكوناتها ومستقبلها، لاسيما أنَّ الكتاب يأتي من مؤلف متمرّس، راكم خبرة في تحليل هذا الموضوع، حيث نشر حوالي ثلاثة كتب[1]، وعدة مقالات[2]، وينتمي لبيئة شكَّلت الشرارة الأولى "للثورات" العربية.

أولاً: فعاليَّة وسائل التكنولوجيا الحديثة في الحراك الاجتماعي والسياسي العربي

من خلال إبراز دور وسائل الإعلام الاجتماعي في "الثورات" العربية، حاول المؤلف الإجابة عن إحدى جوانب الإشكاليَّة المطروحة المتمثلة في العلاقة الجدلية بين الافتراضي والسياسي والمدني.

فهذا المكوّن الجديد في البيئة السياسية العربية سيأخذ منحى ثورياً بالفعل في زمن الثورة وما بعده، باعتباره شكَّل وسيلة فعَّلة للتحرُّر من رقابة السلطة، ومن الاحتكار الرسمي للإعلام ومواجهة التلاعب بالأخبار، وأداة للتعبئة وفضح ممارسة السلطة، وتداول المعلومات بشأن الاحتجاجات وقوتها وامتداداتها؛ ففيسبوك، وتويتر، ويوتوب، وسكايب، والهاتف النقال، والمدونات الإلكترونية، والصحافي المواطن...، لعبت دوراً مهمَّاً في إتاحة المجال أمام الشباب ليصبح قوة فاعلة في هذا الإطار، وفي توعية المواطنين بأهداف الاحتجاج والدفع بالحراك الاجتماعي والسياسي إلى مستويات غير مسبوقة، انتهت برحيل رؤساء دول عربيَّة والإطاحة بأنظمة سياسيَّة.

وقد ساهم هذا التوظيف الثوري للإعلام البديل في صعود المجتمع المدني في العالم العربي الذي أصبح طرفاً فاعلاً في الحياة العامَّة، بفضل استفادته من التكنولوجيا المعلوماتيَّة، وتوظيفها كمنصات للترافع والدفاع عن أفكاره والترويج لأطروحاته، وتصريف مواقفه بما فيها التنديد والاحتجاج، والتنسيق وطنياً وعالمياً بين فروعه وشبكاته، واستقطاب فاعلين وناشطين، وتوظيفها لخطف مساحات وفضاءات جديدة لممارسة العمل المدني، امتدت لتشمل اقتحامه العمل السياسي بصور متعدّدة، لدرجة جعل من الجمعيات رقماً مهماً وأساسياً في معادلة البناء السياسي ما بعد الثورة، لاسيما بعد تضاعفها كميَّاً. فعلى سبيل المثال انتقل عدد الجمعيات من تسعة آلاف جمعية منذ الاستقلال إلى غاية الثورة، إلى أكثر من 18 ألف في بداية عام 2015.[3]

هذا التصاعد للمجتمع المدني الذي كشفت عنه الثورات العربيَّة أبان عن تراجع دور الهيئات الوسيطة التقليديَّة في تأطير المواطنين وتعبئتهم؛ فالأحزاب والنقابات والوسائط الإعلامية والثقافية التقليدية لعبت دوراً محدوداً في الحراك الاجتماعي الذي شهدته الدول العربيَّة، وظهرت وكأنَّ الأحداث تجاوزتها أمام صعود قوى مدنية وجماعات افتراضية اقتحمت الكثير من المجالات العمومية التي كانت تحسب إلى وقت قريب على المجال السياسي، بفضل استثمارها لوسائل حديثة للتواصل والتعبئة بما فيها توظيف شبكة المجتمع المدني العالمي بمؤسساتها وفروعها، بشكل يجعل منها رقماً مهماً في إرساء المجتمع الجديد في مرحلته الانتقالية. فعلى سبيل المثال، شكلت الجمعيات في تونس ما بعد الثورة تحالفاً مدنياً تحت اسم "المجلس الوطني للجمعيات"، رشح قوائم مستقلة في الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2014، كما أنشأت تحالفاً لمراقبة سير الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2015، والانتخابات الرئاسية في نوفمبر ودجنبر من السنة نفسها، وساهمت في كتابة الدستور التونسي الجديد، وصياغة عدد من القوانين الانتخابيَّة، إضافة إلى مساهمتها في توعية المواطنين في المشاركة الانتخابيَّة، وفي المراقبة الانتخابيَّة، واختيار ممثليهم في المجلس التأسيسي لوضع الدستور.

غير أنَّ تصاعد هذا الدور ترافقه تساؤلات حقيقيَّة ملحَّة، تنصبُّ أساساً حول تزايد التوظيف السياسي لجمعيات المجتمع المدني داخلياً وخارجياً، بسبب خلق الأحزاب السياسية لجمعيات مدنية تتحرك في الخفاء لاستقطاب ناشطين جدد وخدمة أجندات حزبية، واستخدام الحكومات للجمعيات سواء بشكل مباشر أو غير مباشر في العمل السياسي العلني والخفي، كما أنَّ الكثير من الجمعيات المساهمة في الحراك العربي لا تفصح عن مصادر تمويلها ومواردها المالية، وارتباطاتها الخارجية لم تعد خافية، حيث انخرط عدد منها في أجندات خارجية. ممَّا يطرح تساؤلات عدة عن استقلاليتها ومشروعية دورها.

ثانياً: التفاعل بين المجتمع المدني والافتراضي وتأثيراته في الفضاء العام العربي

التطورات التي عرفها المجتمع المدني ووسائل الاتصال الحديثة ستدفع بالتفاعل بينهما ليصبح فاعلاً في المجال العام العربي، حيث قاد إلى مجموعة من التحولات، يتمثل أبرزها في ما يلي:

- تحولات آليات الاحتجاج في العالم العربي:

أظهرت الثورة أهمية آليات الاحتجاج ذات الطابع الافتراضي الرقمي بقيادة جمعيات المجتمع المدني، التي وضعت حداً لهيمنة الأحزاب والنقابات والزعامات التقليدية في هذا الإطار، حيث شكلت الفضاءات الافتراضية الجديدة؛ من مدونات، وصفحات فيسبوك، وتغريدات تويتر، وفيديوهات يوتيوب، وقنوات الدردشة الافتراضية ...، شكلت فضاءات للقوى المدنية والجماعات الافتراضية لصنع الاحتجاج والتظاهر، وتجاوز رقابة الأنظمة العربيَّة الحاكمة ومنعها. كما شكلت المواقع الإلكترونيَّة للجمعيات أو تلك المواقع التي تنشر أنشطتها والصفحات الإلكترونيَّة فضاء ديمقراطياً حراً، ساهم في التعبئة للاحتجاج الجماهيري، والتنسيق والإخبار، ونقل الأحداث حيَّة صوتاً وصورة.

إنَّ التلاقح بين وسائل المعلومات وجمعيات المجتمع المدني قوَّى من دور هذه الأخيرة في العالم العربي، إذ استطاعت إسماع صوتها داخلياً وخارجياً، حيث انضمت القوى التقليدية من أحزاب ونقابات إلى الاحتجاجات الشعبيَّة، ونظمت تظاهرات خارجية لدعم الحراك الجماهيري، في كلٍّ من تونس ومصر وسوريا. كما دعمت مجموعات عالميَّة افتراضيَّة جهود مثيلاتها على المستوى الوطني.

- مجال جديد للقوى المدنيَّة في العالم العربي:

تتيح وسائل تكنولوجيا المعلومات والاتصال إمكانيات كبرى أمام جمعيات المجتمع المدني في العالم العربي، من خلال توفيرها فضاءات إضافية افتراضية واسعة للتنسيق والتفاعل مع منظمات المجتمع المدني العالمي، والتعريف بأنشطتها ودعم حضورها على المستويين الوطني والدولي، ذلك أنَّ الفضاء الإلكتروني قد مثل فضاء "لاجتماع" الجماهير، لاسيَّما الشباب من دون الحاجة إلى ترخيص، متجاوز بذلك رقابة السلطة وسيطرتها.

إنَّ التفاعل بين وسائل الإعلام الاجتماعي والمجتمع المدني أدَّى إلى ظهور "مؤسسة سياسية جديدة لم تكن قائمة من قبل هذا، هي المؤسسة الإلكترونية أو الفضاءات الافتراضيَّة الناشئة، تتجاوز المؤسسة السياسيَّة التقليديَّة ممثلة في الأحزاب ومجالس الشعب".[4]

- بروز المجتمع المدني الإلكتروني:

كشفت الثورات العربيَّة عن وجود جمعيات افتراضيَّة غير مرسخة على مستوى الواقع، مكوّنة من عدد محدود من الأشخاص -أو شخص واحد- ينشطون افتراضياً، يجيدون تقنيات المعلومات الجديدة، ويتقنون الارتباط بشبكات جمعيات المجتمع المدني العالمي، كما يجيدون إخفاء هويَّتهم السياسية الحقيقية والقوى التي تقف وراءهم، والتي تكون في كثير من الأحيان قوى تقليديَّة، كما حدث في مصر وتونس بالنسبة إلى الجماعات الإسلاميَّة، كما قد تكون قوى تشتغل خارج الشرعيَّة.

تبعاً لذلك، تثار تساؤلات حول قانونيتها، وقانونية دورها، بعد أن ظهرت حركات سياسية ترصد الوسائل التكنولوجيَّة والقوى المدنيَّة لخدمة أهداف سياسية واجتماعية متعارضة مع وجود الدول ذاتها واستقرارها.

حقاً، لا يمكن إنكار دور وسائل الاتصال في قيام الثورات العربيَّة، غير أنَّ الانحرافات التي ظهرت ما بعد الثورات، تثير مساءلة هذه الوسائل، ودور المجتمع المدني في بناء الدولة. فواقع التلاقح بين الافتراضي وجمعيات المجتمع المدني أضحى مفخَّخاً ومبهماً في زمن ما بعد الثورات، لاسيَّما أمام تزايد الصعوبات التي واجهت القوى السياسية والمدنية في بناء الدولة في مرحلة الانتقال. فالدور الذي قام به المجتمع المدني في الثورات العربية يواجه تحديات مستقبلية متعلقة بمواصلة دوره بنضج ومسؤولية. ومن أجل ذلك يقترح الكاتب اشتغال المجتمع المدني في العالم العربي على واجهتين: الأولى متعلقة بمواصلة العمل وطنياً وإقليمياً ودولياً، من أجل ضمان استمرار القضايا المهمة وطنياً في وعي المجتمع، وكذلك من أجل تعزيز حضور قضايا البلد على المستوى الدولي، والثانية متمثلة في متابعة مقررات القمَّة العالمية عن مجتمع المعلومات، لما لها من أهمية في تعزيز التحولات الاجتماعية والسياسية، وفي تطور المجتمع المدني العالمي. ولما لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات من دور في الحراك العربي، ولما تلعبه الجماعات الافتراضية كهياكل تنظيمية ناشئة في هذا الإطار.

ثالثاً: الفعل السياسي الافتراضي: المحدّدات والمظاهر

أمام صعود الافتراضي في المجتمع بصفته فضاء للتعبير وصانعاً للرأي العام أصبحت وسائل التواصل المعلوماتية تحتلُّ مكانة وموقعاً مركزياً في المجال السياسي، بفضل آلياته وتجهيزاته وتطبيقاته، والحواسيب والهواتف النقالة، وشبكات التواصل الاجتماعي، وقد أحدث تغييرات عميقة في المجتمع السياسي باعتباره إحدى أقوى الوسائل في نقل المعلومات والأفكار، بشكل يتجاوز المعنى التقليدي للزمان والمكان، وباعتباره أيضاً مساهماً بعمق في تشكيل وعي الناس.

إنَّ التكنولوجيا الرقمية أصبحت فضاء جديداً للعمل السياسي، بصورة تتيح للمواطنين المشاركة اليومية في الحياة السياسية والاجتماعية عبر مختلف وسائل الاتصال الحديثة، وفي تكثيف العلاقات التفاعلية اللفظية والحدثية بين المواطنين من جهة، وبينهم وبين هياكل الدولة من جهة أخرى. وهو ما يفسِّر تأثر الحياة السياسية اليوم بتطور تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وقد وصل إلى درجة جعل السياسة مشاعة للجميع عبر شبكة الإنترنت، وملكاً للجماهير والنخبة، وإلى درجة تغيير بنيات وتراتبية النخب السياسية، وخلق نخب جديدة.

إنَّ تطوُّر وسائل الاتصال والمعلومات فتح المجال أمام الأحزاب السياسية لنشر أطروحاتها وترويج برامجها، واستقطاب مناصرين ومتعاطفين جدد، كما فتح المجال أمام القوى المدنية لتقتحم الفضاء العام بصورة لم يسبق لها مثيل، كما نقلت الدولة تصوراتها وبرامجها ومشروعاتها ومعاركها وتسويق سياساتها إلى العالم الافتراضي؛ ممَّا أثر على الفعل السياسي في العالم العربي، حيث عرف جملة من التحولات، يمكن إجمالها في ما يلي:

- تغيير طرق الوصول إلى السلطة:

يذهب المؤلف إلى أنَّ درجات التطوُّر التي بلغها الافتراضي وتأثيراتها في المجال السياسي غيَّرت طرق الوصول إلى السلطة التي تسعى إليها الأحزاب السياسية، فلم يعد الأمر مرهوناً بكاريزما القائد، ولا بقدراته الخطابية والتواصلية، إذ إنَّ الزعامة والمشروعية اليوم تخلقهما التقنيات التكنولوجية والمعلوماتية، بحيث إنَّ صورة الشخص الافتراضية أصبحت جزءاً من الفعل السياسي، وتسويق البرامج الحزبية أضحت نشاطاً سياسياً مهمَّاً للأحزاب السياسية. وقد بدأت تستوعب الأحزاب العربية ما بعد الثورة أهميَّة التقانة في تنافسها السياسي وتحقيق أهدافها.

ويظهر جليَّاً تأثير تقنيات الاتصال في تطوُّر الفعل السياسي في العالم العربي في زمن الثورات وما بعدها، حيث قام الفاعل السياسي في العالم العربي في زمن الثورات بجملة من المبادرات والتدخلات الإلكترونية، ركزت أساساً على وسائل وآليات الفعل الاحتجاجي الافتراضي، يحدّدها الكاتب في تسع، وهي:

- إنشاء مواقع ويب في صيغها المختلفة: الثابتة والحركية والتفاعلية.

- إحداث المدونات الخاصة أو مواقع ويب شخصية للتعبير.

- إحداث مواقع الإنترنت ومنتديات الحوار، وحضور الفاعل السياسي فيها بشكل كبير.

- إحداث النشرات الإلكترونية وإغناؤها بمحتوى مكتوب ومصور باستمرار.

- الإقبال على البريد الإلكتروني والاهتمام به من خلال استقبال الرسائل الإلكترونية والرد عليها وتوظيف قوائم التخاطب الإلكتروني لتمرير المعلومات والخطاب السياسي.

- متابعة مواقع الويب المخالفة في الرأي والمعارضة للفاعل السياسي وأطروحاته.

- المشاركة الفاعلة للفاعل السياسي في المواقع والفضاءات المخصَّصة لسبر الآراء وقياس توجُّهات الرأي العام.

- توظيف الهاتف الجوَّال من خلال الرسائل النصيَّة والمصوَّرة من قبل الفاعل السياسي لتمرير ما يخدم أهدافه واختياراته وتسويق إنجازاته.

- توظيف الألعاب عبر الإنترنت والهواتف الجوَّالة من خلال شحنها بمحتويات تخدم توجهات سياسيَّة للفاعل السياسي.

- تجديد الفعل السياسي:

إنَّ الفعل السياسي الجديد المعتمد على تقنيات التكنولوجيا الرقمية أصبح يحقق انتشاراً واسعاً وعميقاً لدى فئات اجتماعية من مختلف الشرائح العمرية، وقد ساهمت جملة من العوامل في تحديد الفعل السياسي، يحصرها المؤلف في ثلاثة أبعاد مترابطة ومتكاملة: أولها البعد الجغرافي المتمثل في عولمة الميدان والعمل السياسيين، بفضل تنامي دور القنوات الفضائية التلفزيونية، وتزايد تأثير وسائل الإعلام الاجتماعي التي تداعت معها الحدود الوطنية. وثانيها البعد الزمني المتجسِّد في نقل الأحداث ومشاركة الرأي حولها بشكل حيني ولحظي مباشر، زاد من تعقد النشاط السياسي، وحمَّل الفاعلين السياسيين أعباء إضافية من أجل مواكبة هذه التحولات السريعة. وثالثها البعد الميداني المتمثل في ثورة الفضاء السمعي البصري وما نتج عنها من انفتاح دولي، وتنوع الوسائل وتعدد الأطراف المتدخلة في هذا المجال، والترابط القائم فيما بينها، واعتماد كبير للفاعلين السياسيين عليها.

فهذه الأبعاد المرتبطة بالافتراضي توفر آليات جديدة للنشاط السياسي، وسبل مستحدثة لممارسة الفعل السياسي والتحرك الميداني، من قبيل ارتباط الفاعلين السياسيين بالشبكة العنكبوتية، وتوظيفهم للرقمي والتقنيات المتطورة للتواصل مع الجمهور السياسي إلى درجة تحوَّل معها الفضاء الإلكتروني إلى فضاء للصراع السياسي، هكذا ظهر ما يُسمَّى "بالمناضل السياسي الإلكتروني" و"الحملة الانتخابية الإلكترونية".

وقد لجأ الفاعل السياسي العربي ما بعد الثورات إلى توظيف الوسائط الاتصالية الحديثة "بهدف الانتقال بالافتراض من "تكنولوجيا السلطة" إلى "سلطة التكنولوجيا" المنتجة للقوة والنفوذ والسلطة والديمقراطية التشاركية البديلة بين القوى المدنية، وبهدف إعادة توزيع علاقات القوة بين المجتمع والدولة والفرد والدولة والمؤسسات والجمعيات والقوى المدنية والجماعات الافتراضية، وتحويل الناس العاديين إلى مصادر فاعلة ومؤثرة في إنتاج الحقيقة والانتقال من العمل السياسي العمودي ذي الاتجاه الواحد إلى العمل السياسي الأفقي المفتوح للجميع".[5]

غير أنَّ هذه الأهمية في المجال السياسي أصبحت مهدَّدة بفعل تحول الفضاء الإلكتروني إلى مجال للإرهاب الإلكتروني، والقرصنة والاحتيال الإلكتروني.

- إعادة توزيع القوَّة في المجتمعات العربية:

ساهمت الثورة المعلوماتيَّة المتحرّرة من الضوابط السياسيَّة في إعادة توزيع القوَّة في المجتمعات العربيَّة خلال الثورات وما بعدها، من خلال بروز وتنامي دور فاعلين سياسيين جدد، لاسيَّما المجتمع المدني، والجماعات الافتراضيَّة، وتحويل الناس العاديين إلى أطراف فاعلة ومؤثرة في المجال السياسي. ويتضح ذلك جليَّاً من خلال المميزات المستحدثة التي أصبحت تسم الفعل السياسي، يجملها المؤلف في سبع، وهي:

- التشاركيَّة: حيث لم يعد التفاعل السياسي بين الأفراد منحصراً في إطار الأطر الاجتماعية والسياسية التقليدية في ظلّ الواقع الافتراضي، فأثناء الثورات العربيَّة وما بعدها صعدت المشاركة السياسيَّة التشاركيَّة التي يمكن أن تقود مستقبلاً إلى ديمقراطيَّة الشراكة.

- الانقطاع: بمعنى أنَّ الانخراط في المجتمعات الافتراضيَّة وفي الفعل السياسي الإلكتروني، يقود إلى نوع من الانقطاع عن الواقع الاجتماعي والسياسي، في شكل انقطاع العلاقة الواقعية مع السياسيين والرفاق والمنتمين إلى التنظيمات السياسيَّة، حيث يحلُّ الاتصال الرمزي محل العلاقات الفيزيولوجيَّة.

- تعدُّد الفضاء وإلغاء الزمن: حيث التفاعلات السياسيَّة على المستوى الافتراضي تتسم بتعدديَّة المراكز وتبادلها، وغياب مركز لها، فهذه العلاقات تخرج عن سياق وسيطرة السلطة، حيث يمكن للفرد أن يكون مركزاً لجماعة، كما يستطيع أن يقود الحوار مرَّة أو مرَّات.

- الإخفاء وخفاء الاسم والمجهوليَّة: إَّن تنامي أدوار المجتمع المدني والجماعات الافتراضيَّة الذي كشفت عنه الثورات العربيَّة، دفع بالعلاقات السياسية في العالم الافتراضي للارتباط بتجمعات خفيَّة، مجهولة الهويَّة في الغالب، حيث المنخرط في التفاعلات السياسيَّة الافتراضيَّة يجهل مع من يتحدَّث، كما ظهرت شخصيات فكريَّة وسياسيَّة مجهولة الهويَّة مؤثرة وفاعلة.

- التفكُّك: تنامي دور الجماعات الافتراضيَّة أفرز تفكك العلاقات الفيزيائيَّة بين الأفراد في الفضاء السياسي الافتراضي، وتشكل نوع جديد من أنواع العلاقات السياسيَّة قائمة على التفاعل الرمزي وعلى التشابك والتعقيد.

- التمرُّد: حيث فتح الفضاء الافتراضي مجالاً واسعاً لتمرُّد الأفراد والحركات الاجتماعيَّة والسياسيَّة، باعتباره يتيح تجاوز الضوابط التقليديَّة للمجتمعات، فالفضاء الإلكتروني مفتوح للاتفاق على التظاهرات والاحتجاجات أو الثورات، ويتجاوز قيود المكان. وقد جسَّدت الثورات العربية هذه الخاصيَّة بشكل جلي، حيث أصبح الإنترنت أداة تمرُّد المجتمع المدني.

- الفردانيَّة: إنَّ التعدُّد في الفعل السياسي الذي تنشطه الجماعات المدنيَّة الافتراضيَّة يقود إلى الفردانيَّة في السياسة؛ أي إنَّ الفرد المنخرط في التفاعلات الافتراضيَّة يدخل هذا التفاعل بوصفه فرداً من خلال جهاز الحاسوب الخاص، أو الهاتف الذكي، الذي ينقله من الواقع إلى عالم افتراضي، فالتطور التكنولوجي ووسائل الإعلام الاجتماعي أدَّت إلى بروز ما ينعت بالفردانيَّة السيبرنيَّة (Le cybersolipsisme)، عمادها علاقات قائمة على المصلحة الحينيَّة والنفعيَّة، وتحقيق المتعة واللذَّة.

رابعاً: ملاحظات

يثير الكتاب جملة من الملاحظات، يمكن الإشارة على الخصوص إلى ما يلي:

- لجوء الكاتب إلى بعض الأفكار الجاهزة التي لا تستقيم مع البحث العلمي، بشأن الهويَّة وتفتت الهويَّات الاجتماعية وعودة الأفراد إلى هويَّاتهم العقائديَّة، فمثل هذه الأفكار أظهرت العديد من الدراسات محدوديتها، وتعقد مسألة الهويَّة والدين.

- يذهب المؤلف إلى أنَّ الشبكة الافتراضيَّة قضت على مفهوم الزعامة في السياسة والمجتمع، وتبعاً لذلك، القضاء على النخب الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وهو ما يتناقض مع واقع الدول، بما فيها الدول الديمقراطيَّة، حيث الفضاء الإلكتروني يخلق زعامات جديدة، بما فيها الزعامة الكاريزميَّة التي يخلقها امتلاك الخبرة التقنيَّة والتكنولوجيا، كما توظف وسائل التكنولوجيا الحديثة لتدعيم مشروعيَّة الأنظمة السياسيَّة، ولتعزيز الزعامة الحكوميَّة والحزبيَّة.

- المبالغة في تقدير وتقييم تأثير الافتراضي على الإنسان والمجتمع العربيين، كإعلانه في مقدّمة المؤلف عن تعطيل السياسة وغيابها في الحالة التونسيَّة، إذ بعد الثورة تمَّ تأسيس أزيد من 217 حزباً سياسياً، ولكن دون وجود السياسة.

والظاهر أنَّ الكاتب يتجاهل معنى السياسة، التي لا تعني فقط تدبير الواقع بحسب الممكن، بل السياسة تشمل إلى جانب التدبير مختلف الطرق المؤدية إلى مؤسسات ممارسة السلطة وآلياتها، وتكوين المؤسسات والمساومة بشأنها، وتشكل قنوات تجميع المصالح والتعبير عنها وتطويرها ...، وكذلك حديثه عن نهاية الناخب الفيزيائي المستقل والدعاوى الانتخابية، ونهاية الشعارات الوطنية الكبرى، ونهاية الحكومات البرلمانية الطبيعية، بفعل تأثير وسائل الاتصال الافتراضيَّة. فحقاً ثورة وسائل الاتصال الحديثة أحدثت تغييرات عميقة في الفعل السياسي في العالم العربي، غير أنَّ الواقع يبين أنَّ الأمر لا يصل إلى هذه الدرجة التي يدافع عنها المؤلف، ويغفل هذا الأخير فشل بعض التجارب الوطنيَّة التي لجأت إلى توظيف تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة في العمليَّة السياسيَّة، خاصة في مجال الانتخابات والتصويت عن بُعد، كما حدث في بلجيكا، وتردُّد دول أخرى في الدخول في مثل هذه التجربة كالولايات المتحدة الأمريكيَّة وبريطانيا وإيرلندا والسويد.[6]

لقد كشفت هذه التجارب صعوبة التصويت الإلكتروني مثلاً، أمام تزايد مخاطر تحريف إرادة الناخبين بسبب التلاعب الإلكتروني عن طريق البرامج الإلكترونيَّة أو القرصنة الإلكترونيَّة وتحكُّم شركات الاتصالات العاملة في هذا المجال. والعالم العربي عرضة لتزايد مثل هذه المخاطر والصعوبات بفعل هشاشة البنية التكنولوجيَّة، واستمرار نسب مرتفعة من الأميَّة، وغياب استقلالية الأفراد، وتزايد الفساد الإداري والانتخابي.

- إقحام قضايا في غير سياقها المناسب، فعلى سبيل المثال، عندما يتحدث الكاتب عن تراجع الأحزاب السياسيَّة في الفصل الأول يقحم إقحاماً مسيئاً موضوع الدبلوماسيَّة الموازية ويسترسل في تعريفها وتبيان أنواعها.

- تكرار المؤلف لبعض المعلومات بالتحليل نفسه[7]، ولعلَّ الأمر يعود إلى التسرُّع وعدم مراجعة وتدقيق المكتوب، أو إلى إنجاز أجزاء الكتاب في وقت متباعد، والمسؤوليَّة هاهنا مشتركة بين الكاتب والمركز الناشر للمؤلف.

- عدم تحديد إشكالية الموضوع بدقة، حيث أشار المؤلف أكثر من مرَّة إلى إشكاليات مختلفة، فعلى سبيل المثال يسجل في الصفحة الثانية عشرة ما يلي: "نثير، هنا، في هذا الكتاب صراع السياسي والمدني في المجتمعات العربيَّة الراهنة، وتحديداً إشكالية العلاقة بين مساحة ما هو مدني وما هو سياسي في الفترات الانتقاليَّة". ثم يأتي في الصفحة التاسعة عشرة ليشير إلى إشكاليَّة أخرى: "تتمحور إشكاليَّة دراستنا حول مسألة مركزيَّة ترى أنَّ السياسة في أثناء الثورات العربيَّة وبعدها أصبحت مشاعة للجميع، ومن فعل الجميع، من خلال الجمعيات والقوى المدنيَّة التي تستعمل وسائط الاتصال، ولاسيَّما الإنترنت في تحركاتها الميدانيَّة داخلياً وخارجياً، وفي فعل الانتفاض على السائد والثورة على الأنظمة القائمة".

- إغفال الكاتب للتحدّيات التي تواجه وسائل الإعلام الاجتماعي على المستويين العالمي والوطني، سواء تعلق الأمر بتدخل الدولة من أجل تنظيمها قانونياً، أو تحكُّم شركات التكنولوجيا في مصدر الوسائل ووسائط انتقال المعلومات، أو مراقبة الأنظمة السياسيَّة للفضاء الإلكتروني، وتدخلها للتأثير في توجهات الرأي العام الإلكتروني من خلال إنشاء جمعيات افتراضيَّة ومواقع إلكترونيَّة ومنصَّات متعدّدة الوسائط، واستخدام موالين افتراضيين مدافعين عن توجُّهاتها والتشويش على المعارضين، أو التدخل المباشر لدى شركات المعلوميَّات الكبرى لحجب المواقع، أو تعلق الأمر بالقرصنة الإلكترونيَّة، وغزو الجماعات الإرهابيَّة للفضاء الإلكتروني[8]، فعلى سبيل المثال تمَّ اعتماد المبثوث في الفضاء الإلكتروني لملاحقة عدد كبير من الناشطين أمنياً وقضائياً، كما أنَّ العديد من القضايا المطروحة لم تتجاوز مرحلة التداول الإلكتروني، ولم تؤدِ محاولات التعبئة إلى مساءلة سياسيَّة.

- كثرة الاقتباسات من مراجع ومؤلفات متواضعة، بحيث بلغ عددها 93 اقتباساً، وشكَّلت حوالي 14,5% من مجموع حجم الكتاب.[9]

إضافة إلى الإكثار من الاقتباسات في الصفحة الواحدة، إذ بلغت ثلاثة اقتباسات في صفحة واحدة في عدد من الصفحات، مثل الصفحتين 189 و193، واللجوء إلى اقتباسات متتالية من مرجع واحد، مثل الصفحات: 89، 90، 91، 93، 92،[10] والصفحات: 189، 190، 193.[11]


[1] تتمثل الكتب المنشورة من طرف المؤلف في موضوع وسائل تكنولوجيا المعلومات الحديثة في ما يلي:

- الثقافة الافتراضية، الشركة التونسية لنشر، تونس، 2006

- المجتمع الافتراضي، نوفا برنت، تونس، 2007

- مدخل إلى قانون الإنترنت والملتيميديا، تونس، 2010

[2] من بين مقالات الكاتب يمكن الإشارة إلى ما يلي:

- تقنين السياسة وتسييس التقانة، إضافات، العددان 3-4، صيف - خريف، 2008

- رقمنة السياسي وتسييس التكنولوجي، المجلة التونسيَّة لعلوم الاتصال، العددان 51- 52، يناير - يونيو، 2009

[3] جوهر الجمّوسي، الافتراضي والثورة. مكانة الإنترنت في نشأة مجتمع مدني عربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة - بيروت، الطبعة الأولى، مارس 2016، ص 54

[4] المرجع نفسه، ص 104

[5] المرجع نفسه، ص 154

[6] عبد النبي رجواني، الأنترنيت والديمقراطيَّة، إنعاش وتجديد أم تقويض وتأزيم؟ منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2011، ص ص 155- 161

[7] على سبيل المثال الصفحات 35 و39 و91

[8] بشأن مختلف التحدّيات التي تواجه وسائل الإعلام الاجتماعي، يمكن مراجعة: لاري دايموند ومارك بلاتنر، "تكنولوجيا التحرُّر: وسائل الإعلام الاجتماعي والكفاح في سبيل الديمقراطيَّة"، ترجمة مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجيَّة، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2013

[9] بلغ عدد السطور المقتبسة 548 سطراً؛ أي حوالي 27 صفحة بمعدل 20 سطراً في الصفحة الواحدة

[10] المرجع المقصود هو: حمزة مصطفى المصطفى، المجال العام الافتراضي في الثورة السوريَّة: الخصائص - الاتجاهات - آليات صنع الرأي العام، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012

[11] ثلاثة اقتباسات متتالية من مرجع واحد لنزيهة مصباح السعداوي، سوسيولوجيا المجتمع الافتراضي: نحو مقاربة المفهوم، ورقة قدّمت إلى: الأمن السيبراني والتحوّلات الاجتماعيَّة في الوطن العربي، مخبر البحث العلمي، الثقافة والتكنولوجيا والمقاربات الفلسفيَّة، الدار التونسيَّة للكتاب، تونس، تحت الطبع.