محاضرة: "الحداثة: الانفراق الأنثروبولوجي والقطيعة الإبستمولوجية" للدكتور حمادي بن جاء بالله

فئة: أنشطة سابقة

 محاضرة: "الحداثة: الانفراق الأنثروبولوجي والقطيعة الإبستمولوجية" للدكتور حمادي بن جاء بالله

احتضن صالون جدل التابع لمؤسسة مؤمنون بلا حدود محاضرة تحت عنوان "الحداثة: الانفراق الأنثروبولوجي  والقطيعة الإبستمولوجية "ألقاها الدكتور حمادي بن جاء بالله   من  تونس؛ وذلك يوم السبت الموافق ل 28 يناير 2017 عند الساعة الرابعة مساء،  وخلاصة ما ورد في المحاضرة  هو كالتالي: ما من ''أنموذج ابتدائي '' كما يقول قوستاف يونغ ’ أشد استيلاء على الفكر الإنساني  من   خيال  التقايس  بين  ''الكون الكبير '' و ''الكون الصغير'' ، وليس أكثر منه انتشارا سواء  في ثقافات الشعوب التلقائية أو معارفها المرتّبة   في غير اكتراث بالفروق اللغوية  والعقدية  والمناخية  ’ولا يبدو أنه ثمة أقدم منه نشأة في الزمن؛  إذ الأقرب  إلى وقائع التاريخ  أنّه  اكتسب بعدا نظريا واعيا –ولو على نحو جنيني –خاصة  منذ  قدماء العراقيين  والمصريين والفينيقيين . وتمدد في الزمن حتى هيكل بنية الفكر اليوناني في أثينا '' والفكر العربي في ''بغداد'' والفكر  اللاتيني -المسيحي  حتى عصر الإحياء الأوروبي. ولسنا نخشى شططا، إن قلنا إن ''الفكر '' الإنساني  انعقد مآله –تعقلا ووجدانا وضميرا -حتى مشارف العصر الحديث - على ضفاف دجلة والفرات والنيل..

وما كان لهذا ''الأنموذج الابتدائي '' أن تكون له هذه الجدوى لو لم يرتبط تلقائيا في ''اللاوعي الجمعي '' بنظام ''الكوسموس ''أو ''العالم ''برمته بما هو  ''الكل''  ''المنظم'' المتناهي''  المتراتب ''  ''المتنفس'' الذي يحتل  فيه الإنسان الموضع الوسط  ؛ فعن ''نظامه '' و'' تناهيه '' يلزم القول بعقلانيته وروعته معا ’ فلا يظهر فيه تفاوت يخل بميزانه ’ ولا يبدو البتة  ''باطلا '' لمن سرح الوهم في ملكوته . وعن تراتبه تلزم ''أنموذجيته  القيمية'' بالنسبة إلى الإنسان ’ فردا وجماعة . وعن ''تنفسه'' وكأنما هو ''حيوان كبير'' كما يقول أفلاطون وأرسطو وابن سينا وابن طفيل ... يترتب القول بالتوازي بمعنييه ’ العام والخاص  ’ بينه وبين بنية الإنسان روحا وجسدا .وعن وسطية موضع الإنسان منه يترتب  تسلطه على جميع المخلوقات في ''عالم الكون والفساد '' ’ وأنه في أرقى درجات سلم الكائنات Scala naturae '' . فالمدن الفاضلة ''  ’عند أفلاطون وأرسطو كما عند الفارابي  وطوماس الإكويني وجل مفكري عصر الإحياء الأوروبي ’هي تلك التي  تنبني على نظام  ''الكوسموس ''  فتكون فيها العلويات والسفليات ’ويكون فيها لكل فرد بما هو إنسان التراتبية Homo hierachicus    ’منزلته وبالتالي وظيفته. وتلك هي –عند القدامى والوسطيين عربا وأوروبيين عامة-  الشروط  الكوسمولوجية و الأنثروبولوجية الكفيلة بتحقق فضيلة  التلاؤم بين الإنسان  والعالم  من ناحية ’ وبين الإنسان والإنسان من ناحية أخرى .  

وعلى قدر روعة هذه الرؤى وأريحيتها ’كانت جسارة العصر  الحديث  الذي ما مرّ أهلوه  على  موضع من تلك المواضع ’إلاّ تركوه قاعا صفصفا. فقد انفرط العقد وانقطع الحبل السري الذي كان يشد الإنسان إلى العالم. فلا هو ''حيوان متنفس'' بل مجرد ''جوهر ممتد''Res extensa  ’ يكفي لمعرفته  أن نحسن تصريف مفاهيم ثلاثة  هي ''المادة''  " و''الزمان'' و''المكان'' أي  ''الكتلة'' و''الحركة''. وإذا كان  الأمر  كذلك ’ كان العالم  لا متناهيا على غرار المكان الإقليدي  وكان تبعا لذلك ’عالما مفتوحا لا مغلقا ’ و متجانسا لا متراتبا’ فلا علويات فيه ولا سفليات إلا على جهة  الاصطلاح ’ يتحدد في إطار إحداثية غاليلية-ديكارتية. وينتج عن ذلك كله  أن لا قرابة لهذه ''المكنة الكونية'' بالإنسان  بما هو ''جوهر مفكر'' Res cogitans’’ " .فلئن كان تحدد العالم  الجديد أو ''الطبيعة'' بالمادة والحركة ’ فتحدد الإنسان بالفكر  والإرادة اللاّمتناهية التي بها كان  كائنا  ''خلقه الله على صورته '' ’ لا على صورة الكون .

وعلى هذا النحو، لم  يعد الإنسان جزءا من الطبيعة أو  في  الطبيعة، ولو وضع في أعلى سلّم موجوداتها ’ بل أصبح  قبالة الطبيعة ’لا ليحاذيها بل ليكون بمثابة "سيدها ومالكها ''.فالتقابل بين الإنسان والعالم  هو  كالتقابل بين ملكوت الحتمية وملكوت الحرية . والحرية لا تستقيم -مفهوما وممارسة -إلا بالمساواة. لذلك، كان الانتقال  من نظام التراتب الاجتماعي-السياسي   Homo hierachicus  إلى نظام المساواة الاجتماعية- السياسية Homo aequalis   رفض الإنسان الحر النظام التراتبي بجميع أشكاله بعد أن  أصبح فردا يضطلع بمسؤولية وجوده بلا أوصياء على الضمائر والعقول .

وإذا سلمنا بما أسلفنا ’كان لنا أن نعرف الحداثة  بكونها لحظة تاريخية إبستيمولوجية،  مرت فيها الإنسانية 'وإن من مواقع مختلفة- من طور ما قبل الحداثة الممتد من قدماء العراقيين والمصريين،  حتى عصر الإحياء الأوروبي، باعتباره –في نهاية  التحليل –عصرا إبستيمولوجيا واحدا ’  إلى العصر الحديث، باعتباره العصر الذي شهدت فيه الإنسانية –سواء من مواقع الفعل أو من مواقع الانفعال – ثلاث ثورات متلاحقة: ثورتان نظريتان  اشتغلتا وفقا لما توجيه الحقيقة العقلية الصرف ’ ثورة علمية أعادت تنظيم بينية الكون  هي الثورة الكوبرنيكية ’وثورة فلسفية لازمة عنها هي الثورة الديكارتية  التي أعادت تنظيم العقل البشري. أماّ الثورة الثالثة، فسياسية أعادت ترتيب الاجتماع البشري وفقا لما توجبه قيمة الحرية، وهل من معنى للحداثة –رغم خروجها عن مبادئها في أحيان  كثيرة - خارج الالتزام بالحقيقة  العلمية  والحرية؟ وهل من سبيل إلى مغالبة التخلف بجميع أشكاله ’وحتى إلى الانتصار على مصاعب الحداثة ذاتها ’إلاّ باكتساب العقلانية ونشر قيم الحرية؟