ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
107
2016 )9(
العدد
اختلف دور المستكشف الجديد عن دور سلفه القديم، ضلّل
الأول سلالة العميان، وموّه عليها، وادّعى كذباً أنّه قادر على
شفاء أفرادها من العمى الذي أنزله الله بهم لأنّم لم يأخذوا
بكلمته الصحيحة. يجوز علاجهم فقط إذا ما بلغوا سنّ الرشد
الديني المطلوب، وبدأ يجني المال بتلك الذريعة، ثم توارى عن
الأنظار. جمع الإسباني بين دور كاهن ودجّال ولصّ، فظفر
بغنيمة العميان دون أن يشفي أحداً منهم، فتلك إذن وصمة
عار لا ينبغي نسيانا، واعتبارها عتبة تاريخية أولى رغم سوئها.
أمّا الثاني- وليس ينبغي أن يُنعت بنعوت الأول- فقد فكّر في
تغيير شعب كامل من أجل أن يكون مالكاً له، ومَلكاً عليه، فلم
يهتم بالعمى إنّما بأمر أكبر من ذلك: التغيير من أجل الاستحواذ
والحيازة والتملّك، فتطابق مع الدور الذي تو ّه «كروزو» في رواية «ديفو» حينما عمّر جزيرة، فامتلكها ومَنْ عليها، فهما يتطابقان
بالهويّة والمعتقد والغاية.
لا فرق يستحق الاهتمام بين أفراد العائلة الاستعمارية التي أنشاها السد الاستعماري، فلا اختلاف بين «نونيز» و«كروزو» من ناحية
التمثيل السدي، فقد خاضا مغامرة فردية جريئة في أرض الآخرين، وباعث ذلك كان متماثلاً؛ وصل «نونيز» إثر انزلاق خاطئ من
الجبال قاده إلى وادي العميان، ووصل «كروزو» إلى الجزيرة النائية بعد غرق سفينته وضياعه في أعالي البحار، فالسقوط / الضياع
حافز دفع الاثنين إلى تغيير في مسار حياتيهما، إذ راودتهما فكرة امتلاك أرض وشعب، وإذ تعذّر ذلك الأمر على الأول بعد أن شُغل
به كثيراً، فقد ظفر به الثاني وأقامه. لا تنفصل التجربة الاستعمارية عن المُلكية، فهما متلازمتان لا انفكاك بينهما، ولا معنى للأولى إلا
بالثانية.
نَضّد السد جملة من الأوصاف للمستكشف تطابق الأوصاف التي روّجتها المدونة الاستعمارية للمستكشفين منذ بدء الحملات
الغربية للسيطرة على العالم: الخبرة، والمعرفة، والثقافة، والذكاء، والجرأة. وهي أوصاف لم تظهر إلا على خلفية من رغبته في تغيير أحوال
السلالة بهدف امتلاكها، فاستند السد إلى قاعدة العمى باعتبارها مانعاً دون معرفة الذات والعالم، فهو وباء اجتاح أرضاً لا اسم لها،
وبسببعمى أهلها سُمّيت بلاد العميان. أصبح العمى مانحاً للتسمية، ومحدّداً للهويّة، لكنّه مانح للبراءة العمياء التي يراها المستعمرون
خمولاً وسذاجة لصيقة بالمجتمعات الأصلية، تلك المجتمعات المبهمة التي لا ترى شيئاً، ولا تعرف أمراً ذا بال. ولكن نزع العمى عن
تلك الشعوبهو نزع البراءة الأولى عنها. لا يصرّح السد بعمى أصيل لحق تلك السلالة منذ بدء الخليقة إنّما هو عمى دخيل تفشّى فيها
بمرور السنين، لكنّ التحوّل التدريجي بالإبصار لم يؤثّر في نمط عيش السلالة، إذ بقيت الحياة «رغدة للغاية في هذا الوادي الذي تحيط به
الثلوج، والذي ينعزل عن العالم كله».
خَلَتْ بلاد العميان من المبصرين، وما عادت بحاجة إليهم، لكنّها، وهذا على غاية من الأهمية، خَلَتْ أيضاً من كلّ مؤذٍ من النبات
والحيوان. خلت من الأشواك والحشرات والضواري، وعلى هذا فقد ظهر الإبصار عند بني البشر في تضادّ مع عمى الطبيعة في نباتها
وحيوانا وحشراتها، فيما ظهر عمى البشر في تضاد مع إبصار الطبيعة وخلوّها من كلّ ضارّ من الكائنات الحيّة. ولم يقترن نمط الحياة
في الوادي بالبصر، فما جعل العمى ذلك الوادي يباباً قاحلاً، بل اغتنى بتنوّع الحياة النباتية والحيوانية غير الضارة، فالثنائيات الضدية
بين الشخصيات والأمكنة والأزمنة والحواس والعادات والطموحات حوافز داعمة لانقسام العالم الافتراضي: العالم الأصلي الأعمى،
والعالم الاستعماري المبصر، ما يمنحشرعية شمول خطاب العالم الثاني للعالم الأول.
اعتمدت البنية الدلالية للقصة على الثنائية
المتضادّة بين الأوطان الأصلية والأوطان
الاستعمارية، وبين عمى أهل الأولى وإبصار
أهل الثانية، فقد تأسست المعرفة التي حملها
) إلى بلاد العميان
Nunez
المستكشف (نونيز-
في جبال القارة الأمريكية الجنوبية على
ًالبصر، ولكنّها لم تأبه بالبصيرة، وما حسبت
لها حسابا
صورة التابع الأعمى في الخطاب الاستعماري




