Next Page  111 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 111 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

111

2016 )9(

العدد

العالم الغريب، لكنّه ليس كذلك من منظور المجتمعات الأصلية التي لها نظام حياة وعمل ومعتقدات وعلاقاتخاصة بها، فالأجنبي لا

يريد بالنظام الذي سعى إلى فرضه على مجتمع المكفوفين القضاء على التباين، إنّما كان يتوق إلى إحلال التبعية محلّ الخصوصية. لم ينطلق

«نونيز/ بوجوتا» من فرضية تأهيل مجتمع العميان، وإنّما إخضاعه لنظام ينتهي به مملوكاً له.

شكّل الزمن الخطّي إطاراً لتقسيم العمل حسب ساعات النهار، وهو إطار لازم في المجتمع الذي قدم الوافد منه، مجتمع

المبصرين، لكن لا وجود له في مجتمع العميان الذي لم يرتّب حياته في ضوء تعاقب الليل والنهار، إنّما اقترح طريقة للعمل لا صلة

لها بالضوء لعدم أهميته في عالم المكفوفين، فهم يعملون لي ً، وينامون ناراً، وذلكلا يتوافق مع النظام الذي اعتاد عليه، فليل بلد

العميان هو للعمل، وبطلوع النهار يتوجّهون إلى النوم، فلا فرق لديهم بين ظلام وضوء، إنّما بين برودة وحرارة، فجعلوا وقت

البرودة، وهو الليل، للعمل، ووقت الحرارة، وهو النهار، للنوم. واعتبر الأجنبي ذلك النظام شاذاً ينبغي عدم القبول به، فعمل

على إحلال نظام يستجيب لمفهوم الزمن عنده، ولمّا أخفق في تغيير نظام العميان شرع في تعلّم عاداتهم وأساليب حياتهم، بهدف

السيطرة عليهم.

لم يخفِ «نينوز/ بوجوتا» ملاحظاته الشخصية في بلد العميان، وإنّما أفرط فيها وبالغ، وتمنّى لو يتطابق نظام حياتهم مع ما يعرف

ويدرك، ومع ذلك أثار عجبه ما بلغوه من ترتيبفيحياتهم، فهم «يعيشون حياة بسيطة ولكن فيها بعضالمشقّة، وكانوا يعرفون الفضيلة

والسعادة، كما يفهمها سائر الناس. كانوا يمارسون أعمالهم ولكن دون أن يرهقوا أنفسهم، إذ كان لديهم ما يكفيهم من الغذاء والكساء،

ولهم مواسم وأعياد وأيام للراحة. وكثيراً ما كانوا يعزفون الموسيقى ويستمعون بها، وكذلك كانوا يغنّون. وعرفوا الحبّ وكأنّم أطفال

. نتج عن ذلك رهافة في حواس العميان ما خلا البصر، فقد توفّرت دقّة في نظام حياتهم، وحينما سعى إلى إظهار أهمية البصر

15

صغار»

قوبل بصدود صريح من العميان. ولمّا حاول أن يفسّ لهم حال السماء والنجوم والسّحب، ا ُم بأنّه مفسد ومارق؛ إذ طعن بمعتقدهم

الذيلا يخضع إلى تفسيرات بصريّة إنّما سمعية ولمسيّة، وعلى هذا فشلتمحاولاته في إقناعهم بأهمية البصرإلى درجة طورد فيها، وهوجم،

ومكث هارباً ليلتين ونارين بلا طعام خارج المكان.

فشل الأجنبي في السيطرة على العميان، وتوارى حلمه بأن يصبح ملكاً فيه، فخطرت له فكرة محاربتهم وإخضاعهم له بالقوة، لكنّه

ّاً، فلم تسوّل له نفسه أن يقتل رجلاً فاقد البصر، ولو فعل ذلك لربما استطاع أن

تردّد لعدم توفّر السلاح لديه، كما أنّه كان «رجلاً متح

. يتعلّق الأمر بـ«الشفقة الحضارية» التي حالت دون محو «البدائيين». وليس هذه بحجة

16

يمليشروطه، وإلا كان مصيرهم القتل جميعاً»

مقنعة، إنّما أمنية راودت مهزوماً، فقد نجا بأعجوبة من الهلاك حينما خدش معتقداتهم الدينية، وقدّم لها تفسيرات بصرية، وما كان قادراً

على القيام بشيء سوى الغرق في تخيّلات عن كيفية فرضسيطرته عليهم، لكنّه عاد ذليلاً حينما شعر بالجوع والتعب والخوف، فتظاهر

، ولمّا وجّه إليه سؤال عن كلمة البصركدليل

17

بالبكاء وطلب المغفرة، فغفروا له وقبلوا توبته؛ لأنّه كائن «حديث الصنع ناقصالتكوين»

اختبار على الحال التي انتهى اليها بعد التوبة، كان جوابه أنّ «الكلمة لا معنى لها، وهي أقلّ من لاشيء»، وإلى ذلك أنكر وجود السماء،

وجارى العميان في القول بوجود «سقفصخري ناعم للغاية يظلّل العالم» موافقة لمعتقدهم، وبما أنّم متسامحون، فقد اعتبروا «عصيانه

دليل بلاهته وضعف عقله» فغفروا له الخطيئة التي اقترفها، وغفروا الزلّة التجديفية، وعلى إثر ذلك شرع يبذل جهده للاندراج في

حياتهم الاجتماعية، فكان يتعرّض لاختبارات يومية في معتقداته وأفكاره، وانتهى الأمر به «مواطناً صالحاً في بلد العميان. وبدأ يألف

164

  ـ م. ن. ص

15

171

  ـ م. ن. ص

16

172

  ـ م. ن. ص

17

صورة التابع الأعمى في الخطاب الاستعماري