Next Page  106 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 106 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

106

2016 )9(

العدد

عبد الله إبراهيم

اعتمدت البنية الدلالية للقصة على الثنائية المتضادّة بين الأوطان الأصلية والأوطان الاستعمارية، وبين عمى أهل الأولى وإبصار أهل

) إلى بلاد العميان في جبال القارة الأمريكية الجنوبية على البصر،

Nunez

الثانية، فقد تأسست المعرفة التي حملها المستكشف (نونيز-

ولكنّها لم تأبه بالبصيرة، وما حسبت لها حساباً، والبصيرة هي ذلك الحسّ الإنساني العميق عند العميان بعالمهم وما فيه، الذي وفّر

حياة هانئة وسعيدة لهم، فطوروا وسائل يسّت لهم العمل، والتواصل، والعبادة، والتسامح، ولم يرد ذكر للاستغلال والعنف والعجز،

فارتسم التكافل الجماعي كاملاً في بلادهم، حتى أنّ وصول الغريب لم يحدث إلا رغبة بالتعرّف إليه، فلم يُرفض، وما اجتنبه أحد،

وإنّما قُبل من سكان الوادي، وغُفرت ز ّته، وعُرض عليه الاندماج. هذا ما اقترحته سلالة العميان على «نونيز» وبإحجامه بقي ناتئاً

غير مؤمن بالمصاهرة التي يذوب فيها الفرد بالجماعة، إنّما سعى إلى المباينة حينما أضحى يعمل على تغيير ما ورثته السلالة من تخيّلات

وتصوّرات ومعتقدات باعتبارها قيماً باطلة ينبغي التخلّص منها لتتحقّق السويّة الإنسانية، قبل أن ينصّب نفسه ملكاً عليها، وذلك هو

الوعد الاستعماري بحذافيره.

من أجل أن يسوّغ السد هذه المهمة على خير ما ينبغي لها أن تكون، أفاض في تصوير الكيفية التي استكمل فيها العمى دائرته في

تلك السلالة، فقد انتشر بطريقة متدرّجة؛ أصاب الكبار، ثم متوسّطي الأعمار، فالصغار، فتضاعف عدد العميان بموت الكبار، ونموّ

الصغار، وانتهى الأمر بسلالةضريرة لا تعرف عن أمر البصرشيئاً، ونسيت كلّ ما له علاقة بذلك، لكنها احتفظت بذاكرة مشوّشة عن

ماضيها البعيد. حدث الأمر على النحو الآتي: في زمن مضىأمسى المبصرون الكبار أنصاف عميان حتى أنم لم يشعروا بأنّم فقدوا شيئاً

عزيزاً، ثم شمل العمى الأجيال ال ّحقة بموت العميان الأكبر سنّاً، وبما أنّ العمى كان يتقدّم بثبات، فقد ألِفَه الجميع، ومضوا فيحياتهم

دون تغيير يُذكر، و«نسوا أشياء عديدة وابتكروا أيضاً أشياء كثيرة، وأصبحت ذكرياتهم عن العالم الخارجي الذي أتوا منه ذات طبيعة

.

8

أسطورية ومثيرة للشكّ، لقد كانوا يتميزون بالمهارة والقوة في كلّ شيء، ما عدا الإبصار»

قطع العمى صلة السلالة بالعالم الخارجي، فانبتّتْ علاقتها به بصورة كاملة، ولم تعرف سوى الوادي الذي تعيش فيه وطناً لها،

واكتفت بذلك، واستغنت عّ جاورها؛ وأفضى تطوير الحواس البديلة للبصر، وبخاصة السمع والشمّ واللمس، إلى نشوء أفكار دينية

واجتماعية لا تتوافق وأفكار الآخرين في العالم الخارجي، فتحليل «نونيز» يذهب باتجاه أن تتطابق قيم العميان ومعارفهم وخبراتهم بما

يناظرها في عالم المبصرين، فلا أهمية بدون ذلك. لا قيمة لعالم توفّر فيه التعاون والتكافل والمساواة والسعادة والوفرة، وانعدم فيه كلّ ما

يؤذي الإنسان من حيوان ونبات، إنّما تأتي قيمته من مماثلته عالماً حلّت فيه الأنانية والاستغلال والتمايز والتعاسة والندرة.

طبقاً للمنظور الاستعماريلا تاريخ للأمم العمياء، إنّما تؤرّخ وقائع حياتها بوصول الرحّالة إلى أرضها أو مغادرتهم لها؛ فالاسكتشاف

الغربي هو الذي يدرجها في سياق تاريخ معلوم قابل للوصف والاعتبار، وما قبل ذلك فهو زمن منساب يتعذّر وصفه، زمن ضائع لا

فائدة فيه، كأنّه سراب خادع لا قاعدة له ينطلق منها المرء لا لحساب الماضي، ولا لعدّ المستقبل، ولا للتريث أمام معنى الحاضر، ولهذا

اقترح السد بداية استعمارية أولى لتاريخ السلالة تتمثل بوصول الرجل الإسباني إلى أرضها قبل خمسة عشر جيلاً من وقوع الأحداث،

ذلك الإسباني المخادع الذي اتهم السلالة بالمروق عن المعتقد الديني الصحيح، دين الإسبان الذي جلبته حملاتهم الأولى إلى القارة

الجنوبية لاستكشافها واستيطانا، ما تأتّى عنه غضب الله عليها، وإصابتها بالعمى، لكنّ الإسباني غادر الوادي هارباً بالثروة التي جمعها

منهم بذريعة علاجهم، فانقطعت علاقة السلالة بما حولها منذ ذلك التاريخ، ولقيت إهمالاً من الإسبان الذين لم ينشغلوا بمصيرها، إنّما

شغلوا ببسط نفوذهم على سائر أرجاء القارة، إلى أن ظهر المستكشف الجديد في تلك الأصقاع ممثلاً بـ«نونيز»، وهو متسلّق جبال «ركب

.

9

البحر، وشاهد الدنيا، وقرأ كتباً كثيرة، وكان يتميّز بحدّة الذهن، وبأنّه رجل مغامر، وصاحب مبادرة»

147

  ـ م. ن. ص

8

148

  ـ م.ن. ص

9